الثورة الفرنسية ونتائجها
مرسل: الاثنين ديسمبر 17, 2012 3:12 pm
منذ أيام لويس الرابع عشر وحتى وقت متقدم من النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت فرنسا مهيمنة في أوروبا، ولكن علامات التوتر كانت بادية عليها بمرور النصف الثاني من القرن الثامن عشر، فقد خسرت كندا ولم تستردها، ولو أن البريطانيين بالمقابل أصيبوا بالذل، كما ارتفعت ديون الملكية الفرنسية ارتفاعاً هائلاً، وراح وزراؤها الواحد تلو الآخر يحاولون إيجاد طريقة لتخفيض ديونها ومنحها ترتيبات مالية جديدة ومعقولة.
ولكن محاولاتهم كلها باءت بالفشل لأنهم عجزوا عن جعل الأغنياء يدفعون حصتهم الواجبة من الضرائب، وقد بين هذا أن الملكية الفرنسية المذهلة كانت ضعيفة من الداخل، فهي لم تكن ناجحة في جبي الموارد مثل نظام البرلمان البريطاني مثلاً. وألقي اللوم في هذا الوضع على كاهل النبلاء الفرنسيين.
ثم أعلن الملك أخيراً في عام 1789 أنه يعتزم استدعاء مجلس الطبقات، وهو مؤسسة من القرون الوسطى كانت أقرب ما عرفته فرنسا على البرلمان، وابتهج الناس لهذا الإعلان أيما ابتهاج لأن الأيام كانت عصيبة، ويبدو أن الجميع كانوا يعتقدون حينذاك أن الحكم في فرنسا سوف يكون حكماً أفضل إذا راعى إرادة الأغلبية.
الثورة الفرنسية الكبرى
عملية التغيير
لقد روعيت إرادة الأغلبية في النهاية فعلاً، ولكن بعد صراعات سياسية طويلة ومريرة، وعندما التأم مجلس الطبقات في أيار/مايو من عام 1789 راحت المظالم والمطالب تتعالى حول أمور كثيرة عدا عن العدالة في فرض الضرائب، وراحت أعداد متزايدة من الناس تتحول إلى السياسة من أجل إصلاح الأحوال وتقويمها.
وابتدأت عندئذٍ سلسلة متواصلة من التبدلات والتحولات الكبيرة، فأطيح بالدستور التاريخي لفرنسا، وتحولت الملكية المطلقة إلى ملكية دستورية أولاً ثم إلى جمهورية، وقطع رأسا الملك والملكة، ومات الآلاف من الناس في الحرب الأهلية، وتخلت الدولة عن ديانتها الكاثوليكية الوطنية القديمة، وبيعت أوقاف الكنيسة لصالح الدولة، عدا عن ألف تغيير وتغيير، وكانت تلك هي الثورة الفرنسية.
لقد تجادل الناس كثيراً حول تاريخ بداية الثورة الفرنسية وتاريخ انتهائها، ولكن يمكننا أن نقول أنها ابتدأت في عام 1789 وانتهت في عام 1799 عندما استولى نابليون بونابرت على السلطة من السياسيين وأعاد فرنسا إلى الطريق نحو الملكية، ولم يعرف الناس قط عقداً مثل ذلك العقد.
إن أكثر التغيرات تمت بحلول عام 1791، وكانت السنوات التالية حتى عام 1795 أكثر سنوات الثورة اضطراباً وهياجاً، ثم استقرت الأمور بعد ذلك إلى حد ما، وكانت فرنسا في ذلك الحين قد انقطعت عن جزء كبير من ماضيها، وأعادت بناء دستورها على أساس المساواة أمام القانون، إذ تم إلغاء طبقة النبلاء والتسامح الديني والحكم عن طريق جمعية وطنية مؤلفة من نواب منتخبين يحق لهم التشريع في أي أمر من الأمور بصرف النظر عن الحقوق والتقاليد.
إلا أن أشياء كثيرة من الماضي قد استمرت، ولاريب أن الحياة في الريف لم تتغير كثيراً، بالنظر إلى التقاليد القديمة المتأصلة، فلم تنتشر مثلاً العملة العشرية الجديدة المكونة من الفرنك والسنتيم والتي مازالت مستخدمة حتى اليوم، أسواق الريف إلا بعد عقود عديدة، وحتى بعد خمسين سنة من عام 1789 ظل بعض الفلاحين يحسبون باستخدام العملة القديمة من كورون وسو، وكانوا يستخدمون المقاييس القديمة بدلاً من المقاييس الحديثة من كيلومتر وهكتار.
