منهج الفلسفة القديمة و الفلسفة الحديثة
مرسل: الاثنين ديسمبر 17, 2012 3:25 pm
بسم الله الرحمن الرحيم
منهج الفلسفة القديمة و الفلسفة الحديثة
ظلت الفلسفة منذ عصر اليونان ، إلى عصر الرومان ، إلى العصر الإسلامي ، متأثرة كل التأثر بتعاليم أفلاطون وأرسطو ، وخاصة أرسطو .
واعتقد الناس أن ما جاء به أرسطو هو الحق ، وما بحث فيه ، فهو مجال البحث ، وما تركه فهو مجال الترك ، وبذلك أجلسوه على عرش يشبه عرش الألوهية ، حتى أنه لو قام البرهان المحسوس على فساد زعمه ، شكوا في عقولهم ، دون عقل أرسطو . فقد حكوا أن أرسطو قال : إن الشيء الثقيل والخفيف إذا ألقيا من مكان عال نزلا في زمانٍ واحد ، والتجربة تدل على أن الشيء الثقيل ينزل قبل الشيء الخفيف ، ومع ذلك صدق الناس ما قال أرسطو وكذبوا عقولهم . فإن قلنا إن أرسطو شل عقول الناس قروناً طويلة ، لم نكن بعيدين عن الصواب . وقد بحث أرسطو في كل الأشياء : من نبات ، وحيوان ، وأرض ، وسماء والإلهيات ، ونفوس كلية ، ونفوس بشرية ، وأخلاق ، واجتماع ، وغير ذلك ، ولكن المكانة الأولى كانت لما بعد الطبيعة ، لأنها متصلة بالأديان ، والأديان لها تأثير كبير في النفوس . فكان الفلاسفة يمرون مر الكرام على النبات والحيوان والطبيعة ، ثم يضعون أكبر اهتماماتهم فيما بعد الطبيعة ، فعل ذلك الكندي ، والفـارابي ، وابن سينا ، وابن رشد ، والقديس توما النصراني وغيرهم .
وبحث أرسطو فيما بعد الطبيعة في أشياء كثيرة ، من أهمها : هل المادة قديمة أو حادثة . وذهب أنها قديمة ، كما بحث في : كيف صدر العالم عن الله ، وكيف تطور ، كما بحث في النفس الإنسانية ، وهل تخلد بعد الموت ، وإن كانت تخلد فهل الذي يخلد هو النفس الكلية ، أو النفوس الفردية ؟ وذهب إلى أن الذي يخلد هو النفس الكلية . وإذا كان كذلك ، فما معنى الثواب والعقاب ، وأن كل إنسان يجازى بعمله ، وإلى أمثال ذلك من المباحث التي تعرضّ لها الدين أيضاً ، فمن أهم أسس الدين خلق الله للعالم ، وأنه هو وحده الأزلي الأبدي ، وأن النفس الفردية تبعث بعد الموت ، وتجازى على عملها . وقد ذهب في هذا فلاسفة المسلمين إلى ثلاثة أقسام : قسم كابن سينا وابن رشد وإخوان الصفاء حاولوا أن يوفقوا بين الفلسفة والدين ، كما فعل ابن رشد في تأليفه كتاب (( فصل المقال فيما بين الشريعة والفلسفة من الاتصال )) فقالوا إن الدين صحيح ، والفلسفة صحيحة ، فيجب أن نوفق بينها ، وقسم كالغزالي ندد بالفلسفة وأنكرها ، وقال إن تعاليم الدين هي الصحيحة ، وتعاليم الفلسفة خطأ في خطأ ، وألف في ذلك كتابه (( تهافت الفلاسفة )) وقسم قالوا إن التوفيق بين الدين والفلسفة خطأ ، وأن الدين صحيح ، والفلسفة صحيحة ، ولكن لكل منها منطقة نفوذ ، لا يصح أن يعتدي أحدهما على الآخر . فالعاقل يتبع الدين في مجال الدين ، والفلسفة في مجال الفلسفة ، فما أتى به الدين في البعث والنشر واليوم الآخر ، وخلق العالم يؤخذ قضية مسلمة متى اعتنق الإنسان الدين ، وما أتت به الفلسفة من طبيعيات وكيماويات ومنطق ونحو ذلك يفهم ويبحث وينسق .
