- الاثنين ديسمبر 17, 2012 5:06 pm
#57868
- سمات الثورة المصرية ومقتضيات التغيير
* العناصر المكونة لتكتل القوى الثورية
* مقتضيات التغيير
2-استراتيجيات الثورة المضادة
* كتلة التحالف الرجعى
*الإخوان المسلمون والتيارات الإسلامية
*المؤسسة العسكرية: علامة استفهام؟
*ملاحظة حول الفساد
3-التجارب السابقة (إندونيسيا، الفيليبين ومالى) والأخرى (أمريكا اللاتينية)
4-قراءة لتاريخ مصر المعاصر
أولا: سمات الثورة المصرية ومقتضيات التغيير
■· العناصر المكونة لتكتل القوى الثورية
تبدو لى الحركة التى أخذت مجراها فى المجتمع المصرى أواخر يناير 2011 فى واقع الأمر انطلاقاً ثورياً قد يتحول إلى مد ثورى -- لا أكثر. فما حدث هو أكثر من مجرد انتفاضة أو فورة يعود بعدها المجتمع إلى ما كان عليه قبلها، اي أكثر من حركة احتجاج, لكنه أيضاً أقل من ثورة. بمعنى أن تلك الحركة لم يكن لها أهداف واضحة تتجاوز الإطاحة بمبارك، يرجع ذلك إلى طبيعة المطالب الواضحة والضمنية للقوى التى انخرطت فى تلك الحركة وأهدافها. يمكن أن نقول أنه كانت هناك ثلاثة عناصر رئيسية فى تلك الحركة بالإضافة إلى عنصر رابع سأتحدث عنه لاحقاً.
تتمثل العناصر الأساسية للحركة فى:
أولاً, الشباب المسيس أصلاً والمنظم فى شبكات مرتبطة ببعضها بعضاً، يصل عدد أعضائها إلى مليون شاب، يمثلون ما يمكن أن نطلق عليه الجيل الجديد. تنحدر أصول هذا الشباب من الفئات الوسطى أساساً بما فيها الفئات الوسطى الدنيا القريبة من الجماهير الشعبية لكن دون أن يوجد بينهم جناحًا شعبيًا بالمعنى الصحيح للكلمة، أى أبناء عمال وفلاحين فقراء.. الخ. لقد سيس هؤلاء الشباب أنفسهم خارج الأحزاب وفى إطار نظام ألغى الحياة السياسية لعقود. وهو أمر فى حد ذاته يستحقون عليه الثناء. لا يكون هؤلاء الشباب قطعاً كتلة متجانسة لكن التيار الغالب بينهم يطالب بما يتجاوز المطالب الديمقراطية البسيطة. لا تقف المطالب عند مجرد الانتخابات النزيهة والمتعددة الأحزاب، متجاوزة ذلك إلى حرية التعبير وحرية الممارسة الاجتماعية فهى إذن مطالب ديموقراطية صحيحة وكاملة.
فهم معاصرون وحداثيون يعرفون ما يحدث فى العالم ويدركون أحوال حياة الشعوب فى البلدان الأخرى. ولذلك يقفون إلى حد كبير خارج دائرة الخضوع "للتقاليد" بما فيها التقاليد الطقوسية فى الممارسات الدينية. أسمى مطالبهم مطالب ديمقراطية صحيحة أيضًا لأنها تتجاوز تلك النقطة إلى العداء للاستعمار، بمعنى أن هؤلاء شبان وطنيون يريدون عودة شرف الوطن المصرى، ومؤمنون تماماً بأن مصر لابد أن تكون دولة مستقلة وليست خاضعة وتابعة للسياسة الأمريكية وخاصة فيما يتعلق بسياسة إسرائيل التوسعية. فهم بهذا المعنى معادون للاستعمار على أرضية وطنية، لا أقول أنها بالضرورة قومية عربية، لأن هناك درجات مختلفة من الوعى القومى تظهر أحياناً بينهم، وأحياناً يتنحى الوعى القومى لصالح الوعى الوطنى المصرى فقط. لا شك فى أنه لدى هؤلاء الشباب ميولاً نحو التعاون مع البلدان العربية، لكنهم أيضاً يشعرون بنفس الأمر تجاه البلدان الأفريقية والآسيوية وبلدان الجنوب بوجه عام. وأعتقد أنهم بإطلاعهم الواسع على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) تأثروا كثيراً بما حدث فى أمريكا اللاتينية فى السنوات العشر الأخيرة، ولو أنهم لا يعرفون كثيراً عن واقع تلك القارة، إلا أنه لا يمكن إهمال أثر التغيرات التى جرت فى تلك البلدان وشخصيات مثل شافيز وموراليس ولولا عليهم، لأن ما حدث هناك بالذات هو التلاقى بين المطالب الديمقراطية الصحيحة وتلك المعادية للاستعمار.
من جانب آخر لدى هؤلاء الشباب ميول يسارية على المستوى الاجتماعى بمعنى أنهم بدون أن يكونوا بالضرورة معادين للرأسمالية واقتصاد السوق، وبدون أن يكونوا مدركين بالضرورة لشروط التغيير أيضاً فإنهم يرفضون المجتمع بحالته الراهنة من التفاوت المتزايد بين المليونيرات والمليارديرات من جانب والفقر المتزايد والمتفاقم من جانب آخر، وهناك ميل عام واضح لديهم ولكن غير محدد لما نطلق عليه العدالة الاجتماعية، بدون أن يكون لديهم بالضرورة وصفة أو بديلاً ملموسًا فى المجال الاقتصادى. هؤلاء الشباب هم مفجرو الحركة بدعوتهم الناس إلى النزول إلى الشوارع يوم 25 يناير 2011. لعب قطعاً ما حدث فى تونس فى الأسابيع القليلة السابقة على هذا التاريخ دوراً تشجيعياً لهم على مواجهة الأجهزة القمعية وعدم الاستسلام لما تمارسه من قهر وعنف.
ثانيا, لبي اليسار المصرى الراديكالى دعوة هؤلاء الشباب من الوهلة الأولى لأنه كان مستعدًا لذلك، إلا أنه كان نتيجة إلغاء الحياة السياسية لعقود طويلة انطلاقاً من عبد الناصر ومن بعده السادات ومبارك طبعاً معزولاً نسبياً مكوناً بشكل رئيسى من مثقفين إلى جانب عناصر من الفئات الوسطى وربما بعض العناصر من الطبقة العاملة من خلال النقابات والصراع الطبقى فى المصانع لا أكثر من ذلك، الأمر الذى انعكس بدوره على أخذ تشكيلات اليسار شكل المجموعات والمنظمات الصغيرة ومنظمات المجتمع المدنى المختلفة..
أعتقد وربما أكون متفائلاً فى ذلك أن هناك نوعًا من التعاطف التلقائى بين الشبان ومجموعات اليسار لأن هؤلاء الشباب يساريون فى نهاية الأمر بإيمانهم بالديمقراطية الصحيحة وعداءهم للاستعمار وتوجههم الاجتماعى إن لم يكن الاشتراكى. ولذلك أرى أن التفاهم بين اليسار الراديكالى والأغلبية الكبرى من الشباب يمثل جوهر وأساس مستقبل الثورة لأن المستقبل بيد هؤلاء الشباب.
ثالثا, يتمثل العنصر الأساسى الثالث للحركة فى ما تطلق عليه بعض الأدبيات "البورجوازية الليبرالية"، وإن كنت لا أحبذ هذا التوصيف وأفضل عليه "عناصر من الفئات الوسطى الليبرالية الديمقراطية" لأن البورجوازية كطبقة فى مصر رجعية وأعتقد أنها كذلك الآن أكثر مما كان الأمر عليه سابقاً. فجوهر الطابع الأساسى للبورجوازية المصرية أنها رجعية كمبرادورية أى أنها طفيلية وتابعة.
ولا يمكن التمييز فى الواقع المصرى بين بورجوازية طفيلية وبورجوازية غير طفيلية إذا قصدنا بالبورجوازية معناها الصحيح المتمثل فى أصحاب المال وبالتالى المشروعات الصناعية والتجارية والخدمية. صحيح أن هناك بعض المصانع الصغيرة التى يملكها بعض المهنيين الوطنيين الذين يدخلون فى دائرة البورجوازية أيضاً. إلا أنهم فى الواقع لا يمثلون سوى فئة صغيرة ولا تنتمى فى الظروف المصرية إلى الكتلة الأساسية للبورجوازية، بل هى مستبعدة. على سبيل المثال، فى مجال البناء والتعمير، تعانى الشركات الصغيرة من هذا النمط من ضغوط الشركات الكبرى الكمبرادورية التى تجبرها على العمل من الباطن لحسابها. ناهيك عن ممارستها ضغوط متعددة عليها مستخدمة وسائل الدولة المرتبطة بها والفساد بحيث أننا لا نستطيع أن نتحدث عن بورجوازية وطنية فى ظروف مصر. فالبورجوازية فى مصر تابعة واستفادت فعلاً من الاندماج فى العولمة كما هى أى عولمة تابعة للولايات المتحدة والاستعمار المهيمن. وبالتالى هذه القوى رجعية على طول الخط.
ولكن الفئات الوسطى شىء آخر، عبارة عن المهنيين، وهم يمثلون عددًا كبيرًا من المحامين والمهندسين والمحاسبين والأطباء، الموظفين فى الحكومة والشركات، منهم الغنى والمتوسط والفقير. تنقسم هذه الفئات الوسطى إلى جناحين على أرضية أيديولوجية وثقافية أكثر منها سياسية، جناح إسلامى بالمعنى السلفى والطقوسى للكلمة، (فالمشكلة هنا ليست فى التقسيم بين المؤمنين وغير المؤمنين، فالأغلبية الكبرى من الشعب المصرى سواء كانوا مسلمين أم أقباط هم مؤمنين، والقضية ليست قضية إيمان) أى الجناح المتخلف فكرياً الداخل فى إطار تصور الإسلام السياسى (الإسلام كحل سياسى للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)، وهو الجناح الغالب بين الفئات الوسطى بدليل سيطرته على النقابات المهنية ليس بالصدفة طبعاً ولكن عبر مساعدة حكومة السادات ومبارك وبالتمويل الخليجى ولكن أيضاً بسبب وجود قاعدة لهم فى هذه القطاعات.
إلا أن هناك تيار آخر فى الفئات الوسطى يمكن أن نسميه مستنيرًا، ينتشر بين القطاعات المتفتحة من هذه الفئات التى تشارك الشباب فى مطالبه الديمقراطية الصحيحة بمعنى الديمقراطية فى الممارسات الاجتماعية على الأقل جزئياً وليس الانتخابات النزيهة فقط، فهم غير متحمسين لأشياء مثل الحجاب وغير متعصبين فيما يخص المشكلة الطائفية الدينية. فهم مستنيرون بمعنى أنهم لا يكرهون "الغرب" ولا "الأوروبيين"، بل على العكس كثيرون منهم سافروا ورأوا تلك البلدان ولديهم تعاطف تجاه المجتمعات الغربية دون أن يكونوا بالضرورة مدركين للطابع الاستعمارى للسلطة فى البلاد الديمقراطية الغربية. فموقفهم بين البينين. رأينا حركات مثل كفاية فى السنوات الأخيرة جمعت ناس كثيرة تنحدر أصلاً من هذه الفئات للاصطفاف خلف مطالب ديمقراطية وديمقراطية اجتماعية تتعلق بالممارسات اليومية وليست سياسية فقط.
أعتقد أن هؤلاء المستنيرين هم حلفاء حقيقيون فى هذه المرحلة لليسار ولو أنهم محدودون بمعنى أنهم لا يهتمون كثيراً بأوضاع الطبقات الشعبية الاجتماعية وقضايا مثل الفقر الذى لا يعد بشكل كبير مشكلة لهم، مع أن هناك عدداً منهم لديهم قطعاً ميول إلى تغيير السياسات والأوضاع الاقتصادية لكنهم أيضاً متمسكون إلى جانب ذلك بالاقتصاد الحر والرأسمالية ومن أنصار الاندماج فى المنظومة العالمية... الخ. كذلك بالنسبة للقبول بسياسة الولايات المتحدة وإسرائيل. لا يوجد قطعاً كثيرون لديهم ميول طيبة بالنسبة لإسرائيل، فلا شك فى أن الناس تكره إسرائيل لكنها فى الوقت نفسه تقبلها بدرجات مختلفة كأمر واقع عليها القبول به، وعلى أساس أنهم ليسوا فلسطينيين أيضاً، دون أن تكون واضحة لديهم بالضرورة العلاقة بين الطابع الاستعمارى للسلطة فى بلدان الثالوث، الولايات المتحدة وأوروبا واليابان من جهة، وإسرائيل من الجهة الأخرى.
