البرلمان
مرسل: الجمعة ديسمبر 14, 2012 9:00 pm
نشـأة البرلمــان وتطوره
1- ماذا يعنى البرلمان؟
هناك طريقتان للإجابة على هذا السؤال، الأولى هى النظر الى البرلمان كأسلوب لمشاركة المواطنين فى الحياة السياسية، والثانية هى اعتبار البرلمان مؤسسة هامة من مؤسسات المجتمع الديمقراطى الذى يقوم على حرية المشاركة السياسية والتعددية الحزبية.
وفى الحقيقة، فإن كلا المعنيين يكمل الآخر، ولكنهما غير متلازمين. فمشاركة المواطنين فى الحياة السياسية قد تأخذ صورا متعددة، حسب الظروف الثقافية والتقاليد الاجتماعية وطبيعة الدولة. وسيصدر كتاب آخر فى هذه السلسلة يوضح معنى المشاركة السياسية .
وبرغم أن أهم وأحدث صور تلك المشاركة هى اختيار المواطنين مجموعة من النواب الذين يمثلونهم ويعبرون عن آرائهم، أى تكوين البرلمانات المنتخبة، إلا أن بعض المجتمعات قد تلجأ الى أساليب أخرى لذلك، فقد لا يوجد بها برلمان منتخب وإنما تقوم بتشكيل مجالس استشارية تضم مجموعة من القيادات الاجتماعية والرموز والشخصيات العامة بغرض التشاور معهم فى شئون الحكم.
وقد انتشرت البرلمانات المنتخبة فى العالم المعاصر، وتطورت الى درجة كبيرة، وأصبح البرلمان مؤسسة سياسية كبيرة فى الكثير من الدول، وازداد حجمه ليضم مجلسين، وأصبح يقوم بوظائف متعددة، أبرزها وضع القوانين والتشريعات، والرقابة على أعمال الحكومة، والتأثير فى الشئون السياسية الإقليمية والدولية.
بعبارة أخرى، فقد عرفت مختلف المجتمعات تلك النواة الأولى للبرلمان، وهى مناقشة الشئون العامة وقضايا الحكم بطريقة جماعية.
وقد تطور إسم البرلمان مع تطور وظائفه وتزايد دوره فى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فبعد أن كان مجلسا شكليا، عبارة عن مجلس للأعيان أو كبار الملاك، أصبح هيئة شعبية وتشريعية، تمثل مجموع المواطنين.
فعند نشأة البرلمان كانت وظيفته إتاحة الفرصة لمناقشة الأمور العامة، ولعله من الطريف معرفة أن المعنى الحرفى لكلمة برلمان فى تلك المرحلة هو مكان التحدث، أو المكلمة. ثم تطور البرلمان وأصبح هيئة نيابية، تنوب عن المواطنين وتشارك فى الحكم، وسمى المجلس أو الجمعية التى تضم ممثلى الشعب.
ومع انتشار أفكار الحرية والمساواة وحكم الشعب، أصبح للبرلمان سلطة وضع القوانين، وصار يسمى الهيئة التشريعية أو السلطة التشريعية(*).
أكثر من هذا، فإن دور البرلمان قد أصبح محور نظام الحكم ككل فى بعض الدول، حتى أنها أصبحت تسمى الدول ذات النظام البرلمانى، وأشهرها بريطانيا، حيث تتركز معظم السلطة السياسية فى البرلمان، لأن زعيم الأغلبية البرلمانية هو الذى يتولى تشكيل الوزارة أيضا.
2- أين نشأ البرلمان؟
لم يكن البرلمان بدعة فكرية أو ابتكارا لأحد الفلاسفة وإنما جاء وليد تجارب وتاريخ طويل، فالأحداث التاريخية هى التى صنعته وحددت ملامحه الحالية.
ولم يظهر البرلمان مرة واحدة، وإنما خاض مراحل متعددة، كان أكثرها مليئا بالصعاب والتحديات، استطاعت البرلمانات خلالها انتزاع سلطاتها من الملكيات المطلقة ونظم الحكم الاستبدادية.
ولم تتبلور سلطات البرلمان دفعة واحدة وإنما اكتسبتها بالتدريج، حتى امتدت الى المسائل التشريعية والمالية والسياسية. ومع ظهور واستقرار البرلمان عرف العالم نوعا جديدا من نظم الحكم هو الحكومات البرلمانية، وتواصلت مسيرته على طريق الديمقراطية والمشاركة والتعددية السياسية، وحكم الأغلبية.
ويشير المؤرخون الى أن الحياة البرلمانية لأى دولة هى صورة صادقة لواقع وحقيقة مجتمع هذه الدولة، حيث أن معظم التيارات السياسية والأفكار والآراء والمبادئ والقيم التى تسود فى هذا المجتمع تنعكس سلبا وإيجابا على البرلمان وأعماله ودرجة فعاليته.
فالبرلمان هو الممثل المباشر للجماهير، وهو الذى يشرع القوانين التى تحكم المجتمع، كما يراقب الحكومة فى تصرفاتها نحو تنفيذ ما يتطلع إليه الشعب. وقد بلغ تطور دور البرلمان فى بعض الدول مرحلة غير مسبوقة، حتى قيل فى البرلمان البريطانى مثلا أنه يستطيع أن يفعل كل شىء عدا تحويل الرجل إلى امرأة والمرأة إلى رجل.
ولقد تزامن تطور المؤسسة البرلمانية المعاصرة مع تاريخ البرلمانات الأوروبية، وخصوصا البريطانية والفرنسية.
