الملف الإيراني بين واشنطن وتل أبيب بعد الانتخابات الأميركية
مرسل: الاثنين ديسمبر 17, 2012 9:17 pm
بعد مرور أكثر من شهر على انتهاء الانتخابات الأميركية وفوز الرئيس أوباما بفترة رئاسية ثانية، أخذ الغبار ينقشع شيئًا فشيئًا عن تساقطات الحملة الانتخابية الحادة والمُكْلِفَة التي شاهدناها طوال العام المنصرم. وبدأ المحللون الآن يوجهون أنظارهم إلى فحوى ومعالم سياسات الإدارة الجديدة والتكهن حول أجندتها السياسية وفرص نجاحها في ظل الظروف والتحديات الصعبة التي تواجهها واشنطن على الصعيدين الداخلي والخارجي على حد سواء. وهناك شبه إجماع بين المحللين من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على الدروس الأساسية التي لقنها الناخب الأميركي للرئيس المنتخب بالنسبة لما يريده الشعب من إدارته الثانية:
الشعب الأميركي يريد من الرئيس أوباما في فترة حكمه الثانية التركيز بالأساس على القضايا الاقتصادية وإيجاد حلول فاعلة وسريعة تضمن تحقيق النمو والانتعاش الاقتصادي الملموس للخروج من الأزمة المالية الخانقة التي يعاني منها المجتمع الأميركي وعلى رأسها أزمة البطالة، وإيجاد المزيد من فرص العمل، وتقليص حجم الدَّيْن العام الأميركي والعجز في الميزانية الفيدرالية.
الناخب الأميركي يريد من الإدارة الجديدة تفادي الصراع الحزبي الذي أدى إلى الشلل العام في إدارة البلاد خلال الفترة الأولى من حكم أوباما نتيجة التنافس الحزبي والأيديولوجي الحاد بين الديمقراطيين والجمهوريين من خلال سيطرتهم على سلطتي الحكم التنفيذية والتشريعية طوال السنوات الأربع الماضية؛ فالشعب الأميركي عام 2012 يطالب واشنطن بالسعي الجاد والتعاون اللاحزبي بين الإدارة والكونغرس لإيجاد حلول وسط للقضايا الوطنية بدلاً من ممارسة سياسة الاستقطاب وتوجيه اللوم للآخرين وخوض صراعات حزبية عقيمة.
الآثار السياسية المترتبة على الانتخابات الأميركية كانت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار بالنسبة للوضع الاقتصادي وما يتوجب على الرئيس أوباما أن يفعله بهذا الخصوص في فترة حكمه الثانية، لكنها لم تكن على هذا القسط من الوضوح بالنسبة لقضايا السياسة الخارجية التي لم تحظَ بنفس الاهتمام من المرشحين الرئاسيين اللذين، في واقع الأمر، اختلفا في مواقفهما حول شكل هذه القضايا أكثر من مضمونها.
قضايا السياسة الخارجية في أجندة فترة الرئيس الثانية
لا شك أن الرئيس أوباما سيضطر خلال السنوات الأربع القادمة إلى التركيز على تحقيق المطلب الرئيسي للمواطنين الأميركيين، وهو تفادي الانهيار الاقتصادي، أو ما يسمى "بالهاوية المالية"، ومحاولة تحسين الاقتصاد الأميركي والتسريع في وتيرة النمو الاقتصادي الذي بدأ به في السنوات الأربع الماضية. إن تحقيق هذه الأهداف يشكّل العامل الحيوي والمقرر في نجاح أو فشل التركة السياسية للرئيس أوباما كما سيحكم عليها التاريخ بعد مغادرته البيت الأبيض حال انتهاء فترة حكمه الثانية في عام 2016. ولكنْ هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن الإدارة القادمة ستكون في معزلٍ تامٍ عن قضايا السياسة الخارجية، أو أنها ستهمل هذه القضايا حتى ولو حاولتْ قصدًا تبني مثل هذا الموقف الانعزالي عن التطورات الدولية، وذلك لعدة أسباب:
أولاً: إنّ الولايات المتحدة دولةٌ عظمى لها مصالح إستراتيجية حيوية في العديد من دول العالم. وهذا يفرض عليها الاهتمام المتواصل بهذه المصالح والسعي الدؤوب لحمايتها. لهذا السبب، يصعب على واشنطن في القرن الحادي والعشرين اتباع سياسات انعزالية تقيها ضرورة التعامل المستمر مع هذه الدول؛ فقضايا السياسة الخارجية تتسرب دومًا إلى حلبة السياسة الداخلية، خاصةً في فترات الحكم الثانية لأي إدارة، وتفرض نفسها على صُنّاع القرار الأميركيين وإن حاولوا تفاديها عن قصد. وهذا ينطبق على الأزمة المالية في أوروبا، كما ينطبق على الوضع الأمني المتأزم والمتدهور في سوريا وعلى الوضع في أفغانستان وإيران وفلسطين، على سبيل المثال.
