روسيا وإيران: التناقضات والمصالح المشتركة
مرسل: الأحد ديسمبر 16, 2012 12:44 am
العلاقات بين روسيا وايران قائمة، بالأساس، على وحدة المصالح الجيو - سياسية للدولتين. فللبلدين مصلحة في تحجيم النفوذ الأميركي في آسيا الوسطى والقوقاز، وتقليل نفوذ بلدان ثالثة في المنطقة، لا سيما في بحر قزوين، ودعم الاستقرار هناك، والتصدّي لتصاعد الميول الانفصالية في الأراضي الروسية والإيرانية. وازداد بشكل ملحوظ، في هذه الحقبة، نفوذ الصين الاقتصادي في بلدان آسيا الوسطى، حتى أخذ يكتسب طبيعة التوسّع الاقتصادي. وطالما تطمح إيران، شأنها في ذلك شأن روسيا، إلى تعزيز مواقعها في المنطقة نفسها، فقد نشأت لديهما موضوعياً مصلحة في التصدي المشترك لهذا التوسع. كما تتوافق مصالح روسيا وايران في التصدي لمحاولات الولايات المتحدة الرامية إلى تغيير وجهة المسيلات الاقتصادية والتجارية من دول آسيا الوسطى إلى الأسواق الآسيوية، وتحويلها إلى هناك عبر أفغانستان كي لا تمر بشبكات النقل في إيران وروسيا. إلا ان مستوى العلاقات بين روسيا وايران، رغم وحدة الرأي بشأن العديد من القضايا الإقليمية، لا يرقى الى المستوى الذي يصح وصفه بالرفيع والمستقر بشكل كافٍ. فقد تعرضت العلاقات بين البلدين، وكما هو الحال في العقود الماضية، إلى تذبذب كبير. التزمت إيران في الواقع، خلال فترة النزاع مع جورجيا في القوقاز، جانب موسكو العام 2008؛ إلا انها فضلت التريث والانتظار في العام 2009 بشأن الاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وفي العام 2010 شهدت علاقة ايران مع روسيا موقفاً سلبياً حينما وافقت موسكو، خلال قمة «منظمة شنغهاي للتعاون» في طشقند، على كل شروط انتساب الأعضاء الجدد إلى المنظمة؛ والتي تضمنت عدم وجود عقوبات من الأمم المتحدة ضد طالب الانتساب. وعلى الرغم من تأييد معظم أعضاء المنظمة لإدراج بند العقوبات ضمن شروط القبول، فإن الجانب الإيراني يفهم تماماً أن اختيار تلك الشروط تم بناءً على موقف الصين وروسيا. ومع ذلك، ورغم تذبذب مسار العلاقات الثنائية، كان زعماء روسيا وايران يتفهمون ضرورة دفع تلك العلاقات ودعمها.
شراكة اقتصادية
تعد ايران، من الناحية الموضوعية، شريكاً اقتصادياً نافعاً لروسيا يملك إمكانات واسعة وسوقاً داخلياً متطوراً. ورغم الأزمة الكبيرة ونظام العقوبات القاسي، ظلت إيران شريكاً متمكناً يمتلك قدرة شرائية مرموقة. ويفيد آخر تقرير للبنك الدولي للعام 2012 أن المعدل السنوي لنمو الناتج الوطني الإجمالي في إيران للأعوام 2000-2010 بلغ 5,4 %، أي أقل بعض الشيء من معدل السنوات 2000- 2008 وهو 6,0%. ومن حيث تصنيف المراتب الصادر عن البنك الدولي في الأول من يوليو/تموز 2011 تحتل إيران المرتبة التاسعة والعشرين من حيث أحجام الناتج الوطني للعام 2010 (بأسعار الصرف)، والمرتبة الثامنة عشر من حيث تكافؤ القدرات الشرائية. ويعتبر اقتصاد إيران من أكبر اقتصادات دول آسيا الوسطى والشرق الأوسط، ولا يتقدّم عليه في الواقع سوى اقتصاد تركيا. وحسب تقديرات صندوق