تاريخ دولة روسيا
مرسل: الاثنين ديسمبر 17, 2012 1:04 pm
مولد روسيا (509-1054)
لم يكن الصقالبة إلا آخر الأقوام الكثيرين الذين كانوا يمرحون ويطربون في تربة روسيا الخصبة، وسهولها الرحبة، وأنهارها الكثيرة الصالحة للملاحة، ويأسون لمناقعها العفنة، وغاباتها المانعة، وافتقارها إلى المعاقل الطبيعية التي تصد الأعداء الغازين، وصيفها الحار، وشتائها البارد. فلقد أنشأ اليونان منذ القرن السابع قبل الميلاد على أقل سواحلها جدباً أي شواطئ البحر الأسود الغربي والشمالي نحو عشرين بلدة-ألبيا Albia، وتانيس Tanais، وثيودوسيا Theodosja، وبنتيكبيوم Panticapium (كرتش Kerche). واقتتلوا مع السكوذيين الضاربين وراء هذه البلاد أو ناصروهم. وسرت إلى هؤلاء الأقوام-وأكبر الظن أنهم من أصل إيراني-بعض عناصر الحضارة الفارسية واليونانية، بل إنهم قد خرج من بينهم فيلسوف-أناخارسيس Anacharsis 600 ق. م-قدم إلى أثينة وتناقش مع صولون.
ثم أقبلت في القرن الثاني قبل الميلاد قبيلة إيرانية أخرى هي قبيلة السرماتيين، وهزمت السكوذيين وسكنت ديارهم؛ واضمحلت المستعمرات اليونانية في هذا الاضطراب. ودخل البلاط القوط من الغرب في القرن الثاني بعد الميلاد، وأنشئوا مملكة القوط الشرقيين، ثم قضى الهون على هذه المملكة حوالي عام 375، ولم تكد سهول روسيا الجنوبية تشهد بعد هذا الغزو أية حضارة، بل شهدت هجرات متتابعة من أقوام بدو- هم البلغار، والآفار، والصقالبة، والخزر، والمجر، والبتزيناك Patzinaks، والكومان Cumans، والمغول. وكان الخزر من أصل تركي زحفوا في القرن السبع مخترقين جبال القفقاس إلى جنوبي روسيا، وأنشأوا مُلكاً منظماً امتد من نهر الدنبير إلى بحر قزوين (بحر الخزر)، وشيدوا عاصمة لهم في مدينة إتيل itil على مصب نهر الفلجا Volga بالقرب من أستراخان الحاضرة، واعتنق ملكهم هو والطبقات العليا منهم الدين اليهودي وكانت تحيط بهم الدولتان المسيحية والإسلامية، ولكنهم فضلوا في أكبر الظن أن يغضبوا الدولتين بدرجة واحدة عن أن يغضبوا واحدة منهما غضباً يعرضهم للخطر، وأطلقوا في الوقت عينه الحرية الكاملة لأصحاب العقائد المختلفة، فكانت لهم سبع محاكم توزع العدالة بين الناس- اثنتان للمسلمين، واثنتان للمسيحيين، واثنتان لليهود، وواحدة للكفر الوثنيين. وكان يسمح باستئناف أحكام المحاكم الخمس الأخيرة إلى المحكمتين الإسلاميتين، إذ كانوا يرون أنهما أكثر عدالة من المحاكم الأخرى. واجتمع التجار على اختلاف أديانهم في مدن الخزر تشجعهم على ذلك هذه السياسة المستنيرة، فنشأت هناك من ذلك تجارة منتعشة بين البحر البلطي وبحر قزوين، وأصبحت إتيل في القرن الثامن من أعظم مدن العالم التجارية. وهاجم الأتراك البدو خزاريا Khazaria في القرن التاسع؛ وعجزت الحكومة عن أن تحمي مسالكها التجارية من اللصوصية والقرصنة، وذابت مملكة الخزر في القرن العاشر وعادت إلى الفوضى العنصرية التي نشأت منها.
وجاءت من جبال الكربات في القرن السادس هجرة من القبائل الصقلبية إلى هذا الخليط الضارب في روسيا الجنوبية والوسطى. واستقرت هذه القبائل في وادي الدنيبر والدن، ثم انتشرت انتشاراً أرق إلى بحيرة إلمن Ilmen في الشمال، وظل أفرادها عدة قرون يتضاعفون، وهم في كل عام يقطعون الغابات ويجففون المستنقعات، ويقتلون الوحوش البرية، وينشئون بلاد أكرانيا. وانتشروا فوق السهول بفضل حركة من الإخصاب البشري لا يضارعهم فيها إلا الهنود والصينيون. ولقد كان هؤلاء الأقوام طوال التاريخ المعروف لا يقر لهم قرار- يهاجرون إلى بلاد القفقاس والتركستان، وإلى أقاليم أورال وسيبيريا، ولا تزال عملية الاستعمار هذه في مجراها في هذه الأيام؛ ولا يزال البحر الصقلبي العجاج يدخل كل عام في خلجان عنصرية جديدة.
وأقبلت على العالم الصقلبي في بداية القرن التاسع غارة بدت وقتئذ أنها لا يؤبه بها. ذلك أن أهل الشمال الإسكنديناويين كان في وسعهم أن يوفروا بعض الرجال وبعض النشاط يقتطعونهما من هجماتهم على اسكتلندة، وأيسلندة، وأيرلندة، وإنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، وأسبانيا، وأن يوجهوا إلى روسيا الشمالية عصابات مؤلفة من مائة أو مائتين من الرجال، ينهبون بها الجماعات الضاربة حول للبحر البلطي، والفنلنديين، والصقالبة، ثم يعودون بجر الحقائب بالغنائم. وشاء هؤلاء الفيرنج جار Vaerlnjar أو الفرنجيون Varangians ("أتباع" الزعيم) أن يحملوا تلصصهم بالقانون والنظام فأقاموا مراكز محصنة في طرقهم، ثم استقروا بالتدريج وكانوا أقلية اسكنديناوية من التجار المسلحين بين زراعين خاضعين لهم. واستأجرتهم بعض المدن ليكونوا حماة للأمن والنظام الاجتماعي. ويبدو أن أولئك الحراس قد أحالوا أجورهم جزية، وأضحوا سادة من استخدموهم، ولم يكد ينتصف القرن التاسع حتى أضحوا هم حكام نفجورود "الحصن الجديد"، وبسطوا ملكهم حتى وصلوا إلى كيف في الجنوب، وارتبطت الطرق والمحلات التي كانوا يسيطرون عليها برباط غير وثيق فتألفت منها دولة تجارية وسياسية، سميت روس Ros أو Rus وهي كلمة لا يزال اشتقاقها مثاراً للجدل الشديد. وربطت الأنهار العظيمة التي تحترق البلاد البحرين الأبيض في الشمال والأسود في الجنوب بالقنوات والطرق البرية القصيرة، وأغرت الفرنجيين بأن يوسعوا تجارتهم ويبسطوا سلطانهم نحو الجنوب. وسرعان ما أخذ هؤلاء التجار المحاربون البواسل يبيعون بضائعهم أو خدماتهم في القسطنطينية نفسها. ثم حدث ما يناقض هذا، حدث أنه لما أضحت التجارة على أنهار الدنيبر، والفلخوف Volkhov، ودوينا الغربي أكثر انتظاماً مما كانت قبل، أقبل التجار المسلمون من بغداد وبيزنطية، وأخذوا يستبدلون الفراء، والكهرمان، وعسل النحل، وشمعه، والرقيق، بالتوابل، والخمور، والحرير والجواهر، وهذا منشأ ما نجده من النقود الإسلامية والبيزنطية الكثيرة العدد على ضفاف تلك الأنهار وفي اسكنديناوة نفسها. ولما حالت سيطرة المسلمين على البحر المتوسط الشرقي دون وصول الحاصلات الأوربية مجتازة المسالك الفرنسية والإيطالية إلى ثغور البلاد الواقعة في شرق هذا البحر، واضمحلت مرسيليا، وجنوا وبيزا في القرنين التاسع والعاشر، وازدهرت في مقابل هذا في الروسيا مدائن نفجورود، وسمولنسك Smolensk، وشرينجوف Shernigov، وكيف، ورستوف Rostov بفضل التجارة الاسكنديناوية، والصقلبية، والإسلامية، والبيزنطية. وخلع السجل القديم الروسي (القرن الثاني عشر) على هذا التسرب الاسكنديناوي شخصية تاريخية بقصته عن "الأمراء الثلاثة": وخلاصتها أن السكان الفلنديين والصقالبة في نفجورود وما حولها أخذوا يتقاتلون فيما بينهم بعد أن طردوا سادتهم الفرنجيين، وبلغ من هذا التناحر أن دعوا الفرنجيين أن يرسلوا لهم حاكماً أو قائداً (862)، فجاءهم، كما تروي القصة، ثلاثة أخوة-روريك Rurik، وسنيوس Sinues، وتروفور Truvor-وأنشئوا الدولة الروسية. وقد تكون هذه القصة صادقة رغم تشكك المتأخرين فيها، وقد تكون طلاء وطنياً لفتح نفجورود على يد الاسكنديناويين. ويضيف السجل بعد ذلك أن روريك أرسل اثنين من أعوانه هما أسكولد Ascold ودير Dir ليستوليا على القسطنطينية، وأن هذين الشماليين وقفا في طريقهما ليستوليا على كيف، ثم أعلنا استقلالهما عن روريك والخزر جميعاً.
وبلغت كيف في عام 860 من القوة مبلغاً أمكنها أن تسير عمارة بحرية من ألف سفينة تهاجم القسطنطينية؛ وأخفقت الحملة في مهمتها، ولكن كيف بقيت كما كانت مركزاً لروسيا التجاري والسياسي، وجمعت تحت سلطانها بلاداً واسعة ممتدة خلفها- وفي وسعنا أن نقول بحق إن حكامها الأولين- أسكولد Ascold، وأولج Oleg، وإيجور Igor لا روريك حاكم نفجورود-هم الذين أنشئوا الدولة الروسية. ووسع أولج، وإيجور، وألجا Oelga-الأميرة القديرة أرملة أولج-وابنها المحارب اسفياتسلاف Sivatoslav 962-972 مملكة كيف حتى انضوت تحت لوائها القبائل الصقلبية كلها تقريباً، ومدائن بولوتسك Polotsk، واسمولنسك وشرنجوف، ورستوف. وحاولت الإمارة الناشئة بين عامي 860، 1043 ست مرات أن تستولي على القسطنطينية. ألا ما أقدم زحف الروس على البسفور، وتعطش الروس إلى مخرج أمين إلى البحر المتوسط.
واعتنقت روس، كما سميت الإمارة الجديدة نفسها، تحت حكم فلديمير الخامس (972-1015) "دوق كيف الأكبر"، الدين المسيحي (989). وتزوج فلاديمير أخت الإمبراطور باسيل الثاني، وظلت الروسيا من ذلك الوقت إلى عام 1917 ابنة للدولة البيزنطية في دينها، وحروفها الهجائية، وعملتها، وفنها. وشرح القساوسة اليونان لفلاديمير منشأ الملوك وحقهم الإلهيين، وما لهذه العقيدة من نفع في تثبيت النظام الاجتماعي واستقرار الملكية المطلقة.وبلغت دولة كيف أوج عزها في عهد يروسلاف Yaroslav 1036-1054 بن فلاديمير، واعترفت بسلطانها اعترافاً غير أكيد كل البلاد الممتدة من بحيرة لدوجا Ladoga والبحر البلطي إلى بحر قزوين، وجبال القفقاس، والبحر الأسود، وكانت الضرائب تجبي إليها من هذه البلاد. وامتصت في جسمها الغزاة الاسكنديناويين وغلب على هؤلاء الدم الصقلبي واللغة الصقلبية. وكان نظامها الاجتماعي أرستقراطياً صريحاً، فكان الأمراء يعهدون بمهام الإدارة والدفاع إلى طبقة عليا من النبلاء، وطائفة أخرى مثلهم ولكنها أقل منهم مقاماً يعرفون بالديتسكي dietski أو الأوتروكي Otroki أي الخدم أو الأتباع. ويلي هؤلاء في المنزلة طبقة التجار، وأهل المدن، ثم الزراع نصف العبيد، ثم العبيد أنفسهم. وأقر كتاب القانون المعروف باسم الرسكايا برافدا Raskaya Pravda أو الحق الروسي، الثأر الشخصي والمبارزة القانونية، وتبرئه المتهم بناء على إيمان الشهود، ولكنه أوجد نظام المحاكمة على أيدي اثني عشر محلفين من المواطنين.وأنشأ فلاديمير مدرسة للأولاد في كيف، وأنشأ باروسلاف مدرسة أخرى في نفجورود. وكانت كيف وهي ملتقى السفن النهرية الآتية من أنهار يلخوف، ودفينا، ودنبير الأدنى تجبي الضرائب على المتاجر المارة بها، وسرعان ما بلغت من الثراء درجة أمكنتها من أن تشيد أربعمائة كنيسة، وكاتدرائية كبيرة-تضارع أيا صوفيا-على الطراز البيزنطي. وجيء بالفنانين اليونان ليزينوا هذه المباني بالفسيفساء، والمظلمات وغيرها من ضروب الزينة البيزنطية، ودخلت فيها الموسيقى اليونانية لتمهد السبيل إلى نصرة الأغاني الروسية الجماعية. وأخذت الروسيا ترفع نفسها على مهل من غمار الأوحال والتراب، وتبني القصور لأمرائها، وتقيم القباب فوق أكواخ الطين، وتستعين بقوة أبنائها وجلدهم على بناء جزائر صغرى من الحضارة في بحر لم يخرج بعد من مظلمات الهمجية.
روسيا المقدسة 1584 - 1645
الشعب
قال نادزدين في 1831: "ما عليك إلا أن تلقي نظرة على خريطة العالم ليتولاك الرعب إزاء قدر روسيا وما قسم لها". وكانت قد وصلت في 1638 إلى المحيط الهادي عبر سبريا، وإلى بحر قزوين عبر نهر الفولجا، ولم تكن على أية حال، فقد وصلت بعد إلى البحر الأسود، فقد اقتضى هذا حروباً كثيرة. ولم يجاوز عدد السكان عشرة ملايين في 1571.وكان يمكن أن توفر الأرض الغذاء لهذه الملايين في سهولة ويسر، ولولا أن الفلاحة الطائشة المهملة أنهكت المزرعة تلو الأخرى، فانتقل الفلاحون إلى أرض أقوى وأخصب.
