منتديات الحوار الجامعية السياسية

الوقائع و الأحداث التاريخية
#57687
وكان المسلمون يعترفون للمبعوثِ الأجنبي بالحصانة دون حصولِه على وثيقة أمان، ولم يقصُرِ المسلمون صفةَ المفاوض الدُّبلوماسي على ممثِّلي الملوك والحكومات، بل كان التسامح الإسلامي يتَّسع إلى حد إضفاء صفةِ المفاوض على كلِّ من يجادل في موضوعٍ يخصُّ الدعوة الإسلامية، حتى إنَّ هذا التسامح شمل بأمرٍ من النبيِّ - صلواتُ الله عليه وسلامُه - مبعوثي مسيلمةَ الكذَّابِ مع أنهما أساءا القول.
وقد أجمعت كتب السِّيَر على ذكر رواية أبي رافعٍ الذي جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - موفَدًا من قريشٍ، وبعد مُثوله بين يديه، آمَنَ وعزم على ألاَّ يرجع، فقال له النبيُّ: ((ارجعْ، فإن كان في قلبِك الذي فيه الآن، فارجعْ إلينا))، وهذا الحادث يدلُّ على مدى تقدير الرَّسول الأعظمِ للأمانة التي يجبُ أن يتخلَّق بها السفير، وإلزامه بتأديتِها بإخلاص.
ومن أهم المصادر عن تاريخ دبلوماسية الإسلام والدول الإسلامية، الكتاب الذي وضعه أبو عليٍّ الحسين بن محمد المعروفُ بابن الفرَّاء، واسمه: "رسُلُ الملوك ومن يصلح للرسالة والسِّفارة"، وهو يتناول بالتَّفصيل كيف رفع فقهاءُ المسلمين منزلةَ الرسول والسفير، واعتبروا أنها تستمدُّ حرمتها من مكانةِ الرُّسل الذين يبعث بهم الله - عز وجل - إلى عباده ليبلغوا رسالته، ناهيًا عن التعرُّض لمهمتهم والمساس بأشخاصِهم، قد استنبطوا من نواهي الدين وأوامره تجاه تعظيم الرسل أساسًا لمعاملة رسل الملوك والخلفاء معاملة كريمةً؛ مستشهدين بالآيات الكريمة العديدة التي يحتويها القرآن في هذا الصَّدد، منها: ما ورد في سورة المزمّل: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ﴾ [المزمل: 15-16]، ومنها: ما ورد في سورة إبراهيم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ [إبراهيم: 4]، ويعلِّق ابن الفرَّاء على هذه الآية الكريمة مستنتجًا أن يكون السَّفير قادرًا على تفهُّم لغة مَنْ يرسل إليهم، وقد اعتبر الإسلام المفاوضة شرطًا أساسيًّا لا بد من توفُّره قبل اللجوء إلى الحرب؛ وذلك اتِّباعًا لِما جاء في قوله - تعالى - في سورة الإسراء: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]، وقوله - تعالى - في سورة القصص: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا ﴾ [القصص: 59]، ويعلِّق ابنُ الفراء على هاتين الآيتين بقوله: وقد فضَّل الله - سبحانه - المرسَلين من أنبيائه على غير المرسلين؛ لتبليغ الرسالة، وتحمُّل ثقل الأمانة، والصبر على أذى الكافرين، وتكذيب الجاحدين، وأورد ابن الفراء ما أسماه بالحكمة التي تقول: (إنَّ الكتاب يدٌ، والرسول لسان)، وأنَّ الواجب على الملوك أن يقرنوا كتبَهم بالرُّسل؛ لِما في ذلك من اكتمال الفائدة ووجود الحجَّة، ولقطع الرسول الأمر؛ إذ كان مأمورًا من غير مراجعة، ولا احتياج لاستئذان مرسلِه.
واستشهد بقول عبدالله بن جعفر بن أبي طالب:
إِذَا كُنْتَ فِي حَاجَةٍ مُرْسِلاً فَأَرْسِلْ حَكِيمًا وَلاَ تُوصِهِ
وقد جاء في كتاب (أخلاق الملوك) للجاحظ المتوفى عام 255 هجرية تحت عنوان "آداب السَّفير" ما نصه:
"ومن الحقِّ على الملك أن يكون رسولُه صحيح الفِطرة والمزاج، ذا بيانٍ وعبارة، بصيرًا بمخارج الكلام وأجوبتِه، مؤدِّيًا لألفاظ الملِك ومعانيها، صادق اللَّهجة، لا يميل إلى طمَعٍ أو طبْع، حافظًا لِما حمِّل، وعلى الملك أن يمتحنَ رسولَه محنةً طويلة قبل أن يجعلَه رسولاً".
وقد وضع الدُّكتور نجيب الأرمنازي رسالة دكتوراه في جامعة باريس موضوعها: "الشَّرع الدولي في الإسلام" عام 1930، وقد عالج فيها مواضيعَ تتعلَّق بالدبلوماسية الإسلامية، تبدأ بعدم جواز القتال ما لم تبلغ الدعوة، ويجرِ التفاوضُ من أجلها، ثم مبدأ التحكيم وما يقتضيه من مفاوضة، والمعاهدات التي عقدها المسلمون مع الرُّوم في العهدين الأموي والعباسي، عن طريق إيفاد مبعوثين يتولَّوْن مهمة دبلوماسية معيَّنة.
ويُستنتج من ذلك أن المسلمين اتَّبعوا أسلوب الدبلوماسية المتقطِّعة لا الدائمة، كما تناوَل كيفية إرسال السُّفراء واستقبالهم، وما يواكب ذلك من مراسيمَ وأصولٍ، ثم المراسلات السِّياسية والتِّجارية، وكيف أنَّها كانت تُجرى بأساليبَ ورسومٍ متقنةِ الوضع، ونوَّه بما جاء في كتاب "الخراج" للإمام أبي يوسف، و"السير الكبير" للإمام محمد بن الحسن الشيباني، من إعفاء الدُّبلوماسيين من الضرائب، إلا إذا كان ما لديهم يستهدف التِّجارة فتؤخذ الرسوم عليه.
ومما يسترعي الاهتمام اقتباسُ اللغات الأوروبية عن اللغة العربية كلمةَ تعريفة للرسوم الجمركية، كما اقتبس الغربيون كلمة: (أميرال) من التركيب العربي: (أمير الماء).