صفحة 1 من 1

اذا خاصم فجر

مرسل: السبت مارس 28, 2009 3:17 pm
بواسطة ذي قار

ينقل الينا تاريخنا الجميل حكايات رائعه بل اكثر من ذلك عن تلك الايام التي عاشها السلف الصالح وتابعيهم او من سبقهم حين نسجت مواقفهم واخلاقهم فيها حكايات وروايات اشبه بالحلم الجميل او طيف وردي من خيال حالم عن تعاطيهم الحياتي الراقي مع شتى مجالات الحياة وظروفها ايا كانت وكان نوعها حيث كان السمو الاخلاقي المؤطر بالعدل الشعار الطاغي والحاضر المطلق للتعامل مع الاخر بغض النظر عن دين او عرق او حتى طائفة او نسب هذا الاخر ، حيث التعامل على اسس انسانية نابعة من فهم واع وادراك عميق وحقيقي لجوهر حسن الخلق حيث فضاء المرؤة بعيدا عن العصبية والتشدد اللامنطقي او العقلاني لدين او طائفة او عرق ، او حتى لشهوة العناد التي يغذيها الشيطان في التشدد للراي او الموقف حتى تصل بصاحبها الى الفجور لاثبات الراي ووجهة النظر وان كانت تحمل الخطأ .. فقط الحق والعدل ولا سواهما هو الهدف في حقيقية التواصل بينهم والاخرين ولو على انفسهم ..
فها هو خليفة المسلمين الثاني عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) يوجز ذلك برده على الخليفة ابو بكر وهو يتنحى عن منصب القضاء قائلا ..
يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الناس يعرفون حقوقهم ويخشون الله سبحانه وتعالى فلماذا اقضي بينهم لي عام كامل لم تأتني خصومة واحدة فلا داعي لتولي القضاء.

نعم اذا كان الناس يعرفون حقوقهم ويخشون الله تعالى فلم القضاء بينهم وهم يقضون فيما بينهم .. حين يعي المرء معنى العدل فلن يجد صعوبة او ضرار في التعامل مع الاخرين وفق هذا المنحى بل ستمنعه مرؤته من اللجوء الى غيرة وساعتها لن تجد منه خصومة في شيئ حيث القضاء من النفس قبل الاخرين .. شعار يرتكز عليه العاقل الحكيم الذي لايخرجه عن الحق والاعتراف بالخطأ شيئ وان كان في موقع القيادة او السلطان ..

هكذا كان حال قادة الجيش الاسلامي الفاتح لسمرقند حين باغتها قائده ( قتيبة بن مسلم ) واستولى عليها دون ان يخيرهم كعادة الجيوش الاسلامية قبيل المواجهة بين الاسلام او الجزية او الحرب فاشتكى اهلها الى خليفة المسلمين انذاك .. عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فارسل للنظر بشكواهم من قبل قاض ، ولما استدعى القاضي نائب القائد قتيبة الذي كان قد توفي .. اعترف بانهم لم يخيروا الاهالي فما كان من القاضي الا ان امر بخروج الجيش من المدينه وإعادة حصارها وتخيير اهلها ، فما كانت النتيجة .. الانصياع للحق .. ثم اسلم من اسلم من اهل المدينة وهادن من هادن .. هكذا مواقف تصنع الامم .. يقول الامام علي كرم الله وجهه .. ( يعرف الرجال بالحق والا يعرف الحق بالرجال ) .. نعم ولكن اي رجال .. انهم اولئك الذي يعرفون الحق واهله وينصاعون له ولو على انفسهم ولا يترددون ان يصدعون به وان كان لعدوهم .

حكاية عدل اخرى لبطل اخر من ابطال الاسلام وَبُناته .. على بن ابي طالب ( رضي الله عنه ) .. غني عن التعريف .. له قصة ايضا مع الحق والانصياع له دون مواربة او تعصب او استغلال .. حين كان خليفة للمسلمين ..

افتقد درعاً له ثم ما لبث أن وجدها في يد رجل يهودي يبيعها في سوق الكوفة فلما رآها عرفها... فطالبها منه الا ان اليهودي رفض اعطائها له او حتى ادعاء خليفة المسلمين فلما اصر الخليفة .. قال اليهودي : بيني وبينك قاضي المسلمين.