رابعا, وقد تضافرت العناصر الثلاثة للحركة التى انخرط فى أيامها الأولى مليون شخص أو مليونان على الأكثر، فى القاهرة والإسكندرية والسويس, لتؤدي الي نقل نوعية جديدة. ففى ظرف 24 ساعة قفز هذا العدد الذي لايتجاوز ال2 مليون إلى 15 مليون شخص, حيث اجتاحت المظاهرات القطر المصري كله وليست المدن الكبرى فقط، لتشمل الأحياء والمدن الصغيرة وربما بعض القرى أيضاً. فهذا الرقم يشير إلى أن الشعب المصرى كله تقريباً اشترك فى هذه المظاهرات، ولم يكن بينه من المسيسين بعض الشىء إلا ما يصل إلى مليونين أو ثلاثة ملايين شخص على أكثر تقدير. أما الباقون فهم غير مسيسين نهائياً، نتيجة أيضاً إلغاء الحياة السياسية منذ عقود انطلاقاً من جمال عبد الناصر وتصفيته للأحزاب والحياة السياسية وإدارته للسياسة من فوق، وهو الأمر الذى ساء أكثر مع مجىء السادات ومبارك. وهذه الأمور تفسر نجاح التيار الإسلامى كتيار عام فى تعبئة هذه الجماهير باعتباره الخطاب الوحيد الذى كان متاحاً لهم عبر خطب المساجد دون أن تتاح لهم أى فرصة حقيقية على الإطلاق للاستماع إلى أى خطاب سياسى واجتماعى آخر. فمن المنتظر أن تعانى من الآن فصاعداً هذه الجماهير الضائعة على مستوى الوعى والمغالية فى إظهار المشاعر الدينية التى تبجلها الأغلبية الكبرى من الشعب المصرى بمن ينتمون فيه إلى الفئات الوسطى، من اضطراب فكرى نابع عن وجود تناقض محتمل بين مطالبهم وأهداف القيادات السياسية ليس للإخوان المسلمين فحسب ولكن أيضاً لجميع المنظمات والفرق المنضوية تحت راية الإسلام السياسى.
هكذا نكون قد تحدثنا عن العناصر الأربعة للحركة التى أخذت مجراها فى المجتمع المصرى مع حلول يوم 25 يناير 2011 والتى يمكن تقسيمها إلى ثلاثة عناصر هى الشباب واليسار الراديكالى وعناصر الفئات الوسطى الليبرالية الديمقراطية بالإضافة إلى شىء أوسع بكثير منهم يتمثل فى جماهير الشعب المصرى بشكل عام.
هيأت طبعاً ظروف وقعت فى السنوات الأخيرة لهذه الانتفاضة الكبيرة وانخراط الجماهير الشعبية فيها، فى مقدمتها انتعاش الحركة العمالية كما تتمثل فى إضرابات 2007، ونشأة فكرة تكوين النقابات المستقلة وممارستها على أرض الواقع، وصمود حركة صغار الفلاحين فى مواجهة الإجراءات الحكومية لإلغاء الإصلاح الزراعى.. الخ وبالنسبة للفئات الوسطى تمثلت هذه الظروف فى صعود حركة كفاية... الخ ونظيراتها عند الشباب ممثلة فى 6 أبريل ... الخ، أى كانت هناك عناصر متعددة تدل على أن الانفجار قريب وقادم بشكل أو بآخر. وهو ما حدث فعلاً.
مقتضيات التغيير
يتضح مما سبق أن الحركة التى بدأت فقط فى يناير-فبراير 2011 فى حاجة إلى وقت لكى تخطو قدماً للأمام, ولكى تنتعش وتتوسع وتتجذر وتتعمق بين الجماهير. ومن ثم فان المطلوب هو فترة انتقالية طويلة، لأن ما يقال عن أن الثورة أسقطت النظام وبالتالى الدستور صحيح على مستوى عالى من التجريد, ولكنه ليس صحيحاً عملياً. فهناك رغبة أو ميل لإسقاط النظام، لكن لا أكثر من ذلك. وكذلك إسقاط الدستور الذى لا يزال ساري المفعول, هو وجميع القوانين المتمشية معه. إذن فان الفترة الانتقالية الطويلة الديمقراطية بالمعنى الصحيح للكلمة تأتي فى مقدمة الشروط المقتضية للتغيير.
أقصد بـ "الديمقراطية بالمعنى الصحيح للكلمة" ديمقراطية تتيح الفرصة لتكوين كافة أشكال التنظيمات والأحزاب والنقابات بمنتهى الحرية.. الخ. هذه الفترة الانتقالية الطويلة الديمقراطية بالمعنى الصحيح للكلمة التى قد تستغرق سنتين أو أكثر هى الشرط لترويج ثقافة سياسية مدنية علمانية ديمقراطية. أقول هنا ثقافة ديمقراطية ولا أقول ثقافة اشتراكية، بمعنى أن هذه الثقافة السياسية العلمانية تضم التيارات الديمقراطية البورجوازية والمطالب الاشتراكية أو المطالب الاجتماعية التى تندرج فى إطار التطلع الاشتراكى، وذلك حتى يكون للانتخابات التى ستعقبها معنى. في تلك الحالة سيكون جزء كبير من الناخبين أشخاص مسيسين أو على أقل تقدير مطلعين على بدائل مختلفة سواء كانت على أرضية الاقتصاد أو الاجتماع أو إدارة السياسة أو إدارة الشئون الاجتماعية والحياة اليومية بما فيها الجوانب الدينية والعلاقة بين العقيدة الدينية والممارسة السياسية، وأيضاً قادرين على مفاضلتها والاختيار فيما بينها. وأعتقد أن شكل السلطة خلال تلك الفترة والأشخاص الذين سيتصدوا لقيادتها سيكونا محل معركة سياسية، بحيث نحاول فرض تغيرات ولو بالتدريج تتمثل فى رفض تعيين قيادة الجيش لشخصيات معظمها ينتمى للنظام القديم لإدارة هذا الانتقال. بل الأولى فى حالة وجود هذه الشخصيات فى صدارة المشهد كما هو الأمر الآن وإصدارهم لقوانين مضادة لحرية تنظيم الأحزاب كالقانون الذى أصدروه شبيهاً بالقانون القديم للأحزاب أو القوانين المعادية للطبقة العاملة كقانون حظر الإضرابات، أن ندرك أن الحكومة التى أصدرت مثل هذه القوانين ليست بحكومة انتقالية، وأن نتعلم من التونسيين المتقدمين عنا فرض تغيير فعلى ولو تدريجى للحكومة، بحيث تكون كحكومة انتقالية مكونة من عناصر تمثل الحركة الشعبية فى الشوارع. يفصح ذلك عن اختلاف الظروف هناك تماماً عن هنا لأن الجيش فى تونس صغير وضعيف وبعيد عن السياسة وبالتالى لا يلعب الدور الذى يلعبه الجيش فى مصر وليس له وزن. وبالتالى تتصارع فى تونس قوتان، الأولى هى قوى النظام القديم متمثلة فى الطبقة البورجوازية الطفيلية المرتبطة بالسلطة السابقة والحزب الحاكم، والثانية هى قوة الثورة ممثلة فى الفئات الوسطى والطبقات الشعبية دون أن يوجد طرف ثالث موجود وهو الجيش، كما هو الأمر عليه فى مصر. وبالتالى الحكومة فى تونس أفضل بكثير من الحكومة فى مصر. فالحكومة التونسية الحالية لا تجرؤ على الإطلاق على منع أى تكوين حزبى أو نقابى وتترك الناس لخياراتها الحرة، أى هناك ديمقراطية غير موجودة فى مصر. نستنتج من ذلك أن المطلب الرئيسى لليسار الجذرى بالتآلف مع الفئات الوسطى الديمقراطية والحركة الشعبية بشكل عام وطبعاً النقابات العمالية... الخ. وبالدرجة أولى الشباب المنظم. ونصف المنظم بحيث أن يتمثل هذا الائتلاف فى إدارة الفترة الانتقالية بأسلوب جديد وتقدمى.
ثانياً: استراتيجياً الثورة المضادة
كتلة التحالف الرجعى
تتمثل فى قوتين أو ثلاثة:
أولها الطبقة الحاكمة مشخصة فى البورجوازية، فالنظام لم يكن نظام مبارك ولا الثلة الملتفة حوله، لكنه نظام يضم معه النواب المنتخبين من الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم - ومعظمهم مدنيين أثروا من خلال الفساد، كما يضم أيضاً كل البورجوازية المصرية بمن ينتمى منهم إلى أغنياء الفلاحين.
ألفت النظر إلى هذه النقطة التى أضفى عليها أهمية كبرى. فالحديث عن "الفلاحين" بصفة عامة. وهو الشائع عندما تتحدث عن الريف بشكل عام- لا يفيد. إذ أن "الفلاحين" طبقات متباينة المصالح.
ويتشكل الريف المصرى الراهن من 40% من الفلاحين المعدمين (لا يملكون أرضاً نهائياً أو يمتلكون فدان وفيما أقل من ذلك) و 30% من صغار الفلاحين (ملكيات أو حيازات أقل من 20 فدان) و30% من أغنياء الفلاحين (ملكيات أو حيازات تزيد عن 20 فدان).
وبالرغم من أن أغنياء الفلاحين هم أغنياء بدرجات مختلفة وليسوا بالضرورة مليونيرات مثل كبار البورجوازيين، فإنهم أغنياء فى إطار المجتمع المصرى وكذلك رجعيون تماماً، ويحوزون على قدر معتبر من السلطة فى الريف بسبب علاقاتهم وارتباطاتهم بنظام السلطة المحلية ووجهاء الريف المتنفذين فى السلطة أو لديهم علاقة قوية بها مثل الطبيب والمهندس بمن فيمم رجال الدين طبعاً. ويشكل أغنياء الفلاحين أيضاً العنصر الأساسى الذى يعتمد عليه الإسلام السياسى فى الريف.
لقد أنتج الإصلاح الزراعى الناصرى تغييراً هاماً فى ميزان القوى الاجتماعية الخاصة بالريف المصرى. فأغنياء الفلاحين هم الطبقة التى استفادت أكثر من غيرها من الإصلاح على حساب كبار الملاك المسيطرين على الريف فى العهد الملكى السابق. فأقيمت تعاونيات تجمع معاً أغنياء وصغار الفلاحين، علماً بأن هذا الأسلوب أعطى للأغنياء السيطرة على التعاونيات وتحريكها لصالحهم. بيد أن الناصرية وضعت حدوداً لهذه السيطرة وفرضت "تنازلات" لصالح صغار الفلاحين بتعبير أخر يمكن القول بأن الناصرية اعتمدت على أغنياء الريف مع تحييد طبقة صغار الفلاحين.
ثم انقلبت العلاقة فى عصرى السادات ومبارك مع مخطط إلغاء الإصلاح الزراعى. فقد أعطى هذا التحول فرصة لأغنياء الفلاحين أن يثروا على حساب صغارهم من خلال تصفية ملكيتهم، وذلك باسم "التحديث" الذى يدعو البنك الدولى إليه.
ويتجلى رد فعل صغار الفلاحين فى معاركهم الراهنة وصمودهم فى مواجهة الإجراءات الرجعية المضادة للإصلاح الزراعى. وفى هذه المعركة يقف أغنياء الفلاحين مع كتلة الرجعية الحاكمة.
أما فقراء الريف، وهم الأغلبية الكبرى، فقد استبعدوا من الصورة أصلاً فلم يستفيدوا من الإصلاح. بيد أن أوضاعهم قد تغيرت فى عهد الانفتاح، فهم الذين مثلوا الأغلبية الكبرى من المهاجرين (للخليج والعراق وليبيا)- والعديد منهم – عند عودتهم- خرجوا من نطاق الإنتاج الزراعى لينضموا إلى صفوف الاقتصاد الريفى العشوائى وغير المنظم الجديد.
نقطة أخيرة هامة فى رأيى: العلاقة بين طبقة أغنياء الفلاحين والإسلام السياسى. فأغنياء الفلاحون مثلوا دائماً- والآن بقدر أوضح مما كان الأمر عليه سابقاً- السند الأساسى للإسلام "السلفى" المتجمد والمحافظ. والعديد من رجال الدين ومن الفئات الوسطى (المهنيين) ومن ضباط الجيش ينحدرون من هذه الطبقة الريفية الرجعية.
الإخوان المسلمون والتيارات الإسلامية
من المشكوك فيه قدرة جماعة الإخوان المسلمين أن يتحولوا إلى منظمة ديمقراطية. فالتنظيم قائم على مبدأ طاعة المرشد دون وجود ديمقراطية أو مجال للنقاش. وعندما ننظر لقيادة الجماعة كلها وليس للمرشد فحسب، سنجد أن العديد من أعضائها أثرياء جداً، ومليونيرات بالتمويل الخليجى بصفة أساسية، بمن فيهم أولئك الذين يرسمون لأنفسهم صورة رجال الدين فى الأزهر وغيره. هذه القيادة واعية تماماً برجعيتها الاجتماعية والسياسية وكراهيتها للديمقراطية... وهى التى أدخلت الوهابية إلى مصر التى تم ترويجها بشكل واسع بعد حرب 1973 بفضل التمويل الخليجى، حتى أصبحت العنصر السائد فى تأويل الإسلام فى مصر. استلهم الإخوان المسلمون فكرهم من فلسفة محمد رشيد رضا الذى يمثل الوهابية فى التأويل المتجمد والمتخلف الأقصى للإسلام، وهو الذى أدخل الوهابية مصر، قبل حتى ما يمتلك الخليج الأموال الطائلة لينفقها على الترويج لهذا الفكر.
ويجب فى هذا السياق ألا ننسى أن السفارة البريطانية كما تدل على ذلك وثائق موجودة فعلاً- هى التى اتخذت قرار مساندة جماعة الإخوان المسلمين عام 1927 م لمنع تسييس الجماهير الشعبية سواء من خلال الوفد أو الشيوعيين الذين شكلا عنصرين تقدميين أساسيين فى الثقافة السياسية المصرية. فقد مثّل الوفد بورجوازية أو فئات وسطى مستنيرة تقدمية ديمقراطية فى المرحلة الممتدة من الحرب العالمية الأولى وحتى الأربعينيات، حيث استطاعت هذه البورجوازية أو الفئات الوسطى تجاوز الطائفية تماماً ولم شمل المسلمين والأقباط حتى كان هناك أقباط منتخبين فى البرلمان بل كان منهم فى بعض الأحيان رئيس البرلمان المنتخب دون أن يثير ذلك أى تعليق سخيف من النوع الذى نسمعه اليوم عن الخشية من تحكم المسيحيين فى المسلمين! كان الجميع مواطنين فحسب، وظهرت شخصيات وطنية مسيحية كان لها دور مشهود على الساحة السياسية.
