By عبدالله سليمان 101 - الأربعاء ديسمبر 12, 2012 7:52 pm
- الأربعاء ديسمبر 12, 2012 7:52 pm
#56885
50 عاما على أزمة الصواريخ الكوبية.. أي سياسة خارجية أميركية
دروس مستفادة
منذ خمسين عاما، أوشكت أزمة الصواريخ الكوبية أن تسقط العالم في كارثة نووية. في أثناء المواجهة، ظن الرئيس الأميركي جون إف كيندي أن فرص التصعيد إلى الحرب تقع «بين 1 إلى 3». ما علمناه في العقود الأخيرة لم يحقق شيئا من أجل زيادة هذه الاحتمالات. نعلم على سبيل المثال أنه بالإضافة إلى الصواريخ الباليستية المسلحة نوويا، نشر الاتحاد السوفياتي 100 سلاح نووي تكتيكي في كوبا، وكان من الممكن أن يطلق القائد العسكري السوفياتي المحلي هناك هذه الأسلحة دون شفرات إضافية أو أوامر من موسكو. وكان الهجوم الجوي والغزو الأميركي الذي كان مقررا له الأسبوع الثالث من المواجهة سيثير رد فعل نوويا ضد السفن والقوات الأميركية، وربما يصل إلى ميامي. وربما كانت الحرب الناتجة ستؤدي إلى مقتل مائة مليون أميركي وما يزيد على مائة مليون روسي.
العنوان الرئيس للقصة معروف. في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1962، كشفت طائرة تجسس أميركية محاولة من الاتحاد السوفياتي بإدخال صواريخ تحمل رؤوسا نووية خلسة إلى كوبا، على بعد 90 ميلا من ساحل الولايات المتحدة. قرر كيندي في البداية أنه لا يمكن السكوت أمام ذلك. وبعد أسبوع من المشاورات السرية مع أقرب مستشاريه، أعلن هذا الكشف أمام العالم، وفرض حصارا بحريا على وصول مزيد من شحنات الأسلحة المتجهة إلى كوبا. منع الحصار وصول مزيد من المواد ولكنه لم يحقق شيئا يمنع به السوفيات من تشغيل الصواريخ الموجودة هناك بالفعل. وتلا ذلك أسبوع ثان متوتر وقف فيه كيندي والزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف وجها لوجه، دون أن يتراجع أي منهما.
يحاول كل رئيس يأتي بعد كيندي أن يتعلم مما حدث في هذه المواجهة. وفي مفارقة، بعد مرور نصف قرن، بعد أن أصبح الاتحاد السوفياتي في حد ذاته ذكرى بعيدة، ما زالت الدروس التي تقدمها الأزمة لتستفيد منها السياسات الحالية كبيرة. في الوقت الحاضر، يمكن أن تساعد هذه الأزمة صناع السياسات الأميركيين على معرفة ما يجب عليهم فعله وما لا يجب عليهم فعله فيما يتعلق بإيران وكوريا الشمالية والصين واتخاذ القرارات الرئاسية عموما
كان يوم السبت الموافق 27 أكتوبر (تشرين الأول) هو يوم القرار. بفضل التسجيلات السرية التي احتفظ بها كيندي، يمكننا أن نستمع إلى أعضاء اللجنة التنفيذية الخاصة التي شكلها الرئيس من مجلس الأمن القومي في نقاشهم حول الخيارات التي كانوا يعلمون أنها قد تؤدي إلى اندلاع حرب عالمية نووية. في الدقيقة الأخيرة، تم حل الأزمة دون حرب، حيث قبل خروشوف عرضا أميركيا أخيرا تعهدت فيه أميركا بعدم غزو كوبا في مقابل سحب الصواريخ السوفياتية.
ماذا كان كيندي سيفعل؟
تشبه المواجهة الراهنة بين الولايات المتحدة وإيران أزمة صواريخ كوبا في بطء تحركها. تتحرك الأحداث لا محالة نحو مواجهة سيكون فيها الرئيس الأميركي مجبرا على الاختيار ما بين إصدار أمر بشن هجوم عسكري أو القبول بإيران دولة مسلحة نوويا.
كان هذان هما الخياران اللذان قدمهما مستشارو كيندي له يوم السبت الأخير: الهجوم أو القبول بوجود الصواريخ النووية السوفياتية في كوبا. ولكن رفض كيندي كليهما. واختار بدلا من ذلك بديلا من تصوره مكونا من ثلاثة عناصر: اتفاق علني تتعهد فيه الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا إذا سحب الاتحاد السوفياتي صواريخه، وإنذار أخير سري بشن هجوم على كوبا في غضون 24 ساعة إلا إذا قبل خروشوف هذا العرض، وعرض سري محفز يتعهد فيه بسحب الصواريخ الأميركية من تركيا في غضون ستة أشهر بعد حل الأزمة.
ظل هذا العرض التشجيعي سريا للغاية، لدرجة أن معظم أعضاء اللجنة التي كانت تتباحث مع كيندي في المساء الأخير للأزمة لم يكونوا يعلمون أنه أثناء فترة الاستراحة لتناول العشاء بعث الرئيس شقيقه بوبي لتوصيل هذه الرسالة إلى السفير السوفياتي.