ويبدو أن هذه النزعة إلى الهجرة أسهمت في نشأة الرقيق. ذلك أن معظم المستأجرين كانوا يحصلون من النبلاء ملاك الأرض على سلفيات لتنظيف المزرعة وتجهيزها بالأدوات وإعدادها للزرع. وكانوا يدفعون على هذه القروض نحو 20%، فلما عجز الكثير منهم عن سداد ما اقترضوا صاروا أرقاء لهؤلاء الملاك. لأن قانونا صدر في 1497 نص على أن يكون المدين المقصر في الدفع عبداً لدائنه حتى يوفي الدين.وتفادياً لهذه العبودية هرب بعض الفلاحين إلى معسكرات القوازق في الجنوب. وحصل بعضهم على حريته بالموافقة على استصلاح أراضي جديدة غير ممهدة. وبهذه الطريقة استوطنت سيبيريا، وهاجر بعضهم إلى المدن حيث اشتغلوا ببعض الحرف، أو اشتغلوا في المناجم أو صناعة المعادن أو صناعة الذخيرة، أو خدموا التجار، أو تجولوا في الشوارع يبيعون السلع. وشكا الملاك من أن هجرة المستأجرين عن المزارع- دون دفع ديونهم عادة- قد عوقت الإنتاج الزراعي؛ وجعلت من المتعذر على الملاك دفع الضرائب المتزايدة التي تطلبها الدولة. وفي 1581 وضماناً لاستمرار زرع الأرض؛ حرم إيفان الرهيب على المستأجرين لدى طبقة الأوبرشنيكي- رجال الإدارة- أن يتركوا المزارع دون موافقة الملاك؛ وعلى الرغم من أن هذه الطبقة كانت تفقد الآن مركزها الممتاز شيئاً فشيئاً. فقد بقي الرقيق الذي نشأ بهذه الطريقة يعمل في ضياعها. وسرعان ما طلب النبلاء ورجال الدين الذين تملكوا الجزء الأكبر من أرض روسيا؛ مستأجريهم بهذا. فكان الفلاحون الروس في الحقيقة؛ إن لم يكن بمقتضى القانون؛ أرقاء مرتبطين بالأرض.
وكانت روسيا لا تزال لاصقة بالهمجية. فالسلوك فظ غليظ؛ والنظافة ترف نادر؛ والأمية امتياز طبقي؛ والتعليم بدائي، والأدب في معظمه حوليات رهبانية أو عظات دينية أو نصوص طقسية، والكتب الخمسمائة التي نشرت في روسيا بين عامي 1613 و1682 كانت كلها تقريباً دينية. ولعبت الموسيقى دوراً هائلاً في الدين وفي البيت. وكان الفن خادماً للعقيدة الأرثوذكسية، وشادت الهندسة المعمارية كنائس معقدة زاخرة بأماكن الصلوات والمعابد الصغيرة الملحقة بها. وبالمباني الناشئة عنها، وبالقباب البصلية الشكل، مثل كنيسة عذراء الدون في موسكو. وزين فن الرسم جدران الكنائس والأديار بالرسوم الجصية التي حجب الآن معظمها، أو بالصور الدينية والأيقونات الغنية بالإبداع التصويري لا المهارة الفنية، كما هو الحال في كنيسة معجزة سان ميكاييل في كراكاو. وفي 1600 لم يعد رسم الأيقونات فناً بل أصبح صناعة تنتج قطعاً متماثلة على نطاق واسع، للتعبد والتبتل والتقوى داخل البيوت أما الإنتاج الفني البارز في هذا العصر فهو برج الناقوس الذي يبلغ ارتفاعه مائة متر- وهو برج إيفان فلكي (جون الأكبر) الذي أقامه أحد المهندسين الألمان في ميدان الكرملين (حوالي 1600) كجزء من برنامج بوريس جودونوف في الأشغال العامة لتخفيف حدة التعطل.
وفي الكنائس الفخمة المـتألقة بالزخارف الثمينة، المعتمة بالكآبة المتعمدة والتي تجلب النعاس بالطقوس المهيبة والتراتيل والصلوات الجهورية الرنانة، طبع رجال الدين الأرثوذكس الناس على التقوى والطاعة والأمل المتواضع. وقل أن تعاونت عقيدة ما مع الحومة مثل هذا التعاون الوثيق. وضرب القيصر المثل في التمسك المخلص الصادق بالدين وفي البر بالكنيسة، ولقاء هذا أحاطته الكنيسة، بدورها، بهالة من القداسة الرهيبة، وجعلت من عرشه حرماً منيعاً لا تنتهك حرمته، وغرست في الأذهان أن الخضوع له وخدمته واجب يلتزم به الناس أمام الله. وأسس بوريس جودونوف البطريركية الروسية مستقلة عن القسطنطينية (1598) ولمدة قرن من الزمان نافس مطران موسكو المقام السامي للقيصر ومكانته العالية، وفي بعض الأحيان تحدى سلطانه. وفي 1594 عندما أوقد البابا كليمنت الثامن إلى موسكو، بعثة تقترح اتحاد الكنيسة الأرثوذكسية واللاتينية تحت زعامة البابا، رفض بوريس الاقتراح قائلاً: "إن موسكو هي الآن رومة ذات المذهب القديم الحق (الأرثودكسي)". وجعل الجميع يوجهون الدعوات ويقيمون الصلوات من أجله وهو وحده بوصفه "الحاكم المسيحي على الأرض"(44).
بوريس جودونوف 1584 - 1605
لم يكن بوريس في الواقع بعد إلا حاكماً فقط. أما القيصر فكان فيودور الأول إيفانوفتش (1584- 1598)، الابن الهزيل لإيفان الرابع الرهيب وآخر أفراد "آل روريك" (مؤسس روسيا). وكان فيودور قد شهد موت أخيه الأكبر بضربة شيطانية من أبيه، فلم يشأ أن يتشبث بإرادته أو يعارض في شيء، وانزوى هرباً من مخاطر القصر، منصرفاً إلى العبادة والتبتل، وعلى الرغم من أن شعبه لقبه "بالقديس" فإنه أيقن أنه كانت تعوزه القوة والصلابة ليحكم الرجال. وكان إيفان الرابع قد عين مجلساً لتوجيه الشاب وتقديم النصح والمشورة له. ولكن أحد أعضائه، وهو أخو زوجة فيودور- بوريس جودونوف- سيطر وقبض على زمام الأمور، وأصبح حاكم البلاد.
وكان إيفان الرابع قد خلف من زوجته السابعة والأخيرة، ابناً آخر، هو ديمتري إيفانوفتش الذي كان آنذاك (1584) في الثالثة من عمره، ورغبة من المجلس في أن يجنب الطفل أخطار الدسائس- بخلاف دسائسه هو، أي المجلس- أرسل الطفل وأمه للإقامة في أوجليبش، على بعد نحو 120 ميلاً إلى الشمال من موسكو. وهناك في 1591 قضى ابن القيصر نحبه بطريقة لم يتم التحقق منها بعد. وتصدت إلى هذه البلدة لجنة للتحقيق في الحادث، يرأسها الأمير فاسيلي شويسكي أحد أعضاء المجلس، وجاء تقريرها يقول بأن الصبي قطع حلقومه في نوبة صرع ألمت به. ولكن أم ديمتري وجهت الاتهام بأنه قتل بأمر من جودونوف. ولكن جريمة بوريس لم تثبت قط، ولا تزال مثار جدل بين بعض المؤرخين. وأجبرت الأم على الترهب، ونُفي أقرباؤها من موسكو، وأضيف ديمتري إلى قائمة القديسين الأرثودكس، وطواه النسيان إلى حين.
وكان بوريس - مثل ريتشارد الثالث في إنجلترا- أكثر توفيقاً في الحكم أثناء وصايته على العرش، منه بعد تربعه عليه فيما بعد. وعلى الرغم من أنه كان ينقصه التعليم الرسمي النظامي، بل ربما كان أمياً، فقد أوتي مقدرة جبارة، ويبدو أنه بذل جهود مضنية لمواجهة مشاكل الحياة في روسيا. فأصلح الإدارة الداخلية، وحد من فساد القضاء، وأولى الطبقات الدنيا والوسطى عطفاً ورعاية، وكلف الأشغال العامة بتهيئة فرص العمل للفقراء من سكان المدن، وخفف من أعباء الأرقاء والتزاماتهم، وكان- كما يقول أحد كتاب الحوليات المعاصر- "محبوباً لدى كل الناس". وحظي باحترام الدول الأجنبية وثقتها. ولما مات القيصر فيودور الأول (1598) طلبت الجمعية الوطنية من جودونوف بالإجماع أن يتولى العرش. فقبله مع تظاهره بالمعارضة خجلاً من أنه غير جدير به، ولكن ثمة شبهة بأن عملاءه كانوا قد مهدوا السبيل في الجمعية الوطنية. ونازع جماعة من النبلاء من الذين كرهوا منه دفاعه عن طبقة العامة.نازعوا في حقه في اعتلاء العرش. تآمروا على خلعه، فأودع بوريس بعضهم السجن ونفى آخرين، وأرغم فيودور رومانوف (والد أول قيصر من أسرة رومانوف). على أن يدخل في سلك الرهبنة. ومات نفر من هذه المجموعة المغلوبة على أمرها. في ظروف مواتية لبوريس إلى حد اتهامه بتدبير قتلهم. ولما كان يعيش آنذاك في جو من الشك والفزع. فإنه بث العيون والأرصاد هنا وهناك. وأبعد المشتبه فيهم وصادر أملاكهم. وأعدم الرجال والنساء. وانهارت شعبيته الأولى. وتركته السنوات العجاف من (1600- 1604) بغير تأييد ومساندة من الأهالي الذين يتضورون جوعاً في مواجهة المكائد التي كان يديرها النبلاء في تصميم وعناد.
وثمة مكيدة أصبحت ذات شهرة في التاريخ، والأدب والموسيقى. ففي 1603 ظهر في بولندة شاب ادعى أنه ديمتري المفروض أنه مات. والوريث الشرعي لعرش فيودور إيفانوفتش. واعتبر بوريس الواثق من نفسه، أن هذا الشاب ليس إلا جريشكا أوتربيف الراهب الذي جرد من ردائه الكهنوتي، والذي كان من قبل في خدمة آل رومانوف. أما البولنديون الذين كانوا يخشون توسع روسيا، فقد سرهم أن يجدوا بينهم وفي متناول يدهم، من يطالب بالتاج المسكوفي، وابتهجوا أكثر من ذلك بزواج "ديمتري" هذا من بنت بولندية، واعتناقه الكاثوليكية. وتغاضى سجسمند الثالث الذي كان قد وقع لتوه (1602) هدنة مدتها عشرون عاماً مع روسيا، عن حشد ديمتري لمتطوعين بولنديين. وناصر الجزويت بشدة قضية هذا المدعي. وفي أكتوبر 1604 عبر ديمتري نهر الدنيير مع أربعة آلاف رجل. فيهم المنفيون الروس، وجنود مرتزقة ألمان، وفرسان بولنديون. وأيده النبلاء الروس سراً، ولو أنهم تظاهروا بالحياد. وانضم الفلاحون الآبقين إلى القوات المتقدمة، ورجب الشعب الجائع الذي طال انتظاره للتعلل بأمل كاذب، بديمتري الجديد، ورفع لواءه رمزاً للملكية الشرعية والأماني اليائسة. ووسط الهتاف تحرك الجمهور المتضرع نحو موسكو من الغرب، وانقض من الجنوب القوازق المستعدون دوماً للنزال. وانقلبت الحركة إلى ثورة.
ولما رأى بوريس أن هذا بمثابة غزو بولندي، بعث بجيشه إلى الغرب، وهزم فصيلة من قوات ديمتري، ولكنه لم يدرك البقية. ولم يتلقى جودونوف وهو قابع في قصر الكرملن إلا أنباء جمهور الرعاع الزاحف المتزايد عدده. والسخط الذي ينتشر، والأنخاب التي يشربها البويار (النبلاء) حتى في موسكو، في صحة ديمتري الذي أعلنوا على الشعب أنه ابن القيصر المقدس الذي اختاره الله ليكون قيصراً. وفجأة، وبعد شكوك وآلام مبرحة معروفة لدى بوشكين وموسور حسكي، ولا يعلم التاريخ عنها شيئاً- مات بوريس (13 إبريل 1605) وأوصى البطريك بسمانوف والنبلاء خيراً. ولكن البطريك والنبلاء تحولوا إلى المدعي، وقتل ابن جودونوف وأرملته، وفي غمرة النشوة الوطنية رحب، بديمتري الزائف، وتوج قيصراً على روسيا بأسرها.