ومن أمثلة هذا القسم أبو سليمان المنطقي ، فقد عاب على إخوان الصفاء منهجهم ، وقال : إنهم حاولوا التوفيق عبثاً ، وأياً ما كان ، فقد ظلت تعاليم أرسطو مقدسة عند فلاسفة المسلمين ، وانتقلت منهم في القرون الوسطى إلى علماء اللاهوت في أوروبا ، وعلى الأخص ابن رشد ، ووفقوا بين الدين والفلسفة كما قال ابن رشد ، ومن أثر هذه الفلسفة أنها تجعل صاحبها أميل إلى تصديقها أكثر من الدين ، والاعتقاد بأن الدين للجماهير والخاصة ، والفلسفة للخاصة ، وأخيراً وبعد قرون طويلة حدثت النهضة في أوروبا ، وجاءت فلاسفة لم يخضعوا لأرسطو ، وإنما خضعوا للحقيقة ، وكان على رأسهم الفيلسوف بيكون . قال : إن عقل الإنسان تتحكم فيه أوهام ، ومن ضمن الأوهام تقديس أرسطو وأمثاله ، أرسطو حقاً عقل كبير ، ولكنه يخطئ أيضاً ويصيب .
قالوا : ونحن لا نريد أن نؤمن إلا بما تدل عليه المشاهد والتجربة ، ووضعوا مكان أرسطو المعامل التجريبية ، يجربون فيها نظريات الطبيعة والكيمياء وحتى نظريات علم النفس . فما لم تدل على صحته هذه التجارب لا نصدق به . فقد كان أرسطو يسرف في اعمال القياس في المنطق ، فمثلاً يرى أن الماء إذا غلي مراراً يتبخر ، وأن اللبن كالماء إذا غلي كذلك مراراً تبخر ، فوضع نظرية تبخر الماء واللبن ، ولكن بيكون قال : إن هذا لا يكفي في التجربة ، بل لا بد من تجارب إيجابية ، وتجارب سلبية ، حتى تثبتت النظرية ، فمثلاً إذا سخن الماء مراراً فتبخر ، هذه تجربة إيجابية . ويجب أن يضاف لها تجربة أخرى عكسية ، وهي تبريد الماء فيتجمد ، ثم رأوا أن البحث في الأشياء الإلهية التي بحث فيه أرسطو وأتباعه , كخلق العالم ، والبعث والنشور ، ونحو ذلك ، أمور لا يمكن إثباتها ولا نفيها . وإنما هي أمور يمكن تصديقها عن طريق الدين . فمتى اعتقد الإنسان بإله ونبي وأتى النبي بهذه التعاليم ، أمكن التصديق بها تصديقاً مسلماً به . ومن أجل ذلك سميت الكائنات الطبيعية عالم الشهادة ، والموجودات الأخرى الغيبية عالم الغيب ، والعلم في عالم الغيب يدور حول نفسه ولا يتقدم ، لأن المشاهدة والتجربة لا تعملان فيه شيئاً . ولذلك قسم اسبنسر الموجودات إلى ثلاثة أقسام ، معلوم كالطبيعيات ، وغير معلوم كذات الله تعالى وصفاته ، وما لا يمكن معرفته بوسائلنا الخاصة ، كالموت والحياة واليوم الآخر وأمثال ذلك . ولما أيقنوا ان البحث فيما بعد الطبيعة غير ذي فائدة اتجهوا إلى الطبيعيات ، وبنوا عليها نظرياتهم واكتشافاتهم . فتقدموا تقدماً كبيراً في بحث المادة وخصائصها ، وبنوا عليها المخترعات الحديثة مما بهر الأنظار ، وأصبحت الفلسفة تبنى على المشاهدة والتجربة ، وأكملوا منطق أرسطو الصوري بمنطق المادة ، كالبحث في الفروض والنظريات والحقائق . ولم يكتفوا بأشكال القياس مثلاً ، بقطع النظر عن المقدمات هل هي صحيحة أو ليست صحيحة ، وقالوا إن عقل الإنسان عقل قاصر ، لا يستطيع البحث إلا في عيش ووسائل العيش . أما عدا ذلك من البحث في أصل الحياة , والحياة بعد الموت ، واليوم الآخر ، فهذه أمور لم يمنح العقل البشري القدرة على إثباتها