إذا نظرنا إلى الاختيار ما بين قبول ما يحدث أو شن هجوم جوي اليوم، سنجد أن كليهما لا يلقى قبولا. قد يثير حصول إيران على قنبلة نووية انتشار السلاح النووي، مما يزيد من احتمالية وقوع صراع مدمر في إحدى أهم مناطق العالم اقتصاديا واستراتيجيا. ومن الممكن أن تؤخر ضربة جوية وقائية تقدم إيران النووي في مواقع محددة، ولكنها لن تمحو المعرفة والمهارات القائمة في العديد من العقول الإيرانية. في الحقيقة أي نتيجة تمنع إيران من الحصول على قنبلة نووية ستتركها قادرة على الحصول على أخرى في المستقبل، إذ إن إيران عبرت بالفعل أهم «خط أحمر» في عملية الانتشار النووي: أتقنت فن تخصيب اليورانيوم وتصنيع القنبلة سرا. أفضل أمل في العثور على خيار ثالث على طريقة كيندي هو المزج بين القيود المتفق عليها على نشاط إيران النووي والذي سيزيد من فترة تطويرها للقنبلة، وتدابير الشفافية التي ستزيد من إمكانية اكتشاف أي تهديدات بالخداع أو تهديدات غامضة (وربما سرية) بشن هجوم لتغيير النظام إذا تم انتهاك الاتفاق، وتعهد بعدم شن هجوم في المقابل. مثل هذا المزيج قد يجعل الإيرانيين بعيدين عن القنبلة قدر الإمكان لأطول فترة ممكنة.
يضيف العنصر الإسرائيلي مزيدا من التعقيد في تحدي الوضع النووي الإيراني الذي يواجهه صناع السياسات في الولايات الأميركية بصورة أكبر من تعقيد أزمة الصواريخ الكوبية. في عام 1962، سمح لطرفين فقط بالجلوس على الطاولة الرئيسية. سعى رئيس الوزراء الكوبي فيدل كاسترو لأن يصبح لاعبا ثالثا، ولو كان نجح في ذلك كانت الأزمة ستصبح أكثر خطورة. (عندما أعلن خروشوف انسحاب الصواريخ، على سبيل المثال، أرسل كاسترو رسالة توبيخ يحثه فيها على إطلاق الصواريخ الموجودة بالفعل في كوبا.) ولكن بعد أن أدرك البيت الأبيض على وجه التحديد احتمالية أن يتحول الكوبيون إلى بطاقة جامحة، أبعدهم عن اللعبة. أخبر كيندي الكرملين أنهم سيتحملون مسؤولية أي هجوم يُشن ضد الولايات المتحدة من كوبا، أيا كان من بدأه.
وقال في بيانه العلني الأول: «يجب أن تكون سياسة هذه الدولة اعتبار إطلاق أي صاروخ نووي من كوبا ضد أي دولة في النصف الغربي من الكرة الأرضية هجوما من الاتحاد السوفياتي على الولايات المتحدة، مما يستلزم ردا انتقاميا كاملا ضد الاتحاد السوفياتي».
في الوقت الحالي، يقوي التهديد بشن هجوم جوي إسرائيلي الرئيس باراك أوباما في الضغط على إيران من أجل إقناعها بتقديم تنازلات. ولكن يجب أن تثير احتمالية قيام إسرائيل بالفعل بشن هجوم بري أحادي الجانب دون موافقة الولايات المتحدة قلق الولايات المتحدة، إذ إنها ستجعل السيطرة على الأزمة أصعب. إذا قلل الوضع الداخلي في إسرائيل من احتمالية شن هجوم إسرائيلي مستقل، لن يكون صناع السياسة الأميركيون مستائين.
سياسة العصا والجزرة
بعد أن اطّلع كيندي على المعلومات الاستخباراتية التي كشفت عن الصواريخ السوفياتية في كوبا، واجه الرئيس الأميركي الاتحاد السوفياتي علنا وطالبه بالانسحاب، مدركا أنه في هذه المواجهة يغامر بالدخول في الحرب. في المقابل، ردا على الاستفزازات التي تمارسها كوريا الشمالية على مدار الأعوام، تحدث رؤساء الولايات المتحدة علنا ولكنهم كانوا يحملون عصا صغيرة. وهذا أحد أسباب عدم تكرار الأزمة الكوبية، بينما تكررت أزمات كوريا الشمالية.
في الوقت الحالي، يقوي التهديد بشن هجوم جوي إسرائيلي الرئيس باراك أوباما في الضغط على إيران من أجل إقناعها بتقديم تنازلات. ولكن يجب أن تثير احتمالية قيام إسرائيل بالفعل بشن هجوم بري أحادي الجانب دون موافقة الولايات المتحدة قلق الولايات المتحدة، إذ إنها ستجعل السيطرة على الأزمة أصعب. إذا قلل الوضع الداخلي في إسرائيل من احتمالية شن هجوم إسرائيلي مستقل، لن يكون صناع السياسة الأميركيون مستائين
في مواجهته مع خروشوف، أمر كيندي باتخاذ الإجراءات التي كان يعلم أنها ستزيد من حجم المخاطرة ليس فقط بوقوع حرب تقليدية بل أيضا حرب نووية. ورفع حالة التأهب النووي في الولايات المتحدة إلى الدرجة الثانية DEFCON 2، علما منه بأن هذا سيقلل من السيطرة على الأسلحة النووية للبلاد ويزيد من احتمالية أن تؤدي أعمال أطراف أخرى إلى تأجيج متتال خارج عن سيطرته. على سبيل المثال، قامت طائرة تابعة لقوات حلف الناتو بها طيارون أتراك بتحميل قنابل نووية نشطة وتقدموا إلى حالة تأهب يمكن من خلالها أن يختار الطيارون الإقلاع والطيران إلى موسكو وإسقاط قنبلة. اعتقد كيندي أنه من الضروري أن يرفع من مخاطر وقوع الحرب على المدى القريب من أجل الحد منها على المدى البعيد. ولم يكن يفكر في كوبا فقط، بل أيضا بشأن المواجهة التالية، والتي كانت على الأرجح ستأتي عن طريق غرب برلين، المنطقة الحرة داخل دولة ألمانيا الشرقية الدمية. كان النجاح في كوبا سيُجرّئ خروشوف على حل الوضع في برلين بناء على شروطه الخاصة، بإجبار كيندي على الاختيار بين القبول بالهيمنة السوفياتية على المدينة واستخدام الأسلحة النووية لمحاولة إنقاذها.