وكانت الحركة الشيوعية العنصر الثانى فى الثقافة السياسية المصرية خاصة انطلاقاً من الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
وكان العنصر الثالث فى الثقافة السياسية المصرية رجعيًا ويتكون من كبار ملاك الأراضى والنظام الملكى.
ولعبت دائماً قيادة الإخوان المسلمين دوراً مضاداً للمد الثورى فى مصر وفى ضرب الحركة الثورية فى مصر منذ العشرينات، فساندت ديكتاتورية صدقى باشا ضد الوفد، ثم اتخذت خلال الحرب العالمية الثانية موقفاً يميل إلى الفاشيست الألمان ضد الإنجليز. وخرجت فى 21 فبراير 1946، إبان انتفاضة العمال والطلبة، من الجبهة الوطنية الممثلة فى اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال، لينضموا إلى صدقى فى هذه الفترة. وفى اللحظة الثورية التى نعيشها هذه المرة أيضاً، دخل الإخوان متأخراً فى المظاهرات الشعبية. من هنا أصبحوا مرشحين للتحالف مع شخوص النظام السابق وبالتالى يتخلون كالعادة عن الطبقات الشعبية المصرية.
ويتحمل جمال عبد الناصر أيضاً- فى رأيى الشخصى- مسئولية كبيرة عن قيام الإسلام السياسى فى بلدنا بدور المانع الأساسى لتسييس الجماهير، فعندما ألغى عنصرين أساسيين من الحياة الثقافية المصرية، هما العنصر الليبرالى البورجوازى والحركة الشيوعية، بضربه الوفد، ومنعه الأحزاب، وضرب الحركة الشيوعية بأساليب أكثر عنفاً حتى من تلك التى اتبعها النظام الملكى السابق له فى مكافحة الشيوعية، خلق بذلك فراغاً شغلته التيارات الإسلامية التى كانت موجودة دائماً بدرجة ما فى المجتمع، دون أن تحتل مقدمة المسرح مما مهد الأرض لانتشار الإسلام السياسى والإخوان المسلمين. كان جمال عبد الناصر بنظرته السلطوية يتصور أنه قادر على إلغاء الشيوعية والليبرالية البورجوازية وإخضاع التيار الإسلامى له ببعض الكلام عن اشتراكية الإسلام... الخ إلا أن التاريخ أثبت إمكانية التلاعب بسهولة بهذا الكلام وحتى قلبه إلى نقيضه، ليصبح هذا التأويل للإسلام عدوًا للاشتراكية والديمقراطية وليس الشيوعية فقط. ويشيع الإخوان المسلمون اليوم أن الإصلاح الزراعى كان إصلاحاً "شيوعياً" معادياً لمبادىء الإسلام المقدسة التى تقدس الملكية الخاصة.. إلخ وهو كلام رجعى جداً على المستوى العالمى وليس الوطنى فحسب، فلا أحد فى أوروبا الرأسمالية على سبيل المثال يصدر عنه مثل هذا الكلام عن الإصلاح الزراعى وحتى البنك الدولى يعتبر يسارًا بالنسبة للإخوان المسلمين بخصوص ذلك!
سمحت الظروف للإخوان المسلمين بالظهور بصفتهم "معارضة" للنظام. وهذا غير صحيح بالمرة. فالنظام- السادات ثم مبارك- هو الذى أعطى للإخوان ما يكاد يكون الإنفراد فى حق ممارسة الخطاب السياسى كما أن النظام قد سلم للإسلام السياسى (أى فى واقع الأمر للإخوان) مسئوليات قيادية فى "أسلمة السياسة والمجتمع" من خلال سيطرتهم على التعليم والقضاة والإعلام. فالإخوان جزء لا يتجزأ من النظام.
هناك، إلى جانب الإخوان، تيارات "إسلامية" أخرى، ومنها السلفيون الذين يظهرون بصفتهم الجناح "المتطرف". ولكن: هل هذا التيار يتمتع باستقلال حقيقى ويعادى الإخوان؟ أم هناك توزيع للأدوار، بحيث أن يظهر الإخوان "معتدلين" يعطون لواشنطن وحلفاءها المحليين تبريراً لمنحهم "شهادة الديموقراطية"؟ هذا هو بالتحديد اللعب الخبيث الذى يقوم به اوباما.
فالعدو- أقصد الاستعمار (وعميله الصهيونى بالطبع)- يعلم تماماً أن "أسلمة" السياسة والمجتمع والإغراق فى التأويل الوهابى المتجمد السلفى للإسلام إنما هو ضمان عجز المجتمع المصاب به عن مواجهة فعالة لتحدى العصر. وهذا هو فى نهاية المطاف هدف الولايات المتحدة والخليج وبالتالى أيضاً هدف الدولة الإسرائيلية: إجهاض الثورة ونهضة مصر.
ملاحظة أخيرة: هناك أيضاً تيار إسلامى، وهو تيار الطرق الصوفية (ويقال بهذا الصدد أن حوالى 15 مليون مصرى أعضاء فى طرق صوفية) الذى بدأ فى الظهور على الساحة السياسية نظراً لتهديده من قبل التيارات الإسلامية ذات الأصول الوهابية وبالرغم من تنوع هذه الطرق، إلا أنها تمثل بصفة عامة تياراً يرحب بالعلمانية وذلك لأن وجودهم مرتبط بفصل الدين عن الدولة.
المؤسسة العسكرية: علامة استفهام؟
أعلنت حكومة واشنطن "خطة أوباما لإجهاض المد الثورى فى مصر"، من خلال مرحلة انتقالية قصيرة، يبقى نظام الحكم خلالها فى أيدى الطبقة الحاكمة، بعد الحفاظ على الدستور الحالى بتعديلات تافهة وانتخابات سريعة عاجلة تضمن مساهمة الإخوان المسلمين فى البرلمان واستمرار النظام. توجد الآن وثيقة أمريكية نشرت مؤخرا تؤكد أن هذه هى بالفعل الخطة الأمريكية.
وقد تم تنفيذ مرحلتها الأولى فعلا والخاصة بالاستفتاء وستتمثل المرحلة الثانية منها فى انتخابات سبتمبر أو أكتوبر. والنمط الذى تسعى الولايات المتحدة إلى انجازه فى مصر يستلهم النموذج الباكستانى وليس التركى أبدا. والفارق كبير بينهما، ففى النموذج التركى تقف المؤسسة العسكرية وراء الستار لضمان "علمانية المجتمع". وتلك ليست ظروف مصر على الإطلاق. فالنمط الباكستانى يعد النمط الرئيسى "للديمقراطية" الذى تعده الولايات المتحدة لمصر. وما قيل فى أوروبا وهنا وفى البلدان العربية الأخرى عن النمط التركى هو كلام للتضليل وتسويغ النموذج الباكستانى المعد فعلا. يتمثل النمط الباكستانى فى هيمنة بورجوازية طفيلية تابعة ونظام حكم يعلن نفسه إسلاميًا، تقف وراءه من خلف الستار المؤسسة العسكرية، التى تدخل إلى مقدمة المسرح من وقت إلى آخر لتصفية الصراعات بين التيارات الإسلامية المختلفة باعتبارها رمانة الميزان، لا أكثر من ذلك.
فالمطروح بالنسبة إلى مصر إنما هو النمط الباكستانى، حيث يقبع الجيش- وهو هذه الحالة جيش "إسلامى" خلف الستار، وفى مقدمة المسرح يحكم برلمان إسلامى هو الآخر "منتخب". هذا هو نمط الديمقراطية المقدم من الولايات المتحدة لنا!
يسعى إذن هذا المخطط إلى تعزيز سلطة الكتلة الرجعية المكونة من تحالف البورجوازية التابعة وأغنياء الفلاحين وقيادة الإسلام السياسى علماً بأن هذه الكتلة الرجعية المصرية تكره الديمقراطية وتخشاها مدركة تماما أن الديمقراطية الصحيحة فى مصر لابد وأن تتحول إلى حركة اجتماعية تقدمية فى المجال الاجتماعى، (لا أريد أن أقول أنها ستكون بالضرورة "ثورية")، بالإضافة إلى كونها معادية للاستعمار. هذا بالضبط ما تخشاه الولايات المتحدة والتكتل الرجعى المصرى.
فالمطلوب من نظام الحكم فى مصر إنما هو ضمان استمرار تبعية مصر فى المجال السياسى (ومن باب أولى "احترام شروط" "السلام" مع إسرائيل، أى بمعنى أدق الامتناع عن التضامن مع شعب فلسطين فى مواجهة مشروع امتداد التوسع الاستيطانى الإسرائيلى فى الأراضى المحتلة، من جانب، وفى المجال الاقتصادى من الجانب الأخر (بمعنى استمرار التبعية "للعولمة").
وقد قبل كل من قيادة المؤسسة العسكرية والإخوان المسلمون هذه المطالب الأمريكية إذ
يعتمد هذا المخطط الأمريكى على ولاء قيادة المؤسسة العسكرية لواشنطن.
فكثير من قادة الجيش حالياً تلقوا تعليهم وتدريبهم الأساسى فى الولايات المتحدة كما أن الجيش اشترك على مدار السنوات الماضية فى كثير من المناورات المشتركة مع القوات الأمريكية الموجودة فى المنطقة وكان يقوم لها بالكثير من الخدمات المعاونة. كما أن انصراف الجيش عن العمليات القتالية إلى العمليات المدنية وهطول الأموال الأمريكية عليه فى شكل معونات عسكرية تقدر سنوياً بحوالى 1.5 مليار دولار حوله مع ما سبق ذكره كما يقول كثيرون عن العقيدة القتالية الوطنية إلى شركة الجيش التى يحقق أعضاء مجلس إدارتها أرباحاً طائلة ويخصصون لأنفسهم رواتب باهظة من احتلالهم مقاعد الإدارة فيها. وهم يعرفون تماماً أن المعونة العسكرية الأمريكية هى رأسمال شركتهم، وهو ما يكشف اضمحلال العقيدة القتالية الوطنية فى الجيش واستشراء الفساد فى صفوفه. كما أن الامتيازات والكوادر الخاصة للرتب العسكرية العليا والبدلات الباهظة التى كانوا يحصلون عليها فى إطار نظام مبارك يجعلهم مرشحين إلى أن يكونوا جزءًا من التكتل الرجعى الذى يهدف إلى إجهاض المد الثورى والحفاظ على جوهر النظام كما هو.
هذا المخطط الأمريكى الخليجى للحيلولة دون يقظة مصر. استطاع الجيش أن يحفظ على سمعته بالامتناع عن المساهمة فى ضرب الثورة، ثم المبادرة التى اتخذتها قيادته العليا فى استبعاد مبارك. ولكن تظل أهدافه البعيدة مجهولة إلى حد كبير. وذلك بالرغم من اتخاذ قيادة المؤسسة العسكرية إجراءات تشير إلى انحيازها للقوى المحافظة المكونة لكتلة الثورة المضادة، ذكرتها فيما سبق: تعيين شحصيات من النظام لتقود "حكومة المرحلة الانتقالية"، الإنفراد فى "الحوار" مع الإخوان وأصدقائهم واستبعاد القوى الجديدة الديمقراطية, الشباب، اليسار)، وتأكيد القوانين الرجعية التى سنتها تلك الحكومة فى مارس 2011 (قانون الأحزاب، منع الإضرابات).
ملاحظة حول الفساد:
الفساد كلمة خطيرة تستخدم أيضا دون توضيح علاقته بالهيكل الاجتماعى الذى يعمل فى إطاره. وبالتالى يقال عن الفساد كلام أخلاقى باعتباره رذيلة. أقول أنا أن مجرد المطالبة "بحكم غير فاسد" هو مقولة ضعيفة المعنى.
وفى مواجهة هذه الصياغة المبهمة أزعم أن الفساد جزء عضوى من الرأسمالية القائمة بالفعل. فلا يمكن أن تكون هذه الرأسمالية المعاصرة خالصة من ظاهرة الفساد الذى يعد وسيلة ضرورية لتوسيع مجال سيادة العلاقات الرأسمالية. فالبورجوازية فى مصر المعاصرة تكونت على أساس الفساد، حيث لم تكن هناك انطلاقا من عام 1970 الشروط التى تتيح تكوين البورجوازية بأساليب أخرى. فالمقولة التى تدعى أن الفساد سمة ظهرت فى كل المجتمعات عبر التاريخ غير صحيحة، وأن الفساد أصبح منذ 40 سنة على الأقل سمة رئيسية للنظام الرأسمالى كما هو قائم بالفعل حاليا فى الوقت المعاصر. فالقول الذى كان يردده فى الماضى حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى القائم على التمييز بين رأسمالية غير طفيلية، وغير فاسدة، وبين الرأسمالية الطفيلية هو قول ليس له علاقة بما يمكن أن تكون الرأسمالية فى ظروفنا، فى إطار المنظومة المعولمة الحديثة.
بل أذهب إلى أبعد من ذلك. أقول أن الفساد فى المجتمعات الغربية المتقدمة قد أصبح أيضًا عنصرًا عضويًا فى النظام. بالتالى لا يمكن أن نتحدث الآن عن الفساد إلا كعنصر عضوى فى الرأسمالية بشكل عام. لذلك أقول أن الرأسمالية دخلت مرحلة "الشيخوخة". أقصد بذلك لفت النظر إلى تلك العلاقة النظامية التى تربط هيمنة الاحتكارات على المنظومة الإنتاجية واستخراج الريع الاحتكارى من جانب وظاهرة الفساد الناشئة عن التفاعل بين ممارسة السلطة السياسية واستخراج هذا الريع من الجانب الآخر. أقول إذن أن التخلص من الفساد أصبح مستحيلاً دون انجاز تغيير جوهرى فى علاقات الإنتاج.