ثانيًا: إنّ الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الولايات المتحدة حاليًا وشغلت بال الناخب الأميركي، خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، تُشكّل جزءًا لا يتجزأ من أزمة مالية دولية لا يمكن الفصل بينهما في عصر العولمة الذي نعيش فيه؛ فالإدارة الجديدة لن تنجح في تلبية مطالب الشعب الأميركي بتحسين الوضع الاقتصادي الداخلي في معزل عن العالم وقضاياه.
ثالثا: هناك نمطٌ تاريخي معهود داخل النظام الأميركي فيما يتعلق بأداء الإدارات المتتالية خلال فترات الحكم الثانية؛ حيث يركز الرؤساء المنتخبون في إدارتهم الثانية على قضايا السياسة الخارجية والقيام برحلات دولية عديدة. وقد حدث، على سبيل المثال، في عهد أيزنهاور وريغان وكلينتون وجورج دبليو بوش. ومن المتوقع أن تنطبق هذه السابقة على إدارة أوباما الثانية على الرغم من عدم ثقتي الكبيرة شخصيًا في مقدرته في هذه الفترة بالذات على تبني أية مبادرات شجاعة أو تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية، وخصوصًا بالنسبة للشرق الأوسط. لكنني مقتنع بأن أوباما لن يفوّت على نفسه الفرصة لترك بصماته التاريخية والدائمة على السياسة الدولية في إطار الظروف الصعبة والمقيدة التي ستَحُدّ من مجال مناورته في السنين الأربع القادمة.
ويستمر الحديث عبر وسائل الإعلام وأنشطة مراكز الأبحاث الأميركية على حتمية توجيه أنظار إدارة أوباما الجديدة إلى قضايا دولية مثل الحد من انتشار الأسلحة النووية، وتنفيذ الانسحاب الأميركي من أفغانستان حسب الجدول الزمني المعلن، أي قبل نهاية عام 2014، والتعامل مع العلاقات الأميركية-الباكستانية الهشة، وبلورة الموقف الأميركي من الحراك العربي وبخاصةٍ الوضع المتأزم في سوريا، وإعادة إحياء عملية تفاوضية بين إسرائيل والفلسطينيين، والتعامل مع الملف النووي الإيراني. ويعتبر الكثيرون الموضوع الأخير، أي العلاقة مع إيران وقضية برنامجها النووي، أهم التحديات التي ستواجهها الإدارة الثانية للرئيس أوباما وأكثرها تعقيدًا؛ فقد أصبح الملف الإيراني اليوم من أهم محاور السياسة الخارجية الأميركية.
توجهات إدارة الرئيس أوباما الثانية إزاء الملف النووي الإيراني
وفقًا لمقال نشرته صحيفة "كريستشان سيانس مونيتور" في 26سبتمبر/أيلول2012، هناك ثلاثة خيارات أمام الإدارة الأميركية الجديدة بالنسبة لتعاملها مع الملف النووي الإيراني:
أولاً: تقديم الدعم لإسرائيل في توجيه ضربة عسكرية لإيران من أجل تعطيل برنامجها النووي والتهيئة لتغيير النظام في طهران. ويقول السفير الأميركي السابق للأمم المتحدة جون بولتون، وهو من أبرز وجوه المحافظين الجدد ومستشار سابق لشؤون الأمن القومي للمرشح الجمهوري الخاسر ميت رومني: إن أسلوب الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية الذي تبنّته إدارة أوباما طوال فترة حكمها الأولى قد مُنِيَ بالفشل وقد حان الأوان لاستبداله بالوسيلة العسكرية. ويدّعي بولتون أن إيران على وشك تطوير أسلحة نووية وصواريخ عابرة للقارات. لهذا السبب، لن ينجح أي نظام للعقوبات في وضع حد لبرنامجها النووي. ويطالب الدبلوماسي المتقاعد الإدارة الجديدة بتبني البديل "الأقل ضررًا" المتمثل في دعم ضربة عسكرية تشنها إسرائيل ضد إيران من أجل عرقلة برنامجها النووي ولو مؤقتًا "وشراء الوقت لتحقيق الهدف الأوسع وهو قلب نظام الحكم نهائيًا في طهران".