فقد بدأ البرلمان الإنجليزى فى مطلع القرن الثالث عشر يطالب بحقه فى التشريع دون تركه للملك، الذى لم يعد معبرا عن إرادة الشعب. وفى عهد الملك شارل الأول، حدث الصدام بينه وبين مجلس العموم حول الضرائب، وكان الملك فى حاجة لدعوة البرلمان للانعقاد لمواجهة نفقات تسليح الجيش لمواصلة توسعاته الإقليمية، واضطر الى قبول دور أكبر للبرلمان فى مجال تحديد الضرائب، فيما عرف منذ ذلك الوقت بشعار لا ضرائب بلا تمثيل. وقد تنامى دور البرلمان خلال الحرب الأهلية فى منتصف القرن السابع عشر، واندلعت الثورة الإنجليزية الكبرى، وكانت بدايتها الحقيقية فى البرلمان.
كذلك، فقد ظهر الكونجرس الأمريكى فى غضون الثورة التى انتشرت فى أواخر القرن الثامن عشر فى المستعمرات البريطانية، وانتهت بإعلان الاستقلال وتأسيس اتحاد بين عدد من المستعمرات المستقلة. كما ارتبط الكونجرس بمرحلة هامة فى التاريخ الأمريكى وهى الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، حيث كان مركزا للقوى التى تؤيد الاندماج فى دولة واحدة، حتى تم تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، الحالية.
وفى فرنسا، بدأ هذا التطور بما يسمى برلمان باريس، الذى ضم عددا من النبلاء، ثم اصطدم مع الملك منذ أواخر القرن الثامن عشر، وتحدى سلطته المطلقة، فتعرض أعضاؤه للنفى والاضطهاد، ولكن الجماهير تعاطفت معهم. ومع تأزم الحالة المالية للملك لويس السادس عشر، اضطر الى اجتذاب تأييد النبلاء والجمهور على السواء، بحثا عن وسائل تمويل خزانته الخاوية، وبالتالى كان لابد من الاحتكام للأمة واستشارة الجماهير، أى قبول تأسيس البرلمان وسلطاته. وأصبح محور الأحداث فى ذلك الوقت هو إعلان دستور لفرنسا، وضمان وجود البرلمان وتحديد سلطاته، وأن يكون هذا البرلمان تعبيرا عن إرادة الشعب..، واندلعت الثورة الفرنسية الشهيرة، وبدأ العهد الجمهورى لفرنسا من داخل أروقة البرلمان.
ولم تكن مصر بعيدة عن هذا التطور، وإنما شاركت فيه، كما تأثرت به. فالحياة النيابية فى مصر عريقة منذ ظهورها وخلال مراحل تطورها، وليست غريبة فى ممارستها فى المجتمع المصرى على الإطلاق. على العكس من ذلك، فإن الملامح الأولى للتجربة النيابية فى مصر تمتد الى منتصف القرن التاسع عشر، حين تبلور الشكل النيابى الأول فى ظل حكم محمد على، ومن بعده نشأت المؤسسة النيابية بالمعنى السياسى منذ عام 1866، تحت إسم مجلس شورى النواب، وذلك فى عهد الخديوى إسماعيل. كما ارتبط البرلمان بتاريخ الحركة الوطنية المصرية وكان محفزاً لها، منذ حركة عرابى، ومرورا بثورة 1919 بزعامة سعد زغلول، وصدور دستور 1923 بعد حصول مصر على استقلالها من الإمبراطورية البريطانية، وحتى ثورة 23 يوليو 1952، بعد مرحلة حافلة من ازدهار الحياة البرلمانية، عرفت بإسم مرحلة الديمقراطية البرلمانية، ثم إعادة تأسيس الأحزاب السياسية منذ منتصف السبعينات من القرن العشرين.
3 - تجدد الاهتمام بالحياة البرلمانية :
يشهد العالم مزيدا من التحولات نحو الديمقراطية السياسية والتعددية الحزبية، وبالتالى يزداد النقاش حول دور البرلمان فى هذا التطور الديمقراطى، كما يزداد الاهتمام بمعرفة قواعد العمل البرلمانى أيضا.
ويعتبر دور البرلمان فى هذا التحول الديمقراطى جوهريا إذا أدركنا أنه أداة هذا التحول، وهو هدفها أيضا، أى أنه فاعل ومفعول به فى نفس الوقت. فلا يمكن تحقيق ديمقراطية بلا برلمان، يمثل المواطنين ويعبر عن مصالحهم وتطلعاتهم، كما لا يمكن أن يكون هذا البرلمان عنصر قوة للديمقراطية إلا إذا كان نتيجة انتخابات نزيهة. وبالتالى، فإن الديمقراطية تهدف الى إنشاء برلمان سليم، كما أنها تعتمد على وجود برلمان قوى فى نفس الوقت.
وقد تغيرت نظرة العالم الى البرلمان خلال المراحل التاريخية المختلفة، فكانت نظرة إيجابية أحيانا، وسلبية فى أحيان أخرى، بسبب دور البرلمان فى الحياة السياسية ومدى تأثيره على التطور الاقتصادى والاجتماعى والنهضة الشاملة للمجتمع.
ففى بداية ظهور البرلمانات منذ حوالى قرنين من الزمان، كانت النظرة السائدة هى أن نظام الحكم الديمقراطى هو الذى يرتكز على فكرة النيابة والتمثيل والحكم الصالح، الذى يمكّن جميع الأفراد من الدفاع عن مصالحهم، ويتيح للجميع المشاركة فى صنع السياسة من خلال نوابهم، ويساعد على تنوير الرأى العام ويعرض أمامه أفضل الآراء والحلول لمشكلاته من خلال المناقشات البرلمانية، ويمكّنهم من المراقبة والسيطرة على هؤلاء النواب المنتخبين دوريا.
وبعد ازدهار تلك الأفكار حتى أوائل القرن العشرين، بدأت موجة إحباط واسعة تسود بين المثقفين والجماهير من أداء البرلمانات، بل والشك فى فكرة التمثيل الحقيقى للأفراد فى عملية صنع القرار من خلال المؤسسات السياسية القائمة (البرلمانات والأحزاب..)، وأن هذه الديمقراطية النيابية ما هى فى الواقع إلا ديمقراطية نخبوية، ينتشر فيها الفساد وتحقيق المصالح الشخصية، وأن تأثير الناخبين فى عمل البرلمان ما هو إلا محض خداع، وأن البرلمانات ذاتها أصبحت ذراعا طويلة للحكومة، أى السلطة التنفيذية.