فقبل أربعين أو خمسين عاما كانت هناك احتكارات فى البلدان الرأسمالية المتقدمة، لكن إلى جانبها كانت توجد قطاعات واسعة من الإنتاج الرأسمالى الصناعى والزراعى والخدمى المستقل عنها، والتى كانت قاعدة للمنافسة وبالتالى قاعدة للديمقراطية البورجوازية فى إعادة تكوين النظام وأيضا القاعدة لعلاقات اقتصادية غير فاسدة (غير قائمة على الفساد). إلا أن التغير الكيفى الذى حدث فى الرأسمالية خلال الثلاثين سنة الماضية وتحويلها من رأسمالية الاحتكارات إلى ما اسميه رأسمالية الاحتكارات المعممة، هى فى قلب المشكلة حيث بلغ تركيز الأموال- وهى ناتج التطور الطبيعى للرأسمالية - درجة لم يعد معها هناك قطاع فى الإنتاج مستقل عن هيمنة الاحتكارات. وحتى القطاعات التى تبدو على أنها مستقلة، تعمل فى واقع الأمر من الباطن للاحتكارات. بهذا المعنى انتهت المنافسة الحقيقية التى كانت قاعدة تفعيل
للرأسمالية من غير فساد (علاقات اقتصادية غير فاسدة وغير قائمة على الفساد) وأيضا قاعدة الديمقراطية البورجوازية فى إعادة إنتاج النظام.
لقد تصور ماركس إمكانية حدوث ذلك لكنه لم يقل بصدده أكثر من جملتين أو ثلاثة ورجح حدوث الثورة الاشتراكية قبل الوصول إليه. هذا لم يحدث وبالتالى حدث ما تصوره، أى التطور نحو الأسوأ. كما أن هذه الدرجة العالية من التركيز أدت إلى تغيير جوهرى كيفى فى ممارسة الديمقراطية، بمعنى أنه لم يعد لها مضمون فأصبحت الأحزاب المرشحة لتناول السلطة عبر الانتخابات تابعة لسلطة الاحتكارات، وبالتالى سواء انتخب الناخبون اليمين أو اليسار، لم يعد ذلك يغير من الأمر شيئا.
ثالثاً: التجارب السابقة الأخرى
اندونيسيا والفيليبين ومالى، أوروبا الشرقية، أمريكا اللاتينية
يجب أن نكون مدركين فى مصر أن هناك انتفاضات شعبية وقعت خلال السنوات الأخيرة فى عدد من البلدان وفى ظروف مختلفة خاصة لكل منها. ويجب أن ننظر بتمعن إلى نتائجها.
أقسم هذه الانتفاضات إلى ثلاثة أنواع. أولاً النوع الخاص ببعض بلدان الجنوب فى آسيا وأفريقيا، وسأضرب المثل عليه بالفلبين وإندونيسية ومالى. ثانيًا النوع الخاص ببلدان شرق أوروبا. وثالثاً ذلك الخاص بأمريكا اللاتينية. علماً بأن الانتفاضة ضد النظام كانت واسعة فى الأنواع الثلاثة من "الثورات".
كانت توجد فى البلدان الآسيوية، الفلبين وإندونيسيا ديكتاتوريات شبيهة تماما بديكتاتورية مبارك، كان هناك رئيس جمهورية فاسد وديكتاتور محاط بالأوتوقراط وثلة قريبة منه وكان التعذيب منتشراً أيضا وما إلى ذلك من الأمور المعروفة فى هذا السياق من الحكم. وكانت الانتفاضة رغم اختلاف الظروف من بلد إلى آخر شبيهة إلى حد ما بانتفاضة يناير- فبراير 2011 عندنا، بمعنى أن الفئات الوسطى والتقدمية والشباب قامت بالدور الأساسى فيها كما أن الجماهير الشعبية انضمت إليها أيضا.
ويمكن أيضا إدخال انتفاضة مالى ضد ديكتاتورية موسى تراورى ضمن هذا النوع. أدت المعركة الأولى إلى سقوط الديكتاتور وليس النظام. وكلفت الإنتفاضة الشعبية فى مالى من الضحايا عشرة آلاف قتيل واستمرت حوالى سنة وليس إسبوعين أو ثلاثة كما حدث عندنا وأدت فى نهاية الأمر إلى طرد الديكتاتور. لكن ماذا حدث بعد ذلك؟ أن تمتع الشعب بحرية حقيقية- وليس كما هو الأمر عندنا- فحرية تكوين الأحزاب هناك مفتوحة وهناك مناخ من الحرية الشاملة فيما يتعلق بحرية التنظيم. إلا أن النظام استخدم الضغط الخارجى- بخصوص وجود تنظيم القاعدة فى شمال البلاد على أساس أن القضاء على القاعدة هى المهمة الأساسية، لعدم القيام بأى تغيير وإجهاض أى استثمار تقدمى لفرض الطبقات الشعبية والفئات الوسطى للديمقراطية السياسية فى الممارسة اليومية. واستخدم النظام أيضا التيار الإسلامى المحافظ القائم على تأويل متجمد الذى يموله الخليج.
ولا يختلف الأمر كثيراً فى إندونيسيا والفلينيين، حيث تم التخلص من الرئيس، إلا أن الطبقة الحاكمة ظلت فى الحكم، فأصبحت الديمقراطية غير نافعة. فهناك فى إندونيسيا ديمقراطية فتحت أبوابًا لتكوين أحزاب اشتراكية، ولكن الطبقة الحاكمة استخدمت الإسلام السياسى وإثارة النزاعات الطائفية بين الأغلبية المسلمة والأقليات المكونة من المسحيين والهندوس (15% من السكان) لجعل المشكلة الطائفية التى تتسبب بها الخطابات الرافضة لحقوق الأقليات فى مجتمع إسلامى مثل إندونيسيا، القضية الأساسية مما شل تماما الحركة الاحتجاجية.
فلابد لأن أن نضع فى اعتبارنا أن هناك حركات قوية وقعت فى بلدان أخرى من الجنوب، ولم تقل من حيث القوة عن الحركة المصرية، لكنها لم تأت بالنتائج المنتظرة. وفى جميعها استخدم الإسلام السياسى فى الحفاظ على استمرار التكتل الرجعى فى السلطة والتبعية للغرب. ويدخل ضمن هذه اللعبة الخبيثة استخدام الإرهاب والقاعدة لإبقاء الأوضاع على ما هى عليه. باسم "محاربة الإرهاب" ومنع الانتفاضات والحركات الشعبية من إنجاز تغييرات محسوسة بتحويل الرأى العام إلى قضايا أخرى. ولعله سوف نعلم بعد خمسين عاما أن أسامة بن لادن كان مقيمًا فى الولايات المتحدة وأنهم يخرجوه من وقت إلى آخر وفى اللحظة المناسبة لإلقاء البيانات التى تعطيها تبريرا للتدخل العسكرى هنا أو هناك! لا ينفى ذلك سير بعض الناس المُضللين وراء هذه الشخصيات او الحركات وهو أمر طبيعى فى الحركات من هذا النوع. لكن القيادة فى الطرفين، الولايات المتحدة من جانب، والحركات السلفية المتجمدة من الجانب الآخر، واعية تماما بما تفعل, هذا بالنسبة إلى تجارب آسيا وأفريقيا المعنية.
أما فى شرق أوروبا، فقد قامت انتفاضات ضد النظام الشيوعى (الاشتراكية القائمة بالفعل). ولا أريد أن أدخل هنا فى تفاصيل هذه القصة. وقد أدت هذه الانتفاضات إلى تفتيت هذه الأمم على أسس أثنية أو دينية أو لغوية كما جرى الأمر فى يوغوسلافيا على سبيل المثال. فى جميع الأحوال صارت هذه البلدان مناطق تابعة لأوروبا الغربية، ألمانيا وفرنسا وإنجلترا أساسا، فى ظروف شبيهة للعلاقة غير المتساوية بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية. لدينا هنا إذن تجارب لانتفاضات واسعة نجحت ليس فى تجاوز النظام من اليسار ولكن فى سقوطه على اليمين وإقامة نظم أسوأ من النظم السابقة لها.
تعتبر أمريكا اللاتينية النموذج الأمثل بالنسبة لنا. فما حدث هناك إلى الآن، نجاح وتقدم للمد الثورى. كانت المرحلة الأولى من هذا المد الثورى فى البرازيل والتى أخذت شكل حركة جماهيرية واسعة شملت فئات مختلفة من الطبقات العاملة بالأساس (لكون البرازيل بلد متقدم فى الصناعة) وفقراء الفلاحين والفئات الوسطى، أدت إلى نظام لولا (مهما كانت حدوده وحقيقة إنجازاته... الخ).
كانت الحركة الشعبية أقوى فى بوليفيا واستمرت خمس سنوات مقدمة أكثر من 20 ألف شهيد، وأدت فى نهاية الأمر إلى تغيير الأوضاع، ودستور جديد، وإصلاحات اجتماعية (لا أريد أن أقول اشتراكية) وتبنى سياسة معادية للاستعمار تماما... إلخ. إذن عندنا فى أمريكا اللاتينية نماذج للمد الثورى المستمر، تعد النمط الأمثل للتغيير فى الظروف الحالية. وكذلك فنزويلا، لكنى لا أريد أن أدخل فى تفاصيل حتى لا يتحول المقال من الحديث عن مصر إلى الكلام عن تلك البلدان.
رابعاًَ: قراءة لتاريخ مصر المعاصر
أنظر إلى تاريخ مصر المعاصر باعتباره تاريخ مد ثورى طويل ثم انهيار طويل، وربما تكون حركة 52 يناير 2011م هي بداية المد الثورى الطويل الثانى. استغرق المد الثورى الطويل الأول 40 سنة من 1920 إلى 1967م. شكل الوفد المرحلة الأولى فى هذا المد وكانت الفترة من 1920 إلى 1924 المرحلة الأكثر تقدمية وديمقراطية فى تاريخ مصر المعاصر. وحدثت بعدها ردة نتيجة خيانة جزء من القيادة الوفدية فى عام 1924 إنطلاقا من سعد زغلول نفسه بضربة الحزب الشيوعى الأول والتيار اليسارى داخل حزب الوفد.
ولحقه بعد ذلك فى هذا الطريق السعديون وغيرهم وتبعتها ردة ديكتاتورية صدقى وإنشاء منظمة الإخوان المسلمين ، ليعود بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، انطلاقاً من 21 فبراير 1946. فاتخذ المد الثورى شكلاً متجدداً يتمثل فى التحالف بين الطلبة كممثلين للفئات الوسطى الديمقراطية والمعادية للاستعمار، والطبقة العاملة والشيوعيين. بدأت الردة بخيانة الإخوان المسلمين للحركة لصالح صدقى باشا ثم عادت الحركة لتستمر بعودة الوفد للحكم ثم الردة أيضا التى تمثلت فى حريق القاهرة الذى لعب الإخوان المسلمون دورا فيه ثم الإنقلاب العسكرى.
فالانقلاب الأول لعام 1952 ثم الانقلاب الثانى لعام 1954 لم يمثلا "نشأة الثورة" (ثورة يوليو كما يقال) بل مثلا الفصل الأخير للمد الثورى. ثم أنتج النظام الجديد ما أنتجه وتبلوَّر فى الناصرية بين 1954 و1956، فى أعقاب مؤتمر باندونج وإظهار النظام لمواقف معادية للاستعمار للمرة الأولى منذ 1952م. كانت الناصرية فى واقع الأمر محصلة لفترة وليست انطلاقة لمرحلة جديدة كما حاول عبد الناصر أن يعطى لنفسه صورة مزيفة كمجدد فى الحياة المصرية بينما الواقع أنه أنهى الموجة الثورية.
فأنتج النظام بما كان المجتمع المصرى قادرا على إنتاجه من نظام معادى للاستعمار كما حقق إصلاحات اجتماعية (وليست اشتراكية) بمعنى تحقيق بعض المكاسب والإصلاحات فى صالح الطبقات الشعبية ولكن بشكل فوقى وغير ديمقراطى. فالنظام رفض الديمقراطية والجذرية. أنتج ذلك ما كان يستطيع أن ينتجه فى ظرف 10 سنوات لا أكثر ثم دخل فى أزمة بعد ما بلغ حدوده وفقد نفسه. وانتهز الاستعمار الأمريكى عن طريق الصهاينة هذا الضعف وضربه فى عام 1967م.
ما حدث بعد ذلك أن بدأ جمال عبد الناصر نفسه الانفتاح عبر تفضيله خيار تقديم تنازلات لليمين عن طريق فتح باب انفتاح اقتصادى على خيار تجذير النظام. ثم عمق السادات الانفتاح وربطه بالتحيز والخضوع للولايات المتحدة والصهاينة واستمر مبارك فى نفس الطريق.
إذن جاءت بعد المد الثورى الأول الذى استمر 40 عاما، فترة من أربعين سنة أخرى تمتد من 1970 وحتى 2011، استغرق فيها المجتمع المصرى فى النوم، دون أن يكون له وزن فى المنطقة ولا فى العالم.