النقد الدولي المنشورة في سبتمبر/أيلول 2011 من المتوقع انخفاض الناتج المحلي إلى مستوى 2,5% في 2011-2012، على أن يحدث لاحقاً نمو تدريجي وصولاً إلى 4,6% في العام 2016. وحتى لو وافقنا على هذه التقديرات، التي لم يشكك فيها مركز الإحصاءات الإيراني، بل واستشهد ببعضها، فإنها تدلّ على أن إيران، التي تواجه الأزمة قد تمكنت من تفادي الانهيار الاقتصادي وتجنبت التراجع والانكماش الاقتصادي. ولا يزال مرتفعاً نسبياً (على مستوى 26-27%) معدل الاستثمارات الإجمالية، الأمر الذي يوفر ضمانة لنمو الاقتصاد، خصوصاً اذا أخذنا بالاعتبار التركيبة التكنولوجية الأمثل للاستثمارات المالية، فيما يجري التعويض عن تقلص الاستثمارات الأجنبية المباشرة بسبب العقوبات، ونسبتها ليست كبيرة أصلاً، من خلال تشجيع الاستثمارات الخاصة بنتيجة الخصخصة وتنفيذ المشاريع المختلطة. وتفيد توقعات صندوق النقد الدولي أن حصة القطاع الخاص في الاستثمارات الإجمالية ستظل في حدود 18% حتى مارس/آذار 2012، فيما ستشكل في المدخرات الوطنية الإجمالية للفترة 2012-2016 ما بين 35 و37 % من الناتج المحلي الإجمالي. لم تتجاوز الديون الخارجية للفترة 2009-2010 نسبة 6% من الناتج المحلي حسب تقديرات الخبراء الإيرانيين وصندوق النقد الدولي. واعتباراً من الفترة 2010-2011 يبدأ مستوى تلك الديون بالإنخفاض وصولاً إلى نسبة 2,1% بحلول العام 2016.
سيتم تمويل الكثير من المشاريع الإيرانية التي تركتها الشركات الأجنبية من صندوق التنمية النفطية والوطنية الذي تحوّل إليه 20% من صافي عائدات النفط والغاز، وكذلك 50% من متبقيات موازنة صندوق النفط في نهاية كل سنة مالية. وبذلك يصار إلى تقوية قاعدة تطور القطاع الخاص الإيراني وتفعيل نشاطه في دول الجوار. كما يتوسّع القطاع الخاص في الميدان المالي من خلال خصخصة وتمليك البنوك، الأمر الذي يساعد على توسيع الاتصالات مع القطاع الخاص الروسي. وانخفضت حصة مصارف الدولة بنتيجة تلك الإجراءات من 88% إلى 44%. ومن المقرر في السنوات الثلاث المقبلة خصخصة قرابة مئة وخمسين شركة حكومية، الأمر الذي سيساعد على تفعيل النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص الإيراني في الخارج. ولا يزال الاحتياطي الإيراني من الذهب والعملات الصعبة كبيراً بما فيه الكفاية، ففي نهاية العام 2009 بلغ هذا الاحتياطي 131 مليار دولار، ما يعادل أكثر من ثلث الناتج الوطني الإجمالي. وبلغ في بداية العام 2012، حسب التقديرات، 109 مليارات وسبعمئة مليون دولار، مؤمّناً لإيران المرتبة 22 في العالم. في إيران سوق داخلي واسع، بما في ذلك سوق السلع. ويكفي القول إن الأجهزة والمعدات الصناعية شبه الجاهزة تشكل أكثر من 80% من الصادرات الإيرانية. لكل ذلك تجد روسيا مصلحة لها في التجارة مع إيران، لأن المتاجرة معها تؤمن لروسيا فرصة تنويع الاستيراد. بالمقابل تقوم روسيا بتصدير منتجاتها الصناعية وخدماتها العلمية والفنية أساساً إلى إيران، على الرغم من أنها تعتبر مصدّراً للخامات إلى السوق العالمي.