ولكن الثورة مع هذا قلبت فرنسا رأساً على عقب، إن الكثيرين من الناس لم ينسوا ما حصل ولم يقبلوا به قط، وقد ظلت الثورة طوال القرن التالية محك الآراء السياسية، فإذا كنت مع الثورة فأنت تريد حق الانتخاب لأعداد أكبر من الناس، وتريد جمهورية، وتريد أن ينخفض نفوذ الكنيسة عما كان عليه قبل عام 1789، وأنت تؤمن بحرية التعبير والكلام وبأن الرقابة على الصحافة عمل فاسد.
أما إذا كنت ضد الثورة، فأنت تتطلع إلى حكومة قوية، وتسعى لإعادة نفوذ الكنيسة إلى حياة البلاد، وتعتقد أن الفساد هو السماح بانتشار الأفكار الضارة، وتعتبر الانضباط والنظام أهم من الحرية الفردية.
وهذا هو بصورة تقريبية الفرق بين اليسار واليمين الذي انتشر في سياسات الكثير من الدول الأوروبية الأخرى خلال القرنين التاليين، وقد اخترعت هاتان الكلمتان وبدئ باستخدامهما في عام 1789، عندما بدأ المحافظون يجلسون معاً عن يمين الرئيس في الجمعية الوطنية بينما بدأ الليبراليون (التحرريون) يجلسون معاً عن يساره.
إن انتشار مثل هذا التقسيم إلى يسار ويمين إلى دول أخرى فيما بعد لدليل على التأثير الهائل للثورة خارج فرنسا، ومنذ البداية كان بعض الثوار قد قالوا أن مايبغون فعله في فرنسا عن طريق الإصلاحات يمكن أن يتم بل يجب أن يتم في البلاد الأخرى أيضاً، وراحوا يدعون بقية الناس إلى اتباع السبيل نفسه.
وعندما وجدت فرنسا الجديدة في حالة حرب كما كانت الحال منذ عام 192 حتى آخر العقد، راحوا يصدرون ثورتهم إلى البلاد الأخرى بالقوة والدعاية، وراح القادة العسكريون الفرنسيون ينظمون الثورات ويؤسسون الجمهوريات الجديدة في الأراضي التي كانوا يغزونها.
وكان هذا من أسباب الحروب الكثيرة التي حدثت بعد عام 1792، لقد بدا أن فرنسا عادت على عهد نابوليون بونابرت الذي توج إمبراطوراً في عام 1804 إلى سيرتها الأولى من الفتوحات كما كان الأمر على عهد لويس الرابع عشر، ولكن هذه الفتوحات صارت الآن تحمل معها رياح الثورة.
كانت بريطانيا عدوة فرنسا الدائمة، فهي لم تعقد الصلح معها بين عامي 1763 و 1814 إلا مرة واحدة ولفترة وجيزة، وقد ربحت لعبة المنافسة الاستعمارية القديمة في النهاية بعد أن انكسرت القوة البحرية الفرنسية في عام 1805 في الانتصار البحري الكبير بمعركة الطرف الأغر. أما القتال على البر كان أمراً مختلفاً، صحيح أن البريطانيين كانت لديهم منذ زمن طويل قوات في إسبانيا، إلا أن الأعداد الهائلة التي هزمت فرنسا أخيراً في عام 1799 ثم في عامي 1812 و 1813 إنما أتت من جماهير فلاحي النمسا وبروسيا وخصوصاً روسيا.
كثيراً ما جلبت الجيوش الفرنسية معها التحرر بالرغم من ضراوة الثورة، وكانت الاحتلال الفرنسي يؤدي عادة إلى إلغاء النظام الإقطاعي وتحطيم الحكومات الطاغية المستبدة ويعزز مساواة البشر أماما القانون.
وهكذا كانت الثورة الفرنسية منذ البداية حتى الآن مثلاً عظيماً ومصدراً كبيراً للإلهام، وسوف ينهض الناس طوال القرن التالي في كافة أنحاء العالم ضد طغاة حقيقيين أو وهميين باسم المبادئ المثالية التي يلخصها أحد شعاراتها: حرية ، مساواة، أخوة. وهذا ما جعل الطغاة يخشونها.