إننا ندخل اليوم فى مد ثورى ثانى جديد، يمكن أن تكون حدوده أفضل من المد الثورى الطويل الأول وأعتقد أن التوعية فى ظل الظروف العالمية والمحلية المختلفة يمكن أن يكون لها دور فى تحقيق ذلك
* العناصر المكونة لتكتل القوى الثورية
* مقتضيات التغيير
2-استراتيجيات الثورة المضادة
* كتلة التحالف الرجعى
*الإخوان المسلمون والتيارات الإسلامية
*المؤسسة العسكرية: علامة استفهام؟
*ملاحظة حول الفساد
3-التجارب السابقة (إندونيسيا، الفيليبين ومالى) والأخرى (أمريكا اللاتينية)
4-قراءة لتاريخ مصر المعاصر
أولا: سمات الثورة المصرية ومقتضيات التغيير
■· العناصر المكونة لتكتل القوى الثورية
تبدو لى الحركة التى أخذت مجراها فى المجتمع المصرى أواخر يناير 2011 فى واقع الأمر انطلاقاً ثورياً قد يتحول إلى مد ثورى -- لا أكثر. فما حدث هو أكثر من مجرد انتفاضة أو فورة يعود بعدها المجتمع إلى ما كان عليه قبلها، اي أكثر من حركة احتجاج, لكنه أيضاً أقل من ثورة. بمعنى أن تلك الحركة لم يكن لها أهداف واضحة تتجاوز الإطاحة بمبارك، يرجع ذلك إلى طبيعة المطالب الواضحة والضمنية للقوى التى انخرطت فى تلك الحركة وأهدافها. يمكن أن نقول أنه كانت هناك ثلاثة عناصر رئيسية فى تلك الحركة بالإضافة إلى عنصر رابع سأتحدث عنه لاحقاً.
تتمثل العناصر الأساسية للحركة فى:
أولاً, الشباب المسيس أصلاً والمنظم فى شبكات مرتبطة ببعضها بعضاً، يصل عدد أعضائها إلى مليون شاب، يمثلون ما يمكن أن نطلق عليه الجيل الجديد. تنحدر أصول هذا الشباب من الفئات الوسطى أساساً بما فيها الفئات الوسطى الدنيا القريبة من الجماهير الشعبية لكن دون أن يوجد بينهم جناحًا شعبيًا بالمعنى الصحيح للكلمة، أى أبناء عمال وفلاحين فقراء.. الخ. لقد سيس هؤلاء الشباب أنفسهم خارج الأحزاب وفى إطار نظام ألغى الحياة السياسية لعقود. وهو أمر فى حد ذاته يستحقون عليه الثناء. لا يكون هؤلاء الشباب قطعاً كتلة متجانسة لكن التيار الغالب بينهم يطالب بما يتجاوز المطالب الديمقراطية البسيطة. لا تقف المطالب عند مجرد الانتخابات النزيهة والمتعددة الأحزاب، متجاوزة ذلك إلى حرية التعبير وحرية الممارسة الاجتماعية فهى إذن مطالب ديموقراطية صحيحة وكاملة.
فهم معاصرون وحداثيون يعرفون ما يحدث فى العالم ويدركون أحوال حياة الشعوب فى البلدان الأخرى. ولذلك يقفون إلى حد كبير خارج دائرة الخضوع "للتقاليد" بما فيها التقاليد الطقوسية فى الممارسات الدينية. أسمى مطالبهم مطالب ديمقراطية صحيحة أيضًا لأنها تتجاوز تلك النقطة إلى العداء للاستعمار، بمعنى أن هؤلاء شبان وطنيون يريدون عودة شرف الوطن المصرى، ومؤمنون تماماً بأن مصر لابد أن تكون دولة مستقلة وليست خاضعة وتابعة للسياسة الأمريكية وخاصة فيما يتعلق بسياسة إسرائيل التوسعية. فهم بهذا المعنى معادون للاستعمار على أرضية وطنية، لا أقول أنها بالضرورة قومية عربية، لأن هناك درجات مختلفة من الوعى القومى تظهر أحياناً بينهم، وأحياناً يتنحى الوعى القومى لصالح الوعى الوطنى المصرى فقط. لا شك فى أنه لدى هؤلاء الشباب ميولاً نحو التعاون مع البلدان العربية، لكنهم أيضاً يشعرون بنفس الأمر تجاه البلدان الأفريقية والآسيوية وبلدان الجنوب بوجه عام. وأعتقد أنهم بإطلاعهم الواسع على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) تأثروا كثيراً بما حدث فى أمريكا اللاتينية فى السنوات العشر الأخيرة، ولو أنهم لا يعرفون كثيراً عن واقع تلك القارة، إلا أنه لا يمكن إهمال أثر التغيرات التى جرت فى تلك البلدان وشخصيات مثل شافيز وموراليس ولولا عليهم، لأن ما حدث هناك بالذات هو التلاقى بين المطالب الديمقراطية الصحيحة وتلك المعادية للاستعمار.
من جانب آخر لدى هؤلاء الشباب ميول يسارية على المستوى الاجتماعى بمعنى أنهم بدون أن يكونوا بالضرورة معادين للرأسمالية واقتصاد السوق، وبدون أن يكونوا مدركين بالضرورة لشروط التغيير أيضاً فإنهم يرفضون المجتمع بحالته الراهنة من التفاوت المتزايد بين المليونيرات والمليارديرات من جانب والفقر المتزايد والمتفاقم من جانب آخر، وهناك ميل عام واضح لديهم ولكن غير محدد لما نطلق عليه العدالة الاجتماعية، بدون أن يكون لديهم بالضرورة وصفة أو بديلاً ملموسًا فى المجال الاقتصادى. هؤلاء الشباب هم مفجرو الحركة بدعوتهم الناس إلى النزول إلى الشوارع يوم 25 يناير 2011. لعب قطعاً ما حدث فى تونس فى الأسابيع القليلة السابقة على هذا التاريخ دوراً تشجيعياً لهم على مواجهة الأجهزة القمعية وعدم الاستسلام لما تمارسه من قهر وعنف.
ثانيا, لبي اليسار المصرى الراديكالى دعوة هؤلاء الشباب من الوهلة الأولى لأنه كان مستعدًا لذلك، إلا أنه كان نتيجة إلغاء الحياة السياسية لعقود طويلة انطلاقاً من عبد الناصر ومن بعده السادات ومبارك طبعاً معزولاً نسبياً مكوناً بشكل رئيسى من مثقفين إلى جانب عناصر من الفئات الوسطى وربما بعض العناصر من الطبقة العاملة من خلال النقابات والصراع الطبقى فى المصانع لا أكثر من ذلك، الأمر الذى انعكس بدوره على أخذ تشكيلات اليسار شكل المجموعات والمنظمات الصغيرة ومنظمات المجتمع المدنى المختلفة..
أعتقد وربما أكون متفائلاً فى ذلك أن هناك نوعًا من التعاطف التلقائى بين الشبان ومجموعات اليسار لأن هؤلاء الشباب يساريون فى نهاية الأمر بإيمانهم بالديمقراطية الصحيحة وعداءهم للاستعمار وتوجههم الاجتماعى إن لم يكن الاشتراكى. ولذلك أرى أن التفاهم بين اليسار الراديكالى والأغلبية الكبرى من الشباب يمثل جوهر وأساس مستقبل الثورة لأن المستقبل بيد هؤلاء الشباب.
ثالثا, يتمثل العنصر الأساسى الثالث للحركة فى ما تطلق عليه بعض الأدبيات "البورجوازية الليبرالية"، وإن كنت لا أحبذ هذا التوصيف وأفضل عليه "عناصر من الفئات الوسطى الليبرالية الديمقراطية" لأن البورجوازية كطبقة فى مصر رجعية وأعتقد أنها كذلك الآن أكثر مما كان الأمر عليه سابقاً. فجوهر الطابع الأساسى للبورجوازية المصرية أنها رجعية كمبرادورية أى أنها طفيلية وتابعة.
ولا يمكن التمييز فى الواقع المصرى بين بورجوازية طفيلية وبورجوازية غير طفيلية إذا قصدنا بالبورجوازية معناها الصحيح المتمثل فى أصحاب المال وبالتالى المشروعات الصناعية والتجارية والخدمية. صحيح أن هناك بعض المصانع الصغيرة التى يملكها بعض المهنيين الوطنيين الذين يدخلون فى دائرة البورجوازية أيضاً. إلا أنهم فى الواقع لا يمثلون سوى فئة صغيرة ولا تنتمى فى الظروف المصرية إلى الكتلة الأساسية للبورجوازية، بل هى مستبعدة. على سبيل المثال، فى مجال البناء والتعمير، تعانى الشركات الصغيرة من هذا النمط من ضغوط الشركات الكبرى الكمبرادورية التى تجبرها على العمل من الباطن لحسابها. ناهيك عن ممارستها ضغوط متعددة عليها مستخدمة وسائل الدولة المرتبطة بها والفساد بحيث أننا لا نستطيع أن نتحدث عن بورجوازية وطنية فى ظروف مصر. فالبورجوازية فى مصر تابعة واستفادت فعلاً من الاندماج فى العولمة كما هى أى عولمة تابعة للولايات المتحدة والاستعمار المهيمن. وبالتالى هذه القوى رجعية على طول الخط.
ولكن الفئات الوسطى شىء آخر، عبارة عن المهنيين، وهم يمثلون عددًا كبيرًا من المحامين والمهندسين والمحاسبين والأطباء، الموظفين فى الحكومة والشركات، منهم الغنى والمتوسط والفقير. تنقسم هذه الفئات الوسطى إلى جناحين على أرضية أيديولوجية وثقافية أكثر منها سياسية، جناح إسلامى بالمعنى السلفى والطقوسى للكلمة، (فالمشكلة هنا ليست فى التقسيم بين المؤمنين وغير المؤمنين، فالأغلبية الكبرى من الشعب المصرى سواء كانوا مسلمين أم أقباط هم مؤمنين، والقضية ليست قضية إيمان) أى الجناح المتخلف فكرياً الداخل فى إطار تصور الإسلام السياسى (الإسلام كحل سياسى للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)، وهو الجناح الغالب بين الفئات الوسطى بدليل سيطرته على النقابات المهنية ليس بالصدفة طبعاً ولكن عبر مساعدة حكومة السادات ومبارك وبالتمويل الخليجى ولكن أيضاً بسبب وجود قاعدة لهم فى هذه القطاعات.
إلا أن هناك تيار آخر فى الفئات الوسطى يمكن أن نسميه مستنيرًا، ينتشر بين القطاعات المتفتحة من هذه الفئات التى تشارك الشباب فى مطالبه الديمقراطية الصحيحة بمعنى الديمقراطية فى الممارسات الاجتماعية على الأقل جزئياً وليس الانتخابات النزيهة فقط، فهم غير متحمسين لأشياء مثل الحجاب وغير متعصبين فيما يخص المشكلة الطائفية الدينية. فهم مستنيرون بمعنى أنهم لا يكرهون "الغرب" ولا "الأوروبيين"، بل على العكس كثيرون منهم سافروا ورأوا تلك البلدان ولديهم تعاطف تجاه المجتمعات الغربية دون أن يكونوا بالضرورة مدركين للطابع الاستعمارى للسلطة فى البلاد الديمقراطية الغربية. فموقفهم بين البينين. رأينا حركات مثل كفاية فى السنوات الأخيرة جمعت ناس كثيرة تنحدر أصلاً من هذه الفئات للاصطفاف خلف مطالب ديمقراطية وديمقراطية اجتماعية تتعلق بالممارسات اليومية وليست سياسية فقط.
أعتقد أن هؤلاء المستنيرين هم حلفاء حقيقيون فى هذه المرحلة لليسار ولو أنهم محدودون بمعنى أنهم لا يهتمون كثيراً بأوضاع الطبقات الشعبية الاجتماعية وقضايا مثل الفقر الذى لا يعد بشكل كبير مشكلة لهم، مع أن هناك عدداً منهم لديهم قطعاً ميول إلى تغيير السياسات والأوضاع الاقتصادية لكنهم أيضاً متمسكون إلى جانب ذلك بالاقتصاد الحر والرأسمالية ومن أنصار الاندماج فى المنظومة العالمية... الخ. كذلك بالنسبة للقبول بسياسة الولايات المتحدة وإسرائيل. لا يوجد قطعاً كثيرون لديهم ميول طيبة بالنسبة لإسرائيل، فلا شك فى أن الناس تكره إسرائيل لكنها فى الوقت نفسه تقبلها بدرجات مختلفة كأمر واقع عليها القبول به، وعلى أساس أنهم ليسوا فلسطينيين أيضاً، دون أن تكون واضحة لديهم بالضرورة العلاقة بين الطابع الاستعمارى للسلطة فى بلدان الثالوث، الولايات المتحدة وأوروبا واليابان من جهة، وإسرائيل من الجهة الأخرى.