وربما كان السبب الرئيسى فى تلك النظرة السلبية هو ظهور مجموعة من النظم الشمولية تقوم على سيطرة الدولة على كل شئ، وذلك خلال فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، مثل الفاشية فى إيطاليا والنازية فى ألمانيا.
وفى الوقت نفسه، فقد انتشر نوع جديد من النظم الشمولية، مثل الشيوعية فى الاتحاد السوفيتى، وبالتالى تراجع الحديث عن الحكومة التمثيلية والديمقراطية النيابية.
باختصار، لم يعد الناخبون راضين عن تعبير نوابهم عن مصالحهم، وأصبح أغلب الجمهور غير قادر على فهم السياسات العامة والمشاركة فيها، أو متابعة ما يجرى فى البرلمانات فى الدول الديمقراطية، كما لم تعد البرلمانات قادرة على ممارسة تأثير حقيقى فى الحياة السياسية فى النظم الشمولية إلا تأييد الحاكم المطلق، وأصبح الناس غير مهتمين بالسياسة عموما إلا فيما ندر.
وأصبح الأمر أكثر تدهورا فى العديد من البلدان النامية، حيث انعدمت فى بعضها أية مؤسسات نيابية أو برلمانات منتخبة أصلا عند استقلالها، أو تحول الكثير منها الى أدوات لدعم الحاكم الذى يقبض على زمام الحكم، أيا كانت طريقة وصوله إليه، الى الحد الذى دفع البعض الى القول بأن البرلمانات أصبحت عقبة فى طريق الديمقراطية، وليست أداة لتحقيقها، كما يفترض أن تكون.
وفى الحقيقة، كانت أوضاع البرلمان فى الكثير من الدول النامية فى تلك الفترة متدهورة للغاية، تباينت حدتها من دولة الى أخرى، لكنها اتسمت عموما بما يلى:
• أنه قد لا توجد برلمانات أصلا.
• قد تنشأ البرلمانات بقرار من الحاكم، ويلغيها فى أى وقت يشاء.
• منع إنشاء الأحزاب السياسية المستقلة، ومنع أى دور للمعارضة.
• هيمنة الحكومة على البرلمان، وعملية التشريع.
• محدودية الوعى السياسى وضعف القدرة البرلمانية للأعضاء.
• مشكلات العملية الانتخابية، ما بين سيطرة حزب واحد يهيمن عليه الحاكم، أو تزييف الانتخابات، أو انتشار العنف بين المرشحين.
• سوء استخدام نواب البرلمان للحصانة البرلمانية.
بعبارة أخرى، فقد أصبحت البرلمانات مؤسسات ضعيفة، إن وجدت أصلا، وتوارى عنها العصر الذهبى، وأنها لن تستطيع استعادة قوتها التى فقدتها أمام سيطرة الحاكم الفرد، وبالتالى أصبح دورها فى عملية صنع القوانين والتشريعات شكليا، أو تحولت الى بصمجى يوقع على ما يريده الحاكم. وحتى إذا كانت هناك انتخابات لهذه البرلمانات فإنها غالبا لا تعبر عن المواطنين، الذين انصرفوا بدورهم عن المشاركة فيها، وأصبحت تلك الانتخابات تتسم بالعصبية والفساد، وفقدت البرلمانات ثقة الشعوب فيها.
وربما كانت هذه النظرة السلبية لدور البرلمانات فى الحياة السياسية هى التى تفسر البحث عن وسائل أخرى للتعبير عن المواطنين والتأثير فى الحكومة، وفى مقدمتها ما يسمى منظمات المجتمع المدنى، مثل النقابات والجمعيات الأهلية.
ثم بدأت هذه الصورة السلبية تتغير تدريجيا منذ أوائل السبعينات، حيث سقطت العديد من الحكومات الاستبدادية وانهارت الكتلة الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتى، كما بدأت معظم الدول النامية تدخل مرحلة جديدة من التغير السياسى، فيما أصبح يسمى موجة التحول الديمقراطى فى العالم.
فخلال الفترة ما بين عام 1974 وعام 1990 ظهرت حوالى ثلاثين حكومة ديمقراطية جديدة فى الدول النامية، ترتكز على وجود برلمان فعال، كما زادت نسبة النظم الديمقراطية فى العالم المعاصر بشكل واضح منذ عام 1992، وأصبحت البرلمانات فى عقد التسعينات أقوى مما كانت عليه من قبل.
وتحت تأثير ثورة الاتصالات وبروز نظام اقتصادى عالمى مغاير، وتلاشى سحب الحرب الباردة، تأثرت قوة الحياة البرلمانية منذ تلك الفترة بأمرين، الأول هو تأسيس مجالس برلمانية جديدة أو إعادة تنشيط المجالس القديمة والسماح بالتعددية الحزبية، والثانى أن البرلمانات أصبحت تمارس الوظيفة التشريعية بقوة أكبر.
وفى كل الأحوال، فقد اتضح للعالم أن التحول الديمقراطى فى حاجة الى برلمان قوى، وأن دور البرلمانات فى الحياة السياسية يتزايد مرة أخرى، الى درجة أن البعض يؤكد أننا نعيش اليوم عصر البرلمانات. فقد أصبح واضحا للجميع أن البرلمانات هى المؤسسات السياسية الرئيسية فى النظام الديمقراطى، لأنها تلعب دورا حيويا فى عملية التحول الديمقراطى، سواء من حيث تعزيز الثقة بين الحكومة والمواطنين، أو دورها فى التعبير عن مطالب المجتمع، أو مراقبة أعمال الحكومة.