ثانيًا: إعادة صياغة الأسلوب الذي تبنته الدول الغربية في تعاملها مع الملف النووي الإيراني، والاستمرار في السياسة الحالية الداعية إلى حل سياسي يضمن عدم لجوء إيران إلى اقتناء سلاح نووي. ويقول داريل كيمبال، الرئيس التنفيذي لرابطة الحد من التسلح: إن الحل الأفضل، رغم صعوبة تحقيقه، يكمن في تبني أساليب دبلوماسية خلاقة لأن أنظمة الحظر والعقوبات غير قادرة وحدها على وضع حد للجهود النووية الإيرانية. وينتقد كيمبال البديل العسكري لكونه مكلفًا وقد يأتي بنتائج عكسية وغير متوقعة ويقترح بدلاً عنه، إعادة صياغة العرض الغربي بحيث تتم مطالبة إيران التوقف كّليا عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 بالمائة مقابل إلغاء العقوبات المفروضة على إيران وخصوصًا العقوبات المالية وتلك المتعلقة بمبيعات النفط الإيراني.
أما البديل الثالث: فيكمن في السعي إلى احتواء إيران إن أصبحت دولة نووية أو إن فشلت في تطوير سلاح نووي مثلما تم احتواء الاتحاد السوفيتي في فترة الحرب الباردة. ويبرر أستاذ الدراسات الإستراتيجية الدولية إدوارد هالي خيار الاحتواء استنادًا إلى اعتقاده بحتمية فشل الخيار العسكري والخيار الدبلوماسي أو العقوبات لمنع إيران من حيازة الأسلحة النووية. وتشمل سياسة الاحتواء التي يروج لها هالي: عزل إيران ومقاطعتها تجاريًا وماليًا وعدم التواصل معها، إضافة إلى تبني سياسة الردع النووي ضدها. كما يقترح هالي إنشاء مظلة نووية أميركية لحماية الدول الصديقة في المنطقة، وإعطاءها المقدرة على مقاومة النفوذ الإيراني إقليميًا.
من الواضح أن الرئيس أوباما، حسب ما جاء في تصريحاته الشخصية والرسمية، يعارض الخيار الأول بشدة ويعتبر الخيار الثالث سابقًا لأوانه. ولذلك ليس من المتوقع أن يختار أيًا منهما في تعامل إدارته مع الملف الإيراني في فترة حكمه الثانية. إن جميع الأدلة الحالية في واشنطن تشير في الواقع إلى أن الإدارة الأميركية مزمعة في المستقبل القريب على فتح حوار ثنائي مع طهران حسب تفاصيل الخيار الثاني المدرج أعلاه في محاولة أخيرة لحث الحكومة الإيرانية على إيقاف أية محاولة تقوم بها لتطوير الأسلحة النووية عبر سياسة "العصا والجزرة" مع بعض التعديلات بالنسبة لرفع تدريجي للعقوبات عن طهران في حال تجاوبها بمسؤولية وإيجابية مع العروض الأميركية الجديدة.
ويبدو للبعض أن الموقف الأميركي الجديد يتحلّى أيضًا بقسط من المرونة الدبلوماسية تجاه موضوع الربط بين البرنامج النووي الإيراني، من ناحية، والقضايا الأخرى العالقة بين الطرفين، من ناحية أخرى. ومن المعروف أن واشنطن قد رفضت في الماضي رفضًا باتًا مثل هذا الربط كي تحرم طهران من أي مكسب سياسي يُذكر. ويمكن وصف الموقف الأميركي الجديد بمقولة "More for More” أي "المزيد من تخفيف العقوبات مقابل المزيد من القيود على عمليات التخصيب". ومن المحتمل أن تقوم واشنطن بعرض اقتراح نهائي على طهران يضمن لها الحفاظ على برنامج نووي سلمي قابل للتفتيش المحكم مقابل التنازل عن عمليات التخصيب لأغراض "عسكرية".
