على هامش إشكالية الخصوصية والعالمية -د.عبد الفتاح ماضى
مرسل: الخميس مارس 26, 2009 4:28 pm
تمثل إشكالية الخصوصية والعالمية عقبة أساسية أمام محاولات الإصلاح وتعزيز حقوق الإنسان. فبغض النظر عن جوهر الاختلاف بين الخصوصية والعالمية، فإن بعض الحكومات العربية تستند إلى هذه الإشكالية لرفض الإلتزام بحقوق الإنسان، أو تأخير ذلك الإلتزام، وذلك بحجة تعارضها مع الشريعة، وبالطبع هذا التعميم يسيء إلى الإسلام ذاته. كما أنّ بعض القوى السياسية المعارضة والمحسوبة على تيار الإصلاح تُسهم في تفاقم هذه الإشكالية، فهناك إسلاميون يرفضون المقولات الغربية عن حقوق الإنسان وذلك ضمن حالة العداء للمنظومة القيمية الغربية بمجملها. وهؤلاء بمواقفهم هذه يفوتون فرصة هامة لإبراز الكثير من قيم حقوق الإنسان التي أعلنها الإسلام والتي لا تختلف في غالبيتها العظمى من حقوق الإنسان التي أعلنتها المواثيق الدولية. وفي المقابل هناك من يرى أنّ منظومة حقوق الإنسان العالمية لابد أن تُقبل بأكملها لأنها تتجاوز ما جاء به الإسلام من ناحية المضامين والآليات.
إنّ الجذور الغربية لقيم ومبادئ حقوق الإنسان لا تعني أن الأسس الفلسفية لهذه الحقوق جاءت فقط من الغرب، فلهذه القيم والمبادئ جذور في ثقافات وحضارات وأديان أخرى. وما تحتاجه مجتمعاتنا، التي يلعب الدين فيها دوراً محورياً، هو شرعنة حقوق الإنسان داخلياً وإزالة ما يبدو من تناقضات بينها وبين معتقدات الناس وقناعاتهم، ثم العمل على إيصال تلك القناعات الجديدة إلى فئات واسعة من الجماهير بكل وسائل الإتصال العصرية.
ولهذا فإنّ حسم مسألة المرجعية العليا وموقع الدين منها أمر محوري في نجاح حركة الإصلاح بشكل عام، فالمرجعية توفر الضوابط والأهداف العليا، وتساعد في تحديد أولويات المجتمعات التي لابد أن تمتد إلى مجالات أكبر مما تهتم به حكوماتنا الحالية، أي إلى نبذ التجزئة ومناهضة التبعية وتبني العلم وتعزيز التنمية. كما تحدد المرجعية هرم القيم في المجتمعات، وتعمل على تحديد ودمج الجوانب الأخلاقية في الممارسة السياسية.
ولنا في الخبرة الغربية دروس عدة، فبرغم افتقاد الغرب الكثير من الجوانب الأخلاقية والقيمية إلا أن صناع الدساتير والسياسيين هناك يجتهدون دوماً في أمر المرجعيات. وقد جنّب اجتهادهم هذا مجتمعاتهم الكثير من الهزات السياسية والاضطرابات الاجتماعية. وفي الولايات المتحدة والغرب عموماً هناك سقفٌ متفقٌ عليه في شأن المرجعية- إلى حد كبير - قوامه القيم الليبرالية العليا المستمدة من أفكار الفلاسفة والمفكرين المرتبطين بعصر التنوير في أوروبا من أمثال لوك ومونتسكيو وروسو وهيوم وسميث وكانت، بل ومن فكرة الحقوق الطبيعية التي استند إليها معظم هؤلاء الفلاسفة في صياغتهم لأفكارهم.
ولايعني هذا أن مجتمعاتنا العربية تحتاج إلى علمانية مماثلة لعلمانية الغرب (التي وإنْ تخلصت من سيطرة بعض رجال الكنيسة، إلا أنها لم تعاد الدين وأبقت على الدور الروحي والاجتماعي للكنائس)، فالإسلام يختلف عن المسيحية في أنه يحتوي على مجموعة من القيم العليا والمبادئ التي تنظم الحياة السياسية والاقتصادية للناس والآليات التي من خلالها يمكن الموائمة بين هذه القيم والواقع المتغير. إنّ ما تحتاجه مجتمعاتنا هو القيام بمقاربات فكرية عميقة في شأن المرجعية السياسية العليا وموقع الدين منها وعلاقته بالسياسة، مقاربات لا تجاوز ثوابت الدين العليا ولا تتجاهل منجزات العصر في طرق الحكم وأساليب الإدارة.