والبرهنة عليها ، فهي تأخذ عن طريق الدين , ويصدق بها على أنها قضايا مسلمة . وبعضهم تغالى ، وأنكر ما ليس مادة تخضع للمشاهدة والتجربة . ولذلك قالوا : إن الدين يبتدئ حيث ينتهي العلم . ومعنى ذلك أن العلم لا يستطيع السير إلا في المادة بسيطها ومركبها ، فإذا هو تجاوزها ، فلا يستطيع السير ، ويمكن الإنسان أن يكون عالماً ومتديناً في وقت معاً ، فيذهب إلى المسجد ليصلي ، ويخرج ليشتغل في المعمل ، ويرى ويجرب ، وهذا شئ ، وهذا شئ ، وهذه منطقة نفوذ ، وهذه منطقة نفوذ . وليس يسلم العلم دائماً إلى الإلحاد . بل كثير من العلماء رأوا في هذه المادة ما يعجزهم عن فهمها فهماً حقيقياً ، إلا إذا فهموا أن وراءها إلهاً مدبراً ، وقد كان ابن رشد يقول : إن اشتغاله بتشريح أعضاء الجسم الإنساني أكسبه إيماناً فوق إيمانه ، وغيره زاده إيماناً اشتغاله برصد الكواكب وحركتها ، وغيرهما زاده إيماناً رؤية العالم وما فيه من نظام وتناسق ، فحيث لا تكون للطفل أسنان يكون هناك لبن ، وحيث توجد له أسنان توجد لحوم وبقول ، وعلماء الذرة اليوم يقفون على أشياء في الكون تستوجب العجب ، ومن وراء العجب الإيمان .
على كل حال نريد أنقول : إن البحث في الفلسفة القديمة كان دائراً حول نفسه ، لم يقدم للناس شيئاً ، ومنهج البحث في الفلسفة الحديثة من عدم تقديس ما قاله العلماء ، وبناؤه على المشاهد والتجربة ، قدم العالم تقدماً كبيراً . وأسوق هذا لأنصح المسلمين أن يبنوا بحوثهم ويتجهوا في اتجاهاتهم إلى ما ينبغي عليه في الحياة عمل ، دون ما يقتصر على سفسطة أو جدل . وفي ذلك يعجبني الأمام مالك ، فقد كان لا يفرض فروضاً ، وإذا عرضت عليه مسألة سأل : أينبني عليها عمل أم لا ، فإن كان ينبني عليها عمل أفتي ، وإلا لا
منهج الفلسفة القديمة و الفلسفة الحديثة
ظلت الفلسفة منذ عصر اليونان ، إلى عصر الرومان ، إلى العصر الإسلامي ، متأثرة كل التأثر بتعاليم أفلاطون وأرسطو ، وخاصة أرسطو .
واعتقد الناس أن ما جاء به أرسطو هو الحق ، وما بحث فيه ، فهو مجال البحث ، وما تركه فهو مجال الترك ، وبذلك أجلسوه على عرش يشبه عرش الألوهية ، حتى أنه لو قام البرهان المحسوس على فساد زعمه ، شكوا في عقولهم ، دون عقل أرسطو . فقد حكوا أن أرسطو قال : إن الشيء الثقيل والخفيف إذا ألقيا من مكان عال نزلا في زمانٍ واحد ، والتجربة تدل على أن الشيء الثقيل ينزل قبل الشيء الخفيف ، ومع ذلك صدق الناس ما قال أرسطو وكذبوا عقولهم . فإن قلنا إن أرسطو شل عقول الناس قروناً طويلة ، لم نكن بعيدين عن الصواب . وقد بحث أرسطو في كل الأشياء : من نبات ، وحيوان ، وأرض ، وسماء والإلهيات ، ونفوس كلية ، ونفوس بشرية ، وأخلاق ، واجتماع ، وغير ذلك ، ولكن المكانة الأولى كانت لما بعد الطبيعة ، لأنها متصلة بالأديان ، والأديان لها تأثير كبير في النفوس . فكان الفلاسفة يمرون مر الكرام على النبات والحيوان والطبيعة ، ثم يضعون أكبر اهتماماتهم فيما بعد الطبيعة ، فعل ذلك الكندي ، والفـارابي ، وابن سينا ، وابن رشد ، والقديس توما النصراني وغيرهم .