وحسب حصيلة العام 2010 بلغ التداول التجاري الروسي - الإيراني 3,65 مليار دولار، تشكل الصادرات الروسية 3,4 مليار دولار منها. ومع أن حصة إيران في التجارة الخارجية الروسية المقدرة بنحو 0,6% تعد طفيفة للغاية، فمن المهم لروسيا أن صادراتها تفوق استيرادها من إيران بحوالي اثنتي عشرة مرة. أبواب التصدير الروسي الأساسية إلى إيران هي المعادن والمصنوعات المعدنية (حوالى 65%)، والمعادن الثمينة والأحجار الكريمة (17,5%) والماكينات والتجهيزات والسفن ووسائط النقل والأخشاب والمصنوعات الورقية والسليلوزية. وفي أواخر العام 2010 وقع عقد لتصدير الأسبستوس إلى إيران، ما يعني في الواقع تأمين التشغيل لشركة «تيفا - أسبيست». أما الاستيراد من جمهورية إيران الإسلامية؛ فيتكوّن أساساً من السلع الاستهلاكية (الأنسجة ومصنوعات البلاستيك والسجاد والمصنوعات الزجاجية والأسمدة والمواد الكيمياوية) والمواد الغذائية وكذلك السيارات (طراز «سمند» الإيراني).
علاقات سياسية
اكتسبت العلاقات الاقتصادية مع إيران في السنوات الأخيرة طابعاً سياسياً، ذلك لأنها تؤثر في علاقات روسيا مع الدول الأخرى. ينسحب ذلك، في المقام الأول، على التعاون العسكري والفني مع إيران. فقد نفذت روسيا بالتمام والكمال عقد تزويد إيران بالراجمات الصاروخية الجوية «توب - ميم 1» (توبول)، إلا أنه جرى في العام 2009 في الواقع تجميد إرسال صواريخ «إس - 300» نظراً لموقف إيران بشأن برنامجها النووي. وأخذت طهران تعلن بأنها يمكن أن تفسخ بعض طلبيات شراء المنتجات العسكرية والمدنية من روسيا، وتغلق حقول النفط والغاز أمام الشركات الروسية. ورغم ذلك صدر في موسكو مرسوم رئاسي بحظر إرسال صواريخ «إس - 300» إلى إيران، بعد أن أيدت روسيا في العام 2010 عقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد طهران. أعادت موسكو إلى طهران المدفوعات التي سدّدها الجانب الإيراني مقدّماً وفق هذا العقد.
كان التعاون الاقتصادي مع إيران دوماً، ومنذ عهد الشاه، هو المسار الأنفع بالنسبة لروسيا في العلاقات بين البلدين. واتجاهاته الرئيسية هي توليد الطاقة والنقليات والنفط والغاز. وثمة هيئة حكومية دائمة مشتركة تسمى «اللجنة الروسية الإيرانية للتعاون التجاري والاقتصادي». يرأس هذه اللجنة عن الجانب الروسي حالياً وزير الطاقة سيرغي شماتكو. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2009 عقدت اللجنة جلستها الثامنة في طهران، وتم في ختام الجلسة توقيع أربع وثائق بشأن التعاون هي: بروتوكول اتجاهات التعامل الرئيسية بين البلدين، واتفاقية التعاون بين وزارة النفط في جمهورية إيران الإسلامية ووزارة الطاقة في روسيا الإتحادية، وكذلك اتفاقيتان في مجال الاتصالات. وكان قد تأسس لدى غرفة التجارة والصناعة الروسية منذ العام 2008 «مجلس الأعمال الروسي الإيراني» لغرض تفعيل الاتصالات الاقتصادية مع ايران. وفي سبتمبر/ أيلول 2011 عقدت اللجنة الحكومية الدائمة جلستها التاسعة. وجاء في البروتوكول الختامي للجلسة: «أن الطرفين يعتقدان بأهمية تفعيل التعاون من خلال الغرف التجارية الصناعية في البلدين، وذلك بالاستفادة من إمكانياتها في تطوير التعاون الإقليمي وتنظيم بعثات الأعمال وتبادل المعلومات وتشجيع رجال الأعمال والشركات الروسية والإيرانية على المساهمة في المعارض والأسواق التجارية وورشات العمل والمنتديات في أراضي كل من البلدين. كما أكد الطرفان نيتهما في تشجيع ودفع نشاط مجلس الأعمال الروسي الإيراني».