وبدأت الدول تعيد النظر فى شكل البرلمان، وسلطاته، وتهتم بإجراء انتخابات دورية ونزيهة، وتتيح للرأى العام متابعة أعمال البرلمان بطرق متعددة، مثل نقل جلساته عبر وسائل الإعلام، والاهتمام بمتابعة أنشطته وتقييم أداء الأعضاء فى الصحافة، وفى الوقت نفسه تزويد الأعضاء بالمعلومات والمعارف القانونية والبرلمانية اللازمة لممارسة مهامهم.
وبعد فترة طويلة من تدهور مكانة البرلمان فى نظر المجتمع، يزداد اليوم الاعتقاد بأن التقدم نحو الحكم الديمقراطى يعتمد على وجود برلمان قوى. ولم يعد السؤال هو: هل نحتاج الى برلمان لكى نحقق الديمقراطية؟، وإنما أصبح كيف يكون البرلمان قويا ليدعم تحقيق الديمقراطية؟.
4- أهمية وجود البرلمان :
بالإضافة الى تطور مراحل الحياة البرلمانية، تشير المراجعة التاريخية تنوع الدوافع التى كانت وراء نشأة البرلمان وتطوره فى مناطق العالم المختلفة. وقد أصبحت تلك الدوافع فى مجملها أساسا للوظائف التى تمارسها البرلمانات، وهى التمثيل، أو النيابة عن الشعب، وبناء الدولة القومية، وتسوية الخلافات بين الفئات والقوى الاجتماعية بالطرق لسلمية وعن طريق مبدأ حكم الأغلبية.
ففى الكثير من الدول الغربية، ظهر البرلمان فى إطار تحولات اجتماعية واقتصادية واسعة، ثم تدعم دوره مع ظهور طبقة وسطى مؤثرة إبان الانتقال الى فترة الثورة الصناعية. وفى تلك المرحلة كان الدافع الرئيسى وراء تأسيس البرلمان هو تمثيل تلك الفئات والقوى الناشئة، بما يسمح لها بالتأثير فى الحياة السياسية. ومع انتشار أفكار السيادة الشعبية والمواطنة والمساواة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات، واستحالة مشاركة كافة المواطنين فعليا فى الحكم، أصبح دور البرلمان هو تمثيل مختلف فئات الشعب، وممارسة تلك السيادة، التى تمثلت فى وضع القوانين أساسا. ومع تطور أفكار الحرية السياسية وظهور الأحزاب وتعددها، أصبح البرلمان هو الحلبة التى تتنافس فيها تلك الأحزاب والتيارات السياسية، وتسعى للوصول الى الأغلبية، وبالتالى تشكيل الحكومة، فيما أصبح يعرف بالحكم النيابى.
أما فى الدول النامية، فقد كان هناك دافع إضافى لتأسيس البرلمانات، وهو بناء الدولة القومية، وتأكيد الهوية الوطنية المشتركة لأبناء الدولة الواحدة. فبعد التحرر من الاستعمار، واجهت معظم تلك الدول تحديات عديدة، أبرزها طبيعة الحدود السياسية التى اصطنعتها الدول الاستعمارية قبل رحيلها، فقسمت هذه المجتمعات الى وحدات متقاطعة ومتداخلة فى آن واحد، وجعلت أبناء القومية الواحدة موزعين فى عدة دول، وأصبح على هذه الدول حديثة الاستقلال تأكيد هويتها المشتركة، للحفاظ على تماسكها ومواصلة مسيرة نموها الشاقة.
وكان لابد من إنشاء مؤسسات سياسية تجسد تلك الوحدة الوطنية، وتعبر عن الهوية المشتركة، وكان البرلمان من أهمها، لأنه الهيئة التى يمكن أن تكون معبرة عن مختلف الجماعات والأقاليم والفئات التى تنتمى الى نفس الدولة، وبالتالى فهى المؤهلة لإيجاد أرضية مشتركة بينهم، وبلورة مشاعر ومصالح وطنية تجمعهم. فكان تأسيس البرلمان خطوة أساسية لبناء الدولة القومية، والحفاظ على تماسكها، سواء من الانقسامات الداخلية والحركات الإنفصالية، أو فى مواجهة القوى الاستعمارية ذاتها.
ومن ناحية ثالثة، نجد أن الدافع وراء تأسيس البرلمان فى بعض الدول قد يكون، بالإضافة الى ما سبق، هو تحقيق الاستقرار الاجتماعى بمعناه الشامل. فهناك دول شديدة التعدد من النواحى العرقية والطائفية اللغوية والدينية والثقافية، وتكون فى حاجة ماسة الى وسائل تقلل من فرص الصراع بين المواطنين ذوى الانتماءات المختلفة، من أجل تحويل تلك التعددية الى مصدر ثراء وقوة.
واليوم، فإن تأسيس البرلمانات أصبح ركنا جوهريا فى الحياة الديمقراطية، ومرحلة لازمة فى عملية التحول الديمقراطى، وأصبح تطوير العمل البرلمانى مدخلا للإصلاح السياسى ككل. أكثر من هذا، فإن التحول الاقتصادى والاتجاه الى نظام السوق الحرة قد جعل من الضرورى تحقيق تطور مواكب فى الحياة السياسية، الذى يبدأ من احترام الحقوق والحريات الأساسية للمواطن، وخصوصا حرية المشاركة السياسية والتعددية الحزبية، وينتهى بتشكيل حكومات نيابية، عن طريق انتخابات حرة ونزيهة. وهذه كلها أمور تصب فى صميم العمل البرلمانى.
باختصار، فقد أصبح البرلمان اليوم رمزا لمجموعة أكبر من التحولات السياسية، التى تضم العديد من المؤسسات السياسية والدستورية، مثل الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية والعمالية، ومؤسسات المجتمع المدنى كالجمعيات الأهلية والنوادى الثقافية والروابط الاجتماعية، ووجود صحافة حرة وقوية تعبر عن كافة الآراء والاتجاهات..، كل ذلك هو الذى يشكل المناخ السياسى والاجتماعى الذى يزدهر فيه العمل البرلمانى، ويقدم الضمانات الأساسية لاستمرار النظام الديمقراطى.