في المقابل، أثناء المواجهات التي قاربت العشرين والتي وقعت مع كوريا الشمالية على مدار العقود الثلاثة الماضية، ابتعد صناع السياسات في الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية عن مثل هذه المخاطر، مما أظهر أنهم ارتدعوا نتيجة التهديد الكوري الشمالي بتدمير سيول في حرب كورية ثانية. استفاد قادة كوريا الشمالية من هذا الخوف في تطوير استراتيجية ابتزاز فعالة. بدأت باستفزاز شديد، إذ تجاوزوا في تحد صارخ خطا أحمر حددته الولايات المتحدة، بالإضافة إلى التهديد بأن أي رد فعل سيؤدي إلى «بحر من نار». وبعد ارتفاع حدة التوترات، يتدخل طرف ثالث، غالبا الصين، ليقترح تراجع «جميع الأطراف» والتزام التهدئة. وبعد ذلك بفترة وجيزة، يبدأ تقديم التعويضات الجانبية إلى كوريا الشمالية من كوريا الجنوبية أو اليابان أو الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى استكمال المفاوضات. بعد شهور من المفاوضات تقبل بيونغ يانغ بتلقي مزيد من المدفوعات في مقابل وعود بالتخلي عن برنامجها النووي. وبعد عدة أشهر، تنتهك كوريا الشمالية الاتفاق، وتعرب كل من واشنطن وسيول عن صدمتهما ويتعهدان بعدم الوقوع في الخديعة مجددا. وبعد ذلك، بعد فترة زمنية معقولة، تبدأ الدورة مرة أخرى.
إذا كانت أسوأ نتيجة لهذه التمثيلية الشعور بالإحباط بعد غلبة واحدة من أفقر الدول وأكثرها عزلة في العالم، فهذا ما أسفرت عنه الأزمات الكورية المتكررة. ولكن على مدار عقود، أعلن الرؤساء الأميركيون أنه «لا يمكن قبول» كوريا الشمالية المسلحة نوويا. وحذروا مرارا وتكرارا بيونغ يانغ من أنها لن تستطيع تصدير أسلحة أو تكنولوجيا نووية دون مواجهة «أخطر العواقب». على سبيل المثال في عام 2006، ذكر الرئيس جورج دبليو بوش أن «نقل كوريا الشمالية أسلحة أو مواد نووية إلى دول أو منظمات سيعتبر تهديدا خطيرا للولايات المتحدة، وستخضع كوريا الشمالية للمساءلة الكاملة عن النتائج». واستمرت حينها كوريا الشمالية في بيع مفاعل منتج للبلوتونيوم إلى سوريا، والذي لو لم تدمره إسرائيل، كان سينتج بلوتونيوم يكفي لصناعة أول قنبلة نووية سورية. كان رد فعل واشنطن هو تجاهل الحدث واستكمال المفاوضات بعد مرور ثلاثة أسابيع.
أحد الدروس المستفادة من أزمة الصواريخ الكورية أنه إذا لم تكن مستعدا للمخاطرة بالحرب، حتى وإن كانت حربا نووية، يمكن أن يجبرك خصمك الماهر على التراجع في مواجهات متتالية. وإذا كانت لديك خطوط حمراء سيؤدي تخطيها إلى وقوع حرب، عليك إذن أن تعبر عنها بمصداقية إلى خصمك وأن تدعمها أو أن تغامر بتبديد تهديداتك. كان بيع كوريا الشمالية لقنبلة نووية إلى إرهابيين يمكنهم أن يستخدموها بعد ذلك ضد أهداف أميركية سيؤدي إلى انتقام أميركي مدمر. ولكن بعد تجاوز العديد من الخطوط الحمراء السابقة مع الإفلات من العقاب، هل يمكن أن يثق المرء أن مثل هذه الرسالة وصلت على نحو واضح ومقنع؟ هل يمكن أن يتصور زعيم كوريا الشمالية الجديد كيم جونغ أون، ومستشاروه أنه في إمكانهم الإفلات بذلك؟
القواعد
قد يكون هناك حراك مشابه ظاهر في العلاقات الاقتصادية الأميركية مع الصين. أعلن المرشح الرئاسي الجمهوري ميت رومني أنه «في اليوم الأول من فترتي الرئاسية سأعلن (الصين) دولة تتلاعب بعملتها وأتخذ إجراءات المكافحة المناسبة». كان رد الفعل القادم من المؤسسة السياسية والاقتصادية ما يشبه الإجماع على رفض مثل هذه التصريحات ووصفها بالخطاب المتهور الذي يخاطر بالوقوع في حرب تجارية كارثية. ولكن إذا لم تكن هناك ظروف تستعد فيها واشنطن للمخاطرة بخوض مواجهة تجارية مع الصين، لماذا لا ينزع قادة الصين ببساطة صفحة من كتاب قواعد اللعبة في كوريا الشمالية؟ لم لا يستمرون، وفقا لتصريحات رومني، في «التلاعب بالولايات المتحدة والابتسام طوال الطريق إلى البنك» ثم تخفيض قيمة عملتهم، ودعم المنتجين المحليين وحماية أسواقهم وسرقة حقوق الملكية الفكرية من خلال السرقات الإلكترونية؟
الاقتصاد والأمن مجالان منفصلان، ولكن الدروس المستفادة من أحدهما يمكن تطبيقها في الآخر. سيكون التحدي الجغرافي السياسي في النصف التالي من هذا القرن هو إدارة العلاقات بين الولايات المتحدة كقوى عظمى حاكمة والصين كقوى عظمى ناشئة. في تحليل أسباب الحرب البيلوبونيسية التي وقعت منذ أكثر من ألفيتين، قال المؤرخ الإغريقي ثيوسيديدس إن «تنامي قوة أثينا، والانزعاج الذي تسبب فيه ذلك في اسبرطة، جعل الحرب أمرا حتميا».
في أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، رأى كيندي أن إقدام خروشوف على المغامرة انتهك ما سماه كيندي «قواعد الوضع الراهن غير المستقر» في العلاقات بين القوتين النوويتين العظميين. وكانت هذه القواعد قد تطورت أثناء أزمات سابقة، وساعد حل الأزمة في كوبا على استعادة هذه القواعد وتعزيزها، مما سمح بانتهاء الحرب الباردة في هدوء.
في عام 2006، ذكر الرئيس جورج دبليو بوش أن «نقل كوريا الشمالية أسلحة أو مواد نووية إلى دول أو منظمات سيعتبر تهديدا خطيرا للولايات المتحدة، وستخضع كوريا الشمالية للمساءلة الكاملة عن النتائج». واستمرت حينها كوريا الشمالية في بيع مفاعل منتج للبلوتونيوم إلى سوريا، والذي لو لم تدمره إسرائيل، كان سينتج بلوتونيوم يكفي لصناعة أول قنبلة نووية سورية. كان رد فعل واشنطن هو تجاهل الحدث واستكمال المفاوضات بعد مرور ثلاثة أسابيع
سيكون على الولايات المتحدة والصين تطوير قواعدهما الخاصة من أجل الهرب من مصيدة ثيوسيديدس. ستحتاج هذه القواعد إلى استيعاب المصالح الرئيسية لكلا الطرفين، وشق طريق بين الصراع والتهدئة. ستكون المبالغة في رد الفعل على تهديدات ملحوظة خطأ، ولكن من الخطأ أيضا تجاهل أو التستر على إساءة التصرف غير المقبولة أملا في أنها لن تحدث مرة أخرى. في عام 1996، بعد أن اتخذ إقليم التبت عدة خطوات اعتبرتها بكين استفزازية، أطلقت الصين مجموعة من الصواريخ على تايوان، مما دفع الولايات المتحدة إلى إرسال مجموعتين مقاتلتين من حاملات الطائرات. وكانت النتيجة النهائية معرفة أوضح للخطوط الحمراء لدى كلا الطرفين في قضية تايوان ومنطقة أكثر هدوءا. ربما تحتاج العلاقة إلى لحظات توضيحية إضافية من أجل إدارة مرحلة انتقالية غير ثابتة، حيث ينعكس صعود الصين الاقتصادي المستمر ومكانتها الجديدة على توسع القدرات العسكرية وموقف خارجي أكثر قوة.
المعالجة العملية
لا يتعلق الدرس الأخير المستفاد من الأزمة بالسياسات بل بالمعالجة العملية. إذا لم يجد القائد الأعلى وقتا كافيا وخصوصية لاستيعاب الموقف ودراسة الأدلة وبحث خيارات متعددة والتفكير قبل الاختيار من بينها، من المحتمل أن يصدر قرارات سيئة. في عام 1962، كان من بين الأسئلة الأولى التي طرحها كيندي عندما أُخبر باكتشاف الصواريخ هو: كم من الوقت سيمر قبل أن تتسرب هذه المعلومات؟
اعتقد ماكورج باندي، مستشاره للأمن القومي أن ذلك سيستغرق أسبوعا على أقصى تقدير. وبناء على هذه النصيحة، استغرق الرئيس ستة أيام في مشاورات سرية، قام فيها بتغيير رأيه أكثر من مرة. وكما أشار بعد ذلك، إذا أجبر على اتخاذ قرار في غضون 48 ساعة في البداية، كان سيختار شن ضربة جوية بدلا من الحصار البحري، وهو ما كان سيؤدي إلى نشوب حرب نووية.
في واشنطن اليوم، يعتبر الأسبوع الذي أمضاه كيندي في مشاورات سرية أثرا من عهد مضى. لم تعد فترة بقاء السر قيد الكتمان تحسب بالأيام بل بالساعات. تعلم أوباما هذا الدرس القاسي أثناء عامه الأول في منصبه، عندما وجد أن مشاورات الإدارة حول سياسة أفغانستان تخرج إلى العلن، مما قلص كثيرا من حجم المرونة التي يمكنه من خلالها اللجوء إلى خيارات غير تقليدية أو حتى دراستها. دفعته هذه التجربة إلى طلب وضع عملية صناعة قرار جديدة فيما يتعلق بالأمن القومي يقودها مستشار جديد للأمن القومي. إحدى ثمار مراجعة هذا المنهج هي زيادة إحكام السيطرة على تدفق المعلومات، وهو ما تحقق عن طريق تضييق غير مسبوق في دائرة صناعة القرار المقربة. سمح هذا الأمر باستمرار النقاش حول كيفية التعامل مع اكتشاف مكان أسامة بن لادن ببطء وتعقل، استمر خلاله أكثر الموضوعات إثارة في البيت الأبيض قيد الكتمان لمدة خمسة أشهر كاملة، حتى كشفت عنها الإدارة ذاتها بعد شن غارة على مخبأ بن لادن في أبوت آباد.
يقال إن التاريخ لا يعيد ذاته، ولكنه يتشابه في بعض الأحيان. بعد خمسة عقود، ما زالت أزمة الصواريخ الكوبية لحظة محورية في تاريخ الحرب الباردة، ولكنها أيضا مصدر إرشاد إلى كيفية نزع فتيل الصراعات، وإدارة العلاقات بين القوى العظمى، واتخاذ قرارات سليمة فيما يخص السياسات الخارجية عامةً.
في أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، رأى كيندي أن إقدام خروشوف على المغامرة انتهك ما سماه كيندي «قواعد الوضع الراهن غير المستقر» في العلاقات بين القوتين النوويتين العظميين. وكانت هذه القواعد قد تطورت أثناء أزمات سابقة، وساعد حل الأزمة في كوبا على استعادة هذه القواعد وتعزيزها، مما سمح بانتهاء الحرب الباردة في هدوء
* غراهام أليسون: مدير مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية في كلية كيندي للحكم في جامعة هارفارد.