كانت محطة بوشهر الكهروذرية، على مدار سنين، المشروع الرئيسي للتعاون الروسي الإيراني. وأنجزت أعمال بنائها العام 2008، إلا أن موعد التدشين أرجئ مراراً لأسباب أقلها فنية وأكثرها سياسية، ولكن في سبتمبر/أيلول 2011 تم أخيراً تدشين المحطة. وتـُربط في العام الحالي 2012 إلى الشبكة العامة للكهرباء في إيران. لم توقع عقود جديدة بشأن بناء محطات كهروذرية أخرى؛ فالتركيز الأساسي في الحوار بشأن الطاقة يجري على التعاون في توليد الكهرباء وتوزيعها واستخراج المحروقات وسبل نقلها وتوصيلها. ومن أبرز الميادين المستقبلية الواعدة في التعاون الاقتصادي ميدان توليد الكهرباء وصناعة النفط والغاز. ففي 14 يوليو/تموز 2011 تم في موسكو توقيع «خارطة طريق» للتعاون الإيراني - الروسي في مجال توليد الطاقة الكهربائية على المدى البعيد، لمدة ثلاثين عاماً. وتنص هذه الوثيقة على تبادل براءات الاختراع والتقنيات والخبرات في مجال استخراج النفط والغاز والتكرير، وإجراء البحوث في آبار النفط والغاز والتنقيب عن حقول جديدة في الجرف القاري.
طرق النفط والغاز
ترحب إيران بانتساب روسيا إلى منظمة «أوبك»، إلا أن وجود الشركات الروسية في السوق الإيراني للنفط والغاز محدود حتى الآن، وذلك بالأساس تحت ضغط العقوبات الأميركية. ثم أن المباحثات بشأن تأسيس شركات مختلطة لتنفيذ مشاريع في إيران وروسيا وغيرهما من بلدان المنطقة تجري حالياً، ولكن بدون نجاحات تذكر. والمثال على نجاح تنسيق الأعمال في مد الأنابيب هو مشروع انبوب الغاز إلى أرمينيا، الذي أنجز في العام 2008. والأكثر من هذا المشروع جدلاً وإشكالاً هو مد الخط الجديد من أنبوب الغاز إلى تركيا (ما يسمى بأنبوب الغاز الفارسي) الذي أدى الى تعقيد المباحثات مع الجانب التركي بشأن شروط مرور انابيب «الخط الجنوبي» الروسي بالأراضي التركية. ولا جدال، بالطبع، في مصلحة إيران موضوعياً بزيادة صادراتها من الغاز إلى السوق الأوروبي، بما في ذلك عن طريق تركيا. بديهي أن العقوبات الأميركية، ثم عقوبات الاتحاد الأوروبي، ستؤثر على مخطط تبادل موارد الطاقة الذي تشارك فيه إيران، الأمر الذي سيضيق أمامها فرص المشاركة في المشاريع التصديرية. إلا أن ذلك، كما تشير التوقعات الأكثر دقة، سيضعف أيضاً امكانيات الأطراف الأخرى، المساهِمة في المشاريع المشتركة، للتأثير على إيران. وكما هو الحال بخروج الشركات الروسية من إيران، فإن غياب المشاريع المشتركة والمربحة اقتصاديا في الوقت الحاضر يقيد كثيرا امكانيات روسيا في التأثير السياسي. وبسبب العقوبات لم ينفذ مشروع مشاركة مؤسسة «غازبروم» في مد أنبوب الغاز «مير» (السلام)، الذي كان مقرراً أن يوصل الغاز من إيران إلى باكستان والهند. ففي العام 2009 تم الاتفاق بين «غازبروم» الروسية وشركة «النفط الوطنية» الإيرانية على تأسيس شركة مختلطة تتولى استثمار حقلي «فارس الجنوبي» و«كيش»، ليكونا قاعدة تغذي أنبوب «مير» بالغاز. وتواصل روسيا مراقبة استثمار الغاز الإيراني في أرمينيا من خلال الأنبوب، الذي مُدّ العام 2008 لتوليد الطاقة الكهربائية، وليس