زمن الشدائد 1605 - 1613
لم يكن القيصر الجديد حاكماً غير صالح، كما هي شيمة الملوك، ولم يكن ذا قوام يبعث على الرهبة ولا بهي الطلعة، ولكنه كان برغم هذا وذاك قادراً على امتشاق الحسام وامتطاء الخيل، مثل أي نبيل كريم المحتد. وتحلى القيصر الجديد برجاحة العقل وسعة الإدراك وفصاحة اللسان وحلاوة الشمائل، وبساطة غير متكلفة صدمت فواعد السلوك والتشريفات في حياة القصور. وأدهش موظفيه باهتمامه الجاد بالإدارة، كما أدهش جيشه بتولي تدريبه بنفسه. ولكن تعاليه على بيئته كان متعمداً واضحاً أكثر مما ينبغي. فأبدى احتقاره صراحة لخشونة النبلاء وأميتهم وجهلهم، واقترح إرسال أبنائهم لتلقي العلم في الغرب، وسعى إلى استقدام معلمين أجانب لتأسيس مدارس ثانوية في موسكو. وسخر من العادات الروسية، وأغفل الطقوس الأرثوذكسية، وأهمل تحية صور القديسين، وتناول طعامه دون أن ترش مائدته بالماء المقدس، وأكل لحم العجل الذي اعتبرته الطقوس نجساً. وأخفى- وربما لم يأخذ يوماً بمأخذ الجد- تحوله إلى الكاثوليكية، ولكنه أحضر إلى موسكو زوجته البولندية الكاثوليكية، يحف بها أخوة فرنسيسكان وممثل البابا. وكان في بطانته هو نفسه نفر من البولنديين والجزويت، وأنفق في سخاء من أموال الخزانة، فضاعف رواتب ضباط الجيش، وخصص لأصدقائه الضياع المصادرة من أسرة جودونوف. ولما كان لا يهوى السكون، كما كان رجلاً عسكرياً فإنه دبر حملة ضد خان القرم وأعلن الحرب عملياً بإرساله سترة من جلد الخنزير إلى الحاكم المسلم. وربما كاد أن يخلي موسكو من الجنود تماماً، بإصداره أوامره إليهم بالتحرك نحو الجنوب، وخشي النبلاء أنه كان يفتح العاصمة لغزوٍ بولندي.
وبعد اعتلاء ديمتري عرش روسيا ببضعة أسابيع تآمرت زمرة من النبلاء بزعامة شويسكي على خلعه. واعترف شويسكي بأنه لم يقر أو يعترف "بالمدعي" إلا لمجرد التخلص من جودونوف، أما الآن فيجب إبعاد الإدارة التي اصطنعت لهذا الغرض، وإجلاس نبيل أصيل على العرش. وكشف ديمتري المؤامرة، وأعتقل زعماءها، وبدلاً من الإسراع بإعدامهم، كما تقضي بذلك التقاليد، منحهم الحق في أن يحاكموا أمام الجمعية الوطنية التي اختير أعضاؤها لأول مرة من بين جميع الصفوف والطبقات. فلما أصدرت حكمها على شويسكي وآخرين بالإعدام خفف ديمتري الحكم إلى النفي، وبعد خمسة أشهر أباح للمنفيين العودة. وكان كثير من الناس يعتقدون أنه ابن إيفان الرهيب، ولكنهم شعروا الآن- بعد تصرفه على هذا النحو- أن مثل هذا الاعتدال أو الرفق غير التقليدي يلقي ظلالاً من الشك على أبوته الملكية. وعاد المتآمرون المعفو عنهم إلى تدبير المؤامرات من جديد. واشتركت فيها أسرة رومانوف التي احتمى ديمتري بظل الانتساب إليها. وفي 17 مايو 1606 اقتحم شويسكي الكرملن بأتباعه المسلحين. ودافع ديمتري عن نفسه دفاعاً مجيداً، وقتل بيده كثيراً من مهاجميه، ولكنه في النهاية غلب على أمره وذبح. وعرضت جثته في ساحة الإعدام، وألقى على وجهه قناع حقير، ووضع في فمه مزمار، ثم بعد ذلك أحرقت الجثة، وأطلق عليها مدفع حتى تذرو الرياح رمادها فلا تبعث من جديد بعد الآن.
ونادى النبلاء المنتصرون بشويسكي قيصراً تحت اسم فاسيلي الرابع: وآلى على نفسه ألا يعدم أحداً ولا يصادر أملاكاً، دون موافقة "الدوما" (مجلس النبلاء). وأقسم في كاتدرائية أوسبنسكي أغلظ الإيمان بأنه "لن يلحق بأي إنسان أذى دون موافقة المجلس "أي الجمعية العمومية التي تضم كل الطبقات". وغالباً ما انتهكت هذه الضمانات، ولكنها كانت على أية حال خطوة تاريخية على طريق تطوير الحكومة في روسيا.
وأخفقوا في تهدئة تلك العناصر الكبيرة من السكان التي تولاها الحزن والأسى لخلع ديمتري. فاندلعت ثورة في الشمال، ونصب زعيماً لها "ديمتري" زائف آخر، أمده سجسمند الثالث ملك بولندة بعون غير رسمي. فالتمس شويسكي العون من شارل التاسع ملك السويد، عدو سجسمند، وأرسل شارل قوة سويدية إلى روسيا، فأعلن سجسمند الحرب عليها، واستولى قائده زلكوسكي على موسكو، وخلع شويسكي (1610) وحمل إلى وارسو حيث أرغم على الترهب في أحد الأديار. واتفقت زمرة من النبلاء على الاعتراف بلادلاس- ابن سجسمند، البالغ من العمر أربعة عشر عاماً قيصراً على روسيا، شريطة المحافظة على استقلال الكنيسة الأرثوذكسية، ومساعدة الجيش البولندي للنبلاء في إخماد الثورة الاجتماعية التي كانت تهدد الحكومة الأرستقراطية في روسيا.
وكانت الثورة في بداية أمرها استنكاراً دينياً ووطنياً لتنصيب قيصر بولندي، ومنع هرموجنس بطريك الأرثوذكسية الشعب من حلف يمين الولاء لملك كاثوليكي. وقبض البولنديين عليه، وسرعان ما قضى نحبه في سجنه، ولكن نداءه جعل من المتعذر على لادسلاس أن يحكم البلاد. ودعا الزعماء الدينيون الشعب إلى طرد البولنديين بوصفهم كاثوليك مهرطقين. وبدا أن الحكومة نهار، وعمت الفوضى روسيا. واستولى الجيش السويدي على نوفجورود واقترح أن يتولى عرش روسيا أمير سويدي. ورفض الاعتراف بلادسلاس الفلاحين في الشمال والجنوب، والقوازق في الجنوب، وأقاموا حكماً خاصاً بهم في المقاطعات. وأعملت عصابات قطاع الطرق السلب والنهب في القرى والمدن، ونكلت بكل من يقاوم، وتعطلت الزراعة ونقص إنتاج الأغذية، واختلت وسائل النقل، وعمت المجاعة، واضطر السكان في بعض الأقسام إلى أكل لحوم البشر. ودخل جمهور ثائر موسكو، وفي غمرة الفوضى والشغب أشعل الحريق فأتت النار على معظم المدينة (9 مارس 1611) وتقهقرت الحامية البولندية إلى الكرملن، ترقب عبثاً قدوم سجسمند لنجدتها.
كوزما مينين يناشد سكان نژني نوڤگورود ليشكلوا جيش من المتطوعين لصد الغزاة البولنديين
وفي نژني نوڤگورود نظم قصاب يدعى كوزما مينين، جيشاً ثورياً آخر؛ يحدوه الإخلاص للأرثوذكسية، ودعا كل أسرة إلى التنازل عن ثلث ما تملك لتمويل الهجوم على العاصمة. وتم هذا بالفعل، ولكن الناس لن ينقادوا إلى زعيم غير ذي لقب. فدعا منين الأمير ديمتري بوجاركسي ليتولى القيادة، فقبل المهمة، وانطلق رجال الجيش الجديد إلى موسكو صائمين ضارعين، وما أن وصلوا حتى حاصروا الحامية البولندية في الكرملن، وصمدت الحامية إلى حد أنهم أكلوا الفئران ولحم البشر، وكانوا يغلون المخطوطات اليونانية ليحظوا على المرق، ثم استسلموا وفروا (22 أكتوبر 1613) وظلت ذكرى هذا العام حية عزيزة في أذهان الروس، على أنه عام التحرير، وعندما أجلي الفرنسيون بعد ذلك بقرنين من الزمان، عن موسكو التي جللها رماد الحريق مرة ثانية، أقام الروس المنتصرون نصباً تذكارياً لمنين وبوجارسكي، الجزار والأمير اللذين ضربا لهما أروع مثل للبطولة في 1612.
ودعا بوجارسكي والأمير ديمتري تروبتسكوي ممثلين علمانيين ودينيين عن كل أجزاء الإمبراطورية إلى مجلس لانتخاب ملك جديد. واستخدمت مختلف الأسرات نفوذها بطريقة خفيفة لتحقيق أغراض خاصة، ولكن كانت الغلبة آخر الأمر لأسرة رومانوف، واختار المجلس ميخائيل الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر آنذاك، وفي 21 فبراير 1613 نادى به قيصراً سكان موسكو الذين يمكن تجميعهم وتوجيههم بسرعة. وبعد أن أنقذ الشعب الدولة، نسب الفضل في ذلك، تواضعاً إلى النبلاء.
وقضت الحكومة الجديدة على الخلل الاجتماعي والثورة، وثبتت دعائم الرق وتوسعت فيه وهدأت من روع السويد بالتخلي عن انجريا، ووقعت مع بولندة هدنة مدتها أربعة عشر عاماً، وفكت الهدنة أسر فيودور رومانوف، والد ميخائيل، الذي طال أمد أسره. وكان بوريس قد أرغمه على الترهب، وأطلق عليه اسم الراهب فيلات. وعينه ابنه ميخائيل بطريريك موسكو، ورحب به مستشار له وبلغ من القوة والنفوذ حداً أطلق معه الشعب عليه اسم "القيصر الثاني". وتحت الحكم المزدوج الذي شارك فيه الوالد والولد وبرغم المزيد من الثورات والحروب؛ حققت روسيا يعد جيل من الفوضى، سلاماً مزعزعاً مقروناً بالسخط والاستياء. أن زمن الشدائد والمتاعب الذي بدأ بموت بوريس، اختتم باعتلاء ديمتري العرش، وهذا بدوره كان ابتداء عهد أسرة رومانوف التي قدر لها أن تحكم روسيا حتى عام 1917.
الامبراطورية الروسية
بطرس العظيم
جلب بيتر العظيم (1672-1725) الاستبداد إلى روسيا و لعب دورا رئيسيا في جلب بلاده إلى نظام الدول الأوروبية. من بداياتها المتواضعة في القرن 14 كامارة موسكو، أصبحت روسيا أكبر دولة في العالم في عهد بيتر. ثلاث مرات حجم أوروبا القارية امتدت روسيا على اوراسيا من بحر البلطيق إلى المحيط الهادئ. الكثير من توسعاتها وقعت في القرن 17، و بلغت ذروتها في التسوية الروسية الأولى في منطقة المحيط الهادئ في منتصف القرن 17، و استرداد كييف، و تهدئة قبائل سيبيريا. ومع ذلك ، فإن هذه الأراضي الشاسعة، لم يتجاوز عدد سكانها 14 مليون نسمة. غلة الحبوب متخلفة عن تلك الزراعة في الغرب (والتي يمكن تفسيرها جزئيا كنتيجة للظروف المناخية الأكثر تحديا ، ولا سيما في فصل الشتاء البارد الطويل و فترة الخضرة القصيرة قاهرة جميع السكان تقريبا من المزارع. سوى جزء صغير من السكان الذين عاشوا في المدن. روسيا لا تزال معزولة عن التجارة البحرية ، والاتصالات والتجارة الداخلية والعديد من الصناعات تعتمد على التغيرات الموسمية.
أول الجهود العسكرية لبيتر كانت موجهة ضد العثمانيين. ثم تحول انتباهه إلى الشمال. كان ما يزال بيتر يفتقر إلى ميناء آمن في الشمال باستثناء أرخانجيلسك على البحر الأبيض ، المرفأ الذي يتجمد لمدة تسعة أشهر في السنة. تم حظر وصوله إلى بحر البلطيق من قبل السويد، التي كانت ارضها محاطة من ثلاث جهات. طموحات بيتر للحصول على نافذة "إلى البحر" قادته في 1699 لانشاء تحالف سري مع الكومنولث البولندي اللتواني ضد السويد و الدنمارك، مما أدى إلى الحرب الشمالية العظمى. انتهت الحرب في 1721 عندما استنفدت قوى السويد و اثرت من أجل السلام مع روسيا. اكتسب بيتر أربع محافظات تقع جنوب و شرق خليج فنلندا، و بالتالي أمن وصوله إلى البحر. هناك ، في 1703 ، كان قد أسس المدينة التي كانت لتصبح العاصمة الروسية الجديدة حيث افتتح سانت بطرسبرغ باعتبارها "نافذة على أوروبا" لتحل محل موسكو ، المركز الثقافي الروسي لفترة طويلة. أصبح التدخل الروسي في الكمنويلث ملحوظا ، مع مجلس النواب الصامت ، بداية من 200 عاما من الهيمنة على تلك المنطقة من قبل الإمبراطورية الروسية. أثناء الاحتفال بغزواته ، غير بيتر لقبه إلى امبراطور عوض القيصر ، و أصبحت روسيا القيصرية رسميا الامبراطورية الروسية في 1721.
لإعادة تنظيم حكومته اعتمد بيتر على أحدث النماذج الغربية و صب روسيا إلى دولة استبدادية. حل محل دوما البويار القديم (مجلس النبلاء) مجلس شيوخ بتسعة اعضاء، في الواقع كان مجلسا أعلى للدولة. كما تم تقسيم الريف إلى مقاطعات و مناطق جديدة. وقال بيتر لمجلس الشيوخ ان مهمته هي جمع العائدات الضريبية. بمقابل ذلك تضاعفت عائدات الضرائب ثلاث مرات على مدار حكمه. كجزء من عملية إصلاح الحكومة، و الكنيسة الأرثوذكسية تم جزئيا دمجها في الهيكل الإداري للدولة، مما جعلها أداة للدولة. ألغى بيتر البطريركية و استعاض عنها بهيئة جماعية، المجمع المقدس، بقيادة من مسؤول حكومي. وفي الوقت نفسه ، كل ما تبقى من الحكم الذاتي المحلي قد أزيل، و استمر بيتر بتكثيف شرط خدمة الدولة لجميع النبلاء.
توفي بطرس الكبير في 1725 ، مما أسفر عن الخلافة في عالم غير مستقر و مستنفد. حكمه أثار تساؤلات حول تخلف روسيا، و علاقتها بالغرب، و مدى ملاءمة الإصلاح من أعلاه، وغيرها من المشاكل الأساسية التي واجهت العديد من حكام روسيا لاحقا. ومع ذلك ، كان قد أرسى أسس دولة حديثة في روسيا.