أعتقد أن التعامل مع هذه المسألة يستلزم القيام بأكثر من مهمة. فمن ناحية يجب العمل على تأصيل قيم حقوق الإنسان في الثقافتين العربية والإسلامية والعمل على إيجاد تعاطف شعبي مع هذه القيم، فالأمر يتجاوز إيمان النخب والنشطاء الحقوقيين بهذه القيم لأن هذه الحقوق تتجه إلى الأفراد والجماعات ومن ثم فليس من الممكن تطبيقها ضد رغباتهم وقناعاتهم. ولكي ينشأ هذا التعاطف الشعبي لا مفر من أن يرى الناس هذه الحقوق منسجمة مع قناعاتهم الدينية ولا تتعارض مع ثوابت عقيدتهم، ولا مفر أيضاً من التسلح بالمعرفة والعلم واكتساب خبرات التواصل مع الجماهير والعمل على تثقيفهم وربط مصالحهم بتنفيذ حقوق الإنسان.
إننا نحتاج، من أجل حسم مسألة المرجعيات وإشكالية الخصوصية والعالمية، إلى عمل اجتهادي، تجديدي، خلاّق ومُبدع، يتضمن على الأقل ثلاثة أمور، الأول القيام بقراءة جديدة لمصادر السلطة في الإسلام، أي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، بهدف محوري هوربط هذه المصادر بروح العصر الحالي وتحديد وإنزال أحكامها العليا وقيمها الأساسية على الواقع المعاش عن طريق منهج الإجتهاد المقاصدي. والثاني القيام بقراءة جديدة للتاريخ الإسلامي والفقه السياسي، لا للتمسك بمضامينه، وإنما للاستفادة من منهجه وطرق تعامل السلف مع تحديات عصرهم وتحديد منهجية الاجتهاد المقاصدي لفقه تنزيل الأحكام والقيم العليا على الواقع ومشكلاته المختلفة. أما الأمر الثالث فهو فهم واقع المجتمعات الإسلامية وأحوالها فهمًا عميقًا وشاملًا بغية إتمام عملية تنزيل القيم وربط المقاصد العليا للقيم والمبادئ بالواقع المعاش وبمشكلاته وتحدياته، بعيدًا عن التمسك بحرفية نصوص معينة، أو توهم صلاحية آراء فقهية معينة لحل مشكلات معاصرة من جهة، أو إهدار مقاصد كلية، أو الزعم بعدم تناقض أهداف معينة مع مقاصد الشريعة من جهة أخرى.
مقال للدكتور/عبد الفتاح ماضى
صحيفة المصريون
2009/2/16
إنّ الجذور الغربية لقيم ومبادئ حقوق الإنسان لا تعني أن الأسس الفلسفية لهذه الحقوق جاءت فقط من الغرب، فلهذه القيم والمبادئ جذور في ثقافات وحضارات وأديان أخرى. وما تحتاجه مجتمعاتنا، التي يلعب الدين فيها دوراً محورياً، هو شرعنة حقوق الإنسان داخلياً وإزالة ما يبدو من تناقضات بينها وبين معتقدات الناس وقناعاتهم، ثم العمل على إيصال تلك القناعات الجديدة إلى فئات واسعة من الجماهير بكل وسائل الإتصال العصرية.
ولهذا فإنّ حسم مسألة المرجعية العليا وموقع الدين منها أمر محوري في نجاح حركة الإصلاح بشكل عام، فالمرجعية توفر الضوابط والأهداف العليا، وتساعد في تحديد أولويات المجتمعات التي لابد أن تمتد إلى مجالات أكبر مما تهتم به حكوماتنا الحالية، أي إلى نبذ التجزئة ومناهضة التبعية وتبني العلم وتعزيز التنمية. كما تحدد المرجعية هرم القيم في المجتمعات، وتعمل على تحديد ودمج الجوانب الأخلاقية في الممارسة السياسية.