لإعادة تصدير الغاز. وبعد انتهاء الأزمة العالمية وتزايد الطلب على الغاز وارتفاع أسعاره، ستزداد كثيراً أهمية مسألة اختيار سبل توصيل الغاز إلى الأسواق العالمية. ولروسيا مصلحة موضوعية بترسيخ أقدامها في أسواق إيران والاستثمار المشترك للغاز الإيراني من أجل تغذية «مشروع قزوين» ومشروع «الخط الجنوبي». فيما تجد إيران لنفسها مصلحة كبيرة في طرق التصدير الروسية، ذلك لأن ثلث الغاز الإيراني المستخرج تقريباً يضخّ إلى الآبار، ويحرق قسم منه، ويستعمل القسم الأكبر في الاستهلاك الداخلي. أما أنبوبا الغاز الممتدان إلى تركيا وأرمينيا، فلم يحلا مشكلة التصدير. كما أن مساهمة الشركات الروسية في المشاريع المختلطة لإنتاج الغاز المسال ذات مستقبل واعد.
شراكة اقتصادية
تعد ايران، من الناحية الموضوعية، شريكاً اقتصادياً نافعاً لروسيا يملك إمكانات واسعة وسوقاً داخلياً متطوراً. ورغم الأزمة الكبيرة ونظام العقوبات القاسي، ظلت إيران شريكاً متمكناً يمتلك قدرة شرائية مرموقة. ويفيد آخر تقرير للبنك الدولي للعام 2012 أن المعدل السنوي لنمو الناتج الوطني الإجمالي في إيران للأعوام 2000-2010 بلغ 5,4 %، أي أقل بعض الشيء من معدل السنوات 2000- 2008 وهو 6,0%. ومن حيث تصنيف المراتب الصادر عن البنك الدولي في الأول من يوليو/تموز 2011 تحتل إيران المرتبة التاسعة والعشرين من حيث أحجام الناتج الوطني للعام 2010 (بأسعار الصرف)، والمرتبة الثامنة عشر من حيث تكافؤ القدرات الشرائية. ويعتبر اقتصاد إيران من أكبر اقتصادات دول آسيا الوسطى والشرق الأوسط، ولا يتقدّم عليه في الواقع سوى اقتصاد تركيا. وحسب تقديرات صندوق النقد الدولي المنشورة في سبتمبر/أيلول 2011 من المتوقع انخفاض الناتج المحلي إلى مستوى 2,5% في 2011-2012، على أن يحدث لاحقاً نمو تدريجي وصولاً إلى 4,6% في العام 2016. وحتى لو وافقنا على هذه التقديرات، التي لم يشكك فيها مركز الإحصاءات الإيراني، بل واستشهد ببعضها، فإنها تدلّ على أن إيران، التي تواجه الأزمة قد تمكنت من تفادي الانهيار الاقتصادي وتجنبت التراجع والانكماش الاقتصادي. ولا يزال مرتفعاً نسبياً (على مستوى 26-27%) معدل الاستثمارات الإجمالية، الأمر الذي يوفر ضمانة لنمو الاقتصاد، خصوصاً اذا أخذنا بالاعتبار التركيبة التكنولوجية الأمثل للاستثمارات المالية، فيما يجري التعويض عن تقلص الاستثمارات الأجنبية المباشرة بسبب العقوبات، ونسبتها ليست كبيرة أصلاً، من خلال تشجيع الاستثمارات الخاصة بنتيجة الخصخصة وتنفيذ المشاريع المختلطة. وتفيد توقعات صندوق النقد الدولي أن حصة القطاع الخاص في الاستثمارات الإجمالية ستظل في حدود 18% حتى مارس/آذار 2012، فيما ستشكل في المدخرات الوطنية الإجمالية للفترة 2012-2016 ما بين 35 و37 % من الناتج المحلي الإجمالي. لم تتجاوز الديون الخارجية للفترة 2009-2010 نسبة 6% من الناتج المحلي حسب تقديرات الخبراء الإيرانيين وصندوق النقد الدولي. واعتباراً من الفترة 2010-2011 يبدأ مستوى تلك الديون بالإنخفاض وصولاً إلى نسبة 2,1% بحلول العام 2016.