حكم الإمبراطورية (1725-1825)
ما يقرب من أربعين عاما كانت لتمر من أمام حاكم طموح نسبيا و يبدو قاسيا على العرش الروسي. كاترين الثانية ، أو الكبيرة ، كانت الاميرة الالمانية التي تزوجت بيتر الثالث، الوريثة الألمانية في التاج الروسي. وجدته غير كفء ، و وافقت كاترين ضمنا على قتله. كان قد اعلن انه قد مات بسبب سكتة دماغية ، وعام 1762 أصبحت المسيطرة.
ساهمت في ظهور طبقة النبلاء الروسية التي بدأت بعد وفاة بطرس الأكبر. ألغيت حالة الخدمة، و سر النبلاء من كاترين مع المزيد من تسليم معظم المهام الحكومية في المحافظات لهم.
كاترين العظمى مددت السيطرة الروسية السياسية على الكومنولث البولندي اللتواني بإجراءات بما في ذلك دعم كونفدرالية تارغوويكا، على الرغم من تكلفة حملاتها، على رأس هذا النظام القمعي الاجتماعي حيث يطالب اقنان اللوردات بقضاء وقتهم في أراضي اللوردات، مما أثار انتفاضة للفلاحين في 1773، بعد تقنين كاترين بيع العبيد منفصلين عن الأرض. مرددين صرخة تأكيدا "الموت لجميع اللوردات الملاك!" مستوحين ذلك من قوزاق آخر يدعى بوغاتشيف، هدد المتمردون باتخاذ موسكو قبل كانوا قمعها بلا رحمة. كاترين قد اخضعت بوغاشيف في الساحة الحمراء ، و لكن شبح الثورة كان ما يزال يؤرقهاو خلفاءها.
شنت كاترين بنجاح الحرب ضد الامبراطورية العثمانية المتداعية و متقدمة الحدود الجنوبية لروسيا إلى البحر الأسود. ثم ، من خلال التحالف مع حكام النمسا و بروسيا ، وقالت انها أدرجت أراضي الكومنولث البولندي اللتواني ، حيث بعد قرن من غير سيادة الروسية الأرثوذكسية الكاثوليكية أساسا السكان ساد خلال تقسيم بولندا ، ودفع الروس الحدود غربا إلى أوروبا الوسطى. في وقت وفاتها في عام 1796 ، قدمت سياسة كاترين التوسعية التي صنعت روسيا كقوة أوروبية كبرى. هذا مع استمرار الكسندر الأول انتزاع فنلندا من مملكة السويد الأضعف في 1809 و بيسارابيا من العثمانيين في عام 1812.
أقدم نابليون على زلة كبرى عندما أعلن الحرب على روسيا بعد خلاف مع القيصر الكسندر الأول و شن غزو روسيا في عام 1812. الحملة كانت كارثة. غير قادر على الانخراط بشكل حاسم و هزيمة الجيوش الروسية ، حاول نابليون فرض شروط من قبل القيصر لالتقاط موسكو في بداية فصل الشتاء. توقع ثبت عدم جدواه. غير مستعدين لخوض حرب في الشتاء الروسي ذي الطقس البارد ، الآلاف من الجنود الفرنسيين تعرضوا لكمين أو قتلوا على أيدي مقاتلي حرب العصابات الفلاحين. حين تراجعت قوات نابليون ، طاردتهم القوات الروسية في وسط و غرب أوروبا و إلى أبواب باريس. بعد هزيمة نابليون على ايدي روسيا و حلفائها، أصبح القيصر يعرف باسم الكسندر «منقذ أوروبا، و ترأس اعادة رسم خريطة أوروبا في مؤتمر فيينا (1815) ، الأمر الذي جعل الكسندر عاهل كونغرس بولندا.
تراجع نابليون عن موسكو
على الرغم من أن الإمبراطورية الروسية من شأنها أن تلعب دورا قياديا في سياسية القرن القادم، المضمونة من قبل هزيمة نابليون فرنسا، لكن الاحتفاظ بالاستعباد يحول دون التقدم الاقتصادي في أي درجة كبيرة. والنمو الاقتصادي المتسارع في أوروبا الغربية خلال الثورة الصناعية ، والتجارة البحرية و الاستعمار التي كانت قد بدأت في النصف الثاني من القرن 18 ، بدأت روسيا تتخلف وراء أبعد من أي وقت مضى ، و خلقت مشاكل جديدة
الامبراطورية روسيا في أعقاب الثورة الدجنبرية (1825-1917)
الدجنبريون في ساحة مجلس الشيوخ.
حجب دور روسيا كقوة عظمى في العالم عدم كفاءة حكومتها ، و العزل من سكانها ، والتخلف الاقتصادي. في أعقاب هزيمة نابليون ،كان الكسندر الأول على استعداد لمناقشة الاصلاحات الدستورية ، وعلى الرغم من قلتها لم تدخل تغيرات شاملة.
خلف القيصر شقيقه الأصغر ، نيقولا الأول (1825-1855) ، الذي كان في بداية عهده يواجه انتفاضة. على خلفية هذا التمرد تكمن الحروب النابليونية، عندما قام عدد من الضباط الروس المتعليمين بالسفر إلى أوروبا في أثناء الحملات العسكرية، حيث تعرضهم لليبرالية أوروبا الغربية شجعهم على السعي إلى التغيير عند عودتهم إلى الأوتوقراطية في روسيا. كانت النتيجة ثورة ديسامبر (ديسمبر 1825) ، عملت دائرة صغيرة من النبلاء الليبراليين و ضباط الجيش الذين كانوا يريدون تثبيت شقيق نيكولا كملك دستوري. ولكن كان من السهل سحق التمرد ، مما أدى بدوره إلى ابتعاد نيكولا عن برنامج التغريب التي بدأه بطرس الأكبر و بطل مذهب{ 0}التزمت و الاوتوقراطية و الجنسية.
في العقود الأولى من القرن 19 ، سعت روسيا إلى جنوب القوقاز والمرتفعات في شمال القوقاز . في عام 1831 سحق نيكولاس ثورة نوفمبر (1830) في كونغرس بولندا و سوف يعقبها على نطاق واسعثورة يناير البولندية و الليتوانية في عام 1863.
العدمية
في 1860 توسعت الحركة المعروفة باسم العدمية في روسيا. و أصل المصطلح ابتدعه ايفان تورجنيف في تقريره 1862 رواية الآباء و الأبناء ، يحبذ العدميين تدمير المؤسسات والقوانين البشرية ، القائمة على فكرة أن هذه المؤسسات والقوانين هي مصطنعة و فاسدة. في جوهرها ، فقد اتسمت العدمية الروسية من الاعتقاد بأن العالم يفتقر إلى مفاهيم المعنى و الحقيقة و الموضوعية أو القيمة. لبعض الوقت كان الكثير من الليبراليين الروس غير راضين عن ما اعتبروه المناقشات الفارغة من المثقفين. استجوب العدميون جميع القيم القديمة واحدثوا صدمة في المؤسسة الروسية. انتقلوا بغض النظر عن كونهم محض فلسفية إلى أن أصبحوا قوى سياسية كبيرة بعد التورط في قضية الإصلاح. تم تسهيل مسارهم من خلال الأعمال السابقة للدجنبريين الذين تمردوا عليهم في عام 1825 ، والعسر المالي والسياسي الناجم عن حرب القرم ، التي تسببت في فقدان ثقة عدد كبير من الشعب الروسي في المؤسسات السياسية.
حاول العدميون أولا تحويل الأرستقراطية كقضية الإصلاح.حين فشلوا هناك لجأوا إلى الفلاحين. حملتهم التي تستهدف الشعب بدلا من الطبقة الأرستقراطية أو نبلاء الأرض ، أصبحت تعرف باسم حركة نارودنيك. كان يستند الاعتقاد إلى أن الناس العاديين ، و المعروفين باسم نارود، يمتلكون الحكمة و القدرة السلمية لقيادة الأمة.
في حين أن حركة نارودنيك تكتسب زخما ، تحركت الحكومة بسرعة لاستئصال ذلك. ردا على رد الفعل المتزايد للحكومة ، دعى الفرع المتطرف للنارودنيك إلى ممارسة الارهاب. واحدا تلو الآخر ، أطلقت النار على مسؤولين بارزين أو قتلوا في انفجارات قنابل. هذا يمثل صعود الفوضوية في روسيا بوصفها قوة ثورية قوية. أخيرا ، وبعد عدة محاولات ، اغتيل الكسندر الثاني من الفوضويين في عام 1881 ، في نفس اليوم الذي كان قد وافق على اقتراح يدعو إلى انشاء مجلس ممثل للنظر في إصلاحات جديدة ، إضافة إلى إلغاء نظام القنانة التي تستهدف تخفيف حدة المطالب الثورية.
الاستبداد و رد فعل الكسندر الثالث
على عكس والده ، القيصر الجديد الكسندر الثالث (1881-1894) كان طوال فترة حكمه خاضعا لقوى الرجعية الذي أحيا القول المأثور : التزمت و الاوتوقراطية و الجنسية. اعتقد الكسندر الثالث القومي السلافي أن روسيا لا يمكن إنقاذها من الفوضى إلا بعزل نفسه عن التأثيرات الهدامة في أوروبا الغربية. في عهده اختتمت روسيا اتحاد مع جمهورية فرنسا لاحتواء القوة المتنامية لألمانيا، والانتهاء من الاستيلاء على آسيا الوسطى و فرض تنازلات اقليمية و تجارية هامة على الصين.
تراجع الجيش الروسي بعد معركة موكدين
كان قسطنطين بتروفيتش بوبيدونوستيف مستشار القيصر الأكثر نفوذا، معلم الكسندر الثالث و نجله نيكولاس، والنائب العام للمجمع المقدس من 1880 حتي 1895. درس تلاميذه المالكيين الخوف من حرية التعبير و الصحافة، و كرههم الديمقراطية والدساتير، والنظام البرلماني. تحت بوبيدونوستيف، تم قتل الثوريين و اعتماد سياسة إضفاء الطابع الروسي في جميع أنحاء الإمبراطورية.
نيكولاس الثاني و الحركة الثورية الجديدة
كان خلف الكسندر هو ابنه نيقولا الثاني (1894-1917). الثورة الصناعية ، التي بدأت بممارسة تأثير كبير في روسيا ، وفي الوقت نفسه كانت القوات من شأنها أن تخلق في النهاية إسقاط القيصر. سياسيا نظمت قوى معارضة هذه في الأحزاب المتنافسة إلى ثلاثة : العناصر الليبرالية بين أصحاب الرساميل الصناعية و النبلاء ، والذين آمنوا بالإصلاح الاجتماعي السلمي ، ونظام ملكي دستوري ، و تأسس الحزب الدستوري الديمقراطي أو كاديتس في عام 1905. أنشأ أتباع تقليد نارودنيك الحزب الاشتراكي الثوري أو ايسيرز في عام 1901 ، و بدؤا الدعوة إلى توزيع الأراضي بين أولئك الذين عملوا فعلا فيها كالفلاحين. وهناك مجموعة ثالثة أكثر راديكالية أسست حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسيالاشتركي أو RDSLP في عام 1898 ، وهذا الطرف هو الأس الأساسي لالماركسية في روسيا. جمعوا دعمهم من المثقفين المتطرفين و الطبقة العاملة في المدن ، و دعت إلى ثورة اجتماعية و اقتصادية و سياسية كاملة.
في عام 1903 انقسم RDSLP إلى جناحين : البلشفية الراديكالية ، بقيادة لينين ،و المناشفة المعتدلة نسبيا ، بقيادة صديق لينين السابق يولي مارتوف. اعتقد المناشفة بأن الاشتراكية الروسية سوف تنمو تدريجيا و سلميا، و ذلك ان نظام القيصر ينبغي أن يتحول إلى جمهورية حيث سوف يتعاون الاشتراكيون مع الأحزاب الليبرالية البورجوازية. البلاشفة ، تحت زعامة فلاديمير لينين ، دعوا إلى تشكيل نخبة صغيرة من من الثوريين المهنيين، تخضع لانضباط الحزب القوي، لتكون بمثابة طليعة البروليتاريا من أجل الاستيلاء على السلطة بالقوة.
الأداء الكارثي للقوات المسلحة الروسية في الحرب الروسية اليابانية كان ضربة كبرى للدولة الروسية وزادت من احتمالات حدوث قلاقل. في يناير 1905 ، وهو الحادث المعروف باسم "الأحد الدامي" وقعت عندما قاد الأب جابون الحشد الهائل إلى القصر الشتوي في سانت بطرسبرغ لتقديم التماس إلى القيصر. وفقا للدعاية الثورية ، عندما وصل الموكب إلى القصر ، فتح القوزاق النار على المتظاهرين ، مما أسفر عن مقتل المئات. كانت الجماهير الروسية مثارة بالمجزرة مما ادى إلى اعلان مطالبة بالجمهورية. هذه علامة على بداية الثورة الروسية في عام 1905 . ظهر السوفياتيون (مجالس العمال) في معظم المدن لمباشرة النشاط الثوري.
بيان أكتوبر منح الحريات المدنية و إنشاء أول برلمان.
في أكتوبر 1905 ، على مضض أصدر نيكولاس بيان أكتوبر الشهير ، والذي أقر إنشاء الدوما الوطني (البرلمان) ليتم استدعاؤه دون تأخير. الحق في التصويت مدد، وكان هناك قانون للذهاب إلى القوة من دون تأكيد من قبل مجلس الدوما.والجماعات المعتدلة كانوا راضين ؛ ولكن الاشتراكيين رفضوا تقديم تنازلات غير كافية ، وحاولوا تنظيم ضربات جديدة.بحلول نهاية عام 1905 ، كان هناك انقسام بين الإصلاحيين ، و موقف القيصر المتعزز آنذاك.
الثورة البلشفية
الثورة البلشفية أو ثورة أكتوبر كانت المرحلة الثانية من الثورة الروسية عام 1917 قادها البلاشفة تحت إمرة فلاديمير لينين وليون تروتسكي في 1917 بناء على أفكار كارل ماركس؛ لإقامة دولة شيوعية وإسقاط القيصرية. تعد الثورة البلشقية أول ثورة شيوعية في القرن العشرين الميلادي.