وحتى عندما كان الناس لايتطلعون إلى الثورة للحصول على مطالبهم كانوا يستلهمون المبدأ الذي نادى به الثوار بأن للناس حقوقاً بحكم كونهم بشراً، لا لأنهم ورثوها من نظام أو قانون ما أو لأن لديهم تقاليد تاريخية تساندهم، وكان هذا سبباً آخر جعل الثورة الفرنسية حدثاً كبيراً في تاريخ العالم فضلاً عن أهميته في تاريخ فرنسا.
ولادة السياسة الحديثة
بعد عام 1815 سوف تأخذ السياسة في العالم بالتدريج لغتها ومبادئها من أوروبا، ومن أهم التيارات التي سادت في أوروبا بعد الثورة الفرنسية ازدياد أعداد الناس المشاركين في الحياة العامة، ولو بصورة شكلية جداً. وكانت العلامة الأساسية على هذا التطور في أكثر الدول هي اكتساب أعداد متزايدة من الناس لحقوق سياسية حقيقية وعملية.
وكانت بعض الحقوق من النوع السلبي، مثل حقك بأن لاتمنع الكلام مثلاً من دون قضية قانونية سليمة، وحقك بألا تسجن من دون محاكمة، وكانت هذه الأمر مكفولة تماماً للإنكليز بفضلة الوثيقة القانونية المسماة habeas corpus وهما الكلمتان اللاتينيتان اللتان يبدأ بهما نص الوثيقة، أما بعض الحقوق الأخرى فكانت من النوع الإيجابي، أي أنها تسمح لك بالقيام بشيء ما، وأهمها بلا شك هو حق التصويت الذي يتيح لك أن تشارك في اختيار حكامك.
من بين الدول الكبرى، كانت المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية في عام 1815 هما الدولتان الوحيدتان المتمتعتان بحقوق سياسية جيدة وواسعة الانتشار، ولكن قيوداً هامة ظلت قائمة حتى في هذين البلدين مثل القيود المفروضة على حق التصويت في إنكلترا مثلاً.
إلا أن المطالبة بالحقوق قد تعالت كثيراً في كل مكان عما كانت عليه قبل سنوات قليلة بفضل الثورة الفرنسية، فإذا لم تقم الثورة بالكثير لحماية تلك الحقوق فإنها قامت بالكثير للترويج لها. لقد بينت الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ عام 1789 أنها غير راغبة في منح مواطنيها حقوقاً سياسية، وعندما كانت تغزو البلاد الأخرى كانت تسلك سلوكاً طاغياً ومستبداً.
ولكنها بالرغم من ذلك قد مهدت الطريق كثيراً بأن أزالت الملكيات المطلقة القديمة مع القوانين المرتبطة بها، وكثيراً ما كانت جيوشها تفعل الشيء نفسه في الخارج، فبين عامي 1796 و 1814 صار جزء كبير من إيطاليا وألمانيا والبلاد الواطئة وسويسرا تحت حكم جمهوريات ذوات قوانين مبينة على صورة قوانين فرنسا الثورية.
والأهم من هذا هو إعلان حقوق الإنسان والمواطن العظيم الذي وافقت عليه الجمعية الوطنية في عام 1789 قد افتتح جدالاً انتشر في كافة أنحاء أوروبا، وسوف يتلوه إعلانان آخران خلال السنوات القليلة القادمة.
لقد أطلقت الثورة فكرة خصبة أخرى في مفهوم السيادة الوطنية في أوروبا، كان الثوار الفرنسيون يصرون على أن ممثلي الأمة كيفما تم اختيارهم هم الذين لهم الكلمة الأخيرة في التشريع، أي في وضع القوانين.
وماكانت هذه الفكرة لتسبب اضطراباً كبيراً في المملكة المتحدة في عام 1801، إذ كان فيها برلمان بعض أفراده بالوراثة، وبعضهم منتخبون من ضمن حلقة ضيقة، وكان يتمتع سلطات واسعة جداً؛ ولكنها كانت فكرة مؤرقة في البلاد الأخرى التي كان الناس فيها يعتبرون أنه لايجوز لأي كان ولا حتى للبرلمان أن يتدخل في المؤسسات والتقاليد القديمة.