رابعا, وقد تضافرت العناصر الثلاثة للحركة التى انخرط فى أيامها الأولى مليون شخص أو مليونان على الأكثر، فى القاهرة والإسكندرية والسويس, لتؤدي الي نقل نوعية جديدة. ففى ظرف 24 ساعة قفز هذا العدد الذي لايتجاوز ال2 مليون إلى 15 مليون شخص, حيث اجتاحت المظاهرات القطر المصري كله وليست المدن الكبرى فقط، لتشمل الأحياء والمدن الصغيرة وربما بعض القرى أيضاً. فهذا الرقم يشير إلى أن الشعب المصرى كله تقريباً اشترك فى هذه المظاهرات، ولم يكن بينه من المسيسين بعض الشىء إلا ما يصل إلى مليونين أو ثلاثة ملايين شخص على أكثر تقدير. أما الباقون فهم غير مسيسين نهائياً، نتيجة أيضاً إلغاء الحياة السياسية منذ عقود انطلاقاً من جمال عبد الناصر وتصفيته للأحزاب والحياة السياسية وإدارته للسياسة من فوق، وهو الأمر الذى ساء أكثر مع مجىء السادات ومبارك. وهذه الأمور تفسر نجاح التيار الإسلامى كتيار عام فى تعبئة هذه الجماهير باعتباره الخطاب الوحيد الذى كان متاحاً لهم عبر خطب المساجد دون أن تتاح لهم أى فرصة حقيقية على الإطلاق للاستماع إلى أى خطاب سياسى واجتماعى آخر. فمن المنتظر أن تعانى من الآن فصاعداً هذه الجماهير الضائعة على مستوى الوعى والمغالية فى إظهار المشاعر الدينية التى تبجلها الأغلبية الكبرى من الشعب المصرى بمن ينتمون فيه إلى الفئات الوسطى، من اضطراب فكرى نابع عن وجود تناقض محتمل بين مطالبهم وأهداف القيادات السياسية ليس للإخوان المسلمين فحسب ولكن أيضاً لجميع المنظمات والفرق المنضوية تحت راية الإسلام السياسى.
هكذا نكون قد تحدثنا عن العناصر الأربعة للحركة التى أخذت مجراها فى المجتمع المصرى مع حلول يوم 25 يناير 2011 والتى يمكن تقسيمها إلى ثلاثة عناصر هى الشباب واليسار الراديكالى وعناصر الفئات الوسطى الليبرالية الديمقراطية بالإضافة إلى شىء أوسع بكثير منهم يتمثل فى جماهير الشعب المصرى بشكل عام.
هيأت طبعاً ظروف وقعت فى السنوات الأخيرة لهذه الانتفاضة الكبيرة وانخراط الجماهير الشعبية فيها، فى مقدمتها انتعاش الحركة العمالية كما تتمثل فى إضرابات 2007، ونشأة فكرة تكوين النقابات المستقلة وممارستها على أرض الواقع، وصمود حركة صغار الفلاحين فى مواجهة الإجراءات الحكومية لإلغاء الإصلاح الزراعى.. الخ وبالنسبة للفئات الوسطى تمثلت هذه الظروف فى صعود حركة كفاية... الخ ونظيراتها عند الشباب ممثلة فى 6 أبريل ... الخ، أى كانت هناك عناصر متعددة تدل على أن الانفجار قريب وقادم بشكل أو بآخر. وهو ما حدث فعلاً.
مقتضيات التغيير
يتضح مما سبق أن الحركة التى بدأت فقط فى يناير-فبراير 2011 فى حاجة إلى وقت لكى تخطو قدماً للأمام, ولكى تنتعش وتتوسع وتتجذر وتتعمق بين الجماهير. ومن ثم فان المطلوب هو فترة انتقالية طويلة، لأن ما يقال عن أن الثورة أسقطت النظام وبالتالى الدستور صحيح على مستوى عالى من التجريد, ولكنه ليس صحيحاً عملياً. فهناك رغبة أو ميل لإسقاط النظام، لكن لا أكثر من ذلك. وكذلك إسقاط الدستور الذى لا يزال ساري المفعول, هو وجميع القوانين المتمشية معه. إذن فان الفترة الانتقالية الطويلة الديمقراطية بالمعنى الصحيح للكلمة تأتي فى مقدمة الشروط المقتضية للتغيير.
أقصد بـ "الديمقراطية بالمعنى الصحيح للكلمة" ديمقراطية تتيح الفرصة لتكوين كافة أشكال التنظيمات والأحزاب والنقابات بمنتهى الحرية.. الخ. هذه الفترة الانتقالية الطويلة الديمقراطية بالمعنى الصحيح للكلمة التى قد تستغرق سنتين أو أكثر هى الشرط لترويج ثقافة سياسية مدنية علمانية ديمقراطية. أقول هنا ثقافة ديمقراطية ولا أقول ثقافة اشتراكية، بمعنى أن هذه الثقافة السياسية العلمانية تضم التيارات الديمقراطية البورجوازية والمطالب الاشتراكية أو المطالب الاجتماعية التى تندرج فى إطار التطلع الاشتراكى، وذلك حتى يكون للانتخابات التى ستعقبها معنى. في تلك الحالة سيكون جزء كبير من الناخبين أشخاص مسيسين أو على أقل تقدير مطلعين على بدائل مختلفة سواء كانت على أرضية الاقتصاد أو الاجتماع أو إدارة السياسة أو إدارة الشئون الاجتماعية والحياة اليومية بما فيها الجوانب الدينية والعلاقة بين العقيدة الدينية والممارسة السياسية، وأيضاً قادرين على مفاضلتها والاختيار فيما بينها. وأعتقد أن شكل السلطة خلال تلك الفترة والأشخاص الذين سيتصدوا لقيادتها سيكونا محل معركة سياسية، بحيث نحاول فرض تغيرات ولو بالتدريج تتمثل فى رفض تعيين قيادة الجيش لشخصيات معظمها ينتمى للنظام القديم لإدارة هذا الانتقال. بل الأولى فى حالة وجود هذه الشخصيات فى صدارة المشهد كما هو الأمر الآن وإصدارهم لقوانين مضادة لحرية تنظيم الأحزاب كالقانون الذى أصدروه شبيهاً بالقانون القديم للأحزاب أو القوانين المعادية للطبقة العاملة كقانون حظر الإضرابات، أن ندرك أن الحكومة التى أصدرت مثل هذه القوانين ليست بحكومة انتقالية، وأن نتعلم من التونسيين المتقدمين عنا فرض تغيير فعلى ولو تدريجى للحكومة، بحيث تكون كحكومة انتقالية مكونة من عناصر تمثل الحركة الشعبية فى الشوارع. يفصح ذلك عن اختلاف الظروف هناك تماماً عن هنا لأن الجيش فى تونس صغير وضعيف وبعيد عن السياسة وبالتالى لا يلعب الدور الذى يلعبه الجيش فى مصر وليس له وزن. وبالتالى تتصارع فى تونس قوتان، الأولى هى قوى النظام القديم متمثلة فى الطبقة البورجوازية الطفيلية المرتبطة بالسلطة السابقة والحزب الحاكم، والثانية هى قوة الثورة ممثلة فى الفئات الوسطى والطبقات الشعبية دون أن يوجد طرف ثالث موجود وهو الجيش، كما هو الأمر عليه فى مصر. وبالتالى الحكومة فى تونس أفضل بكثير من الحكومة فى مصر. فالحكومة التونسية الحالية لا تجرؤ على الإطلاق على منع أى تكوين حزبى أو نقابى وتترك الناس لخياراتها الحرة، أى هناك ديمقراطية غير موجودة فى مصر. نستنتج من ذلك أن المطلب الرئيسى لليسار الجذرى بالتآلف مع الفئات الوسطى الديمقراطية والحركة الشعبية بشكل عام وطبعاً النقابات العمالية... الخ. وبالدرجة أولى الشباب المنظم. ونصف المنظم بحيث أن يتمثل هذا الائتلاف فى إدارة الفترة الانتقالية بأسلوب جديد وتقدمى.
ثانياً: استراتيجياً الثورة المضادة
كتلة التحالف الرجعى
تتمثل فى قوتين أو ثلاثة:
أولها الطبقة الحاكمة مشخصة فى البورجوازية، فالنظام لم يكن نظام مبارك ولا الثلة الملتفة حوله، لكنه نظام يضم معه النواب المنتخبين من الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم - ومعظمهم مدنيين أثروا من خلال الفساد، كما يضم أيضاً كل البورجوازية المصرية بمن ينتمى منهم إلى أغنياء الفلاحين.
ألفت النظر إلى هذه النقطة التى أضفى عليها أهمية كبرى. فالحديث عن "الفلاحين" بصفة عامة. وهو الشائع عندما تتحدث عن الريف بشكل عام- لا يفيد. إذ أن "الفلاحين" طبقات متباينة المصالح.
ويتشكل الريف المصرى الراهن من 40% من الفلاحين المعدمين (لا يملكون أرضاً نهائياً أو يمتلكون فدان وفيما أقل من ذلك) و 30% من صغار الفلاحين (ملكيات أو حيازات أقل من 20 فدان) و30% من أغنياء الفلاحين (ملكيات أو حيازات تزيد عن 20 فدان).
وبالرغم من أن أغنياء الفلاحين هم أغنياء بدرجات مختلفة وليسوا بالضرورة مليونيرات مثل كبار البورجوازيين، فإنهم أغنياء فى إطار المجتمع المصرى وكذلك رجعيون تماماً، ويحوزون على قدر معتبر من السلطة فى الريف بسبب علاقاتهم وارتباطاتهم بنظام السلطة المحلية ووجهاء الريف المتنفذين فى السلطة أو لديهم علاقة قوية بها مثل الطبيب والمهندس بمن فيمم رجال الدين طبعاً. ويشكل أغنياء الفلاحين أيضاً العنصر الأساسى الذى يعتمد عليه الإسلام السياسى فى الريف.
لقد أنتج الإصلاح الزراعى الناصرى تغييراً هاماً فى ميزان القوى الاجتماعية الخاصة بالريف المصرى. فأغنياء الفلاحين هم الطبقة التى استفادت أكثر من غيرها من الإصلاح على حساب كبار الملاك المسيطرين على الريف فى العهد الملكى السابق. فأقيمت تعاونيات تجمع معاً أغنياء وصغار الفلاحين، علماً بأن هذا الأسلوب أعطى للأغنياء السيطرة على التعاونيات وتحريكها لصالحهم. بيد أن الناصرية وضعت حدوداً لهذه السيطرة وفرضت "تنازلات" لصالح صغار الفلاحين بتعبير أخر يمكن القول بأن الناصرية اعتمدت على أغنياء الريف مع تحييد طبقة صغار الفلاحين.
ثم انقلبت العلاقة فى عصرى السادات ومبارك مع مخطط إلغاء الإصلاح الزراعى. فقد أعطى هذا التحول فرصة لأغنياء الفلاحين أن يثروا على حساب صغارهم من خلال تصفية ملكيتهم، وذلك باسم "التحديث" الذى يدعو البنك الدولى إليه.
ويتجلى رد فعل صغار الفلاحين فى معاركهم الراهنة وصمودهم فى مواجهة الإجراءات الرجعية المضادة للإصلاح الزراعى. وفى هذه المعركة يقف أغنياء الفلاحين مع كتلة الرجعية الحاكمة.
أما فقراء الريف، وهم الأغلبية الكبرى، فقد استبعدوا من الصورة أصلاً فلم يستفيدوا من الإصلاح. بيد أن أوضاعهم قد تغيرت فى عهد الانفتاح، فهم الذين مثلوا الأغلبية الكبرى من المهاجرين (للخليج والعراق وليبيا)- والعديد منهم – عند عودتهم- خرجوا من نطاق الإنتاج الزراعى لينضموا إلى صفوف الاقتصاد الريفى العشوائى وغير المنظم الجديد.
نقطة أخيرة هامة فى رأيى: العلاقة بين طبقة أغنياء الفلاحين والإسلام السياسى. فأغنياء الفلاحون مثلوا دائماً- والآن بقدر أوضح مما كان الأمر عليه سابقاً- السند الأساسى للإسلام "السلفى" المتجمد والمحافظ. والعديد من رجال الدين ومن الفئات الوسطى (المهنيين) ومن ضباط الجيش ينحدرون من هذه الطبقة الريفية الرجعية.
الإخوان المسلمون والتيارات الإسلامية
من المشكوك فيه قدرة جماعة الإخوان المسلمين أن يتحولوا إلى منظمة ديمقراطية. فالتنظيم قائم على مبدأ طاعة المرشد دون وجود ديمقراطية أو مجال للنقاش. وعندما ننظر لقيادة الجماعة كلها وليس للمرشد فحسب، سنجد أن العديد من أعضائها أثرياء جداً، ومليونيرات بالتمويل الخليجى بصفة أساسية، بمن فيهم أولئك الذين يرسمون لأنفسهم صورة رجال الدين فى الأزهر وغيره. هذه القيادة واعية تماماً برجعيتها الاجتماعية والسياسية وكراهيتها للديمقراطية... وهى التى أدخلت الوهابية إلى مصر التى تم ترويجها بشكل واسع بعد حرب 1973 بفضل التمويل الخليجى، حتى أصبحت العنصر السائد فى تأويل الإسلام فى مصر. استلهم الإخوان المسلمون فكرهم من فلسفة محمد رشيد رضا الذى يمثل الوهابية فى التأويل المتجمد والمتخلف الأقصى للإسلام، وهو الذى أدخل الوهابية مصر، قبل حتى ما يمتلك الخليج الأموال الطائلة لينفقها على الترويج لهذا الفكر.
ويجب فى هذا السياق ألا ننسى أن السفارة البريطانية كما تدل على ذلك وثائق موجودة فعلاً- هى التى اتخذت قرار مساندة جماعة الإخوان المسلمين عام 1927 م لمنع تسييس الجماهير الشعبية سواء من خلال الوفد أو الشيوعيين الذين شكلا عنصرين تقدميين أساسيين فى الثقافة السياسية المصرية. فقد مثّل الوفد بورجوازية أو فئات وسطى مستنيرة تقدمية ديمقراطية فى المرحلة الممتدة من الحرب العالمية الأولى وحتى الأربعينيات، حيث استطاعت هذه البورجوازية أو الفئات الوسطى تجاوز الطائفية تماماً ولم شمل المسلمين والأقباط حتى كان هناك أقباط منتخبين فى البرلمان بل كان منهم فى بعض الأحيان رئيس البرلمان المنتخب دون أن يثير ذلك أى تعليق سخيف من النوع الذى نسمعه اليوم عن الخشية من تحكم المسيحيين فى المسلمين! كان الجميع مواطنين فحسب، وظهرت شخصيات وطنية مسيحية كان لها دور مشهود على الساحة السياسية.