لم يكن الصقالبة إلا آخر الأقوام الكثيرين الذين كانوا يمرحون ويطربون في تربة روسيا الخصبة، وسهولها الرحبة، وأنهارها الكثيرة الصالحة للملاحة، ويأسون لمناقعها العفنة، وغاباتها المانعة، وافتقارها إلى المعاقل الطبيعية التي تصد الأعداء الغازين، وصيفها الحار، وشتائها البارد. فلقد أنشأ اليونان منذ القرن السابع قبل الميلاد على أقل سواحلها جدباً أي شواطئ البحر الأسود الغربي والشمالي نحو عشرين بلدة-ألبيا Albia، وتانيس Tanais، وثيودوسيا Theodosja، وبنتيكبيوم Panticapium (كرتش Kerche). واقتتلوا مع السكوذيين الضاربين وراء هذه البلاد أو ناصروهم. وسرت إلى هؤلاء الأقوام-وأكبر الظن أنهم من أصل إيراني-بعض عناصر الحضارة الفارسية واليونانية، بل إنهم قد خرج من بينهم فيلسوف-أناخارسيس Anacharsis 600 ق. م-قدم إلى أثينة وتناقش مع صولون.
ثم أقبلت في القرن الثاني قبل الميلاد قبيلة إيرانية أخرى هي قبيلة السرماتيين، وهزمت السكوذيين وسكنت ديارهم؛ واضمحلت المستعمرات اليونانية في هذا الاضطراب. ودخل البلاط القوط من الغرب في القرن الثاني بعد الميلاد، وأنشئوا مملكة القوط الشرقيين، ثم قضى الهون على هذه المملكة حوالي عام 375، ولم تكد سهول روسيا الجنوبية تشهد بعد هذا الغزو أية حضارة، بل شهدت هجرات متتابعة من أقوام بدو- هم البلغار، والآفار، والصقالبة، والخزر، والمجر، والبتزيناك Patzinaks، والكومان Cumans، والمغول. وكان الخزر من أصل تركي زحفوا في القرن السبع مخترقين جبال القفقاس إلى جنوبي روسيا، وأنشأوا مُلكاً منظماً امتد من نهر الدنبير إلى بحر قزوين (بحر الخزر)، وشيدوا عاصمة لهم في مدينة إتيل itil على مصب نهر الفلجا Volga بالقرب من أستراخان الحاضرة، واعتنق ملكهم هو والطبقات العليا منهم الدين اليهودي وكانت تحيط بهم الدولتان المسيحية والإسلامية، ولكنهم فضلوا في أكبر الظن أن يغضبوا الدولتين بدرجة واحدة عن أن يغضبوا واحدة منهما غضباً يعرضهم للخطر، وأطلقوا في الوقت عينه الحرية الكاملة لأصحاب العقائد المختلفة، فكانت لهم سبع محاكم توزع العدالة بين الناس- اثنتان للمسلمين، واثنتان للمسيحيين، واثنتان لليهود، وواحدة للكفر الوثنيين. وكان يسمح باستئناف أحكام المحاكم الخمس الأخيرة إلى المحكمتين الإسلاميتين، إذ كانوا يرون أنهما أكثر عدالة من المحاكم الأخرى. واجتمع التجار على اختلاف أديانهم في مدن الخزر تشجعهم على ذلك هذه السياسة المستنيرة، فنشأت هناك من ذلك تجارة منتعشة بين البحر البلطي وبحر قزوين، وأصبحت إتيل في القرن الثامن من أعظم مدن العالم التجارية. وهاجم الأتراك البدو خزاريا Khazaria في القرن التاسع؛ وعجزت الحكومة عن أن تحمي مسالكها التجارية من اللصوصية والقرصنة، وذابت مملكة الخزر في القرن العاشر وعادت إلى الفوضى العنصرية التي نشأت منها.
وجاءت من جبال الكربات في القرن السادس هجرة من القبائل الصقلبية إلى هذا الخليط الضارب في روسيا الجنوبية والوسطى. واستقرت هذه القبائل في وادي الدنيبر والدن، ثم انتشرت انتشاراً أرق إلى بحيرة إلمن Ilmen في الشمال، وظل أفرادها عدة قرون يتضاعفون، وهم في كل عام يقطعون الغابات ويجففون المستنقعات، ويقتلون الوحوش البرية، وينشئون بلاد أكرانيا. وانتشروا فوق السهول بفضل حركة من الإخصاب البشري لا يضارعهم فيها إلا الهنود والصينيون. ولقد كان هؤلاء الأقوام طوال التاريخ المعروف لا يقر لهم قرار- يهاجرون إلى بلاد القفقاس والتركستان، وإلى أقاليم أورال وسيبيريا، ولا تزال عملية الاستعمار هذه في مجراها في هذه الأيام؛ ولا يزال البحر الصقلبي العجاج يدخل كل عام في خلجان عنصرية جديدة.
وأقبلت على العالم الصقلبي في بداية القرن التاسع غارة بدت وقتئذ أنها لا يؤبه بها. ذلك أن أهل الشمال الإسكنديناويين كان في وسعهم أن يوفروا بعض الرجال وبعض النشاط يقتطعونهما من هجماتهم على اسكتلندة، وأيسلندة، وأيرلندة، وإنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، وأسبانيا، وأن يوجهوا إلى روسيا الشمالية عصابات مؤلفة من مائة أو مائتين من الرجال، ينهبون بها الجماعات الضاربة حول للبحر البلطي، والفنلنديين، والصقالبة، ثم يعودون بجر الحقائب بالغنائم. وشاء هؤلاء الفيرنج جار Vaerlnjar أو الفرنجيون Varangians ("أتباع" الزعيم) أن يحملوا تلصصهم بالقانون والنظام فأقاموا مراكز محصنة في طرقهم، ثم استقروا بالتدريج وكانوا أقلية اسكنديناوية من التجار المسلحين بين زراعين خاضعين لهم. واستأجرتهم بعض المدن ليكونوا حماة للأمن والنظام الاجتماعي. ويبدو أن أولئك الحراس قد أحالوا أجورهم جزية، وأضحوا سادة من استخدموهم، ولم يكد ينتصف القرن التاسع حتى أضحوا هم حكام نفجورود "الحصن الجديد"، وبسطوا ملكهم حتى وصلوا إلى كيف في الجنوب، وارتبطت الطرق والمحلات التي كانوا يسيطرون عليها برباط غير وثيق فتألفت منها دولة تجارية وسياسية، سميت روس Ros أو Rus وهي كلمة لا يزال اشتقاقها مثاراً للجدل الشديد. وربطت الأنهار العظيمة التي تحترق البلاد البحرين الأبيض في الشمال والأسود في الجنوب بالقنوات والطرق البرية القصيرة، وأغرت الفرنجيين بأن يوسعوا تجارتهم ويبسطوا سلطانهم نحو الجنوب. وسرعان ما أخذ هؤلاء التجار المحاربون البواسل يبيعون بضائعهم أو خدماتهم في القسطنطينية نفسها. ثم حدث ما يناقض هذا، حدث أنه لما أضحت التجارة على أنهار الدنيبر، والفلخوف Volkhov، ودوينا الغربي أكثر انتظاماً مما كانت قبل، أقبل التجار المسلمون من بغداد وبيزنطية، وأخذوا يستبدلون الفراء، والكهرمان، وعسل النحل، وشمعه، والرقيق، بالتوابل، والخمور، والحرير والجواهر، وهذا منشأ ما نجده من النقود الإسلامية والبيزنطية الكثيرة العدد على ضفاف تلك الأنهار وفي اسكنديناوة نفسها. ولما حالت سيطرة المسلمين على البحر المتوسط الشرقي دون وصول الحاصلات الأوربية مجتازة المسالك الفرنسية والإيطالية إلى ثغور البلاد الواقعة في شرق هذا البحر، واضمحلت مرسيليا، وجنوا وبيزا في القرنين التاسع والعاشر، وازدهرت في مقابل هذا في الروسيا مدائن نفجورود، وسمولنسك Smolensk، وشرينجوف Shernigov، وكيف، ورستوف Rostov بفضل التجارة الاسكنديناوية، والصقلبية، والإسلامية، والبيزنطية. وخلع السجل القديم الروسي (القرن الثاني عشر) على هذا التسرب الاسكنديناوي شخصية تاريخية بقصته عن "الأمراء الثلاثة": وخلاصتها أن السكان الفلنديين والصقالبة في نفجورود وما حولها أخذوا يتقاتلون فيما بينهم بعد أن طردوا سادتهم الفرنجيين، وبلغ من هذا التناحر أن دعوا الفرنجيين أن يرسلوا لهم حاكماً أو قائداً (862)، فجاءهم، كما تروي القصة، ثلاثة أخوة-روريك Rurik، وسنيوس Sinues، وتروفور Truvor-وأنشئوا الدولة الروسية. وقد تكون هذه القصة صادقة رغم تشكك المتأخرين فيها، وقد تكون طلاء وطنياً لفتح نفجورود على يد الاسكنديناويين. ويضيف السجل بعد ذلك أن روريك أرسل اثنين من أعوانه هما أسكولد Ascold ودير Dir ليستوليا على القسطنطينية، وأن هذين الشماليين وقفا في طريقهما ليستوليا على كيف، ثم أعلنا استقلالهما عن روريك والخزر جميعاً.
وبلغت كيف في عام 860 من القوة مبلغاً أمكنها أن تسير عمارة بحرية من ألف سفينة تهاجم القسطنطينية؛ وأخفقت الحملة في مهمتها، ولكن كيف بقيت كما كانت مركزاً لروسيا التجاري والسياسي، وجمعت تحت سلطانها بلاداً واسعة ممتدة خلفها- وفي وسعنا أن نقول بحق إن حكامها الأولين- أسكولد Ascold، وأولج Oleg، وإيجور Igor لا روريك حاكم نفجورود-هم الذين أنشئوا الدولة الروسية. ووسع أولج، وإيجور، وألجا Oelga-الأميرة القديرة أرملة أولج-وابنها المحارب اسفياتسلاف Sivatoslav 962-972 مملكة كيف حتى انضوت تحت لوائها القبائل الصقلبية كلها تقريباً، ومدائن بولوتسك Polotsk، واسمولنسك وشرنجوف، ورستوف. وحاولت الإمارة الناشئة بين عامي 860، 1043 ست مرات أن تستولي على القسطنطينية. ألا ما أقدم زحف الروس على البسفور، وتعطش الروس إلى مخرج أمين إلى البحر المتوسط.
واعتنقت روس، كما سميت الإمارة الجديدة نفسها، تحت حكم فلديمير الخامس (972-1015) "دوق كيف الأكبر"، الدين المسيحي (989). وتزوج فلاديمير أخت الإمبراطور باسيل الثاني، وظلت الروسيا من ذلك الوقت إلى عام 1917 ابنة للدولة البيزنطية في دينها، وحروفها الهجائية، وعملتها، وفنها. وشرح القساوسة اليونان لفلاديمير منشأ الملوك وحقهم الإلهيين، وما لهذه العقيدة من نفع في تثبيت النظام الاجتماعي واستقرار الملكية المطلقة.وبلغت دولة كيف أوج عزها في عهد يروسلاف Yaroslav 1036-1054 بن فلاديمير، واعترفت بسلطانها اعترافاً غير أكيد كل البلاد الممتدة من بحيرة لدوجا Ladoga والبحر البلطي إلى بحر قزوين، وجبال القفقاس، والبحر الأسود، وكانت الضرائب تجبي إليها من هذه البلاد. وامتصت في جسمها الغزاة الاسكنديناويين وغلب على هؤلاء الدم الصقلبي واللغة الصقلبية. وكان نظامها الاجتماعي أرستقراطياً صريحاً، فكان الأمراء يعهدون بمهام الإدارة والدفاع إلى طبقة عليا من النبلاء، وطائفة أخرى مثلهم ولكنها أقل منهم مقاماً يعرفون بالديتسكي dietski أو الأوتروكي Otroki أي الخدم أو الأتباع. ويلي هؤلاء في المنزلة طبقة التجار، وأهل المدن، ثم الزراع نصف العبيد، ثم العبيد أنفسهم. وأقر كتاب القانون المعروف باسم الرسكايا برافدا Raskaya Pravda أو الحق الروسي، الثأر الشخصي والمبارزة القانونية، وتبرئه المتهم بناء على إيمان الشهود، ولكنه أوجد نظام المحاكمة على أيدي اثني عشر محلفين من المواطنين.وأنشأ فلاديمير مدرسة للأولاد في كيف، وأنشأ باروسلاف مدرسة أخرى في نفجورود. وكانت كيف وهي ملتقى السفن النهرية الآتية من أنهار يلخوف، ودفينا، ودنبير الأدنى تجبي الضرائب على المتاجر المارة بها، وسرعان ما بلغت من الثراء درجة أمكنتها من أن تشيد أربعمائة كنيسة، وكاتدرائية كبيرة-تضارع أيا صوفيا-على الطراز البيزنطي. وجيء بالفنانين اليونان ليزينوا هذه المباني بالفسيفساء، والمظلمات وغيرها من ضروب الزينة البيزنطية، ودخلت فيها الموسيقى اليونانية لتمهد السبيل إلى نصرة الأغاني الروسية الجماعية. وأخذت الروسيا ترفع نفسها على مهل من غمار الأوحال والتراب، وتبني القصور لأمرائها، وتقيم القباب فوق أكواخ الطين، وتستعين بقوة أبنائها وجلدهم على بناء جزائر صغرى من الحضارة في بحر لم يخرج بعد من مظلمات الهمجية.
روسيا المقدسة 1584 - 1645
الشعب
قال نادزدين في 1831: "ما عليك إلا أن تلقي نظرة على خريطة العالم ليتولاك الرعب إزاء قدر روسيا وما قسم لها". وكانت قد وصلت في 1638 إلى المحيط الهادي عبر سبريا، وإلى بحر قزوين عبر نهر الفولجا، ولم تكن على أية حال، فقد وصلت بعد إلى البحر الأسود، فقد اقتضى هذا حروباً كثيرة. ولم يجاوز عدد السكان عشرة ملايين في 1571.وكان يمكن أن توفر الأرض الغذاء لهذه الملايين في سهولة ويسر، ولولا أن الفلاحة الطائشة المهملة أنهكت المزرعة تلو الأخرى، فانتقل الفلاحون إلى أرض أقوى وأخصب.