وكانت تلك فكرة ثورية بالأخص في روسيا، حيث كان القيصر يدعي أن لسلالته حقاً من الله بأن تحكم بالشكل الذي تراه أصلح لروسيا، وسوف يظل آخر سليل له يسلك هذا المسلك حتى القرن العشرين، كما أنها كانت فكرة ثورية لدى الشعوب الخاضعة لحكم الأجانب كالبولنديين مثلاً.
وأخيراً فإن الثورة قد شككت بمكان الدين في الحياة السياسية، كان بعض مفكري التنوير قد شجبوا تأثيرات العقيدة الدينية على القانون والحكم، وفي النهاية صار بعض الثوار الفرنسيين يعتبرون الكنيسة عدوة للدولة، ولم يكونوا يقبلون ادعاء الكنيسة بأنها تحتكم إلى سلطة أعلى من سلطة الأمة نفسها، وقد أصبحت العلاقات بين الكنيسة والدولة بعد ذلك موضوعاً هاماً في جميع البلاد التي تحوي عدداً كبيراً من الكاثوليك.
عدا عن طرحهم للمواضيع الجديدة غير الثوار الفرنسيون أيضاً أساليب الكلام والتفكير في السياسة، فقد جعلوا محك الآراء السياسية هو درجة تأييد المرء للثورة أو مناوئته لها، فنشروا بذلك مفهوماً جديداً هو أن كل إنسان يمكن تحديد مكانه على طيف يمتد من أقصى الديمقراطية الجمهورية حتى أقصى التأييد المطلق، واعتبروا أن موقف الإنسان من الثورة أو النظام القديم بالإجمال يحدد موقفه من مصادرة أوقاف الكنيسة، أو حتى إيمانه بالتطور نفسه، وكان هذا التقسيم الثنائي البسيط للسياسة إلى يمين ويسار مناسباً لجزء كبير من أوروبا خلال القرن التالي ولكنه لم يكن مناسباً للسياسة في بريطانيا وأمريكا، بل إنه في الحقيقة لم يناسب هذين البلدين قط منذ مرحلة الثورة الفرنسية.
عودة الملكية بعد عام 1815
لقد أعادت الهزيمة النهائية لفرنسا في عام 1815 الشيء الكثير من البنية القديمة، وغابت الحياة السياسية الحقيقية عن أوروبا ماعدا البلاد الواقعة إلى الغرب من الراين وفي بعض الدول الألمانية والإيطالية الصغيرة.
فقد حدث بعض التقدم هناك نحو اكتساب حكومات دستورية، أي أن تتم إدارة الشؤون العامة ضمن حدود قوانين دستورية تمنع الاستخدام التعسفي للسلطة، وكثيراً ماكانت هناك أيضاً درجة ما من الحكم التمثيلي، وقد تمت بعض التغيرات بمساعدة الثورة، كما في إسبانيا وأجزاء من إيطاليا وفرنسا مثلاً، بينما تمت في بعضها الآخر بصورة سلمية كما في بريطانيا، حيث كانت توجد بالأصل حكومة دستورية فأصبح لها الآن قاعدة أوسع عن طريق توسيع جمهور الناخبين في عام 1833 ورفع القيود الباقية على بعض الطوائف الدينية، وكنت تجد في هذه الدول جميعاً شعوراً متزايداً بأن على الحكومة أن تسير مع الرأي العام.
أما في ألمانيا وإمبراطورية الهابسبرغ وبعض الدول الإيطالية أيضاً فلم يحدث شيء من هذا ويعود ذلك إلى أسباب عديدة، منه الرغبة الشخصية لحكام هذه الدول، ومنها سيطرة الحلف المقدس المكون من بروسيا والنمسا وروسيا على هذه المنطقة عام 1815، وثلاثتها تخشى عودة الثورة، لذلك كانت السيطرة على الحريات السياسية فيها أشد بكثير، وكانت الحكومات الدستورية نادرة، وحتى الحريات الأساسية مثل حرية التعبير والحركة والنشاط السياسي كانت قليلة جداً.
لم تحرز الحركة الجمهورية تقدماً في أي مكان قبل عام 1848، ولم تكن أي من الدول الأوروبية الكبرى جمهورية في بداية ذلك العام، وقد ظلت الطبقات الحاكمة القديمة تدير البلاد كما في السابق، أي بزعامة الأسر الأرستقراطية الكبرى التي طالما هيمنت على أوروبا، ولكنها كانت أحياناً خاصة في بريطانيا، تقدم بعض التنازلات عن طريق السماح لأفراد من طبقة النبلاء والطبقات الوسطى بمشاركتها في السلطة.