وتؤكد الشائعات التي أشارت إليها صحيفة نيويورك تايمز في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن الإدارة الأميركية قد توصلت إلى اتفاق مبدئي مع إيران للدخول، وللمرة الأولى، في محادثات مباشرة حول البرنامج النووي الإيراني. وتهدف هذه الخطوة الأميركية إلى تفادي توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية، أو من أي طرف آخر، على المنشآت النووية الإيرانية، بصورة تعكس موقف أوباما الذي ما زال متمسكًا، على عكس الموقف الإسرائيلي، بإمكانية التوصل إلى حل سياسي للأزمة مع طهران. وتدور هذه الشائعات حول لقاءات عدة تمت بين مسؤولين أميركيين ونظرائهم الإيرانيين طوال الأشهر الأخيرة من فترة الحكم الأولى للرئيس أوباما بمشاركة بعض مسؤولي البيت الأبيض المقربين من الرئيس نفسه وبإشراف مساعدته الرئيسة: فاليري غاريت. وقد أنكر المتحدث الرسمي للبيت الأبيض التوصل إلى أي اتفاق نهائي بين واشنطن وطهران على فتح حوار ثنائي بينهما. لكن جميع المسؤولين في الإدارة يصرّون على أنهم يرحبون بمثل هذا الحوار، وهم مستعدون لعقد لقاءات ثنائية مع المسؤولين الإيرانيين.
وجاءت تصريحات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في نهاية الأسبوع الماضي لتؤكد من جديد استعداد الإدارة الأميركية لخوض مفاوضات ثنائية مباشرة مع إيران إذا كانت طهران مستعدة لذلك. وأضافت كلينتون: إن الولايات المتحدة جاهزة للرد بالمثل إذا أبدت إيران استعدادها لاتخاذ "خطوات بناء ثقة" بين الطرفين. وقد تلت هذه التصريحات إجابة سريعة وغير عادية لوزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي الذي أكد بدوره أن مثل هذه المحادثات ممكنة في حال موافقة القيادة الإيرانية عليها، وخص بالذكر المرشد الأعلى: آية الله علي خامنئي. ولم تُدلِ وزيرة الخارجية كلينتون، ولا نظيرها الإيراني صالحي، بأية تفاصيل إضافية حول فحوى هذه المحادثات المقترحة.
الموقف الإسرائيلي من إيران ودورها في المنطقة
تعتبر الحكومة الإسرائيلية الحالية إيران نظامًا متشددًا وعدوًا لدودًا يشكّل تهديدًا وجوديًا مباشرًا لأمن إسرائيل وسياساتها في المنطقة وخارجها. كما تتهم إسرائيل طهران بممارسة الإرهاب الدولي وتأييد وتدريب وتمويل العديد من المنظمات الإرهابية، على رأسها حزب الله وحماس وبعض فروع طالبان والقاعدة وغيرها. بالإضافة إلى ذلك، تعتقد تل أبيب أن إيران تملك برنامجًا نوويًا سريًا متطورًا ذا أهداف عسكرية يهدد الأمن والاستقرار والسلام في العالم أجمع، وبخاصةٍ أمن إسرائيل وبقاءها دولة يهودية. وبناء على ذلك، سعت الحكومة الإسرائيلية طوال أكثر من عشر سنوات إلى مواجهة إيران مباشرة بهدف وضع حد لأنشطتها النووية. وقد لجأت إسرائيل في حملتها إلى استعمال الأساليب الدبلوماسية والعسكرية والمخابراتية كافة، المعلنة والسرية، التي تشمل فرض نظام حظر دولي شامل وقاس على إيران، إضافة إلى اغتيال الخبراء الإيرانيين داخل إيران وخارجها، والمساهمة مع دول أخرى في اختراق أنظمة الأمن في المنشآت النووية الإيرانية وتعطيل أجهزتها عبر اختراقها إلكترونيًا. ولُقبّت هذه الإجراءات الأخيرة بعملية "الألعاب الأولمبية" حسب تسريبات تناقلتها وسائل الإعلام الأميركية.