وبحث أرسطو فيما بعد الطبيعة في أشياء كثيرة ، من أهمها : هل المادة قديمة أو حادثة . وذهب أنها قديمة ، كما بحث في : كيف صدر العالم عن الله ، وكيف تطور ، كما بحث في النفس الإنسانية ، وهل تخلد بعد الموت ، وإن كانت تخلد فهل الذي يخلد هو النفس الكلية ، أو النفوس الفردية ؟ وذهب إلى أن الذي يخلد هو النفس الكلية . وإذا كان كذلك ، فما معنى الثواب والعقاب ، وأن كل إنسان يجازى بعمله ، وإلى أمثال ذلك من المباحث التي تعرضّ لها الدين أيضاً ، فمن أهم أسس الدين خلق الله للعالم ، وأنه هو وحده الأزلي الأبدي ، وأن النفس الفردية تبعث بعد الموت ، وتجازى على عملها . وقد ذهب في هذا فلاسفة المسلمين إلى ثلاثة أقسام : قسم كابن سينا وابن رشد وإخوان الصفاء حاولوا أن يوفقوا بين الفلسفة والدين ، كما فعل ابن رشد في تأليفه كتاب (( فصل المقال فيما بين الشريعة والفلسفة من الاتصال )) فقالوا إن الدين صحيح ، والفلسفة صحيحة ، فيجب أن نوفق بينها ، وقسم كالغزالي ندد بالفلسفة وأنكرها ، وقال إن تعاليم الدين هي الصحيحة ، وتعاليم الفلسفة خطأ في خطأ ، وألف في ذلك كتابه (( تهافت الفلاسفة )) وقسم قالوا إن التوفيق بين الدين والفلسفة خطأ ، وأن الدين صحيح ، والفلسفة صحيحة ، ولكن لكل منها منطقة نفوذ ، لا يصح أن يعتدي أحدهما على الآخر . فالعاقل يتبع الدين في مجال الدين ، والفلسفة في مجال الفلسفة ، فما أتى به الدين في البعث والنشر واليوم الآخر ، وخلق العالم يؤخذ قضية مسلمة متى اعتنق الإنسان الدين ، وما أتت به الفلسفة من طبيعيات وكيماويات ومنطق ونحو ذلك يفهم ويبحث وينسق .
ومن أمثلة هذا القسم أبو سليمان المنطقي ، فقد عاب على إخوان الصفاء منهجهم ، وقال : إنهم حاولوا التوفيق عبثاً ، وأياً ما كان ، فقد ظلت تعاليم أرسطو مقدسة عند فلاسفة المسلمين ، وانتقلت منهم في القرون الوسطى إلى علماء اللاهوت في أوروبا ، وعلى الأخص ابن رشد ، ووفقوا بين الدين والفلسفة كما قال ابن رشد ، ومن أثر هذه الفلسفة أنها تجعل صاحبها أميل إلى تصديقها أكثر من الدين ، والاعتقاد بأن الدين للجماهير والخاصة ، والفلسفة للخاصة ، وأخيراً وبعد قرون طويلة حدثت النهضة في أوروبا ، وجاءت فلاسفة لم يخضعوا لأرسطو ، وإنما خضعوا للحقيقة ، وكان على رأسهم الفيلسوف بيكون . قال : إن عقل الإنسان تتحكم فيه أوهام ، ومن ضمن الأوهام تقديس أرسطو وأمثاله ، أرسطو حقاً عقل كبير ، ولكنه يخطئ أيضاً ويصيب .