وكانت منظمات الطبقة العاملة قد ظهرت أيضاً، ولكن إذا كانت لها فعالية فإنها كانت مقتصرة على كسب تنازلات محددة لأفرادها، ولم تكن بقادرة على تبديل الترتيبات السياسية القائمة، ويبدو أن الخطر الأكبر على النظام القائم في ثلاثينيات أو أربعينيات القرن التاسع عشر كان متمثلاً بالحركة الوثيقية في إنكلترا التي سميت بهذا الاسم لأنها لخصت أهدافها في وثيقة الشعب التي أعدت لكي تقدم إلى البرلمان، وقد تحولت جميع أهدافها السياسية في النهاية إلى قوانين ماعدا واحداً منها، ولكن بعد أن ذوت الحركة نفسها بزمن طويل.
ولم يكن هناك في عام 1848 أي بلد يحق فيه لأغلبية السكان قانونياً أن يشتركوا بالسياسة، حتى الولايات المتحدة لم تكن تمنح حق التصويت إلى للذكور البالغين الأحرار، أما في المملكة المتحدة، فكان هناك أكثر من 400.000 ناخب، وكان هذا العدد أكبر من عدد الناخبين الموسع في فرنسا بعد الثورة التي جرت فيها في عام 1830 والتي وضعت نظاماً أكثر تحرراً. وسوف يزداد عدد الناخبين البريطانيين أيضاً بمقدار 50% تقريباً بعد قانون الإصلاح الكبير في عام 1832.
ولكن بالرغم من جميع التحفظات، يصح أن نقول بصورة عامة إن تقدماً حقيقياً قد تم في أوروبا نحو حكومات أكثر تحرراً ودستورية بعد الإطاحة النهائية بنابليون في عام 1815، ولو أن هذا التقدم كان مقتصراً على بلاد قليلة وأنه قد حصل أحياناً بصورة متقطعة وترافق بالثورات والمؤامرات.
ثم جاء عام 1848 وجاءت معه موجة عارمة من الثورات التي اكتسحت أنحاء القارة الأوروبية كلها، فابتهج لها دعاة التقدم في كل مكان ابتهاجاً عظيماً وبلغت آمالهم ذروة لم تبلغها من قبل قط، ولم تسلم حكومة من تأثيرات تلك الثورات من جبال البيريه إلى بحر البلطيق.
1848
مازال الجدل دائراً حول أسباب هذه الموجة من الثورات، إلا أن هناك بعض الحقائق الواضحة. لقد كانت أربعينيات القرن التاسع عشر بالإجمال سنوات سيئة في اقتصاد أوروبا، فقد حصل كساد في الأشغال ترك الكثيرين من أهل المدن بلا عمل، وأدى فساد المحاصيل وسوء الطقس في بعض الدول إلى حالة قريبة من المجاعة منذ عام 1846 فما بعد وما إن ابتدأت الثورات في عام 1848 حتى كل نجاح تحرزه الواحدة منها يمهد الطريق للثورة التالية، وكأن الأمر أشبه بالتفاعل التسلسلي في الانفجارات الذرية.
لقد حدثت أولى ثورات ذلك العام في صقلية بسبب تشكي السكان من حكم نابولي لجزيرتهم، وسرعان ما ترددت أصداؤها بصورة واسعة خارج إيطاليا. إلا أن الثورة الهامة التي أتت في الشهر التالي، أي في شهر شباط/فبراير في مدينة باريس.
لقد رأينا كيف جرت ثورة عام 1789 في فرنسا القارة كلها إلى الحرب، كما أن ثورة تموز/يوليو من عام 1830 قد سببت ثورات غيرها في دول أخرى، فمن الصحيح إذاً كما قال أحدهم أنه عندما تعطس باريس تصاب أوروبا بالرشح.
وهكذا كانت الثورة الفرنسية صدمة للناس وإلهاماً لهم في كافة الأراضي الواقعة إلى الشرق من نهر الراين والجنوب في جبال الألب، فامتدت الثورات في أنحاء ألمانيا وسقطت الوزارات والدساتير، وقد حدثت الانقلابات الكبرى في آذار/مارس عندما هزت الثورات كلا من فيينا وبرلين، وهما عاصمتا أكبر دول ألمانيا.