وكانت الحركة الشيوعية العنصر الثانى فى الثقافة السياسية المصرية خاصة انطلاقاً من الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
وكان العنصر الثالث فى الثقافة السياسية المصرية رجعيًا ويتكون من كبار ملاك الأراضى والنظام الملكى.
ولعبت دائماً قيادة الإخوان المسلمين دوراً مضاداً للمد الثورى فى مصر وفى ضرب الحركة الثورية فى مصر منذ العشرينات، فساندت ديكتاتورية صدقى باشا ضد الوفد، ثم اتخذت خلال الحرب العالمية الثانية موقفاً يميل إلى الفاشيست الألمان ضد الإنجليز. وخرجت فى 21 فبراير 1946، إبان انتفاضة العمال والطلبة، من الجبهة الوطنية الممثلة فى اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال، لينضموا إلى صدقى فى هذه الفترة. وفى اللحظة الثورية التى نعيشها هذه المرة أيضاً، دخل الإخوان متأخراً فى المظاهرات الشعبية. من هنا أصبحوا مرشحين للتحالف مع شخوص النظام السابق وبالتالى يتخلون كالعادة عن الطبقات الشعبية المصرية.
ويتحمل جمال عبد الناصر أيضاً- فى رأيى الشخصى- مسئولية كبيرة عن قيام الإسلام السياسى فى بلدنا بدور المانع الأساسى لتسييس الجماهير، فعندما ألغى عنصرين أساسيين من الحياة الثقافية المصرية، هما العنصر الليبرالى البورجوازى والحركة الشيوعية، بضربه الوفد، ومنعه الأحزاب، وضرب الحركة الشيوعية بأساليب أكثر عنفاً حتى من تلك التى اتبعها النظام الملكى السابق له فى مكافحة الشيوعية، خلق بذلك فراغاً شغلته التيارات الإسلامية التى كانت موجودة دائماً بدرجة ما فى المجتمع، دون أن تحتل مقدمة المسرح مما مهد الأرض لانتشار الإسلام السياسى والإخوان المسلمين. كان جمال عبد الناصر بنظرته السلطوية يتصور أنه قادر على إلغاء الشيوعية والليبرالية البورجوازية وإخضاع التيار الإسلامى له ببعض الكلام عن اشتراكية الإسلام... الخ إلا أن التاريخ أثبت إمكانية التلاعب بسهولة بهذا الكلام وحتى قلبه إلى نقيضه، ليصبح هذا التأويل للإسلام عدوًا للاشتراكية والديمقراطية وليس الشيوعية فقط. ويشيع الإخوان المسلمون اليوم أن الإصلاح الزراعى كان إصلاحاً "شيوعياً" معادياً لمبادىء الإسلام المقدسة التى تقدس الملكية الخاصة.. إلخ وهو كلام رجعى جداً على المستوى العالمى وليس الوطنى فحسب، فلا أحد فى أوروبا الرأسمالية على سبيل المثال يصدر عنه مثل هذا الكلام عن الإصلاح الزراعى وحتى البنك الدولى يعتبر يسارًا بالنسبة للإخوان المسلمين بخصوص ذلك!
سمحت الظروف للإخوان المسلمين بالظهور بصفتهم "معارضة" للنظام. وهذا غير صحيح بالمرة. فالنظام- السادات ثم مبارك- هو الذى أعطى للإخوان ما يكاد يكون الإنفراد فى حق ممارسة الخطاب السياسى كما أن النظام قد سلم للإسلام السياسى (أى فى واقع الأمر للإخوان) مسئوليات قيادية فى "أسلمة السياسة والمجتمع" من خلال سيطرتهم على التعليم والقضاة والإعلام. فالإخوان جزء لا يتجزأ من النظام.
هناك، إلى جانب الإخوان، تيارات "إسلامية" أخرى، ومنها السلفيون الذين يظهرون بصفتهم الجناح "المتطرف". ولكن: هل هذا التيار يتمتع باستقلال حقيقى ويعادى الإخوان؟ أم هناك توزيع للأدوار، بحيث أن يظهر الإخوان "معتدلين" يعطون لواشنطن وحلفاءها المحليين تبريراً لمنحهم "شهادة الديموقراطية"؟ هذا هو بالتحديد اللعب الخبيث الذى يقوم به اوباما.
فالعدو- أقصد الاستعمار (وعميله الصهيونى بالطبع)- يعلم تماماً أن "أسلمة" السياسة والمجتمع والإغراق فى التأويل الوهابى المتجمد السلفى للإسلام إنما هو ضمان عجز المجتمع المصاب به عن مواجهة فعالة لتحدى العصر. وهذا هو فى نهاية المطاف هدف الولايات المتحدة والخليج وبالتالى أيضاً هدف الدولة الإسرائيلية: إجهاض الثورة ونهضة مصر.
ملاحظة أخيرة: هناك أيضاً تيار إسلامى، وهو تيار الطرق الصوفية (ويقال بهذا الصدد أن حوالى 15 مليون مصرى أعضاء فى طرق صوفية) الذى بدأ فى الظهور على الساحة السياسية نظراً لتهديده من قبل التيارات الإسلامية ذات الأصول الوهابية وبالرغم من تنوع هذه الطرق، إلا أنها تمثل بصفة عامة تياراً يرحب بالعلمانية وذلك لأن وجودهم مرتبط بفصل الدين عن الدولة.
المؤسسة العسكرية: علامة استفهام؟
أعلنت حكومة واشنطن "خطة أوباما لإجهاض المد الثورى فى مصر"، من خلال مرحلة انتقالية قصيرة، يبقى نظام الحكم خلالها فى أيدى الطبقة الحاكمة، بعد الحفاظ على الدستور الحالى بتعديلات تافهة وانتخابات سريعة عاجلة تضمن مساهمة الإخوان المسلمين فى البرلمان واستمرار النظام. توجد الآن وثيقة أمريكية نشرت مؤخرا تؤكد أن هذه هى بالفعل الخطة الأمريكية.
وقد تم تنفيذ مرحلتها الأولى فعلا والخاصة بالاستفتاء وستتمثل المرحلة الثانية منها فى انتخابات سبتمبر أو أكتوبر. والنمط الذى تسعى الولايات المتحدة إلى انجازه فى مصر يستلهم النموذج الباكستانى وليس التركى أبدا. والفارق كبير بينهما، ففى النموذج التركى تقف المؤسسة العسكرية وراء الستار لضمان "علمانية المجتمع". وتلك ليست ظروف مصر على الإطلاق. فالنمط الباكستانى يعد النمط الرئيسى "للديمقراطية" الذى تعده الولايات المتحدة لمصر. وما قيل فى أوروبا وهنا وفى البلدان العربية الأخرى عن النمط التركى هو كلام للتضليل وتسويغ النموذج الباكستانى المعد فعلا. يتمثل النمط الباكستانى فى هيمنة بورجوازية طفيلية تابعة ونظام حكم يعلن نفسه إسلاميًا، تقف وراءه من خلف الستار المؤسسة العسكرية، التى تدخل إلى مقدمة المسرح من وقت إلى آخر لتصفية الصراعات بين التيارات الإسلامية المختلفة باعتبارها رمانة الميزان، لا أكثر من ذلك.
فالمطروح بالنسبة إلى مصر إنما هو النمط الباكستانى، حيث يقبع الجيش- وهو هذه الحالة جيش "إسلامى" خلف الستار، وفى مقدمة المسرح يحكم برلمان إسلامى هو الآخر "منتخب". هذا هو نمط الديمقراطية المقدم من الولايات المتحدة لنا!
يسعى إذن هذا المخطط إلى تعزيز سلطة الكتلة الرجعية المكونة من تحالف البورجوازية التابعة وأغنياء الفلاحين وقيادة الإسلام السياسى علماً بأن هذه الكتلة الرجعية المصرية تكره الديمقراطية وتخشاها مدركة تماما أن الديمقراطية الصحيحة فى مصر لابد وأن تتحول إلى حركة اجتماعية تقدمية فى المجال الاجتماعى، (لا أريد أن أقول أنها ستكون بالضرورة "ثورية")، بالإضافة إلى كونها معادية للاستعمار. هذا بالضبط ما تخشاه الولايات المتحدة والتكتل الرجعى المصرى.
فالمطلوب من نظام الحكم فى مصر إنما هو ضمان استمرار تبعية مصر فى المجال السياسى (ومن باب أولى "احترام شروط" "السلام" مع إسرائيل، أى بمعنى أدق الامتناع عن التضامن مع شعب فلسطين فى مواجهة مشروع امتداد التوسع الاستيطانى الإسرائيلى فى الأراضى المحتلة، من جانب، وفى المجال الاقتصادى من الجانب الأخر (بمعنى استمرار التبعية "للعولمة").
وقد قبل كل من قيادة المؤسسة العسكرية والإخوان المسلمون هذه المطالب الأمريكية إذ
يعتمد هذا المخطط الأمريكى على ولاء قيادة المؤسسة العسكرية لواشنطن.
فكثير من قادة الجيش حالياً تلقوا تعليهم وتدريبهم الأساسى فى الولايات المتحدة كما أن الجيش اشترك على مدار السنوات الماضية فى كثير من المناورات المشتركة مع القوات الأمريكية الموجودة فى المنطقة وكان يقوم لها بالكثير من الخدمات المعاونة. كما أن انصراف الجيش عن العمليات القتالية إلى العمليات المدنية وهطول الأموال الأمريكية عليه فى شكل معونات عسكرية تقدر سنوياً بحوالى 1.5 مليار دولار حوله مع ما سبق ذكره كما يقول كثيرون عن العقيدة القتالية الوطنية إلى شركة الجيش التى يحقق أعضاء مجلس إدارتها أرباحاً طائلة ويخصصون لأنفسهم رواتب باهظة من احتلالهم مقاعد الإدارة فيها. وهم يعرفون تماماً أن المعونة العسكرية الأمريكية هى رأسمال شركتهم، وهو ما يكشف اضمحلال العقيدة القتالية الوطنية فى الجيش واستشراء الفساد فى صفوفه. كما أن الامتيازات والكوادر الخاصة للرتب العسكرية العليا والبدلات الباهظة التى كانوا يحصلون عليها فى إطار نظام مبارك يجعلهم مرشحين إلى أن يكونوا جزءًا من التكتل الرجعى الذى يهدف إلى إجهاض المد الثورى والحفاظ على جوهر النظام كما هو.
هذا المخطط الأمريكى الخليجى للحيلولة دون يقظة مصر. استطاع الجيش أن يحفظ على سمعته بالامتناع عن المساهمة فى ضرب الثورة، ثم المبادرة التى اتخذتها قيادته العليا فى استبعاد مبارك. ولكن تظل أهدافه البعيدة مجهولة إلى حد كبير. وذلك بالرغم من اتخاذ قيادة المؤسسة العسكرية إجراءات تشير إلى انحيازها للقوى المحافظة المكونة لكتلة الثورة المضادة، ذكرتها فيما سبق: تعيين شحصيات من النظام لتقود "حكومة المرحلة الانتقالية"، الإنفراد فى "الحوار" مع الإخوان وأصدقائهم واستبعاد القوى الجديدة الديمقراطية, الشباب، اليسار)، وتأكيد القوانين الرجعية التى سنتها تلك الحكومة فى مارس 2011 (قانون الأحزاب، منع الإضرابات).
ملاحظة حول الفساد:
الفساد كلمة خطيرة تستخدم أيضا دون توضيح علاقته بالهيكل الاجتماعى الذى يعمل فى إطاره. وبالتالى يقال عن الفساد كلام أخلاقى باعتباره رذيلة. أقول أنا أن مجرد المطالبة "بحكم غير فاسد" هو مقولة ضعيفة المعنى.
وفى مواجهة هذه الصياغة المبهمة أزعم أن الفساد جزء عضوى من الرأسمالية القائمة بالفعل. فلا يمكن أن تكون هذه الرأسمالية المعاصرة خالصة من ظاهرة الفساد الذى يعد وسيلة ضرورية لتوسيع مجال سيادة العلاقات الرأسمالية. فالبورجوازية فى مصر المعاصرة تكونت على أساس الفساد، حيث لم تكن هناك انطلاقا من عام 1970 الشروط التى تتيح تكوين البورجوازية بأساليب أخرى. فالمقولة التى تدعى أن الفساد سمة ظهرت فى كل المجتمعات عبر التاريخ غير صحيحة، وأن الفساد أصبح منذ 40 سنة على الأقل سمة رئيسية للنظام الرأسمالى كما هو قائم بالفعل حاليا فى الوقت المعاصر. فالقول الذى كان يردده فى الماضى حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى القائم على التمييز بين رأسمالية غير طفيلية، وغير فاسدة، وبين الرأسمالية الطفيلية هو قول ليس له علاقة بما يمكن أن تكون الرأسمالية فى ظروفنا، فى إطار المنظومة المعولمة الحديثة.
بل أذهب إلى أبعد من ذلك. أقول أن الفساد فى المجتمعات الغربية المتقدمة قد أصبح أيضًا عنصرًا عضويًا فى النظام. بالتالى لا يمكن أن نتحدث الآن عن الفساد إلا كعنصر عضوى فى الرأسمالية بشكل عام. لذلك أقول أن الرأسمالية دخلت مرحلة "الشيخوخة". أقصد بذلك لفت النظر إلى تلك العلاقة النظامية التى تربط هيمنة الاحتكارات على المنظومة الإنتاجية واستخراج الريع الاحتكارى من جانب وظاهرة الفساد الناشئة عن التفاعل بين ممارسة السلطة السياسية واستخراج هذا الريع من الجانب الآخر. أقول إذن أن التخلص من الفساد أصبح مستحيلاً دون انجاز تغيير جوهرى فى علاقات الإنتاج.