1- ماذا يعنى البرلمان؟
هناك طريقتان للإجابة على هذا السؤال، الأولى هى النظر الى البرلمان كأسلوب لمشاركة المواطنين فى الحياة السياسية، والثانية هى اعتبار البرلمان مؤسسة هامة من مؤسسات المجتمع الديمقراطى الذى يقوم على حرية المشاركة السياسية والتعددية الحزبية.
وفى الحقيقة، فإن كلا المعنيين يكمل الآخر، ولكنهما غير متلازمين. فمشاركة المواطنين فى الحياة السياسية قد تأخذ صورا متعددة، حسب الظروف الثقافية والتقاليد الاجتماعية وطبيعة الدولة. وسيصدر كتاب آخر فى هذه السلسلة يوضح معنى المشاركة السياسية .
وبرغم أن أهم وأحدث صور تلك المشاركة هى اختيار المواطنين مجموعة من النواب الذين يمثلونهم ويعبرون عن آرائهم، أى تكوين البرلمانات المنتخبة، إلا أن بعض المجتمعات قد تلجأ الى أساليب أخرى لذلك، فقد لا يوجد بها برلمان منتخب وإنما تقوم بتشكيل مجالس استشارية تضم مجموعة من القيادات الاجتماعية والرموز والشخصيات العامة بغرض التشاور معهم فى شئون الحكم.
وقد انتشرت البرلمانات المنتخبة فى العالم المعاصر، وتطورت الى درجة كبيرة، وأصبح البرلمان مؤسسة سياسية كبيرة فى الكثير من الدول، وازداد حجمه ليضم مجلسين، وأصبح يقوم بوظائف متعددة، أبرزها وضع القوانين والتشريعات، والرقابة على أعمال الحكومة، والتأثير فى الشئون السياسية الإقليمية والدولية.
بعبارة أخرى، فقد عرفت مختلف المجتمعات تلك النواة الأولى للبرلمان، وهى مناقشة الشئون العامة وقضايا الحكم بطريقة جماعية.
وقد تطور إسم البرلمان مع تطور وظائفه وتزايد دوره فى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فبعد أن كان مجلسا شكليا، عبارة عن مجلس للأعيان أو كبار الملاك، أصبح هيئة شعبية وتشريعية، تمثل مجموع المواطنين.
فعند نشأة البرلمان كانت وظيفته إتاحة الفرصة لمناقشة الأمور العامة، ولعله من الطريف معرفة أن المعنى الحرفى لكلمة برلمان فى تلك المرحلة هو مكان التحدث، أو المكلمة. ثم تطور البرلمان وأصبح هيئة نيابية، تنوب عن المواطنين وتشارك فى الحكم، وسمى المجلس أو الجمعية التى تضم ممثلى الشعب.
ومع انتشار أفكار الحرية والمساواة وحكم الشعب، أصبح للبرلمان سلطة وضع القوانين، وصار يسمى الهيئة التشريعية أو السلطة التشريعية(*).
أكثر من هذا، فإن دور البرلمان قد أصبح محور نظام الحكم ككل فى بعض الدول، حتى أنها أصبحت تسمى الدول ذات النظام البرلمانى، وأشهرها بريطانيا، حيث تتركز معظم السلطة السياسية فى البرلمان، لأن زعيم الأغلبية البرلمانية هو الذى يتولى تشكيل الوزارة أيضا.
2- أين نشأ البرلمان؟
لم يكن البرلمان بدعة فكرية أو ابتكارا لأحد الفلاسفة وإنما جاء وليد تجارب وتاريخ طويل، فالأحداث التاريخية هى التى صنعته وحددت ملامحه الحالية.
ولم يظهر البرلمان مرة واحدة، وإنما خاض مراحل متعددة، كان أكثرها مليئا بالصعاب والتحديات، استطاعت البرلمانات خلالها انتزاع سلطاتها من الملكيات المطلقة ونظم الحكم الاستبدادية.
ولم تتبلور سلطات البرلمان دفعة واحدة وإنما اكتسبتها بالتدريج، حتى امتدت الى المسائل التشريعية والمالية والسياسية. ومع ظهور واستقرار البرلمان عرف العالم نوعا جديدا من نظم الحكم هو الحكومات البرلمانية، وتواصلت مسيرته على طريق الديمقراطية والمشاركة والتعددية السياسية، وحكم الأغلبية.
ويشير المؤرخون الى أن الحياة البرلمانية لأى دولة هى صورة صادقة لواقع وحقيقة مجتمع هذه الدولة، حيث أن معظم التيارات السياسية والأفكار والآراء والمبادئ والقيم التى تسود فى هذا المجتمع تنعكس سلبا وإيجابا على البرلمان وأعماله ودرجة فعاليته.
فالبرلمان هو الممثل المباشر للجماهير، وهو الذى يشرع القوانين التى تحكم المجتمع، كما يراقب الحكومة فى تصرفاتها نحو تنفيذ ما يتطلع إليه الشعب. وقد بلغ تطور دور البرلمان فى بعض الدول مرحلة غير مسبوقة، حتى قيل فى البرلمان البريطانى مثلا أنه يستطيع أن يفعل كل شىء عدا تحويل الرجل إلى امرأة والمرأة إلى رجل.
ولقد تزامن تطور المؤسسة البرلمانية المعاصرة مع تاريخ البرلمانات الأوروبية، وخصوصا البريطانية والفرنسية.
فقد بدأ البرلمان الإنجليزى فى مطلع القرن الثالث عشر يطالب بحقه فى التشريع دون تركه للملك، الذى لم يعد معبرا عن إرادة الشعب. وفى عهد الملك شارل الأول، حدث الصدام بينه وبين مجلس العموم حول الضرائب، وكان الملك فى حاجة لدعوة البرلمان للانعقاد لمواجهة نفقات تسليح الجيش لمواصلة توسعاته الإقليمية، واضطر الى قبول دور أكبر للبرلمان فى مجال تحديد الضرائب، فيما عرف منذ ذلك الوقت بشعار لا ضرائب بلا تمثيل. وقد تنامى دور البرلمان خلال الحرب الأهلية فى منتصف القرن السابع عشر، واندلعت الثورة الإنجليزية الكبرى، وكانت بدايتها الحقيقية فى البرلمان.