ولنا في الخبرة الغربية دروس عدة، فبرغم افتقاد الغرب الكثير من الجوانب الأخلاقية والقيمية إلا أن صناع الدساتير والسياسيين هناك يجتهدون دوماً في أمر المرجعيات. وقد جنّب اجتهادهم هذا مجتمعاتهم الكثير من الهزات السياسية والاضطرابات الاجتماعية. وفي الولايات المتحدة والغرب عموماً هناك سقفٌ متفقٌ عليه في شأن المرجعية- إلى حد كبير - قوامه القيم الليبرالية العليا المستمدة من أفكار الفلاسفة والمفكرين المرتبطين بعصر التنوير في أوروبا من أمثال لوك ومونتسكيو وروسو وهيوم وسميث وكانت، بل ومن فكرة الحقوق الطبيعية التي استند إليها معظم هؤلاء الفلاسفة في صياغتهم لأفكارهم.
ولايعني هذا أن مجتمعاتنا العربية تحتاج إلى علمانية مماثلة لعلمانية الغرب (التي وإنْ تخلصت من سيطرة بعض رجال الكنيسة، إلا أنها لم تعاد الدين وأبقت على الدور الروحي والاجتماعي للكنائس)، فالإسلام يختلف عن المسيحية في أنه يحتوي على مجموعة من القيم العليا والمبادئ التي تنظم الحياة السياسية والاقتصادية للناس والآليات التي من خلالها يمكن الموائمة بين هذه القيم والواقع المتغير. إنّ ما تحتاجه مجتمعاتنا هو القيام بمقاربات فكرية عميقة في شأن المرجعية السياسية العليا وموقع الدين منها وعلاقته بالسياسة، مقاربات لا تجاوز ثوابت الدين العليا ولا تتجاهل منجزات العصر في طرق الحكم وأساليب الإدارة.
أعتقد أن التعامل مع هذه المسألة يستلزم القيام بأكثر من مهمة. فمن ناحية يجب العمل على تأصيل قيم حقوق الإنسان في الثقافتين العربية والإسلامية والعمل على إيجاد تعاطف شعبي مع هذه القيم، فالأمر يتجاوز إيمان النخب والنشطاء الحقوقيين بهذه القيم لأن هذه الحقوق تتجه إلى الأفراد والجماعات ومن ثم فليس من الممكن تطبيقها ضد رغباتهم وقناعاتهم. ولكي ينشأ هذا التعاطف الشعبي لا مفر من أن يرى الناس هذه الحقوق منسجمة مع قناعاتهم الدينية ولا تتعارض مع ثوابت عقيدتهم، ولا مفر أيضاً من التسلح بالمعرفة والعلم واكتساب خبرات التواصل مع الجماهير والعمل على تثقيفهم وربط مصالحهم بتنفيذ حقوق الإنسان.
إننا نحتاج، من أجل حسم مسألة المرجعيات وإشكالية الخصوصية والعالمية، إلى عمل اجتهادي، تجديدي، خلاّق ومُبدع، يتضمن على الأقل ثلاثة أمور، الأول القيام بقراءة جديدة لمصادر السلطة في الإسلام، أي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، بهدف محوري هوربط هذه المصادر بروح العصر الحالي وتحديد وإنزال أحكامها العليا وقيمها الأساسية على الواقع المعاش عن طريق منهج الإجتهاد المقاصدي. والثاني القيام بقراءة جديدة للتاريخ الإسلامي والفقه السياسي، لا للتمسك بمضامينه، وإنما للاستفادة من منهجه وطرق تعامل السلف مع تحديات عصرهم وتحديد منهجية الاجتهاد المقاصدي لفقه تنزيل الأحكام والقيم العليا على الواقع ومشكلاته المختلفة. أما الأمر الثالث فهو فهم واقع المجتمعات الإسلامية وأحوالها فهمًا عميقًا وشاملًا بغية إتمام عملية تنزيل القيم وربط المقاصد العليا للقيم والمبادئ بالواقع المعاش وبمشكلاته وتحدياته، بعيدًا عن التمسك بحرفية نصوص معينة، أو توهم صلاحية آراء فقهية معينة لحل مشكلات معاصرة من جهة، أو إهدار مقاصد كلية، أو الزعم بعدم تناقض أهداف معينة مع مقاصد الشريعة من جهة أخرى.
مقال للدكتور/عبد الفتاح ماضى
صحيفة المصريون
2009/2/16