* فورين افيرز .
دروس مستفادة
منذ خمسين عاما، أوشكت أزمة الصواريخ الكوبية أن تسقط العالم في كارثة نووية. في أثناء المواجهة، ظن الرئيس الأميركي جون إف كيندي أن فرص التصعيد إلى الحرب تقع «بين 1 إلى 3». ما علمناه في العقود الأخيرة لم يحقق شيئا من أجل زيادة هذه الاحتمالات. نعلم على سبيل المثال أنه بالإضافة إلى الصواريخ الباليستية المسلحة نوويا، نشر الاتحاد السوفياتي 100 سلاح نووي تكتيكي في كوبا، وكان من الممكن أن يطلق القائد العسكري السوفياتي المحلي هناك هذه الأسلحة دون شفرات إضافية أو أوامر من موسكو. وكان الهجوم الجوي والغزو الأميركي الذي كان مقررا له الأسبوع الثالث من المواجهة سيثير رد فعل نوويا ضد السفن والقوات الأميركية، وربما يصل إلى ميامي. وربما كانت الحرب الناتجة ستؤدي إلى مقتل مائة مليون أميركي وما يزيد على مائة مليون روسي.
العنوان الرئيس للقصة معروف. في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1962، كشفت طائرة تجسس أميركية محاولة من الاتحاد السوفياتي بإدخال صواريخ تحمل رؤوسا نووية خلسة إلى كوبا، على بعد 90 ميلا من ساحل الولايات المتحدة. قرر كيندي في البداية أنه لا يمكن السكوت أمام ذلك. وبعد أسبوع من المشاورات السرية مع أقرب مستشاريه، أعلن هذا الكشف أمام العالم، وفرض حصارا بحريا على وصول مزيد من شحنات الأسلحة المتجهة إلى كوبا. منع الحصار وصول مزيد من المواد ولكنه لم يحقق شيئا يمنع به السوفيات من تشغيل الصواريخ الموجودة هناك بالفعل. وتلا ذلك أسبوع ثان متوتر وقف فيه كيندي والزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف وجها لوجه، دون أن يتراجع أي منهما.
يحاول كل رئيس يأتي بعد كيندي أن يتعلم مما حدث في هذه المواجهة. وفي مفارقة، بعد مرور نصف قرن، بعد أن أصبح الاتحاد السوفياتي في حد ذاته ذكرى بعيدة، ما زالت الدروس التي تقدمها الأزمة لتستفيد منها السياسات الحالية كبيرة. في الوقت الحاضر، يمكن أن تساعد هذه الأزمة صناع السياسات الأميركيين على معرفة ما يجب عليهم فعله وما لا يجب عليهم فعله فيما يتعلق بإيران وكوريا الشمالية والصين واتخاذ القرارات الرئاسية عموما
كان يوم السبت الموافق 27 أكتوبر (تشرين الأول) هو يوم القرار. بفضل التسجيلات السرية التي احتفظ بها كيندي، يمكننا أن نستمع إلى أعضاء اللجنة التنفيذية الخاصة التي شكلها الرئيس من مجلس الأمن القومي في نقاشهم حول الخيارات التي كانوا يعلمون أنها قد تؤدي إلى اندلاع حرب عالمية نووية. في الدقيقة الأخيرة، تم حل الأزمة دون حرب، حيث قبل خروشوف عرضا أميركيا أخيرا تعهدت فيه أميركا بعدم غزو كوبا في مقابل سحب الصواريخ السوفياتية.
ماذا كان كيندي سيفعل؟
تشبه المواجهة الراهنة بين الولايات المتحدة وإيران أزمة صواريخ كوبا في بطء تحركها. تتحرك الأحداث لا محالة نحو مواجهة سيكون فيها الرئيس الأميركي مجبرا على الاختيار ما بين إصدار أمر بشن هجوم عسكري أو القبول بإيران دولة مسلحة نوويا.
كان هذان هما الخياران اللذان قدمهما مستشارو كيندي له يوم السبت الأخير: الهجوم أو القبول بوجود الصواريخ النووية السوفياتية في كوبا. ولكن رفض كيندي كليهما. واختار بدلا من ذلك بديلا من تصوره مكونا من ثلاثة عناصر: اتفاق علني تتعهد فيه الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا إذا سحب الاتحاد السوفياتي صواريخه، وإنذار أخير سري بشن هجوم على كوبا في غضون 24 ساعة إلا إذا قبل خروشوف هذا العرض، وعرض سري محفز يتعهد فيه بسحب الصواريخ الأميركية من تركيا في غضون ستة أشهر بعد حل الأزمة.
ظل هذا العرض التشجيعي سريا للغاية، لدرجة أن معظم أعضاء اللجنة التي كانت تتباحث مع كيندي في المساء الأخير للأزمة لم يكونوا يعلمون أنه أثناء فترة الاستراحة لتناول العشاء بعث الرئيس شقيقه بوبي لتوصيل هذه الرسالة إلى السفير السوفياتي.
إذا نظرنا إلى الاختيار ما بين قبول ما يحدث أو شن هجوم جوي اليوم، سنجد أن كليهما لا يلقى قبولا. قد يثير حصول إيران على قنبلة نووية انتشار السلاح النووي، مما يزيد من احتمالية وقوع صراع مدمر في إحدى أهم مناطق العالم اقتصاديا واستراتيجيا. ومن الممكن أن تؤخر ضربة جوية وقائية تقدم إيران النووي في مواقع محددة، ولكنها لن تمحو المعرفة والمهارات القائمة في العديد من العقول الإيرانية. في الحقيقة أي نتيجة تمنع إيران من الحصول على قنبلة نووية ستتركها قادرة على الحصول على أخرى في المستقبل، إذ إن إيران عبرت بالفعل أهم «خط أحمر» في عملية الانتشار النووي: أتقنت فن تخصيب اليورانيوم وتصنيع القنبلة سرا. أفضل أمل في العثور على خيار ثالث على طريقة كيندي هو المزج بين القيود المتفق عليها على نشاط إيران النووي والذي سيزيد من فترة تطويرها للقنبلة، وتدابير الشفافية التي ستزيد من إمكانية اكتشاف أي تهديدات بالخداع أو تهديدات غامضة (وربما سرية) بشن هجوم لتغيير النظام إذا تم انتهاك الاتفاق، وتعهد بعدم شن هجوم في المقابل. مثل هذا المزيج قد يجعل الإيرانيين بعيدين عن القنبلة قدر الإمكان لأطول فترة ممكنة.