كذلك، فقد ظهر الكونجرس الأمريكى فى غضون الثورة التى انتشرت فى أواخر القرن الثامن عشر فى المستعمرات البريطانية، وانتهت بإعلان الاستقلال وتأسيس اتحاد بين عدد من المستعمرات المستقلة. كما ارتبط الكونجرس بمرحلة هامة فى التاريخ الأمريكى وهى الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، حيث كان مركزا للقوى التى تؤيد الاندماج فى دولة واحدة، حتى تم تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، الحالية.
وفى فرنسا، بدأ هذا التطور بما يسمى برلمان باريس، الذى ضم عددا من النبلاء، ثم اصطدم مع الملك منذ أواخر القرن الثامن عشر، وتحدى سلطته المطلقة، فتعرض أعضاؤه للنفى والاضطهاد، ولكن الجماهير تعاطفت معهم. ومع تأزم الحالة المالية للملك لويس السادس عشر، اضطر الى اجتذاب تأييد النبلاء والجمهور على السواء، بحثا عن وسائل تمويل خزانته الخاوية، وبالتالى كان لابد من الاحتكام للأمة واستشارة الجماهير، أى قبول تأسيس البرلمان وسلطاته. وأصبح محور الأحداث فى ذلك الوقت هو إعلان دستور لفرنسا، وضمان وجود البرلمان وتحديد سلطاته، وأن يكون هذا البرلمان تعبيرا عن إرادة الشعب..، واندلعت الثورة الفرنسية الشهيرة، وبدأ العهد الجمهورى لفرنسا من داخل أروقة البرلمان.
ولم تكن مصر بعيدة عن هذا التطور، وإنما شاركت فيه، كما تأثرت به. فالحياة النيابية فى مصر عريقة منذ ظهورها وخلال مراحل تطورها، وليست غريبة فى ممارستها فى المجتمع المصرى على الإطلاق. على العكس من ذلك، فإن الملامح الأولى للتجربة النيابية فى مصر تمتد الى منتصف القرن التاسع عشر، حين تبلور الشكل النيابى الأول فى ظل حكم محمد على، ومن بعده نشأت المؤسسة النيابية بالمعنى السياسى منذ عام 1866، تحت إسم مجلس شورى النواب، وذلك فى عهد الخديوى إسماعيل. كما ارتبط البرلمان بتاريخ الحركة الوطنية المصرية وكان محفزاً لها، منذ حركة عرابى، ومرورا بثورة 1919 بزعامة سعد زغلول، وصدور دستور 1923 بعد حصول مصر على استقلالها من الإمبراطورية البريطانية، وحتى ثورة 23 يوليو 1952، بعد مرحلة حافلة من ازدهار الحياة البرلمانية، عرفت بإسم مرحلة الديمقراطية البرلمانية، ثم إعادة تأسيس الأحزاب السياسية منذ منتصف السبعينات من القرن العشرين.
3 - تجدد الاهتمام بالحياة البرلمانية :
يشهد العالم مزيدا من التحولات نحو الديمقراطية السياسية والتعددية الحزبية، وبالتالى يزداد النقاش حول دور البرلمان فى هذا التطور الديمقراطى، كما يزداد الاهتمام بمعرفة قواعد العمل البرلمانى أيضا.
ويعتبر دور البرلمان فى هذا التحول الديمقراطى جوهريا إذا أدركنا أنه أداة هذا التحول، وهو هدفها أيضا، أى أنه فاعل ومفعول به فى نفس الوقت. فلا يمكن تحقيق ديمقراطية بلا برلمان، يمثل المواطنين ويعبر عن مصالحهم وتطلعاتهم، كما لا يمكن أن يكون هذا البرلمان عنصر قوة للديمقراطية إلا إذا كان نتيجة انتخابات نزيهة. وبالتالى، فإن الديمقراطية تهدف الى إنشاء برلمان سليم، كما أنها تعتمد على وجود برلمان قوى فى نفس الوقت.
وقد تغيرت نظرة العالم الى البرلمان خلال المراحل التاريخية المختلفة، فكانت نظرة إيجابية أحيانا، وسلبية فى أحيان أخرى، بسبب دور البرلمان فى الحياة السياسية ومدى تأثيره على التطور الاقتصادى والاجتماعى والنهضة الشاملة للمجتمع.
ففى بداية ظهور البرلمانات منذ حوالى قرنين من الزمان، كانت النظرة السائدة هى أن نظام الحكم الديمقراطى هو الذى يرتكز على فكرة النيابة والتمثيل والحكم الصالح، الذى يمكّن جميع الأفراد من الدفاع عن مصالحهم، ويتيح للجميع المشاركة فى صنع السياسة من خلال نوابهم، ويساعد على تنوير الرأى العام ويعرض أمامه أفضل الآراء والحلول لمشكلاته من خلال المناقشات البرلمانية، ويمكّنهم من المراقبة والسيطرة على هؤلاء النواب المنتخبين دوريا.
وبعد ازدهار تلك الأفكار حتى أوائل القرن العشرين، بدأت موجة إحباط واسعة تسود بين المثقفين والجماهير من أداء البرلمانات، بل والشك فى فكرة التمثيل الحقيقى للأفراد فى عملية صنع القرار من خلال المؤسسات السياسية القائمة (البرلمانات والأحزاب..)، وأن هذه الديمقراطية النيابية ما هى فى الواقع إلا ديمقراطية نخبوية، ينتشر فيها الفساد وتحقيق المصالح الشخصية، وأن تأثير الناخبين فى عمل البرلمان ما هو إلا محض خداع، وأن البرلمانات ذاتها أصبحت ذراعا طويلة للحكومة، أى السلطة التنفيذية.