ويبدو أن هذه النزعة إلى الهجرة أسهمت في نشأة الرقيق. ذلك أن معظم المستأجرين كانوا يحصلون من النبلاء ملاك الأرض على سلفيات لتنظيف المزرعة وتجهيزها بالأدوات وإعدادها للزرع. وكانوا يدفعون على هذه القروض نحو 20%، فلما عجز الكثير منهم عن سداد ما اقترضوا صاروا أرقاء لهؤلاء الملاك. لأن قانونا صدر في 1497 نص على أن يكون المدين المقصر في الدفع عبداً لدائنه حتى يوفي الدين.وتفادياً لهذه العبودية هرب بعض الفلاحين إلى معسكرات القوازق في الجنوب. وحصل بعضهم على حريته بالموافقة على استصلاح أراضي جديدة غير ممهدة. وبهذه الطريقة استوطنت سيبيريا، وهاجر بعضهم إلى المدن حيث اشتغلوا ببعض الحرف، أو اشتغلوا في المناجم أو صناعة المعادن أو صناعة الذخيرة، أو خدموا التجار، أو تجولوا في الشوارع يبيعون السلع. وشكا الملاك من أن هجرة المستأجرين عن المزارع- دون دفع ديونهم عادة- قد عوقت الإنتاج الزراعي؛ وجعلت من المتعذر على الملاك دفع الضرائب المتزايدة التي تطلبها الدولة. وفي 1581 وضماناً لاستمرار زرع الأرض؛ حرم إيفان الرهيب على المستأجرين لدى طبقة الأوبرشنيكي- رجال الإدارة- أن يتركوا المزارع دون موافقة الملاك؛ وعلى الرغم من أن هذه الطبقة كانت تفقد الآن مركزها الممتاز شيئاً فشيئاً. فقد بقي الرقيق الذي نشأ بهذه الطريقة يعمل في ضياعها. وسرعان ما طلب النبلاء ورجال الدين الذين تملكوا الجزء الأكبر من أرض روسيا؛ مستأجريهم بهذا. فكان الفلاحون الروس في الحقيقة؛ إن لم يكن بمقتضى القانون؛ أرقاء مرتبطين بالأرض.
وكانت روسيا لا تزال لاصقة بالهمجية. فالسلوك فظ غليظ؛ والنظافة ترف نادر؛ والأمية امتياز طبقي؛ والتعليم بدائي، والأدب في معظمه حوليات رهبانية أو عظات دينية أو نصوص طقسية، والكتب الخمسمائة التي نشرت في روسيا بين عامي 1613 و1682 كانت كلها تقريباً دينية. ولعبت الموسيقى دوراً هائلاً في الدين وفي البيت. وكان الفن خادماً للعقيدة الأرثوذكسية، وشادت الهندسة المعمارية كنائس معقدة زاخرة بأماكن الصلوات والمعابد الصغيرة الملحقة بها. وبالمباني الناشئة عنها، وبالقباب البصلية الشكل، مثل كنيسة عذراء الدون في موسكو. وزين فن الرسم جدران الكنائس والأديار بالرسوم الجصية التي حجب الآن معظمها، أو بالصور الدينية والأيقونات الغنية بالإبداع التصويري لا المهارة الفنية، كما هو الحال في كنيسة معجزة سان ميكاييل في كراكاو. وفي 1600 لم يعد رسم الأيقونات فناً بل أصبح صناعة تنتج قطعاً متماثلة على نطاق واسع، للتعبد والتبتل والتقوى داخل البيوت أما الإنتاج الفني البارز في هذا العصر فهو برج الناقوس الذي يبلغ ارتفاعه مائة متر- وهو برج إيفان فلكي (جون الأكبر) الذي أقامه أحد المهندسين الألمان في ميدان الكرملين (حوالي 1600) كجزء من برنامج بوريس جودونوف في الأشغال العامة لتخفيف حدة التعطل.
وفي الكنائس الفخمة المـتألقة بالزخارف الثمينة، المعتمة بالكآبة المتعمدة والتي تجلب النعاس بالطقوس المهيبة والتراتيل والصلوات الجهورية الرنانة، طبع رجال الدين الأرثوذكس الناس على التقوى والطاعة والأمل المتواضع. وقل أن تعاونت عقيدة ما مع الحومة مثل هذا التعاون الوثيق. وضرب القيصر المثل في التمسك المخلص الصادق بالدين وفي البر بالكنيسة، ولقاء هذا أحاطته الكنيسة، بدورها، بهالة من القداسة الرهيبة، وجعلت من عرشه حرماً منيعاً لا تنتهك حرمته، وغرست في الأذهان أن الخضوع له وخدمته واجب يلتزم به الناس أمام الله. وأسس بوريس جودونوف البطريركية الروسية مستقلة عن القسطنطينية (1598) ولمدة قرن من الزمان نافس مطران موسكو المقام السامي للقيصر ومكانته العالية، وفي بعض الأحيان تحدى سلطانه. وفي 1594 عندما أوقد البابا كليمنت الثامن إلى موسكو، بعثة تقترح اتحاد الكنيسة الأرثوذكسية واللاتينية تحت زعامة البابا، رفض بوريس الاقتراح قائلاً: "إن موسكو هي الآن رومة ذات المذهب القديم الحق (الأرثودكسي)". وجعل الجميع يوجهون الدعوات ويقيمون الصلوات من أجله وهو وحده بوصفه "الحاكم المسيحي على الأرض"(44).
بوريس جودونوف 1584 - 1605
لم يكن بوريس في الواقع بعد إلا حاكماً فقط. أما القيصر فكان فيودور الأول إيفانوفتش (1584- 1598)، الابن الهزيل لإيفان الرابع الرهيب وآخر أفراد "آل روريك" (مؤسس روسيا). وكان فيودور قد شهد موت أخيه الأكبر بضربة شيطانية من أبيه، فلم يشأ أن يتشبث بإرادته أو يعارض في شيء، وانزوى هرباً من مخاطر القصر، منصرفاً إلى العبادة والتبتل، وعلى الرغم من أن شعبه لقبه "بالقديس" فإنه أيقن أنه كانت تعوزه القوة والصلابة ليحكم الرجال. وكان إيفان الرابع قد عين مجلساً لتوجيه الشاب وتقديم النصح والمشورة له. ولكن أحد أعضائه، وهو أخو زوجة فيودور- بوريس جودونوف- سيطر وقبض على زمام الأمور، وأصبح حاكم البلاد.
وكان إيفان الرابع قد خلف من زوجته السابعة والأخيرة، ابناً آخر، هو ديمتري إيفانوفتش الذي كان آنذاك (1584) في الثالثة من عمره، ورغبة من المجلس في أن يجنب الطفل أخطار الدسائس- بخلاف دسائسه هو، أي المجلس- أرسل الطفل وأمه للإقامة في أوجليبش، على بعد نحو 120 ميلاً إلى الشمال من موسكو. وهناك في 1591 قضى ابن القيصر نحبه بطريقة لم يتم التحقق منها بعد. وتصدت إلى هذه البلدة لجنة للتحقيق في الحادث، يرأسها الأمير فاسيلي شويسكي أحد أعضاء المجلس، وجاء تقريرها يقول بأن الصبي قطع حلقومه في نوبة صرع ألمت به. ولكن أم ديمتري وجهت الاتهام بأنه قتل بأمر من جودونوف. ولكن جريمة بوريس لم تثبت قط، ولا تزال مثار جدل بين بعض المؤرخين. وأجبرت الأم على الترهب، ونُفي أقرباؤها من موسكو، وأضيف ديمتري إلى قائمة القديسين الأرثودكس، وطواه النسيان إلى حين.
وكان بوريس - مثل ريتشارد الثالث في إنجلترا- أكثر توفيقاً في الحكم أثناء وصايته على العرش، منه بعد تربعه عليه فيما بعد. وعلى الرغم من أنه كان ينقصه التعليم الرسمي النظامي، بل ربما كان أمياً، فقد أوتي مقدرة جبارة، ويبدو أنه بذل جهود مضنية لمواجهة مشاكل الحياة في روسيا. فأصلح الإدارة الداخلية، وحد من فساد القضاء، وأولى الطبقات الدنيا والوسطى عطفاً ورعاية، وكلف الأشغال العامة بتهيئة فرص العمل للفقراء من سكان المدن، وخفف من أعباء الأرقاء والتزاماتهم، وكان- كما يقول أحد كتاب الحوليات المعاصر- "محبوباً لدى كل الناس". وحظي باحترام الدول الأجنبية وثقتها. ولما مات القيصر فيودور الأول (1598) طلبت الجمعية الوطنية من جودونوف بالإجماع أن يتولى العرش. فقبله مع تظاهره بالمعارضة خجلاً من أنه غير جدير به، ولكن ثمة شبهة بأن عملاءه كانوا قد مهدوا السبيل في الجمعية الوطنية. ونازع جماعة من النبلاء من الذين كرهوا منه دفاعه عن طبقة العامة.نازعوا في حقه في اعتلاء العرش. تآمروا على خلعه، فأودع بوريس بعضهم السجن ونفى آخرين، وأرغم فيودور رومانوف (والد أول قيصر من أسرة رومانوف). على أن يدخل في سلك الرهبنة. ومات نفر من هذه المجموعة المغلوبة على أمرها. في ظروف مواتية لبوريس إلى حد اتهامه بتدبير قتلهم. ولما كان يعيش آنذاك في جو من الشك والفزع. فإنه بث العيون والأرصاد هنا وهناك. وأبعد المشتبه فيهم وصادر أملاكهم. وأعدم الرجال والنساء. وانهارت شعبيته الأولى. وتركته السنوات العجاف من (1600- 1604) بغير تأييد ومساندة من الأهالي الذين يتضورون جوعاً في مواجهة المكائد التي كان يديرها النبلاء في تصميم وعناد.
وثمة مكيدة أصبحت ذات شهرة في التاريخ، والأدب والموسيقى. ففي 1603 ظهر في بولندة شاب ادعى أنه ديمتري المفروض أنه مات. والوريث الشرعي لعرش فيودور إيفانوفتش. واعتبر بوريس الواثق من نفسه، أن هذا الشاب ليس إلا جريشكا أوتربيف الراهب الذي جرد من ردائه الكهنوتي، والذي كان من قبل في خدمة آل رومانوف. أما البولنديون الذين كانوا يخشون توسع روسيا، فقد سرهم أن يجدوا بينهم وفي متناول يدهم، من يطالب بالتاج المسكوفي، وابتهجوا أكثر من ذلك بزواج "ديمتري" هذا من بنت بولندية، واعتناقه الكاثوليكية. وتغاضى سجسمند الثالث الذي كان قد وقع لتوه (1602) هدنة مدتها عشرون عاماً مع روسيا، عن حشد ديمتري لمتطوعين بولنديين. وناصر الجزويت بشدة قضية هذا المدعي. وفي أكتوبر 1604 عبر ديمتري نهر الدنيير مع أربعة آلاف رجل. فيهم المنفيون الروس، وجنود مرتزقة ألمان، وفرسان بولنديون. وأيده النبلاء الروس سراً، ولو أنهم تظاهروا بالحياد. وانضم الفلاحون الآبقين إلى القوات المتقدمة، ورجب الشعب الجائع الذي طال انتظاره للتعلل بأمل كاذب، بديمتري الجديد، ورفع لواءه رمزاً للملكية الشرعية والأماني اليائسة. ووسط الهتاف تحرك الجمهور المتضرع نحو موسكو من الغرب، وانقض من الجنوب القوازق المستعدون دوماً للنزال. وانقلبت الحركة إلى ثورة.
ولما رأى بوريس أن هذا بمثابة غزو بولندي، بعث بجيشه إلى الغرب، وهزم فصيلة من قوات ديمتري، ولكنه لم يدرك البقية. ولم يتلقى جودونوف وهو قابع في قصر الكرملن إلا أنباء جمهور الرعاع الزاحف المتزايد عدده. والسخط الذي ينتشر، والأنخاب التي يشربها البويار (النبلاء) حتى في موسكو، في صحة ديمتري الذي أعلنوا على الشعب أنه ابن القيصر المقدس الذي اختاره الله ليكون قيصراً. وفجأة، وبعد شكوك وآلام مبرحة معروفة لدى بوشكين وموسور حسكي، ولا يعلم التاريخ عنها شيئاً- مات بوريس (13 إبريل 1605) وأوصى البطريك بسمانوف والنبلاء خيراً. ولكن البطريك والنبلاء تحولوا إلى المدعي، وقتل ابن جودونوف وأرملته، وفي غمرة النشوة الوطنية رحب، بديمتري الزائف، وتوج قيصراً على روسيا بأسرها.
زمن الشدائد 1605 - 1613
لم يكن القيصر الجديد حاكماً غير صالح، كما هي شيمة الملوك، ولم يكن ذا قوام يبعث على الرهبة ولا بهي الطلعة، ولكنه كان برغم هذا وذاك قادراً على امتشاق الحسام وامتطاء الخيل، مثل أي نبيل كريم المحتد. وتحلى القيصر الجديد برجاحة العقل وسعة الإدراك وفصاحة اللسان وحلاوة الشمائل، وبساطة غير متكلفة صدمت فواعد السلوك والتشريفات في حياة القصور. وأدهش موظفيه باهتمامه الجاد بالإدارة، كما أدهش جيشه بتولي تدريبه بنفسه. ولكن تعاليه على بيئته كان متعمداً واضحاً أكثر مما ينبغي. فأبدى احتقاره صراحة لخشونة النبلاء وأميتهم وجهلهم، واقترح إرسال أبنائهم لتلقي العلم في الغرب، وسعى إلى استقدام معلمين أجانب لتأسيس مدارس ثانوية في موسكو. وسخر من العادات الروسية، وأغفل الطقوس الأرثوذكسية، وأهمل تحية صور القديسين، وتناول طعامه دون أن ترش مائدته بالماء المقدس، وأكل لحم العجل الذي اعتبرته الطقوس نجساً. وأخفى- وربما لم يأخذ يوماً بمأخذ الجد- تحوله إلى الكاثوليكية، ولكنه أحضر إلى موسكو زوجته البولندية الكاثوليكية، يحف بها أخوة فرنسيسكان وممثل البابا. وكان في بطانته هو نفسه نفر من البولنديين والجزويت، وأنفق في سخاء من أموال الخزانة، فضاعف رواتب ضباط الجيش، وخصص لأصدقائه الضياع المصادرة من أسرة جودونوف. ولما كان لا يهوى السكون، كما كان رجلاً عسكرياً فإنه دبر حملة ضد خان القرم وأعلن الحرب عملياً بإرساله سترة من جلد الخنزير إلى الحاكم المسلم. وربما كاد أن يخلي موسكو من الجنود تماماً، بإصداره أوامره إليهم بالتحرك نحو الجنوب، وخشي النبلاء أنه كان يفتح العاصمة لغزوٍ بولندي.