يضيف العنصر الإسرائيلي مزيدا من التعقيد في تحدي الوضع النووي الإيراني الذي يواجهه صناع السياسات في الولايات الأميركية بصورة أكبر من تعقيد أزمة الصواريخ الكوبية. في عام 1962، سمح لطرفين فقط بالجلوس على الطاولة الرئيسية. سعى رئيس الوزراء الكوبي فيدل كاسترو لأن يصبح لاعبا ثالثا، ولو كان نجح في ذلك كانت الأزمة ستصبح أكثر خطورة. (عندما أعلن خروشوف انسحاب الصواريخ، على سبيل المثال، أرسل كاسترو رسالة توبيخ يحثه فيها على إطلاق الصواريخ الموجودة بالفعل في كوبا.) ولكن بعد أن أدرك البيت الأبيض على وجه التحديد احتمالية أن يتحول الكوبيون إلى بطاقة جامحة، أبعدهم عن اللعبة. أخبر كيندي الكرملين أنهم سيتحملون مسؤولية أي هجوم يُشن ضد الولايات المتحدة من كوبا، أيا كان من بدأه.
وقال في بيانه العلني الأول: «يجب أن تكون سياسة هذه الدولة اعتبار إطلاق أي صاروخ نووي من كوبا ضد أي دولة في النصف الغربي من الكرة الأرضية هجوما من الاتحاد السوفياتي على الولايات المتحدة، مما يستلزم ردا انتقاميا كاملا ضد الاتحاد السوفياتي».
في الوقت الحالي، يقوي التهديد بشن هجوم جوي إسرائيلي الرئيس باراك أوباما في الضغط على إيران من أجل إقناعها بتقديم تنازلات. ولكن يجب أن تثير احتمالية قيام إسرائيل بالفعل بشن هجوم بري أحادي الجانب دون موافقة الولايات المتحدة قلق الولايات المتحدة، إذ إنها ستجعل السيطرة على الأزمة أصعب. إذا قلل الوضع الداخلي في إسرائيل من احتمالية شن هجوم إسرائيلي مستقل، لن يكون صناع السياسة الأميركيون مستائين.
سياسة العصا والجزرة
بعد أن اطّلع كيندي على المعلومات الاستخباراتية التي كشفت عن الصواريخ السوفياتية في كوبا، واجه الرئيس الأميركي الاتحاد السوفياتي علنا وطالبه بالانسحاب، مدركا أنه في هذه المواجهة يغامر بالدخول في الحرب. في المقابل، ردا على الاستفزازات التي تمارسها كوريا الشمالية على مدار الأعوام، تحدث رؤساء الولايات المتحدة علنا ولكنهم كانوا يحملون عصا صغيرة. وهذا أحد أسباب عدم تكرار الأزمة الكوبية، بينما تكررت أزمات كوريا الشمالية.
في الوقت الحالي، يقوي التهديد بشن هجوم جوي إسرائيلي الرئيس باراك أوباما في الضغط على إيران من أجل إقناعها بتقديم تنازلات. ولكن يجب أن تثير احتمالية قيام إسرائيل بالفعل بشن هجوم بري أحادي الجانب دون موافقة الولايات المتحدة قلق الولايات المتحدة، إذ إنها ستجعل السيطرة على الأزمة أصعب. إذا قلل الوضع الداخلي في إسرائيل من احتمالية شن هجوم إسرائيلي مستقل، لن يكون صناع السياسة الأميركيون مستائين
في مواجهته مع خروشوف، أمر كيندي باتخاذ الإجراءات التي كان يعلم أنها ستزيد من حجم المخاطرة ليس فقط بوقوع حرب تقليدية بل أيضا حرب نووية. ورفع حالة التأهب النووي في الولايات المتحدة إلى الدرجة الثانية DEFCON 2، علما منه بأن هذا سيقلل من السيطرة على الأسلحة النووية للبلاد ويزيد من احتمالية أن تؤدي أعمال أطراف أخرى إلى تأجيج متتال خارج عن سيطرته. على سبيل المثال، قامت طائرة تابعة لقوات حلف الناتو بها طيارون أتراك بتحميل قنابل نووية نشطة وتقدموا إلى حالة تأهب يمكن من خلالها أن يختار الطيارون الإقلاع والطيران إلى موسكو وإسقاط قنبلة. اعتقد كيندي أنه من الضروري أن يرفع من مخاطر وقوع الحرب على المدى القريب من أجل الحد منها على المدى البعيد. ولم يكن يفكر في كوبا فقط، بل أيضا بشأن المواجهة التالية، والتي كانت على الأرجح ستأتي عن طريق غرب برلين، المنطقة الحرة داخل دولة ألمانيا الشرقية الدمية. كان النجاح في كوبا سيُجرّئ خروشوف على حل الوضع في برلين بناء على شروطه الخاصة، بإجبار كيندي على الاختيار بين القبول بالهيمنة السوفياتية على المدينة واستخدام الأسلحة النووية لمحاولة إنقاذها.