فقال علي: أنصفت، فهلمَّ إليه.
انصفت !!!! .. خليفة المسلمين وولي امرهم والامر الناهي في كل شيئ .. يقول لاحد رعاياه وممن لا يدينون بدينه ويملك حاجة تخصه .. قد انصفت حين طلبت اللجوء للقضاء .. اولى خطوات الرضا والاقتناع والمسؤوليه .. واي قضاء ، قضاء من لا يخشى بالله لومة لائم ، من لاهم له الا اوامر الله تعالى ونواهية بها يحكم لصاحب الحق ايا كان وكان دينه وطائفته ..

ذهبا إلى شريح القاضي فلما صارا عنده في مجلس القضاء...
قال شريح لعلي : ما تقول يا أمير المؤمنين؟
فقـــال: لقد وجدتُ درعي هذه مع هذا الرجل وقد سقطت مني في ليلة كذا وفي مكان كذا وهى لم تصل إليه لا ببيع ولا هبة.
فقال شريح لليهودي : وما تقول أنت أيها الرجل؟
فقال اليهودي : الدرع درعي وهي في يدي ولا أتهم أمير المؤمنين بالكذب.
فالتفت شريح إلى علي ..
وقـــال: لا ريب عندي في أنك صادق فيما تقول يا أمير المؤمنين وأن الدرع درعك ولكن لا بد لك من شاهدين يشهدان على صحة ما ادعيت .. ( اجرائات التقاضي لابد ان تحترم وان كان الخصوم احدهما او كليهما على درجة من المكانه .. فأمر الله لابد من طاعته رغم كل شيئ )
فقال علي: نعم، مولاي قنبر وولدي الحسن والحسين يشهدان لي.
فقال شريح: ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز يا أمير المؤمنين.
فقال علي: يا سبحان الله رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته!! اما سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة).
فقال شريح : بلى يا أمير المؤمنين غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده .. ( قمة العدل والانصاف انما هي كرامة من الله لعلي اما فيما يخص الخصوم فلا مجال لغير الحق المتعارف عليه ) .
عند ذلك التفت عليّ إلى اليهودي .
وبمروءة من يعرف ان العدل لابد من الاعتراف به وان لم ينصف
وقال: خذها فليس عندي شاهدُُ غيرهما.
انصياع تام بلا تردد او تلجلج وبنفس راضية غير مبطنة لحقد او انتقام سواء من الخصم او من هذا القاضي .. وهو من هو بالمنصب والسلطان الا ان الله اكبر في النفس من كل الدنيا وبالتالي فالعدل والانصاف سيدا الموقف .. ولا ريب .. فمن بنى امة ملكت حدود الصين شرقا واوربا غربا لابد ان تكون انفسها كبارا وتستشعر المسؤولية .. فما كانت النتيجة ؟
فقال الذمي: ولكني أشهد بأن الدرع لك يا أمير المؤمنين ثم أردف قائلاً: (يا لله .. أمير المؤمنين يقاضيني أمام قاضيه وقاضيه يقضي لي عليه .. أشهد أن الدين الذي يأمر بهذا لحق، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله اعلم أيها القاضي أن الدرع درع أمير المؤمنين، وأنني اتبعت الجيش وهو منطلق إلى صفين، فسقطت الدرع عن جمله الأورق فأخذتها ) .
فقال له علي: أما وإنك قد أسلمت فإني وهبتها لك، ووهبت لك معها هذا الفرس أيضا.