وبعد اعتلاء ديمتري عرش روسيا ببضعة أسابيع تآمرت زمرة من النبلاء بزعامة شويسكي على خلعه. واعترف شويسكي بأنه لم يقر أو يعترف "بالمدعي" إلا لمجرد التخلص من جودونوف، أما الآن فيجب إبعاد الإدارة التي اصطنعت لهذا الغرض، وإجلاس نبيل أصيل على العرش. وكشف ديمتري المؤامرة، وأعتقل زعماءها، وبدلاً من الإسراع بإعدامهم، كما تقضي بذلك التقاليد، منحهم الحق في أن يحاكموا أمام الجمعية الوطنية التي اختير أعضاؤها لأول مرة من بين جميع الصفوف والطبقات. فلما أصدرت حكمها على شويسكي وآخرين بالإعدام خفف ديمتري الحكم إلى النفي، وبعد خمسة أشهر أباح للمنفيين العودة. وكان كثير من الناس يعتقدون أنه ابن إيفان الرهيب، ولكنهم شعروا الآن- بعد تصرفه على هذا النحو- أن مثل هذا الاعتدال أو الرفق غير التقليدي يلقي ظلالاً من الشك على أبوته الملكية. وعاد المتآمرون المعفو عنهم إلى تدبير المؤامرات من جديد. واشتركت فيها أسرة رومانوف التي احتمى ديمتري بظل الانتساب إليها. وفي 17 مايو 1606 اقتحم شويسكي الكرملن بأتباعه المسلحين. ودافع ديمتري عن نفسه دفاعاً مجيداً، وقتل بيده كثيراً من مهاجميه، ولكنه في النهاية غلب على أمره وذبح. وعرضت جثته في ساحة الإعدام، وألقى على وجهه قناع حقير، ووضع في فمه مزمار، ثم بعد ذلك أحرقت الجثة، وأطلق عليها مدفع حتى تذرو الرياح رمادها فلا تبعث من جديد بعد الآن.
ونادى النبلاء المنتصرون بشويسكي قيصراً تحت اسم فاسيلي الرابع: وآلى على نفسه ألا يعدم أحداً ولا يصادر أملاكاً، دون موافقة "الدوما" (مجلس النبلاء). وأقسم في كاتدرائية أوسبنسكي أغلظ الإيمان بأنه "لن يلحق بأي إنسان أذى دون موافقة المجلس "أي الجمعية العمومية التي تضم كل الطبقات". وغالباً ما انتهكت هذه الضمانات، ولكنها كانت على أية حال خطوة تاريخية على طريق تطوير الحكومة في روسيا.
وأخفقوا في تهدئة تلك العناصر الكبيرة من السكان التي تولاها الحزن والأسى لخلع ديمتري. فاندلعت ثورة في الشمال، ونصب زعيماً لها "ديمتري" زائف آخر، أمده سجسمند الثالث ملك بولندة بعون غير رسمي. فالتمس شويسكي العون من شارل التاسع ملك السويد، عدو سجسمند، وأرسل شارل قوة سويدية إلى روسيا، فأعلن سجسمند الحرب عليها، واستولى قائده زلكوسكي على موسكو، وخلع شويسكي (1610) وحمل إلى وارسو حيث أرغم على الترهب في أحد الأديار. واتفقت زمرة من النبلاء على الاعتراف بلادلاس- ابن سجسمند، البالغ من العمر أربعة عشر عاماً قيصراً على روسيا، شريطة المحافظة على استقلال الكنيسة الأرثوذكسية، ومساعدة الجيش البولندي للنبلاء في إخماد الثورة الاجتماعية التي كانت تهدد الحكومة الأرستقراطية في روسيا.
وكانت الثورة في بداية أمرها استنكاراً دينياً ووطنياً لتنصيب قيصر بولندي، ومنع هرموجنس بطريك الأرثوذكسية الشعب من حلف يمين الولاء لملك كاثوليكي. وقبض البولنديين عليه، وسرعان ما قضى نحبه في سجنه، ولكن نداءه جعل من المتعذر على لادسلاس أن يحكم البلاد. ودعا الزعماء الدينيون الشعب إلى طرد البولنديين بوصفهم كاثوليك مهرطقين. وبدا أن الحكومة نهار، وعمت الفوضى روسيا. واستولى الجيش السويدي على نوفجورود واقترح أن يتولى عرش روسيا أمير سويدي. ورفض الاعتراف بلادسلاس الفلاحين في الشمال والجنوب، والقوازق في الجنوب، وأقاموا حكماً خاصاً بهم في المقاطعات. وأعملت عصابات قطاع الطرق السلب والنهب في القرى والمدن، ونكلت بكل من يقاوم، وتعطلت الزراعة ونقص إنتاج الأغذية، واختلت وسائل النقل، وعمت المجاعة، واضطر السكان في بعض الأقسام إلى أكل لحوم البشر. ودخل جمهور ثائر موسكو، وفي غمرة الفوضى والشغب أشعل الحريق فأتت النار على معظم المدينة (9 مارس 1611) وتقهقرت الحامية البولندية إلى الكرملن، ترقب عبثاً قدوم سجسمند لنجدتها.
كوزما مينين يناشد سكان نژني نوڤگورود ليشكلوا جيش من المتطوعين لصد الغزاة البولنديين
وفي نژني نوڤگورود نظم قصاب يدعى كوزما مينين، جيشاً ثورياً آخر؛ يحدوه الإخلاص للأرثوذكسية، ودعا كل أسرة إلى التنازل عن ثلث ما تملك لتمويل الهجوم على العاصمة. وتم هذا بالفعل، ولكن الناس لن ينقادوا إلى زعيم غير ذي لقب. فدعا منين الأمير ديمتري بوجاركسي ليتولى القيادة، فقبل المهمة، وانطلق رجال الجيش الجديد إلى موسكو صائمين ضارعين، وما أن وصلوا حتى حاصروا الحامية البولندية في الكرملن، وصمدت الحامية إلى حد أنهم أكلوا الفئران ولحم البشر، وكانوا يغلون المخطوطات اليونانية ليحظوا على المرق، ثم استسلموا وفروا (22 أكتوبر 1613) وظلت ذكرى هذا العام حية عزيزة في أذهان الروس، على أنه عام التحرير، وعندما أجلي الفرنسيون بعد ذلك بقرنين من الزمان، عن موسكو التي جللها رماد الحريق مرة ثانية، أقام الروس المنتصرون نصباً تذكارياً لمنين وبوجارسكي، الجزار والأمير اللذين ضربا لهما أروع مثل للبطولة في 1612.
ودعا بوجارسكي والأمير ديمتري تروبتسكوي ممثلين علمانيين ودينيين عن كل أجزاء الإمبراطورية إلى مجلس لانتخاب ملك جديد. واستخدمت مختلف الأسرات نفوذها بطريقة خفيفة لتحقيق أغراض خاصة، ولكن كانت الغلبة آخر الأمر لأسرة رومانوف، واختار المجلس ميخائيل الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر آنذاك، وفي 21 فبراير 1613 نادى به قيصراً سكان موسكو الذين يمكن تجميعهم وتوجيههم بسرعة. وبعد أن أنقذ الشعب الدولة، نسب الفضل في ذلك، تواضعاً إلى النبلاء.
وقضت الحكومة الجديدة على الخلل الاجتماعي والثورة، وثبتت دعائم الرق وتوسعت فيه وهدأت من روع السويد بالتخلي عن انجريا، ووقعت مع بولندة هدنة مدتها أربعة عشر عاماً، وفكت الهدنة أسر فيودور رومانوف، والد ميخائيل، الذي طال أمد أسره. وكان بوريس قد أرغمه على الترهب، وأطلق عليه اسم الراهب فيلات. وعينه ابنه ميخائيل بطريريك موسكو، ورحب به مستشار له وبلغ من القوة والنفوذ حداً أطلق معه الشعب عليه اسم "القيصر الثاني". وتحت الحكم المزدوج الذي شارك فيه الوالد والولد وبرغم المزيد من الثورات والحروب؛ حققت روسيا يعد جيل من الفوضى، سلاماً مزعزعاً مقروناً بالسخط والاستياء. أن زمن الشدائد والمتاعب الذي بدأ بموت بوريس، اختتم باعتلاء ديمتري العرش، وهذا بدوره كان ابتداء عهد أسرة رومانوف التي قدر لها أن تحكم روسيا حتى عام 1917.
الامبراطورية الروسية
بطرس العظيم
جلب بيتر العظيم (1672-1725) الاستبداد إلى روسيا و لعب دورا رئيسيا في جلب بلاده إلى نظام الدول الأوروبية. من بداياتها المتواضعة في القرن 14 كامارة موسكو، أصبحت روسيا أكبر دولة في العالم في عهد بيتر. ثلاث مرات حجم أوروبا القارية امتدت روسيا على اوراسيا من بحر البلطيق إلى المحيط الهادئ. الكثير من توسعاتها وقعت في القرن 17، و بلغت ذروتها في التسوية الروسية الأولى في منطقة المحيط الهادئ في منتصف القرن 17، و استرداد كييف، و تهدئة قبائل سيبيريا. ومع ذلك ، فإن هذه الأراضي الشاسعة، لم يتجاوز عدد سكانها 14 مليون نسمة. غلة الحبوب متخلفة عن تلك الزراعة في الغرب (والتي يمكن تفسيرها جزئيا كنتيجة للظروف المناخية الأكثر تحديا ، ولا سيما في فصل الشتاء البارد الطويل و فترة الخضرة القصيرة قاهرة جميع السكان تقريبا من المزارع. سوى جزء صغير من السكان الذين عاشوا في المدن. روسيا لا تزال معزولة عن التجارة البحرية ، والاتصالات والتجارة الداخلية والعديد من الصناعات تعتمد على التغيرات الموسمية.
أول الجهود العسكرية لبيتر كانت موجهة ضد العثمانيين. ثم تحول انتباهه إلى الشمال. كان ما يزال بيتر يفتقر إلى ميناء آمن في الشمال باستثناء أرخانجيلسك على البحر الأبيض ، المرفأ الذي يتجمد لمدة تسعة أشهر في السنة. تم حظر وصوله إلى بحر البلطيق من قبل السويد، التي كانت ارضها محاطة من ثلاث جهات. طموحات بيتر للحصول على نافذة "إلى البحر" قادته في 1699 لانشاء تحالف سري مع الكومنولث البولندي اللتواني ضد السويد و الدنمارك، مما أدى إلى الحرب الشمالية العظمى. انتهت الحرب في 1721 عندما استنفدت قوى السويد و اثرت من أجل السلام مع روسيا. اكتسب بيتر أربع محافظات تقع جنوب و شرق خليج فنلندا، و بالتالي أمن وصوله إلى البحر. هناك ، في 1703 ، كان قد أسس المدينة التي كانت لتصبح العاصمة الروسية الجديدة حيث افتتح سانت بطرسبرغ باعتبارها "نافذة على أوروبا" لتحل محل موسكو ، المركز الثقافي الروسي لفترة طويلة. أصبح التدخل الروسي في الكمنويلث ملحوظا ، مع مجلس النواب الصامت ، بداية من 200 عاما من الهيمنة على تلك المنطقة من قبل الإمبراطورية الروسية. أثناء الاحتفال بغزواته ، غير بيتر لقبه إلى امبراطور عوض القيصر ، و أصبحت روسيا القيصرية رسميا الامبراطورية الروسية في 1721.
لإعادة تنظيم حكومته اعتمد بيتر على أحدث النماذج الغربية و صب روسيا إلى دولة استبدادية. حل محل دوما البويار القديم (مجلس النبلاء) مجلس شيوخ بتسعة اعضاء، في الواقع كان مجلسا أعلى للدولة. كما تم تقسيم الريف إلى مقاطعات و مناطق جديدة. وقال بيتر لمجلس الشيوخ ان مهمته هي جمع العائدات الضريبية. بمقابل ذلك تضاعفت عائدات الضرائب ثلاث مرات على مدار حكمه. كجزء من عملية إصلاح الحكومة، و الكنيسة الأرثوذكسية تم جزئيا دمجها في الهيكل الإداري للدولة، مما جعلها أداة للدولة. ألغى بيتر البطريركية و استعاض عنها بهيئة جماعية، المجمع المقدس، بقيادة من مسؤول حكومي. وفي الوقت نفسه ، كل ما تبقى من الحكم الذاتي المحلي قد أزيل، و استمر بيتر بتكثيف شرط خدمة الدولة لجميع النبلاء.
توفي بطرس الكبير في 1725 ، مما أسفر عن الخلافة في عالم غير مستقر و مستنفد. حكمه أثار تساؤلات حول تخلف روسيا، و علاقتها بالغرب، و مدى ملاءمة الإصلاح من أعلاه، وغيرها من المشاكل الأساسية التي واجهت العديد من حكام روسيا لاحقا. ومع ذلك ، كان قد أرسى أسس دولة حديثة في روسيا.