في المقابل، أثناء المواجهات التي قاربت العشرين والتي وقعت مع كوريا الشمالية على مدار العقود الثلاثة الماضية، ابتعد صناع السياسات في الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية عن مثل هذه المخاطر، مما أظهر أنهم ارتدعوا نتيجة التهديد الكوري الشمالي بتدمير سيول في حرب كورية ثانية. استفاد قادة كوريا الشمالية من هذا الخوف في تطوير استراتيجية ابتزاز فعالة. بدأت باستفزاز شديد، إذ تجاوزوا في تحد صارخ خطا أحمر حددته الولايات المتحدة، بالإضافة إلى التهديد بأن أي رد فعل سيؤدي إلى «بحر من نار». وبعد ارتفاع حدة التوترات، يتدخل طرف ثالث، غالبا الصين، ليقترح تراجع «جميع الأطراف» والتزام التهدئة. وبعد ذلك بفترة وجيزة، يبدأ تقديم التعويضات الجانبية إلى كوريا الشمالية من كوريا الجنوبية أو اليابان أو الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى استكمال المفاوضات. بعد شهور من المفاوضات تقبل بيونغ يانغ بتلقي مزيد من المدفوعات في مقابل وعود بالتخلي عن برنامجها النووي. وبعد عدة أشهر، تنتهك كوريا الشمالية الاتفاق، وتعرب كل من واشنطن وسيول عن صدمتهما ويتعهدان بعدم الوقوع في الخديعة مجددا. وبعد ذلك، بعد فترة زمنية معقولة، تبدأ الدورة مرة أخرى.
إذا كانت أسوأ نتيجة لهذه التمثيلية الشعور بالإحباط بعد غلبة واحدة من أفقر الدول وأكثرها عزلة في العالم، فهذا ما أسفرت عنه الأزمات الكورية المتكررة. ولكن على مدار عقود، أعلن الرؤساء الأميركيون أنه «لا يمكن قبول» كوريا الشمالية المسلحة نوويا. وحذروا مرارا وتكرارا بيونغ يانغ من أنها لن تستطيع تصدير أسلحة أو تكنولوجيا نووية دون مواجهة «أخطر العواقب». على سبيل المثال في عام 2006، ذكر الرئيس جورج دبليو بوش أن «نقل كوريا الشمالية أسلحة أو مواد نووية إلى دول أو منظمات سيعتبر تهديدا خطيرا للولايات المتحدة، وستخضع كوريا الشمالية للمساءلة الكاملة عن النتائج». واستمرت حينها كوريا الشمالية في بيع مفاعل منتج للبلوتونيوم إلى سوريا، والذي لو لم تدمره إسرائيل، كان سينتج بلوتونيوم يكفي لصناعة أول قنبلة نووية سورية. كان رد فعل واشنطن هو تجاهل الحدث واستكمال المفاوضات بعد مرور ثلاثة أسابيع.
أحد الدروس المستفادة من أزمة الصواريخ الكورية أنه إذا لم تكن مستعدا للمخاطرة بالحرب، حتى وإن كانت حربا نووية، يمكن أن يجبرك خصمك الماهر على التراجع في مواجهات متتالية. وإذا كانت لديك خطوط حمراء سيؤدي تخطيها إلى وقوع حرب، عليك إذن أن تعبر عنها بمصداقية إلى خصمك وأن تدعمها أو أن تغامر بتبديد تهديداتك. كان بيع كوريا الشمالية لقنبلة نووية إلى إرهابيين يمكنهم أن يستخدموها بعد ذلك ضد أهداف أميركية سيؤدي إلى انتقام أميركي مدمر. ولكن بعد تجاوز العديد من الخطوط الحمراء السابقة مع الإفلات من العقاب، هل يمكن أن يثق المرء أن مثل هذه الرسالة وصلت على نحو واضح ومقنع؟ هل يمكن أن يتصور زعيم كوريا الشمالية الجديد كيم جونغ أون، ومستشاروه أنه في إمكانهم الإفلات بذلك؟
القواعد
قد يكون هناك حراك مشابه ظاهر في العلاقات الاقتصادية الأميركية مع الصين. أعلن المرشح الرئاسي الجمهوري ميت رومني أنه «في اليوم الأول من فترتي الرئاسية سأعلن (الصين) دولة تتلاعب بعملتها وأتخذ إجراءات المكافحة المناسبة». كان رد الفعل القادم من المؤسسة السياسية والاقتصادية ما يشبه الإجماع على رفض مثل هذه التصريحات ووصفها بالخطاب المتهور الذي يخاطر بالوقوع في حرب تجارية كارثية. ولكن إذا لم تكن هناك ظروف تستعد فيها واشنطن للمخاطرة بخوض مواجهة تجارية مع الصين، لماذا لا ينزع قادة الصين ببساطة صفحة من كتاب قواعد اللعبة في كوريا الشمالية؟ لم لا يستمرون، وفقا لتصريحات رومني، في «التلاعب بالولايات المتحدة والابتسام طوال الطريق إلى البنك» ثم تخفيض قيمة عملتهم، ودعم المنتجين المحليين وحماية أسواقهم وسرقة حقوق الملكية الفكرية من خلال السرقات الإلكترونية؟
الاقتصاد والأمن مجالان منفصلان، ولكن الدروس المستفادة من أحدهما يمكن تطبيقها في الآخر. سيكون التحدي الجغرافي السياسي في النصف التالي من هذا القرن هو إدارة العلاقات بين الولايات المتحدة كقوى عظمى حاكمة والصين كقوى عظمى ناشئة. في تحليل أسباب الحرب البيلوبونيسية التي وقعت منذ أكثر من ألفيتين، قال المؤرخ الإغريقي ثيوسيديدس إن «تنامي قوة أثينا، والانزعاج الذي تسبب فيه ذلك في اسبرطة، جعل الحرب أمرا حتميا».
في أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، رأى كيندي أن إقدام خروشوف على المغامرة انتهك ما سماه كيندي «قواعد الوضع الراهن غير المستقر» في العلاقات بين القوتين النوويتين العظميين. وكانت هذه القواعد قد تطورت أثناء أزمات سابقة، وساعد حل الأزمة في كوبا على استعادة هذه القواعد وتعزيزها، مما سمح بانتهاء الحرب الباردة في هدوء.
في عام 2006، ذكر الرئيس جورج دبليو بوش أن «نقل كوريا الشمالية أسلحة أو مواد نووية إلى دول أو منظمات سيعتبر تهديدا خطيرا للولايات المتحدة، وستخضع كوريا الشمالية للمساءلة الكاملة عن النتائج». واستمرت حينها كوريا الشمالية في بيع مفاعل منتج للبلوتونيوم إلى سوريا، والذي لو لم تدمره إسرائيل، كان سينتج بلوتونيوم يكفي لصناعة أول قنبلة نووية سورية. كان رد فعل واشنطن هو تجاهل الحدث واستكمال المفاوضات بعد مرور ثلاثة أسابيع
سيكون على الولايات المتحدة والصين تطوير قواعدهما الخاصة من أجل الهرب من مصيدة ثيوسيديدس. ستحتاج هذه القواعد إلى استيعاب المصالح الرئيسية لكلا الطرفين، وشق طريق بين الصراع والتهدئة. ستكون المبالغة في رد الفعل على تهديدات ملحوظة خطأ، ولكن من الخطأ أيضا تجاهل أو التستر على إساءة التصرف غير المقبولة أملا في أنها لن تحدث مرة أخرى. في عام 1996، بعد أن اتخذ إقليم التبت عدة خطوات اعتبرتها بكين استفزازية، أطلقت الصين مجموعة من الصواريخ على تايوان، مما دفع الولايات المتحدة إلى إرسال مجموعتين مقاتلتين من حاملات الطائرات. وكانت النتيجة النهائية معرفة أوضح للخطوط الحمراء لدى كلا الطرفين في قضية تايوان ومنطقة أكثر هدوءا. ربما تحتاج العلاقة إلى لحظات توضيحية إضافية من أجل إدارة مرحلة انتقالية غير ثابتة، حيث ينعكس صعود الصين الاقتصادي المستمر ومكانتها الجديدة على توسع القدرات العسكرية وموقف خارجي أكثر قوة.
المعالجة العملية
لا يتعلق الدرس الأخير المستفاد من الأزمة بالسياسات بل بالمعالجة العملية. إذا لم يجد القائد الأعلى وقتا كافيا وخصوصية لاستيعاب الموقف ودراسة الأدلة وبحث خيارات متعددة والتفكير قبل الاختيار من بينها، من المحتمل أن يصدر قرارات سيئة. في عام 1962، كان من بين الأسئلة الأولى التي طرحها كيندي عندما أُخبر باكتشاف الصواريخ هو: كم من الوقت سيمر قبل أن تتسرب هذه المعلومات؟
اعتقد ماكورج باندي، مستشاره للأمن القومي أن ذلك سيستغرق أسبوعا على أقصى تقدير. وبناء على هذه النصيحة، استغرق الرئيس ستة أيام في مشاورات سرية، قام فيها بتغيير رأيه أكثر من مرة. وكما أشار بعد ذلك، إذا أجبر على اتخاذ قرار في غضون 48 ساعة في البداية، كان سيختار شن ضربة جوية بدلا من الحصار البحري، وهو ما كان سيؤدي إلى نشوب حرب نووية.
في واشنطن اليوم، يعتبر الأسبوع الذي أمضاه كيندي في مشاورات سرية أثرا من عهد مضى. لم تعد فترة بقاء السر قيد الكتمان تحسب بالأيام بل بالساعات. تعلم أوباما هذا الدرس القاسي أثناء عامه الأول في منصبه، عندما وجد أن مشاورات الإدارة حول سياسة أفغانستان تخرج إلى العلن، مما قلص كثيرا من حجم المرونة التي يمكنه من خلالها اللجوء إلى خيارات غير تقليدية أو حتى دراستها. دفعته هذه التجربة إلى طلب وضع عملية صناعة قرار جديدة فيما يتعلق بالأمن القومي يقودها مستشار جديد للأمن القومي. إحدى ثمار مراجعة هذا المنهج هي زيادة إحكام السيطرة على تدفق المعلومات، وهو ما تحقق عن طريق تضييق غير مسبوق في دائرة صناعة القرار المقربة. سمح هذا الأمر باستمرار النقاش حول كيفية التعامل مع اكتشاف مكان أسامة بن لادن ببطء وتعقل، استمر خلاله أكثر الموضوعات إثارة في البيت الأبيض قيد الكتمان لمدة خمسة أشهر كاملة، حتى كشفت عنها الإدارة ذاتها بعد شن غارة على مخبأ بن لادن في أبوت آباد.
يقال إن التاريخ لا يعيد ذاته، ولكنه يتشابه في بعض الأحيان. بعد خمسة عقود، ما زالت أزمة الصواريخ الكوبية لحظة محورية في تاريخ الحرب الباردة، ولكنها أيضا مصدر إرشاد إلى كيفية نزع فتيل الصراعات، وإدارة العلاقات بين القوى العظمى، واتخاذ قرارات سليمة فيما يخص السياسات الخارجية عامةً.
في أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، رأى كيندي أن إقدام خروشوف على المغامرة انتهك ما سماه كيندي «قواعد الوضع الراهن غير المستقر» في العلاقات بين القوتين النوويتين العظميين. وكانت هذه القواعد قد تطورت أثناء أزمات سابقة، وساعد حل الأزمة في كوبا على استعادة هذه القواعد وتعزيزها، مما سمح بانتهاء الحرب الباردة في هدوء
* غراهام أليسون: مدير مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية في كلية كيندي للحكم في جامعة هارفارد.
* فورين افيرز .