ويبدو واضحًا أن هناك اتفاقًا إسرائيليًا وأميركيًا تامًّا على منع إيران من اقتناء السلاح النووي. لكنَّ الحليفين يختلفان في العديد من سياساتهما في تحقيق هذا الهدف المشترك. الهدف واحد والنوايا والأساليب مختلفة. ولذلك تصر الحكومة الإسرائيلية على وصف الموقف الأميركي تجاه إيران بالضعف وغير الجاد لأنه ما زال متمسكًا بالحل السياسي ويرفض الانصياع للضغوط الإسرائيلية الخاصة بتوجيه ضربة عسكرية لإيران. وقد شاهدنا خلال الحملة الانتخابية الأميركية هجومًا إسرائيليًا غير معهود على الرئيس أوباما وإدارته وهذا يشكّل تدخلاً سافرًا في الشؤون الأميركية الداخلية والذي لا تسمح واشنطن لأية دولة أخرى بالقيام به. فمن الواضح أن إسرائيل تعتبر سياسة العقوبات والجهود الدبلوماسية التي تتبعها واشنطن عقيمةً لم تنجح حتى الآن في وقف البرنامج النووي الإيراني. ثم إنّ العديد من القادة الإسرائيليين قد أشار إلى أن بلادهم غير مستعدة للانتظار إلى ما لا نهاية حتى تستنفد واشنطن كل ما في جعبتها الدبلوماسية من أفكار سلمية، وأنهم مستعدون لمواجهة إيران وحدهم وبكل الأساليب المتاحة لهم، حتى لو اضطروا إلى تحدي الاحتجاجات الأميركية.
وقد تفاقم هذا الخلاف بين واشنطن وتل أبيب بعد الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر/أيلول الماضي حيث أصر على توجيه "خط أحمر" إلى طهران يلزمها بإلغاء برنامجها النووي حسب جدول زمني معين. لكن واشنطن رفضت المطلب الإسرائيلي واعتبرته محاولة أخرى للضغط عليها ومن ثمَّ شن حرب على إيران نيابة عن إسرائيل. وأعلنت وزيرة الخارجية كلينتون أن الولايات المتحدة لا تفرض "مهلة نهائية" على إيران في إطار مساعيها لإقناعها بوقف برنامجها النووي. وأضافت كلينتون: "إن كل الخيارات مطروحة على الطاولة، ولكننا نؤمن بالتفاوض وبالجهد الدبلوماسي". وأضاف رئيس الأركان الأميركي الجنرال مارتن ديمبسي: "إن الولايات المتحدة وإسرائيل تنظران إلى التهديد الإيراني من منطلق مختلف، وإن لكل منهما جدولاً زمنيًا مختلفًا".
ويعود معظم هذه الخلافات السياسية بين واشنطن وتل أبيب إلى اقتناع الإدارة الأميركية بأن الحكومة الإيرانية، أي المرشد الأعلى خامنئي، لم يتخذ بعدُ قرارًا نهائيًا خاصًا بتطوير الأسلحة النووية، بينما تصر الحكومة الإسرائيلية على أن القرار قد اتُخذ منذ فترة طويلة وأن إيران قد قطعت شوطًا كبيرًا في تحقيق أهدافها النووية العسكرية.
تداعيات العلاقة الأميركية-الإيرانية على الأمن والاستقرار في المنطقة
يشكّل نجاح الولايات المتحدة أو فشلها في حل الأزمة النووية الإيرانية قضيةً حيويةً بالنسبة للحفاظ على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط عامة، ومنطقة الخليج العربي خاصة. ولا تقتصر تداعيات العلاقة الأميركية-الإيرانية على المناطق المجاورة لإيران فقط بل تؤثر حتمًا على الأوضاع الحساسة للغاية في سوريا والعراق واليمن ولبنان وفلسطين. لذلك تبدي واشنطن قلقًا كبيرًا تجاه استمرار هذه الأزمة وتفاقمها مما يُعرّض الأمن الإقليمي الهشّ إلى تعقيدات تكون جميع الأطراف في غنى عنها.
من جهةٍ أخرى، تبدي دول الخليج اهتمامًا بالغًا بتطورات هذا الملف لما يتضمنه من تأثير مباشر وطويل الأمد على أوضاعها الداخلية والإقليمية. ولكنْ رغم هذا الاهتمام المشترك بين دول مجلس التعاون الخليجي، وتخوفها من الأبعاد السياسية والإستراتيجية للبرنامج النووي الإيراني ومطامح طهران الإقليمية، فهناك أيضا تباين في وجهات النظر بين الدول الأعضاء حول الطريقة المثلى للتعامل مع هذه الأزمة. ويشير المراقبون إلى تصريحات علنية وسرية صادرة عن بعض دول الخليج ترحب بضربة أميركية عسكرية على المنشآت النووية الإيرانية بينما يحذّر آخرون من مغبة مثل هذه الخطوة وتداعياتها السلبية على المنطقة.