انها ضرب من خيال هذه الحكايات فاي قوة هذه التي تجبر خليفة المسلمين .. من يأتمر بامره الاف مؤلفة وجيوش جراره لان يحضر امام قاض هو من عينه ثم يذعن لحكم يصدر لصالح خصومه ويقبل به دون حساسية او ضغينة تذكر .. انه الحق ، اخلاق الدين الذي فهم جوهرة فلم يشاق معتنقه ولم يشق عليه لتطبيقة .. لا عناد ولا احقاد ولا حتى مجرد التفكير في استغلال السلطة وقوة المنصب والتسلط للحصول على المراد بل انصياع كامل ورضا دون مواربة او ظلمة نفس مهما كانت مساحتها ..
حكاية اخرى وموقف اخر لحديث المروءة والمساواة والعدل والانصاف في الخصومة .. هذه المرة مع شريح القاضي وولده ..
فمما يروى أن ابن شريح القاضي قال له يوما يا أبت إن بيني وبين قوم خصومة فانظر فيها فإن كان الحق لي قاضيتهم وإن كان لهم صالحتهم ثم قص عليه قصته فقال له شريح انطلق فقاضهم فمضى إلى خصومه ودعاهم إلى المقاضاة فاستجابوا له ولما مثلوا بين يدي شريح قضى لهم على ولده فلما رجع شريح وابنه إلى البيت قال الولد لأبيه فضحتني يا أبت والله لو لم أستشرك من قبل لما لمتك فقال شريح : يا بنى والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض من أمثالهم ولكن الله عز وجل أعز علي منك ، لقد خشيت أن أخبرك بأن الحق لهم فتصالحهم صلحا يفوت عليهم بعض حقهم فقلت لك ما قلت .
لم ينحاز الى ولده احب الناس اليه وقد صارحة بل يحرضه على التوجه للتقاضي فقط لا لشيئ اكثر من يحفظ حق خصومة ولده وليس ليقضي له بغير حق فيلبس الحق بالباطل بل ليساند العدل والا يترك شبهة يمكن ان تفتح بابا للانفس الضعيفة يمكن ان تستغلها ..
ونستمر في تجوالنا لنصل الى حكاية اخرى .. ولكن هذه المرة حيث الكفر على اشده والخصام في ذروته بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش ولكن يبقى للحق والعدل رغم كل الظروف موقفا يمكن الرجوع اليه والتعاطي معه رغم شقة الخلاف وتباين الاراء .. لترسم لنا صورة رائعه من صور الحدود الواجب الوصول اليها عند الخصومة وعدم تعديها الى الفحور .
عندما حاصر اربعون رجلا من اشداء قريش بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،و قد اختيروا من كل عشائر قريش ليكونوا ممثلين لقريش كلها فيقوموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، و أُمِروا ان يضربوه ضربة رجل واحد لكي تكون قريش كلها مشتركة في تحمل مسؤولية قتله فلا يستطيع بنو هاشم حينئذ مواجهة بقية عشائر قريش ، فيكون عليهم اما ان يقفوا عاجزين عن الثأر او ان يقبلوا دية محمد مهما بلغت ، وخرج الرسول في تلك الليلة مهاجرا من بين محاصريه و قد غلبهم النوم وقد ترك في فراشه علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ليردّ امانات كانت عنده لأصحابها من المشركين .و في اليوم التالي وصل الى مكة مسافرون سمعوا اهل مكة يتحدثون بمحاصرة بيت الرسول فقالوا بأنهم رأوا رجلين متوجهين نحو الجنوب فخشي اهل مكة ان يكون محمد أحدهما ، فأسرع ابو جهل و زعماء قريش الى بيت محمد يستطلعون خبره فسألوا الرجال المكلفين بالحصار ان كان محمد لا يزال في بيته أم خرج ، فأجاب المحاصِرون بأنه ما زال في بيته فأراد زعماء قريش التبيّن من قول المحاصرين فنظروا من شقوق الباب فرأوا عليا وحده في البيت فدخلوا البيت و سألوا عليا عن محمد فلم يعطهم جوابا ثم خرجوا الى المحاصرين ووبخوهم بأشد توبيخ و كان من قولهم : لماذا لم تقتحموا عليه البيت و تقتلوه قبل ان يهرب منكم ؟ فقال الشباب المشركين المحاصرون لبيت الرسول قولة رجولة " و الله لقد خشينا ان نروّع بنات العم ". و يقصدون بنات الرسول و زوجته ..
انظر الى الخلق اين مداه ومحتواه .. مديات شاسعه وافاق واسعه حيث لا حدود ولا خطوط ولا شيئ يقف امام الحق والعدل والمروءة ان تصل الى اهدافها في النفوس وان كانت الظلمة تتملكها وتتلاعب بها فحين يصل الامر الى معرفة حق الطرف الاخر ما له وما يمثل ومدى ما يجب ان يكون شكل التعامل معه وفق حدود الخصومة لابد من موقف بطولي يوجب الاعتراف بعقلانية الخصومة وعدم التجاوز الى ما هو اكثر تحت اي مسمى او عنوان .. ولنقارن بين هكذا موقف مع ما يصنعه جلاوزة وعلوج انظمة الامن في عالمنا المجرم اليوم .. قمة البون الشاسع بل لا مقارنه على الاطلاق .. وقد صدق نبي الرحمة حين قال .. انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق .
ونواصل رحلتنا عبر تاريخ رائع همش اكثره وخفي معظمه وتلاعبت ايدي الشياطين من اعداء الامه مما بقي فيه حتى اضحى سجلا لارقام واقاصيص اكثر منه تاريخا لوقائع ومواقف واحداث .. حكاية حق ومروءة ورجوله ، وبطولة اخرى ترسم تفاصيلها نفس كبيرة .. وان اختلفت فيها الاراء .. ولكن رغم كل شيئ يبقى ضمن سلسلة رائعة من اولئك الرجال الذين يمتلكون قوة العقل في الخصومة ليقودهم الى المروءة في رد الفعل ....
بعد انكفاء المسلمين في معركة أحد( 3هـ) و لجوئهم الى الجبل بعد ان أصيبوا بضربة موجعة مادية و معنوية ، أخذ المشركون بقيادة ابي سفيان يصولون و يجولون في ميدان المعركة يغمرهم الشعور بلذة النصر و الانتقام من هزيمتهم المخزية في معركة بدر في العام السابق، هنالك تقدم الشباب المتحمسون في جيش المشركين و اقترحوا على ابي سفيان : لماذا - و قد هزمنا محمدا و صحبه - لا نقتحم يثرب و نستأصل شأفة محمد و أصحابه و نقضي عليه و على دينه قضاء مبرما لا تقوم لهم قائمة الى الأبد ؟ فقال ابو سفيان : و كيف نهاجم يثرب و ليس فيها الا النساء و الصبيان من ابناء عمنا ؟ و يقصد أبناء المهاجرين و نساءهم .