وربما كان السبب الرئيسى فى تلك النظرة السلبية هو ظهور مجموعة من النظم الشمولية تقوم على سيطرة الدولة على كل شئ، وذلك خلال فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، مثل الفاشية فى إيطاليا والنازية فى ألمانيا.
وفى الوقت نفسه، فقد انتشر نوع جديد من النظم الشمولية، مثل الشيوعية فى الاتحاد السوفيتى، وبالتالى تراجع الحديث عن الحكومة التمثيلية والديمقراطية النيابية.
باختصار، لم يعد الناخبون راضين عن تعبير نوابهم عن مصالحهم، وأصبح أغلب الجمهور غير قادر على فهم السياسات العامة والمشاركة فيها، أو متابعة ما يجرى فى البرلمانات فى الدول الديمقراطية، كما لم تعد البرلمانات قادرة على ممارسة تأثير حقيقى فى الحياة السياسية فى النظم الشمولية إلا تأييد الحاكم المطلق، وأصبح الناس غير مهتمين بالسياسة عموما إلا فيما ندر.
وأصبح الأمر أكثر تدهورا فى العديد من البلدان النامية، حيث انعدمت فى بعضها أية مؤسسات نيابية أو برلمانات منتخبة أصلا عند استقلالها، أو تحول الكثير منها الى أدوات لدعم الحاكم الذى يقبض على زمام الحكم، أيا كانت طريقة وصوله إليه، الى الحد الذى دفع البعض الى القول بأن البرلمانات أصبحت عقبة فى طريق الديمقراطية، وليست أداة لتحقيقها، كما يفترض أن تكون.
وفى الحقيقة، كانت أوضاع البرلمان فى الكثير من الدول النامية فى تلك الفترة متدهورة للغاية، تباينت حدتها من دولة الى أخرى، لكنها اتسمت عموما بما يلى:
• أنه قد لا توجد برلمانات أصلا.
• قد تنشأ البرلمانات بقرار من الحاكم، ويلغيها فى أى وقت يشاء.
• منع إنشاء الأحزاب السياسية المستقلة، ومنع أى دور للمعارضة.
• هيمنة الحكومة على البرلمان، وعملية التشريع.
• محدودية الوعى السياسى وضعف القدرة البرلمانية للأعضاء.
• مشكلات العملية الانتخابية، ما بين سيطرة حزب واحد يهيمن عليه الحاكم، أو تزييف الانتخابات، أو انتشار العنف بين المرشحين.
• سوء استخدام نواب البرلمان للحصانة البرلمانية.
بعبارة أخرى، فقد أصبحت البرلمانات مؤسسات ضعيفة، إن وجدت أصلا، وتوارى عنها العصر الذهبى، وأنها لن تستطيع استعادة قوتها التى فقدتها أمام سيطرة الحاكم الفرد، وبالتالى أصبح دورها فى عملية صنع القوانين والتشريعات شكليا، أو تحولت الى بصمجى يوقع على ما يريده الحاكم. وحتى إذا كانت هناك انتخابات لهذه البرلمانات فإنها غالبا لا تعبر عن المواطنين، الذين انصرفوا بدورهم عن المشاركة فيها، وأصبحت تلك الانتخابات تتسم بالعصبية والفساد، وفقدت البرلمانات ثقة الشعوب فيها.
وربما كانت هذه النظرة السلبية لدور البرلمانات فى الحياة السياسية هى التى تفسر البحث عن وسائل أخرى للتعبير عن المواطنين والتأثير فى الحكومة، وفى مقدمتها ما يسمى منظمات المجتمع المدنى، مثل النقابات والجمعيات الأهلية.
ثم بدأت هذه الصورة السلبية تتغير تدريجيا منذ أوائل السبعينات، حيث سقطت العديد من الحكومات الاستبدادية وانهارت الكتلة الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتى، كما بدأت معظم الدول النامية تدخل مرحلة جديدة من التغير السياسى، فيما أصبح يسمى موجة التحول الديمقراطى فى العالم.
فخلال الفترة ما بين عام 1974 وعام 1990 ظهرت حوالى ثلاثين حكومة ديمقراطية جديدة فى الدول النامية، ترتكز على وجود برلمان فعال، كما زادت نسبة النظم الديمقراطية فى العالم المعاصر بشكل واضح منذ عام 1992، وأصبحت البرلمانات فى عقد التسعينات أقوى مما كانت عليه من قبل.
وتحت تأثير ثورة الاتصالات وبروز نظام اقتصادى عالمى مغاير، وتلاشى سحب الحرب الباردة، تأثرت قوة الحياة البرلمانية منذ تلك الفترة بأمرين، الأول هو تأسيس مجالس برلمانية جديدة أو إعادة تنشيط المجالس القديمة والسماح بالتعددية الحزبية، والثانى أن البرلمانات أصبحت تمارس الوظيفة التشريعية بقوة أكبر.
وفى كل الأحوال، فقد اتضح للعالم أن التحول الديمقراطى فى حاجة الى برلمان قوى، وأن دور البرلمانات فى الحياة السياسية يتزايد مرة أخرى، الى درجة أن البعض يؤكد أننا نعيش اليوم عصر البرلمانات. فقد أصبح واضحا للجميع أن البرلمانات هى المؤسسات السياسية الرئيسية فى النظام الديمقراطى، لأنها تلعب دورا حيويا فى عملية التحول الديمقراطى، سواء من حيث تعزيز الثقة بين الحكومة والمواطنين، أو دورها فى التعبير عن مطالب المجتمع، أو مراقبة أعمال الحكومة.