سيتم تمويل الكثير من المشاريع الإيرانية التي تركتها الشركات الأجنبية من صندوق التنمية النفطية والوطنية الذي تحوّل إليه 20% من صافي عائدات النفط والغاز، وكذلك 50% من متبقيات موازنة صندوق النفط في نهاية كل سنة مالية. وبذلك يصار إلى تقوية قاعدة تطور القطاع الخاص الإيراني وتفعيل نشاطه في دول الجوار. كما يتوسّع القطاع الخاص في الميدان المالي من خلال خصخصة وتمليك البنوك، الأمر الذي يساعد على توسيع الاتصالات مع القطاع الخاص الروسي. وانخفضت حصة مصارف الدولة بنتيجة تلك الإجراءات من 88% إلى 44%. ومن المقرر في السنوات الثلاث المقبلة خصخصة قرابة مئة وخمسين شركة حكومية، الأمر الذي سيساعد على تفعيل النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص الإيراني في الخارج. ولا يزال الاحتياطي الإيراني من الذهب والعملات الصعبة كبيراً بما فيه الكفاية، ففي نهاية العام 2009 بلغ هذا الاحتياطي 131 مليار دولار، ما يعادل أكثر من ثلث الناتج الوطني الإجمالي. وبلغ في بداية العام 2012، حسب التقديرات، 109 مليارات وسبعمئة مليون دولار، مؤمّناً لإيران المرتبة 22 في العالم. في إيران سوق داخلي واسع، بما في ذلك سوق السلع. ويكفي القول إن الأجهزة والمعدات الصناعية شبه الجاهزة تشكل أكثر من 80% من الصادرات الإيرانية. لكل ذلك تجد روسيا مصلحة لها في التجارة مع إيران، لأن المتاجرة معها تؤمن لروسيا فرصة تنويع الاستيراد. بالمقابل تقوم روسيا بتصدير منتجاتها الصناعية وخدماتها العلمية والفنية أساساً إلى إيران، على الرغم من أنها تعتبر مصدّراً للخامات إلى السوق العالمي.
وحسب حصيلة العام 2010 بلغ التداول التجاري الروسي - الإيراني 3,65 مليار دولار، تشكل الصادرات الروسية 3,4 مليار دولار منها. ومع أن حصة إيران في التجارة الخارجية الروسية المقدرة بنحو 0,6% تعد طفيفة للغاية، فمن المهم لروسيا أن صادراتها تفوق استيرادها من إيران بحوالي اثنتي عشرة مرة. أبواب التصدير الروسي الأساسية إلى إيران هي المعادن والمصنوعات المعدنية (حوالى 65%)، والمعادن الثمينة والأحجار الكريمة (17,5%) والماكينات والتجهيزات والسفن ووسائط النقل والأخشاب والمصنوعات الورقية والسليلوزية. وفي أواخر العام 2010 وقع عقد لتصدير الأسبستوس إلى إيران، ما يعني في الواقع تأمين التشغيل لشركة «تيفا - أسبيست». أما الاستيراد من جمهورية إيران الإسلامية؛ فيتكوّن أساساً من السلع الاستهلاكية (الأنسجة ومصنوعات البلاستيك والسجاد والمصنوعات الزجاجية والأسمدة والمواد الكيمياوية) والمواد الغذائية وكذلك السيارات (طراز «سمند» الإيراني).