وفي الواقع، فإنّ دول المنطقة متخوفة من جميع الخيارات المعروضة لحل الأزمة الأميركية-الإيرانية لأن لكل منها ثمنًا باهظًا. هذا من وجهة النظر الخليجية؛ ففي حال اختيار واشنطن خيار احتواء طهران، على سبيل المثال، والقبول بحتمية بقاء برنامجها النووي العسكري، ستواجه دول الخليج تحدياتٍ صعبةً جدًا، مثل: هل ستسعى دول مجلس التعاون الخليجي للدفاع عن نفسها عبر الخوض في سباق تسلح نووي إقليمي لموازنة البرنامج الإيراني؟ ما هو تأثير مثل هذا التطور على الأمن العسكري والاقتصادي في المنطقة؟ هل سيُضعف هذا الخيار تأثير الولايات المتحدة في المنطقة ويقود إلى تعزيز الموقف الإيراني؟ وأخيرًا، هل ستضطر دول الخليج الانضمام إلى مظلة نووية أميركية لحماية أمنها ومصالحها كما اقترحت مؤخرًا وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون؟
أما في حال تبني واشنطن الخيار العسكري والقيام بتوجيه ضربة عسكرية أحادية أو مشتركة ضد إيران، فإنّ دول الخليج تتخوف من الاضطرار إلى تأييد حملة عسكرية جديدة في المنطقة لا تُعرف أبعادُها في المستقبل. ويتوقع الخبراء العسكريون والمحللون الإستراتيجيون في مراكز الأبحاث الأميركية أن تنفذ طهران التهديدات المباشرة وغير المباشرة التي وجهتها منذ بداية الأزمة ضد المصالح الغربية في المنطقة مما يضاعف من قلق دول الخليج. وتتضمن لائحة المواقع التي تستهدفها إيران ما يلي:
إغلاق مضيق هرمز أمام الملاحة الدولية وخصوصًا أمام ناقلات النفط المتوجهة إلى الدول الغربية المشاركة في الهجوم.
استهداف القوات والقواعد الأميركية في منطقة الخليج.
ضرب المنشآت النفطية في المنطقة وخصوصًا تلك التي تشارك في تزويد الغرب بالوقود.
قصف الأهداف العسكرية والمدنية في إسرائيل، وبضمنها المنشآت النووية في ديمونة وغيرها.
فاللجوء إلى الحل العسكري سيكون كارثة ليس فقط على إيران، وإنما أيضًا على الدول المشاركة وعلى المنطقة بصورةٍ عامة. ويُقدّر الخبراء العسكريون تكاليف الضربة العسكرية بمئات المليارات من الدولارات من العتاد والتدريب والخسائر بينما نتائجها المتوقعة محدودة جدًا حيث لا أحد يضمن نهاية البرنامج النووي الإيراني، ولربما تؤدي هذه الضربة إلى تأخيره لفترة سنتين إلى أربع سنوات فقط على أقصى تقدير. أما تكاليف الحرب والخسائر المادية التي ستتكبّدها دول المنطقة فستصل إلى أضعاف خسائر الدول الغربية والتي تشمل المصاريف العسكرية المباشرة والخسائر المادية الإضافية التي ستنجم عن أي انقطاع محتمل لإنتاج وتصدير النفط وتجميد النشاط التجاري في المنطقة، مهما كانت مهلته.
وبناءً على ذلك، يبدو الخيار السياسي، أي فتح حوار ثنائي بين واشنطن وطهران، الخيار الأفضل والأقل ضررًا على مصالح دول المنطقة. بالطبع، فإن هذا الخيار لا يخلو من الصعوبات والتحديات. لذلك، تبقى إمكانية نجاحه محدودة جدًا لأسباب عديدة، أهمها: غياب الثقة بين الطرفين، ومعارضة إسرائيل وأتباعها في أميركا له. إضافة إلى ذلك، سيصطدم الطرفان في هذا الحوار المقترح بالواقع الصعب ومفاده أن الزمن المتاح لهما من أجل التوصل إلى تفاهم متبادل محدودٌ جدًا. وهذا يتطلب منهما التحرك بسرعة فائقة رغم الصعوبات الداخلية والخارجية التي تحول دون ذلك. وبالرغم من كل هذه الصعوبات، يبقى البديل السلمي الخيارَ الأقلَّ ضررًا والأفضل لخدمة مصالح جميع الأطراف.