حكم الإمبراطورية (1725-1825)
ما يقرب من أربعين عاما كانت لتمر من أمام حاكم طموح نسبيا و يبدو قاسيا على العرش الروسي. كاترين الثانية ، أو الكبيرة ، كانت الاميرة الالمانية التي تزوجت بيتر الثالث، الوريثة الألمانية في التاج الروسي. وجدته غير كفء ، و وافقت كاترين ضمنا على قتله. كان قد اعلن انه قد مات بسبب سكتة دماغية ، وعام 1762 أصبحت المسيطرة.
ساهمت في ظهور طبقة النبلاء الروسية التي بدأت بعد وفاة بطرس الأكبر. ألغيت حالة الخدمة، و سر النبلاء من كاترين مع المزيد من تسليم معظم المهام الحكومية في المحافظات لهم.
كاترين العظمى مددت السيطرة الروسية السياسية على الكومنولث البولندي اللتواني بإجراءات بما في ذلك دعم كونفدرالية تارغوويكا، على الرغم من تكلفة حملاتها، على رأس هذا النظام القمعي الاجتماعي حيث يطالب اقنان اللوردات بقضاء وقتهم في أراضي اللوردات، مما أثار انتفاضة للفلاحين في 1773، بعد تقنين كاترين بيع العبيد منفصلين عن الأرض. مرددين صرخة تأكيدا "الموت لجميع اللوردات الملاك!" مستوحين ذلك من قوزاق آخر يدعى بوغاتشيف، هدد المتمردون باتخاذ موسكو قبل كانوا قمعها بلا رحمة. كاترين قد اخضعت بوغاشيف في الساحة الحمراء ، و لكن شبح الثورة كان ما يزال يؤرقهاو خلفاءها.
شنت كاترين بنجاح الحرب ضد الامبراطورية العثمانية المتداعية و متقدمة الحدود الجنوبية لروسيا إلى البحر الأسود. ثم ، من خلال التحالف مع حكام النمسا و بروسيا ، وقالت انها أدرجت أراضي الكومنولث البولندي اللتواني ، حيث بعد قرن من غير سيادة الروسية الأرثوذكسية الكاثوليكية أساسا السكان ساد خلال تقسيم بولندا ، ودفع الروس الحدود غربا إلى أوروبا الوسطى. في وقت وفاتها في عام 1796 ، قدمت سياسة كاترين التوسعية التي صنعت روسيا كقوة أوروبية كبرى. هذا مع استمرار الكسندر الأول انتزاع فنلندا من مملكة السويد الأضعف في 1809 و بيسارابيا من العثمانيين في عام 1812.
أقدم نابليون على زلة كبرى عندما أعلن الحرب على روسيا بعد خلاف مع القيصر الكسندر الأول و شن غزو روسيا في عام 1812. الحملة كانت كارثة. غير قادر على الانخراط بشكل حاسم و هزيمة الجيوش الروسية ، حاول نابليون فرض شروط من قبل القيصر لالتقاط موسكو في بداية فصل الشتاء. توقع ثبت عدم جدواه. غير مستعدين لخوض حرب في الشتاء الروسي ذي الطقس البارد ، الآلاف من الجنود الفرنسيين تعرضوا لكمين أو قتلوا على أيدي مقاتلي حرب العصابات الفلاحين. حين تراجعت قوات نابليون ، طاردتهم القوات الروسية في وسط و غرب أوروبا و إلى أبواب باريس. بعد هزيمة نابليون على ايدي روسيا و حلفائها، أصبح القيصر يعرف باسم الكسندر «منقذ أوروبا، و ترأس اعادة رسم خريطة أوروبا في مؤتمر فيينا (1815) ، الأمر الذي جعل الكسندر عاهل كونغرس بولندا.
تراجع نابليون عن موسكو
على الرغم من أن الإمبراطورية الروسية من شأنها أن تلعب دورا قياديا في سياسية القرن القادم، المضمونة من قبل هزيمة نابليون فرنسا، لكن الاحتفاظ بالاستعباد يحول دون التقدم الاقتصادي في أي درجة كبيرة. والنمو الاقتصادي المتسارع في أوروبا الغربية خلال الثورة الصناعية ، والتجارة البحرية و الاستعمار التي كانت قد بدأت في النصف الثاني من القرن 18 ، بدأت روسيا تتخلف وراء أبعد من أي وقت مضى ، و خلقت مشاكل جديدة
الامبراطورية روسيا في أعقاب الثورة الدجنبرية (1825-1917)
الدجنبريون في ساحة مجلس الشيوخ.
حجب دور روسيا كقوة عظمى في العالم عدم كفاءة حكومتها ، و العزل من سكانها ، والتخلف الاقتصادي. في أعقاب هزيمة نابليون ،كان الكسندر الأول على استعداد لمناقشة الاصلاحات الدستورية ، وعلى الرغم من قلتها لم تدخل تغيرات شاملة.
خلف القيصر شقيقه الأصغر ، نيقولا الأول (1825-1855) ، الذي كان في بداية عهده يواجه انتفاضة. على خلفية هذا التمرد تكمن الحروب النابليونية، عندما قام عدد من الضباط الروس المتعليمين بالسفر إلى أوروبا في أثناء الحملات العسكرية، حيث تعرضهم لليبرالية أوروبا الغربية شجعهم على السعي إلى التغيير عند عودتهم إلى الأوتوقراطية في روسيا. كانت النتيجة ثورة ديسامبر (ديسمبر 1825) ، عملت دائرة صغيرة من النبلاء الليبراليين و ضباط الجيش الذين كانوا يريدون تثبيت شقيق نيكولا كملك دستوري. ولكن كان من السهل سحق التمرد ، مما أدى بدوره إلى ابتعاد نيكولا عن برنامج التغريب التي بدأه بطرس الأكبر و بطل مذهب{ 0}التزمت و الاوتوقراطية و الجنسية.
في العقود الأولى من القرن 19 ، سعت روسيا إلى جنوب القوقاز والمرتفعات في شمال القوقاز . في عام 1831 سحق نيكولاس ثورة نوفمبر (1830) في كونغرس بولندا و سوف يعقبها على نطاق واسعثورة يناير البولندية و الليتوانية في عام 1863.
العدمية
في 1860 توسعت الحركة المعروفة باسم العدمية في روسيا. و أصل المصطلح ابتدعه ايفان تورجنيف في تقريره 1862 رواية الآباء و الأبناء ، يحبذ العدميين تدمير المؤسسات والقوانين البشرية ، القائمة على فكرة أن هذه المؤسسات والقوانين هي مصطنعة و فاسدة. في جوهرها ، فقد اتسمت العدمية الروسية من الاعتقاد بأن العالم يفتقر إلى مفاهيم المعنى و الحقيقة و الموضوعية أو القيمة. لبعض الوقت كان الكثير من الليبراليين الروس غير راضين عن ما اعتبروه المناقشات الفارغة من المثقفين. استجوب العدميون جميع القيم القديمة واحدثوا صدمة في المؤسسة الروسية. انتقلوا بغض النظر عن كونهم محض فلسفية إلى أن أصبحوا قوى سياسية كبيرة بعد التورط في قضية الإصلاح. تم تسهيل مسارهم من خلال الأعمال السابقة للدجنبريين الذين تمردوا عليهم في عام 1825 ، والعسر المالي والسياسي الناجم عن حرب القرم ، التي تسببت في فقدان ثقة عدد كبير من الشعب الروسي في المؤسسات السياسية.
حاول العدميون أولا تحويل الأرستقراطية كقضية الإصلاح.حين فشلوا هناك لجأوا إلى الفلاحين. حملتهم التي تستهدف الشعب بدلا من الطبقة الأرستقراطية أو نبلاء الأرض ، أصبحت تعرف باسم حركة نارودنيك. كان يستند الاعتقاد إلى أن الناس العاديين ، و المعروفين باسم نارود، يمتلكون الحكمة و القدرة السلمية لقيادة الأمة.
في حين أن حركة نارودنيك تكتسب زخما ، تحركت الحكومة بسرعة لاستئصال ذلك. ردا على رد الفعل المتزايد للحكومة ، دعى الفرع المتطرف للنارودنيك إلى ممارسة الارهاب. واحدا تلو الآخر ، أطلقت النار على مسؤولين بارزين أو قتلوا في انفجارات قنابل. هذا يمثل صعود الفوضوية في روسيا بوصفها قوة ثورية قوية. أخيرا ، وبعد عدة محاولات ، اغتيل الكسندر الثاني من الفوضويين في عام 1881 ، في نفس اليوم الذي كان قد وافق على اقتراح يدعو إلى انشاء مجلس ممثل للنظر في إصلاحات جديدة ، إضافة إلى إلغاء نظام القنانة التي تستهدف تخفيف حدة المطالب الثورية.
الاستبداد و رد فعل الكسندر الثالث
على عكس والده ، القيصر الجديد الكسندر الثالث (1881-1894) كان طوال فترة حكمه خاضعا لقوى الرجعية الذي أحيا القول المأثور : التزمت و الاوتوقراطية و الجنسية. اعتقد الكسندر الثالث القومي السلافي أن روسيا لا يمكن إنقاذها من الفوضى إلا بعزل نفسه عن التأثيرات الهدامة في أوروبا الغربية. في عهده اختتمت روسيا اتحاد مع جمهورية فرنسا لاحتواء القوة المتنامية لألمانيا، والانتهاء من الاستيلاء على آسيا الوسطى و فرض تنازلات اقليمية و تجارية هامة على الصين.
تراجع الجيش الروسي بعد معركة موكدين
كان قسطنطين بتروفيتش بوبيدونوستيف مستشار القيصر الأكثر نفوذا، معلم الكسندر الثالث و نجله نيكولاس، والنائب العام للمجمع المقدس من 1880 حتي 1895. درس تلاميذه المالكيين الخوف من حرية التعبير و الصحافة، و كرههم الديمقراطية والدساتير، والنظام البرلماني. تحت بوبيدونوستيف، تم قتل الثوريين و اعتماد سياسة إضفاء الطابع الروسي في جميع أنحاء الإمبراطورية.
نيكولاس الثاني و الحركة الثورية الجديدة
كان خلف الكسندر هو ابنه نيقولا الثاني (1894-1917). الثورة الصناعية ، التي بدأت بممارسة تأثير كبير في روسيا ، وفي الوقت نفسه كانت القوات من شأنها أن تخلق في النهاية إسقاط القيصر. سياسيا نظمت قوى معارضة هذه في الأحزاب المتنافسة إلى ثلاثة : العناصر الليبرالية بين أصحاب الرساميل الصناعية و النبلاء ، والذين آمنوا بالإصلاح الاجتماعي السلمي ، ونظام ملكي دستوري ، و تأسس الحزب الدستوري الديمقراطي أو كاديتس في عام 1905. أنشأ أتباع تقليد نارودنيك الحزب الاشتراكي الثوري أو ايسيرز في عام 1901 ، و بدؤا الدعوة إلى توزيع الأراضي بين أولئك الذين عملوا فعلا فيها كالفلاحين. وهناك مجموعة ثالثة أكثر راديكالية أسست حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسيالاشتركي أو RDSLP في عام 1898 ، وهذا الطرف هو الأس الأساسي لالماركسية في روسيا. جمعوا دعمهم من المثقفين المتطرفين و الطبقة العاملة في المدن ، و دعت إلى ثورة اجتماعية و اقتصادية و سياسية كاملة.
في عام 1903 انقسم RDSLP إلى جناحين : البلشفية الراديكالية ، بقيادة لينين ،و المناشفة المعتدلة نسبيا ، بقيادة صديق لينين السابق يولي مارتوف. اعتقد المناشفة بأن الاشتراكية الروسية سوف تنمو تدريجيا و سلميا، و ذلك ان نظام القيصر ينبغي أن يتحول إلى جمهورية حيث سوف يتعاون الاشتراكيون مع الأحزاب الليبرالية البورجوازية. البلاشفة ، تحت زعامة فلاديمير لينين ، دعوا إلى تشكيل نخبة صغيرة من من الثوريين المهنيين، تخضع لانضباط الحزب القوي، لتكون بمثابة طليعة البروليتاريا من أجل الاستيلاء على السلطة بالقوة.
الأداء الكارثي للقوات المسلحة الروسية في الحرب الروسية اليابانية كان ضربة كبرى للدولة الروسية وزادت من احتمالات حدوث قلاقل. في يناير 1905 ، وهو الحادث المعروف باسم "الأحد الدامي" وقعت عندما قاد الأب جابون الحشد الهائل إلى القصر الشتوي في سانت بطرسبرغ لتقديم التماس إلى القيصر. وفقا للدعاية الثورية ، عندما وصل الموكب إلى القصر ، فتح القوزاق النار على المتظاهرين ، مما أسفر عن مقتل المئات. كانت الجماهير الروسية مثارة بالمجزرة مما ادى إلى اعلان مطالبة بالجمهورية. هذه علامة على بداية الثورة الروسية في عام 1905 . ظهر السوفياتيون (مجالس العمال) في معظم المدن لمباشرة النشاط الثوري.
بيان أكتوبر منح الحريات المدنية و إنشاء أول برلمان.
في أكتوبر 1905 ، على مضض أصدر نيكولاس بيان أكتوبر الشهير ، والذي أقر إنشاء الدوما الوطني (البرلمان) ليتم استدعاؤه دون تأخير. الحق في التصويت مدد، وكان هناك قانون للذهاب إلى القوة من دون تأكيد من قبل مجلس الدوما.والجماعات المعتدلة كانوا راضين ؛ ولكن الاشتراكيين رفضوا تقديم تنازلات غير كافية ، وحاولوا تنظيم ضربات جديدة.بحلول نهاية عام 1905 ، كان هناك انقسام بين الإصلاحيين ، و موقف القيصر المتعزز آنذاك.
الثورة البلشفية
الثورة البلشفية أو ثورة أكتوبر كانت المرحلة الثانية من الثورة الروسية عام 1917 قادها البلاشفة تحت إمرة فلاديمير لينين وليون تروتسكي في 1917 بناء على أفكار كارل ماركس؛ لإقامة دولة شيوعية وإسقاط القيصرية. تعد الثورة البلشقية أول ثورة شيوعية في القرن العشرين الميلادي.