نعم المروءة تتحدث ، هي التي انطقت قائد مكة ليعبر عنها بثقة مطلقة .. لم تلجئه الخصومة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى ان يصل الى الفجور بخصومته فيتعدى حدود العقل والتعقل رغم قدرته المادية والمعنوية والميدانية فينصر شيطان نفسه الا انه آثر التوقف عند اخر نقطة ممكنه في النزاع اما بعد ذلك فهو فعل السفلة والاوباش وسقط الناس وليس كرامهم ليس يفعل ذلك من يعد نفسه سيدا في قومة او حتى جزء من منظومة كريمة تأنف السيئ في القول او الفعل .. وهكذا ديدن كل من جادل او خاصم يجب ان يكون .. فعل كريم ، ان يتحكم بخصومته وان يجعل للعقل والمنطق فيها الحكم الاول والنهائي فان عجز عن الوصول الى ما ارد من خصومه وقف عند حد التخاصم معترفا في نفس الوقت بما لخصومه من حق يذكر وان كان اقل القليل لا ان يتعدى الى فعل يستوجب الفجور والسقوط كما يفعل اكثرنا هذه الايام بل تجد بعضنا ان ظفر بما اراد تعدى وفجر في الخصومة والجدال وتشوية صورة خصومة الى ابعد ما يمكن بل يمكن ان يرتكب الفاحش من القول والفعل ظنا منه ان ذلك عقوبة لخصمه ولا يدري المسكين انه بهذا التصرف انما يسيئ الى ذاته هو .
وتتواصل الراوايات والقصص الجميلة التي تزخر بمواقف واحداث بنفس المستوى والصور لتؤطرتاريخ امة صنع منها رجالها اجمل حكاية يمكن للانسانية ان ترويها بفخر .