____________________________________
خليل جهشان - أستاذ العلوم السياسية بجامعة بيبرداين
الشعب الأميركي يريد من الرئيس أوباما في فترة حكمه الثانية التركيز بالأساس على القضايا الاقتصادية وإيجاد حلول فاعلة وسريعة تضمن تحقيق النمو والانتعاش الاقتصادي الملموس للخروج من الأزمة المالية الخانقة التي يعاني منها المجتمع الأميركي وعلى رأسها أزمة البطالة، وإيجاد المزيد من فرص العمل، وتقليص حجم الدَّيْن العام الأميركي والعجز في الميزانية الفيدرالية.
الناخب الأميركي يريد من الإدارة الجديدة تفادي الصراع الحزبي الذي أدى إلى الشلل العام في إدارة البلاد خلال الفترة الأولى من حكم أوباما نتيجة التنافس الحزبي والأيديولوجي الحاد بين الديمقراطيين والجمهوريين من خلال سيطرتهم على سلطتي الحكم التنفيذية والتشريعية طوال السنوات الأربع الماضية؛ فالشعب الأميركي عام 2012 يطالب واشنطن بالسعي الجاد والتعاون اللاحزبي بين الإدارة والكونغرس لإيجاد حلول وسط للقضايا الوطنية بدلاً من ممارسة سياسة الاستقطاب وتوجيه اللوم للآخرين وخوض صراعات حزبية عقيمة.
الآثار السياسية المترتبة على الانتخابات الأميركية كانت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار بالنسبة للوضع الاقتصادي وما يتوجب على الرئيس أوباما أن يفعله بهذا الخصوص في فترة حكمه الثانية، لكنها لم تكن على هذا القسط من الوضوح بالنسبة لقضايا السياسة الخارجية التي لم تحظَ بنفس الاهتمام من المرشحين الرئاسيين اللذين، في واقع الأمر، اختلفا في مواقفهما حول شكل هذه القضايا أكثر من مضمونها.
قضايا السياسة الخارجية في أجندة فترة الرئيس الثانية
لا شك أن الرئيس أوباما سيضطر خلال السنوات الأربع القادمة إلى التركيز على تحقيق المطلب الرئيسي للمواطنين الأميركيين، وهو تفادي الانهيار الاقتصادي، أو ما يسمى "بالهاوية المالية"، ومحاولة تحسين الاقتصاد الأميركي والتسريع في وتيرة النمو الاقتصادي الذي بدأ به في السنوات الأربع الماضية. إن تحقيق هذه الأهداف يشكّل العامل الحيوي والمقرر في نجاح أو فشل التركة السياسية للرئيس أوباما كما سيحكم عليها التاريخ بعد مغادرته البيت الأبيض حال انتهاء فترة حكمه الثانية في عام 2016. ولكنْ هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن الإدارة القادمة ستكون في معزلٍ تامٍ عن قضايا السياسة الخارجية، أو أنها ستهمل هذه القضايا حتى ولو حاولتْ قصدًا تبني مثل هذا الموقف الانعزالي عن التطورات الدولية، وذلك لعدة أسباب:
أولاً: إنّ الولايات المتحدة دولةٌ عظمى لها مصالح إستراتيجية حيوية في العديد من دول العالم. وهذا يفرض عليها الاهتمام المتواصل بهذه المصالح والسعي الدؤوب لحمايتها. لهذا السبب، يصعب على واشنطن في القرن الحادي والعشرين اتباع سياسات انعزالية تقيها ضرورة التعامل المستمر مع هذه الدول؛ فقضايا السياسة الخارجية تتسرب دومًا إلى حلبة السياسة الداخلية، خاصةً في فترات الحكم الثانية لأي إدارة، وتفرض نفسها على صُنّاع القرار الأميركيين وإن حاولوا تفاديها عن قصد. وهذا ينطبق على الأزمة المالية في أوروبا، كما ينطبق على الوضع الأمني المتأزم والمتدهور في سوريا وعلى الوضع في أفغانستان وإيران وفلسطين، على سبيل المثال.