وبدأت الدول تعيد النظر فى شكل البرلمان، وسلطاته، وتهتم بإجراء انتخابات دورية ونزيهة، وتتيح للرأى العام متابعة أعمال البرلمان بطرق متعددة، مثل نقل جلساته عبر وسائل الإعلام، والاهتمام بمتابعة أنشطته وتقييم أداء الأعضاء فى الصحافة، وفى الوقت نفسه تزويد الأعضاء بالمعلومات والمعارف القانونية والبرلمانية اللازمة لممارسة مهامهم.
وبعد فترة طويلة من تدهور مكانة البرلمان فى نظر المجتمع، يزداد اليوم الاعتقاد بأن التقدم نحو الحكم الديمقراطى يعتمد على وجود برلمان قوى. ولم يعد السؤال هو: هل نحتاج الى برلمان لكى نحقق الديمقراطية؟، وإنما أصبح كيف يكون البرلمان قويا ليدعم تحقيق الديمقراطية؟.
4- أهمية وجود البرلمان :
بالإضافة الى تطور مراحل الحياة البرلمانية، تشير المراجعة التاريخية تنوع الدوافع التى كانت وراء نشأة البرلمان وتطوره فى مناطق العالم المختلفة. وقد أصبحت تلك الدوافع فى مجملها أساسا للوظائف التى تمارسها البرلمانات، وهى التمثيل، أو النيابة عن الشعب، وبناء الدولة القومية، وتسوية الخلافات بين الفئات والقوى الاجتماعية بالطرق لسلمية وعن طريق مبدأ حكم الأغلبية.
ففى الكثير من الدول الغربية، ظهر البرلمان فى إطار تحولات اجتماعية واقتصادية واسعة، ثم تدعم دوره مع ظهور طبقة وسطى مؤثرة إبان الانتقال الى فترة الثورة الصناعية. وفى تلك المرحلة كان الدافع الرئيسى وراء تأسيس البرلمان هو تمثيل تلك الفئات والقوى الناشئة، بما يسمح لها بالتأثير فى الحياة السياسية. ومع انتشار أفكار السيادة الشعبية والمواطنة والمساواة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات، واستحالة مشاركة كافة المواطنين فعليا فى الحكم، أصبح دور البرلمان هو تمثيل مختلف فئات الشعب، وممارسة تلك السيادة، التى تمثلت فى وضع القوانين أساسا. ومع تطور أفكار الحرية السياسية وظهور الأحزاب وتعددها، أصبح البرلمان هو الحلبة التى تتنافس فيها تلك الأحزاب والتيارات السياسية، وتسعى للوصول الى الأغلبية، وبالتالى تشكيل الحكومة، فيما أصبح يعرف بالحكم النيابى.
أما فى الدول النامية، فقد كان هناك دافع إضافى لتأسيس البرلمانات، وهو بناء الدولة القومية، وتأكيد الهوية الوطنية المشتركة لأبناء الدولة الواحدة. فبعد التحرر من الاستعمار، واجهت معظم تلك الدول تحديات عديدة، أبرزها طبيعة الحدود السياسية التى اصطنعتها الدول الاستعمارية قبل رحيلها، فقسمت هذه المجتمعات الى وحدات متقاطعة ومتداخلة فى آن واحد، وجعلت أبناء القومية الواحدة موزعين فى عدة دول، وأصبح على هذه الدول حديثة الاستقلال تأكيد هويتها المشتركة، للحفاظ على تماسكها ومواصلة مسيرة نموها الشاقة.
وكان لابد من إنشاء مؤسسات سياسية تجسد تلك الوحدة الوطنية، وتعبر عن الهوية المشتركة، وكان البرلمان من أهمها، لأنه الهيئة التى يمكن أن تكون معبرة عن مختلف الجماعات والأقاليم والفئات التى تنتمى الى نفس الدولة، وبالتالى فهى المؤهلة لإيجاد أرضية مشتركة بينهم، وبلورة مشاعر ومصالح وطنية تجمعهم. فكان تأسيس البرلمان خطوة أساسية لبناء الدولة القومية، والحفاظ على تماسكها، سواء من الانقسامات الداخلية والحركات الإنفصالية، أو فى مواجهة القوى الاستعمارية ذاتها.
ومن ناحية ثالثة، نجد أن الدافع وراء تأسيس البرلمان فى بعض الدول قد يكون، بالإضافة الى ما سبق، هو تحقيق الاستقرار الاجتماعى بمعناه الشامل. فهناك دول شديدة التعدد من النواحى العرقية والطائفية اللغوية والدينية والثقافية، وتكون فى حاجة ماسة الى وسائل تقلل من فرص الصراع بين المواطنين ذوى الانتماءات المختلفة، من أجل تحويل تلك التعددية الى مصدر ثراء وقوة.
واليوم، فإن تأسيس البرلمانات أصبح ركنا جوهريا فى الحياة الديمقراطية، ومرحلة لازمة فى عملية التحول الديمقراطى، وأصبح تطوير العمل البرلمانى مدخلا للإصلاح السياسى ككل. أكثر من هذا، فإن التحول الاقتصادى والاتجاه الى نظام السوق الحرة قد جعل من الضرورى تحقيق تطور مواكب فى الحياة السياسية، الذى يبدأ من احترام الحقوق والحريات الأساسية للمواطن، وخصوصا حرية المشاركة السياسية والتعددية الحزبية، وينتهى بتشكيل حكومات نيابية، عن طريق انتخابات حرة ونزيهة. وهذه كلها أمور تصب فى صميم العمل البرلمانى.
باختصار، فقد أصبح البرلمان اليوم رمزا لمجموعة أكبر من التحولات السياسية، التى تضم العديد من المؤسسات السياسية والدستورية، مثل الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية والعمالية، ومؤسسات المجتمع المدنى كالجمعيات الأهلية والنوادى الثقافية والروابط الاجتماعية، ووجود صحافة حرة وقوية تعبر عن كافة الآراء والاتجاهات..، كل ذلك هو الذى يشكل المناخ السياسى والاجتماعى الذى يزدهر فيه العمل البرلمانى، ويقدم الضمانات الأساسية لاستمرار النظام الديمقراطى.