علاقات سياسية
اكتسبت العلاقات الاقتصادية مع إيران في السنوات الأخيرة طابعاً سياسياً، ذلك لأنها تؤثر في علاقات روسيا مع الدول الأخرى. ينسحب ذلك، في المقام الأول، على التعاون العسكري والفني مع إيران. فقد نفذت روسيا بالتمام والكمال عقد تزويد إيران بالراجمات الصاروخية الجوية «توب - ميم 1» (توبول)، إلا أنه جرى في العام 2009 في الواقع تجميد إرسال صواريخ «إس - 300» نظراً لموقف إيران بشأن برنامجها النووي. وأخذت طهران تعلن بأنها يمكن أن تفسخ بعض طلبيات شراء المنتجات العسكرية والمدنية من روسيا، وتغلق حقول النفط والغاز أمام الشركات الروسية. ورغم ذلك صدر في موسكو مرسوم رئاسي بحظر إرسال صواريخ «إس - 300» إلى إيران، بعد أن أيدت روسيا في العام 2010 عقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد طهران. أعادت موسكو إلى طهران المدفوعات التي سدّدها الجانب الإيراني مقدّماً وفق هذا العقد.
كان التعاون الاقتصادي مع إيران دوماً، ومنذ عهد الشاه، هو المسار الأنفع بالنسبة لروسيا في العلاقات بين البلدين. واتجاهاته الرئيسية هي توليد الطاقة والنقليات والنفط والغاز. وثمة هيئة حكومية دائمة مشتركة تسمى «اللجنة الروسية الإيرانية للتعاون التجاري والاقتصادي». يرأس هذه اللجنة عن الجانب الروسي حالياً وزير الطاقة سيرغي شماتكو. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2009 عقدت اللجنة جلستها الثامنة في طهران، وتم في ختام الجلسة توقيع أربع وثائق بشأن التعاون هي: بروتوكول اتجاهات التعامل الرئيسية بين البلدين، واتفاقية التعاون بين وزارة النفط في جمهورية إيران الإسلامية ووزارة الطاقة في روسيا الإتحادية، وكذلك اتفاقيتان في مجال الاتصالات. وكان قد تأسس لدى غرفة التجارة والصناعة الروسية منذ العام 2008 «مجلس الأعمال الروسي الإيراني» لغرض تفعيل الاتصالات الاقتصادية مع ايران. وفي سبتمبر/ أيلول 2011 عقدت اللجنة الحكومية الدائمة جلستها التاسعة. وجاء في البروتوكول الختامي للجلسة: «أن الطرفين يعتقدان بأهمية تفعيل التعاون من خلال الغرف التجارية الصناعية في البلدين، وذلك بالاستفادة من إمكانياتها في تطوير التعاون الإقليمي وتنظيم بعثات الأعمال وتبادل المعلومات وتشجيع رجال الأعمال والشركات الروسية والإيرانية على المساهمة في المعارض والأسواق التجارية وورشات العمل والمنتديات في أراضي كل من البلدين. كما أكد الطرفان نيتهما في تشجيع ودفع نشاط مجلس الأعمال الروسي الإيراني».
كانت محطة بوشهر الكهروذرية، على مدار سنين، المشروع الرئيسي للتعاون الروسي الإيراني. وأنجزت أعمال بنائها العام 2008، إلا أن موعد التدشين أرجئ مراراً لأسباب أقلها فنية وأكثرها سياسية، ولكن في سبتمبر/أيلول 2011 تم أخيراً تدشين المحطة. وتـُربط في العام الحالي 2012 إلى الشبكة العامة للكهرباء في إيران. لم توقع عقود جديدة بشأن بناء محطات كهروذرية أخرى؛ فالتركيز الأساسي في الحوار بشأن الطاقة يجري على التعاون في توليد الكهرباء وتوزيعها واستخراج المحروقات وسبل نقلها وتوصيلها. ومن أبرز الميادين المستقبلية الواعدة في التعاون الاقتصادي ميدان توليد الكهرباء وصناعة النفط والغاز. ففي 14 يوليو/تموز 2011 تم في موسكو توقيع «خارطة طريق» للتعاون الإيراني - الروسي في مجال توليد الطاقة الكهربائية على المدى البعيد، لمدة ثلاثين عاماً. وتنص هذه الوثيقة على تبادل براءات الاختراع والتقنيات والخبرات في مجال استخراج النفط والغاز والتكرير، وإجراء البحوث في آبار النفط والغاز والتنقيب عن حقول جديدة في الجرف القاري.