قالوا : ونحن لا نريد أن نؤمن إلا بما تدل عليه المشاهد والتجربة ، ووضعوا مكان أرسطو المعامل التجريبية ، يجربون فيها نظريات الطبيعة والكيمياء وحتى نظريات علم النفس . فما لم تدل على صحته هذه التجارب لا نصدق به . فقد كان أرسطو يسرف في اعمال القياس في المنطق ، فمثلاً يرى أن الماء إذا غلي مراراً يتبخر ، وأن اللبن كالماء إذا غلي كذلك مراراً تبخر ، فوضع نظرية تبخر الماء واللبن ، ولكن بيكون قال : إن هذا لا يكفي في التجربة ، بل لا بد من تجارب إيجابية ، وتجارب سلبية ، حتى تثبتت النظرية ، فمثلاً إذا سخن الماء مراراً فتبخر ، هذه تجربة إيجابية . ويجب أن يضاف لها تجربة أخرى عكسية ، وهي تبريد الماء فيتجمد ، ثم رأوا أن البحث في الأشياء الإلهية التي بحث فيه أرسطو وأتباعه , كخلق العالم ، والبعث والنشور ، ونحو ذلك ، أمور لا يمكن إثباتها ولا نفيها . وإنما هي أمور يمكن تصديقها عن طريق الدين . فمتى اعتقد الإنسان بإله ونبي وأتى النبي بهذه التعاليم ، أمكن التصديق بها تصديقاً مسلماً به . ومن أجل ذلك سميت الكائنات الطبيعية عالم الشهادة ، والموجودات الأخرى الغيبية عالم الغيب ، والعلم في عالم الغيب يدور حول نفسه ولا يتقدم ، لأن المشاهدة والتجربة لا تعملان فيه شيئاً . ولذلك قسم اسبنسر الموجودات إلى ثلاثة أقسام ، معلوم كالطبيعيات ، وغير معلوم كذات الله تعالى وصفاته ، وما لا يمكن معرفته بوسائلنا الخاصة ، كالموت والحياة واليوم الآخر وأمثال ذلك . ولما أيقنوا ان البحث فيما بعد الطبيعة غير ذي فائدة اتجهوا إلى الطبيعيات ، وبنوا عليها نظرياتهم واكتشافاتهم . فتقدموا تقدماً كبيراً في بحث المادة وخصائصها ، وبنوا عليها المخترعات الحديثة مما بهر الأنظار ، وأصبحت الفلسفة تبنى على المشاهدة والتجربة ، وأكملوا منطق أرسطو الصوري بمنطق المادة ، كالبحث في الفروض والنظريات والحقائق . ولم يكتفوا بأشكال القياس مثلاً ، بقطع النظر عن المقدمات هل هي صحيحة أو ليست صحيحة ، وقالوا إن عقل الإنسان عقل قاصر ، لا يستطيع البحث إلا في عيش ووسائل العيش . أما عدا ذلك من البحث في أصل الحياة , والحياة بعد الموت ، واليوم الآخر ، فهذه أمور لم يمنح العقل البشري القدرة على إثباتها والبرهنة عليها ، فهي تأخذ عن طريق الدين , ويصدق بها على أنها قضايا مسلمة . وبعضهم تغالى ، وأنكر ما ليس مادة تخضع للمشاهدة والتجربة . ولذلك قالوا : إن الدين يبتدئ حيث ينتهي العلم . ومعنى ذلك أن العلم لا يستطيع السير إلا في المادة بسيطها ومركبها ، فإذا هو تجاوزها ، فلا يستطيع السير ، ويمكن الإنسان أن يكون عالماً ومتديناً في وقت معاً ، فيذهب إلى المسجد ليصلي ، ويخرج ليشتغل في المعمل ، ويرى ويجرب ، وهذا شئ ، وهذا شئ ، وهذه منطقة نفوذ ، وهذه منطقة نفوذ . وليس يسلم العلم دائماً إلى الإلحاد . بل كثير من العلماء رأوا في هذه المادة ما يعجزهم عن فهمها فهماً حقيقياً ، إلا إذا فهموا أن وراءها إلهاً مدبراً ، وقد كان ابن رشد يقول : إن اشتغاله بتشريح أعضاء الجسم الإنساني أكسبه إيماناً فوق إيمانه ، وغيره زاده إيماناً اشتغاله برصد الكواكب وحركتها ، وغيرهما زاده إيماناً رؤية العالم وما فيه من نظام وتناسق ، فحيث لا تكون للطفل أسنان يكون هناك لبن ، وحيث توجد له أسنان توجد لحوم وبقول ، وعلماء الذرة اليوم يقفون على أشياء في الكون تستوجب العجب ، ومن وراء العجب الإيمان .
على كل حال نريد أنقول : إن البحث في الفلسفة القديمة كان دائراً حول نفسه ، لم يقدم للناس شيئاً ، ومنهج البحث في الفلسفة الحديثة من عدم تقديس ما قاله العلماء ، وبناؤه على المشاهد والتجربة ، قدم العالم تقدماً كبيراً . وأسوق هذا لأنصح المسلمين أن يبنوا بحوثهم ويتجهوا في اتجاهاتهم إلى ما ينبغي عليه في الحياة عمل ، دون ما يقتصر على سفسطة أو جدل . وفي ذلك يعجبني الأمام مالك ، فقد كان لا يفرض فروضاً ، وإذا عرضت عليه مسألة سأل : أينبني عليها عمل أم لا ، فإن كان ينبني عليها عمل أفتي ، وإلا لا