فقبل أربعين أو خمسين عاما كانت هناك احتكارات فى البلدان الرأسمالية المتقدمة، لكن إلى جانبها كانت توجد قطاعات واسعة من الإنتاج الرأسمالى الصناعى والزراعى والخدمى المستقل عنها، والتى كانت قاعدة للمنافسة وبالتالى قاعدة للديمقراطية البورجوازية فى إعادة تكوين النظام وأيضا القاعدة لعلاقات اقتصادية غير فاسدة (غير قائمة على الفساد). إلا أن التغير الكيفى الذى حدث فى الرأسمالية خلال الثلاثين سنة الماضية وتحويلها من رأسمالية الاحتكارات إلى ما اسميه رأسمالية الاحتكارات المعممة، هى فى قلب المشكلة حيث بلغ تركيز الأموال- وهى ناتج التطور الطبيعى للرأسمالية - درجة لم يعد معها هناك قطاع فى الإنتاج مستقل عن هيمنة الاحتكارات. وحتى القطاعات التى تبدو على أنها مستقلة، تعمل فى واقع الأمر من الباطن للاحتكارات. بهذا المعنى انتهت المنافسة الحقيقية التى كانت قاعدة تفعيل
للرأسمالية من غير فساد (علاقات اقتصادية غير فاسدة وغير قائمة على الفساد) وأيضا قاعدة الديمقراطية البورجوازية فى إعادة إنتاج النظام.
لقد تصور ماركس إمكانية حدوث ذلك لكنه لم يقل بصدده أكثر من جملتين أو ثلاثة ورجح حدوث الثورة الاشتراكية قبل الوصول إليه. هذا لم يحدث وبالتالى حدث ما تصوره، أى التطور نحو الأسوأ. كما أن هذه الدرجة العالية من التركيز أدت إلى تغيير جوهرى كيفى فى ممارسة الديمقراطية، بمعنى أنه لم يعد لها مضمون فأصبحت الأحزاب المرشحة لتناول السلطة عبر الانتخابات تابعة لسلطة الاحتكارات، وبالتالى سواء انتخب الناخبون اليمين أو اليسار، لم يعد ذلك يغير من الأمر شيئا.
ثالثاً: التجارب السابقة الأخرى
اندونيسيا والفيليبين ومالى، أوروبا الشرقية، أمريكا اللاتينية
يجب أن نكون مدركين فى مصر أن هناك انتفاضات شعبية وقعت خلال السنوات الأخيرة فى عدد من البلدان وفى ظروف مختلفة خاصة لكل منها. ويجب أن ننظر بتمعن إلى نتائجها.
أقسم هذه الانتفاضات إلى ثلاثة أنواع. أولاً النوع الخاص ببعض بلدان الجنوب فى آسيا وأفريقيا، وسأضرب المثل عليه بالفلبين وإندونيسية ومالى. ثانيًا النوع الخاص ببلدان شرق أوروبا. وثالثاً ذلك الخاص بأمريكا اللاتينية. علماً بأن الانتفاضة ضد النظام كانت واسعة فى الأنواع الثلاثة من "الثورات".
كانت توجد فى البلدان الآسيوية، الفلبين وإندونيسيا ديكتاتوريات شبيهة تماما بديكتاتورية مبارك، كان هناك رئيس جمهورية فاسد وديكتاتور محاط بالأوتوقراط وثلة قريبة منه وكان التعذيب منتشراً أيضا وما إلى ذلك من الأمور المعروفة فى هذا السياق من الحكم. وكانت الانتفاضة رغم اختلاف الظروف من بلد إلى آخر شبيهة إلى حد ما بانتفاضة يناير- فبراير 2011 عندنا، بمعنى أن الفئات الوسطى والتقدمية والشباب قامت بالدور الأساسى فيها كما أن الجماهير الشعبية انضمت إليها أيضا.
ويمكن أيضا إدخال انتفاضة مالى ضد ديكتاتورية موسى تراورى ضمن هذا النوع. أدت المعركة الأولى إلى سقوط الديكتاتور وليس النظام. وكلفت الإنتفاضة الشعبية فى مالى من الضحايا عشرة آلاف قتيل واستمرت حوالى سنة وليس إسبوعين أو ثلاثة كما حدث عندنا وأدت فى نهاية الأمر إلى طرد الديكتاتور. لكن ماذا حدث بعد ذلك؟ أن تمتع الشعب بحرية حقيقية- وليس كما هو الأمر عندنا- فحرية تكوين الأحزاب هناك مفتوحة وهناك مناخ من الحرية الشاملة فيما يتعلق بحرية التنظيم. إلا أن النظام استخدم الضغط الخارجى- بخصوص وجود تنظيم القاعدة فى شمال البلاد على أساس أن القضاء على القاعدة هى المهمة الأساسية، لعدم القيام بأى تغيير وإجهاض أى استثمار تقدمى لفرض الطبقات الشعبية والفئات الوسطى للديمقراطية السياسية فى الممارسة اليومية. واستخدم النظام أيضا التيار الإسلامى المحافظ القائم على تأويل متجمد الذى يموله الخليج.
ولا يختلف الأمر كثيراً فى إندونيسيا والفلينيين، حيث تم التخلص من الرئيس، إلا أن الطبقة الحاكمة ظلت فى الحكم، فأصبحت الديمقراطية غير نافعة. فهناك فى إندونيسيا ديمقراطية فتحت أبوابًا لتكوين أحزاب اشتراكية، ولكن الطبقة الحاكمة استخدمت الإسلام السياسى وإثارة النزاعات الطائفية بين الأغلبية المسلمة والأقليات المكونة من المسحيين والهندوس (15% من السكان) لجعل المشكلة الطائفية التى تتسبب بها الخطابات الرافضة لحقوق الأقليات فى مجتمع إسلامى مثل إندونيسيا، القضية الأساسية مما شل تماما الحركة الاحتجاجية.
فلابد لأن أن نضع فى اعتبارنا أن هناك حركات قوية وقعت فى بلدان أخرى من الجنوب، ولم تقل من حيث القوة عن الحركة المصرية، لكنها لم تأت بالنتائج المنتظرة. وفى جميعها استخدم الإسلام السياسى فى الحفاظ على استمرار التكتل الرجعى فى السلطة والتبعية للغرب. ويدخل ضمن هذه اللعبة الخبيثة استخدام الإرهاب والقاعدة لإبقاء الأوضاع على ما هى عليه. باسم "محاربة الإرهاب" ومنع الانتفاضات والحركات الشعبية من إنجاز تغييرات محسوسة بتحويل الرأى العام إلى قضايا أخرى. ولعله سوف نعلم بعد خمسين عاما أن أسامة بن لادن كان مقيمًا فى الولايات المتحدة وأنهم يخرجوه من وقت إلى آخر وفى اللحظة المناسبة لإلقاء البيانات التى تعطيها تبريرا للتدخل العسكرى هنا أو هناك! لا ينفى ذلك سير بعض الناس المُضللين وراء هذه الشخصيات او الحركات وهو أمر طبيعى فى الحركات من هذا النوع. لكن القيادة فى الطرفين، الولايات المتحدة من جانب، والحركات السلفية المتجمدة من الجانب الآخر، واعية تماما بما تفعل, هذا بالنسبة إلى تجارب آسيا وأفريقيا المعنية.
أما فى شرق أوروبا، فقد قامت انتفاضات ضد النظام الشيوعى (الاشتراكية القائمة بالفعل). ولا أريد أن أدخل هنا فى تفاصيل هذه القصة. وقد أدت هذه الانتفاضات إلى تفتيت هذه الأمم على أسس أثنية أو دينية أو لغوية كما جرى الأمر فى يوغوسلافيا على سبيل المثال. فى جميع الأحوال صارت هذه البلدان مناطق تابعة لأوروبا الغربية، ألمانيا وفرنسا وإنجلترا أساسا، فى ظروف شبيهة للعلاقة غير المتساوية بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية. لدينا هنا إذن تجارب لانتفاضات واسعة نجحت ليس فى تجاوز النظام من اليسار ولكن فى سقوطه على اليمين وإقامة نظم أسوأ من النظم السابقة لها.
تعتبر أمريكا اللاتينية النموذج الأمثل بالنسبة لنا. فما حدث هناك إلى الآن، نجاح وتقدم للمد الثورى. كانت المرحلة الأولى من هذا المد الثورى فى البرازيل والتى أخذت شكل حركة جماهيرية واسعة شملت فئات مختلفة من الطبقات العاملة بالأساس (لكون البرازيل بلد متقدم فى الصناعة) وفقراء الفلاحين والفئات الوسطى، أدت إلى نظام لولا (مهما كانت حدوده وحقيقة إنجازاته... الخ).
كانت الحركة الشعبية أقوى فى بوليفيا واستمرت خمس سنوات مقدمة أكثر من 20 ألف شهيد، وأدت فى نهاية الأمر إلى تغيير الأوضاع، ودستور جديد، وإصلاحات اجتماعية (لا أريد أن أقول اشتراكية) وتبنى سياسة معادية للاستعمار تماما... إلخ. إذن عندنا فى أمريكا اللاتينية نماذج للمد الثورى المستمر، تعد النمط الأمثل للتغيير فى الظروف الحالية. وكذلك فنزويلا، لكنى لا أريد أن أدخل فى تفاصيل حتى لا يتحول المقال من الحديث عن مصر إلى الكلام عن تلك البلدان.
رابعاًَ: قراءة لتاريخ مصر المعاصر
أنظر إلى تاريخ مصر المعاصر باعتباره تاريخ مد ثورى طويل ثم انهيار طويل، وربما تكون حركة 52 يناير 2011م هي بداية المد الثورى الطويل الثانى. استغرق المد الثورى الطويل الأول 40 سنة من 1920 إلى 1967م. شكل الوفد المرحلة الأولى فى هذا المد وكانت الفترة من 1920 إلى 1924 المرحلة الأكثر تقدمية وديمقراطية فى تاريخ مصر المعاصر. وحدثت بعدها ردة نتيجة خيانة جزء من القيادة الوفدية فى عام 1924 إنطلاقا من سعد زغلول نفسه بضربة الحزب الشيوعى الأول والتيار اليسارى داخل حزب الوفد.
ولحقه بعد ذلك فى هذا الطريق السعديون وغيرهم وتبعتها ردة ديكتاتورية صدقى وإنشاء منظمة الإخوان المسلمين ، ليعود بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، انطلاقاً من 21 فبراير 1946. فاتخذ المد الثورى شكلاً متجدداً يتمثل فى التحالف بين الطلبة كممثلين للفئات الوسطى الديمقراطية والمعادية للاستعمار، والطبقة العاملة والشيوعيين. بدأت الردة بخيانة الإخوان المسلمين للحركة لصالح صدقى باشا ثم عادت الحركة لتستمر بعودة الوفد للحكم ثم الردة أيضا التى تمثلت فى حريق القاهرة الذى لعب الإخوان المسلمون دورا فيه ثم الإنقلاب العسكرى.
فالانقلاب الأول لعام 1952 ثم الانقلاب الثانى لعام 1954 لم يمثلا "نشأة الثورة" (ثورة يوليو كما يقال) بل مثلا الفصل الأخير للمد الثورى. ثم أنتج النظام الجديد ما أنتجه وتبلوَّر فى الناصرية بين 1954 و1956، فى أعقاب مؤتمر باندونج وإظهار النظام لمواقف معادية للاستعمار للمرة الأولى منذ 1952م. كانت الناصرية فى واقع الأمر محصلة لفترة وليست انطلاقة لمرحلة جديدة كما حاول عبد الناصر أن يعطى لنفسه صورة مزيفة كمجدد فى الحياة المصرية بينما الواقع أنه أنهى الموجة الثورية.
فأنتج النظام بما كان المجتمع المصرى قادرا على إنتاجه من نظام معادى للاستعمار كما حقق إصلاحات اجتماعية (وليست اشتراكية) بمعنى تحقيق بعض المكاسب والإصلاحات فى صالح الطبقات الشعبية ولكن بشكل فوقى وغير ديمقراطى. فالنظام رفض الديمقراطية والجذرية. أنتج ذلك ما كان يستطيع أن ينتجه فى ظرف 10 سنوات لا أكثر ثم دخل فى أزمة بعد ما بلغ حدوده وفقد نفسه. وانتهز الاستعمار الأمريكى عن طريق الصهاينة هذا الضعف وضربه فى عام 1967م.
ما حدث بعد ذلك أن بدأ جمال عبد الناصر نفسه الانفتاح عبر تفضيله خيار تقديم تنازلات لليمين عن طريق فتح باب انفتاح اقتصادى على خيار تجذير النظام. ثم عمق السادات الانفتاح وربطه بالتحيز والخضوع للولايات المتحدة والصهاينة واستمر مبارك فى نفس الطريق.
إذن جاءت بعد المد الثورى الأول الذى استمر 40 عاما، فترة من أربعين سنة أخرى تمتد من 1970 وحتى 2011، استغرق فيها المجتمع المصرى فى النوم، دون أن يكون له وزن فى المنطقة ولا فى العالم.
إننا ندخل اليوم فى مد ثورى ثانى جديد، يمكن أن تكون حدوده أفضل من المد الثورى الطويل الأول وأعتقد أن التوعية فى ظل الظروف العالمية والمحلية المختلفة يمكن أن يكون لها دور فى تحقيق ذلك