فدفعت الثورة الأولى بالكونت مترنيخ مستشار الهابسبرغ إلى المنفى، بعد أن كان يعتبر الدعامة الأساسية للنظام المحافظ المتمثل بالحلف المقدس.وسرعان ما حدثت ثورات أخرى في أجزاء أخرى من إمبراطورية الهابسبرغ في إيطاليا وهنغاريا وكرواتيا وبوهيميا، والأفظع من هذا هو حصول ثورة شعبية كبرى ثانية في باريس في حزيران/يونيو سحقت بوحشية كبيرة خلال أسبوع واحد من الاقتتال في الشوارع، لا على يد ملك بل على يد الجمهورية الفرنسية الجديدة.
وقد كانت تلك بداية انقلاب التيار، وعند نهاية عام 1849 كان يبدو أن الثورات لم تحرز شيئاً هاماً إلى في فرنسا حيث استمرت الجمهورية الجديدة، وفي بعض الدول الإيطالية التي احتفظت بالدساتير التي منحها لها حكامها خلال تلك الاضطرابات بينما عادة القوى المحافظة لتستعيد سيطرتها شيئاً فشيئاً، وقد تم تركيع الثوار حتى في إمبراطورية الهايسبرع بمساعدة الجيش الروسي، إذ أن روسيا قد سلمت من أي اضطراب خلال عام الثورات هذا كما عاد البابا إلى روما.
نتائج 1848 -1849
ولكن نتائج هذه الأحداث لم تقتصر على انتصار الرجعية المذكور، يمكننا أن نقول بصورة إجمالية إن مطالب الثورات المختلفة التي حدثت في عام 1848 كانت على ثلاثة أنواع، لقد ثار الفلاحون في أوروبا الشرقية للمطالبة بإلغاء أشغال السخرة والحقوق الإقطاعية التي كانت بيد أصحاب الأراضي، أي أنهم كانوا يسعون للحصول على ماحصل عليه الفرنسيون في عام 1789 وماجلبوه إلى بعض أنحاء ألمانيا عقب الثورة الفرنسية. وقد جلب عام 1848 إلى إمبراطورية الهابسبرغ وألمانيا وجزء كبير من بولندا نهاية الإقطاعية وعبودية الأرض، وكان هذا تقدماً عظيماً، وهكذا لم يعد للعبودية وجود فيما كان الأوروبيون المتعلمون يعتبرونه العالم المتحضر إلا في روسيا والأمريكتين.
أما النوع الثاني من المطالب التي قدمت عام 1848 فكانت بالإجمال مطالب المتحررين والمفكرين وأصحاب المهن العلمية من أبناء الطبقة الوسطى، والراغبين بحكومات أكثر دستورية وتمثيلية وبعدد أكبر من الوظائف في المناصب العامة على حساب الأرستقراطيات القديمة. ولهذا الأمر أسباب معقدة ومختلفة من مكان لآخر، منها أنها عندما ابتدأت الثورة حقاً راحت تهدد أسس المجتمع والأملاك مثل الثورة الاشتراكية التي حدثت في أيام حزيران في باريس، شعر الثوار أنهم قد تجاوزوا الحد، فتحالفوا مع سلطات النظام القديم، أي مع الملوك والأمراء الذين استردوا جرأتهم وراحوا يستخدمون جيوشهم لإعادة تثبيت سلطتهم. إلا أن بعض التحسينات الدستورية استمرت في ألمانيا بعد عام 1848، ولم تعد الأمور إلى القمع الشديد الذي كان على عهد مترنيخ.
من الأسباب الأخرى لفشل الثوريين أنهم كانوا منقسمين حول موضوع آخر، هو المطلب الثالث لعام 1848، لقد سمي ذلك العام ربيع الأمم لأن الكثير من الثورات كانت تسعى باسم الشعوب لأن تحكم أنفسها بدلاً من أن يحكمها الآخرون، ويصح هذا الأمر بالأخص على الهنغاريين والإيطاليين الذين كانوا يناضلون لكسر نير حكم النمسا.
والمؤسف أن الكثير من الوطنيين الذين حاربوا من أجل شعوبهم في عام 1848، كانوا لهذا السبب بالذات مستعدين لمحاربة شعوب أخرى عندما يشعرون أنها قد تشكل خطراً عليهم، وقد استمر بعض أحفادهم على هذا المنوال، منذ ذلك الحين حتى اليوم.