طرق النفط والغاز
ترحب إيران بانتساب روسيا إلى منظمة «أوبك»، إلا أن وجود الشركات الروسية في السوق الإيراني للنفط والغاز محدود حتى الآن، وذلك بالأساس تحت ضغط العقوبات الأميركية. ثم أن المباحثات بشأن تأسيس شركات مختلطة لتنفيذ مشاريع في إيران وروسيا وغيرهما من بلدان المنطقة تجري حالياً، ولكن بدون نجاحات تذكر. والمثال على نجاح تنسيق الأعمال في مد الأنابيب هو مشروع انبوب الغاز إلى أرمينيا، الذي أنجز في العام 2008. والأكثر من هذا المشروع جدلاً وإشكالاً هو مد الخط الجديد من أنبوب الغاز إلى تركيا (ما يسمى بأنبوب الغاز الفارسي) الذي أدى الى تعقيد المباحثات مع الجانب التركي بشأن شروط مرور انابيب «الخط الجنوبي» الروسي بالأراضي التركية. ولا جدال، بالطبع، في مصلحة إيران موضوعياً بزيادة صادراتها من الغاز إلى السوق الأوروبي، بما في ذلك عن طريق تركيا. بديهي أن العقوبات الأميركية، ثم عقوبات الاتحاد الأوروبي، ستؤثر على مخطط تبادل موارد الطاقة الذي تشارك فيه إيران، الأمر الذي سيضيق أمامها فرص المشاركة في المشاريع التصديرية. إلا أن ذلك، كما تشير التوقعات الأكثر دقة، سيضعف أيضاً امكانيات الأطراف الأخرى، المساهِمة في المشاريع المشتركة، للتأثير على إيران. وكما هو الحال بخروج الشركات الروسية من إيران، فإن غياب المشاريع المشتركة والمربحة اقتصاديا في الوقت الحاضر يقيد كثيرا امكانيات روسيا في التأثير السياسي. وبسبب العقوبات لم ينفذ مشروع مشاركة مؤسسة «غازبروم» في مد أنبوب الغاز «مير» (السلام)، الذي كان مقرراً أن يوصل الغاز من إيران إلى باكستان والهند. ففي العام 2009 تم الاتفاق بين «غازبروم» الروسية وشركة «النفط الوطنية» الإيرانية على تأسيس شركة مختلطة تتولى استثمار حقلي «فارس الجنوبي» و«كيش»، ليكونا قاعدة تغذي أنبوب «مير» بالغاز. وتواصل روسيا مراقبة استثمار الغاز الإيراني في أرمينيا من خلال الأنبوب، الذي مُدّ العام 2008 لتوليد الطاقة الكهربائية، وليس لإعادة تصدير الغاز. وبعد انتهاء الأزمة العالمية وتزايد الطلب على الغاز وارتفاع أسعاره، ستزداد كثيراً أهمية مسألة اختيار سبل توصيل الغاز إلى الأسواق العالمية. ولروسيا مصلحة موضوعية بترسيخ أقدامها في أسواق إيران والاستثمار المشترك للغاز الإيراني من أجل تغذية «مشروع قزوين» ومشروع «الخط الجنوبي». فيما تجد إيران لنفسها مصلحة كبيرة في طرق التصدير الروسية، ذلك لأن ثلث الغاز الإيراني المستخرج تقريباً يضخّ إلى الآبار، ويحرق قسم منه، ويستعمل القسم الأكبر في الاستهلاك الداخلي. أما أنبوبا الغاز الممتدان إلى تركيا وأرمينيا، فلم يحلا مشكلة التصدير. كما أن مساهمة الشركات الروسية في المشاريع المختلطة لإنتاج الغاز المسال ذات مستقبل واعد.