ثانيًا: إنّ الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الولايات المتحدة حاليًا وشغلت بال الناخب الأميركي، خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، تُشكّل جزءًا لا يتجزأ من أزمة مالية دولية لا يمكن الفصل بينهما في عصر العولمة الذي نعيش فيه؛ فالإدارة الجديدة لن تنجح في تلبية مطالب الشعب الأميركي بتحسين الوضع الاقتصادي الداخلي في معزل عن العالم وقضاياه.
ثالثا: هناك نمطٌ تاريخي معهود داخل النظام الأميركي فيما يتعلق بأداء الإدارات المتتالية خلال فترات الحكم الثانية؛ حيث يركز الرؤساء المنتخبون في إدارتهم الثانية على قضايا السياسة الخارجية والقيام برحلات دولية عديدة. وقد حدث، على سبيل المثال، في عهد أيزنهاور وريغان وكلينتون وجورج دبليو بوش. ومن المتوقع أن تنطبق هذه السابقة على إدارة أوباما الثانية على الرغم من عدم ثقتي الكبيرة شخصيًا في مقدرته في هذه الفترة بالذات على تبني أية مبادرات شجاعة أو تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية، وخصوصًا بالنسبة للشرق الأوسط. لكنني مقتنع بأن أوباما لن يفوّت على نفسه الفرصة لترك بصماته التاريخية والدائمة على السياسة الدولية في إطار الظروف الصعبة والمقيدة التي ستَحُدّ من مجال مناورته في السنين الأربع القادمة.
ويستمر الحديث عبر وسائل الإعلام وأنشطة مراكز الأبحاث الأميركية على حتمية توجيه أنظار إدارة أوباما الجديدة إلى قضايا دولية مثل الحد من انتشار الأسلحة النووية، وتنفيذ الانسحاب الأميركي من أفغانستان حسب الجدول الزمني المعلن، أي قبل نهاية عام 2014، والتعامل مع العلاقات الأميركية-الباكستانية الهشة، وبلورة الموقف الأميركي من الحراك العربي وبخاصةٍ الوضع المتأزم في سوريا، وإعادة إحياء عملية تفاوضية بين إسرائيل والفلسطينيين، والتعامل مع الملف النووي الإيراني. ويعتبر الكثيرون الموضوع الأخير، أي العلاقة مع إيران وقضية برنامجها النووي، أهم التحديات التي ستواجهها الإدارة الثانية للرئيس أوباما وأكثرها تعقيدًا؛ فقد أصبح الملف الإيراني اليوم من أهم محاور السياسة الخارجية الأميركية.
توجهات إدارة الرئيس أوباما الثانية إزاء الملف النووي الإيراني
وفقًا لمقال نشرته صحيفة "كريستشان سيانس مونيتور" في 26سبتمبر/أيلول2012، هناك ثلاثة خيارات أمام الإدارة الأميركية الجديدة بالنسبة لتعاملها مع الملف النووي الإيراني:
أولاً: تقديم الدعم لإسرائيل في توجيه ضربة عسكرية لإيران من أجل تعطيل برنامجها النووي والتهيئة لتغيير النظام في طهران. ويقول السفير الأميركي السابق للأمم المتحدة جون بولتون، وهو من أبرز وجوه المحافظين الجدد ومستشار سابق لشؤون الأمن القومي للمرشح الجمهوري الخاسر ميت رومني: إن أسلوب الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية الذي تبنّته إدارة أوباما طوال فترة حكمها الأولى قد مُنِيَ بالفشل وقد حان الأوان لاستبداله بالوسيلة العسكرية. ويدّعي بولتون أن إيران على وشك تطوير أسلحة نووية وصواريخ عابرة للقارات. لهذا السبب، لن ينجح أي نظام للعقوبات في وضع حد لبرنامجها النووي. ويطالب الدبلوماسي المتقاعد الإدارة الجديدة بتبني البديل "الأقل ضررًا" المتمثل في دعم ضربة عسكرية تشنها إسرائيل ضد إيران من أجل عرقلة برنامجها النووي ولو مؤقتًا "وشراء الوقت لتحقيق الهدف الأوسع وهو قلب نظام الحكم نهائيًا في طهران".
ثانيًا: إعادة صياغة الأسلوب الذي تبنته الدول الغربية في تعاملها مع الملف النووي الإيراني، والاستمرار في السياسة الحالية الداعية إلى حل سياسي يضمن عدم لجوء إيران إلى اقتناء سلاح نووي. ويقول داريل كيمبال، الرئيس التنفيذي لرابطة الحد من التسلح: إن الحل الأفضل، رغم صعوبة تحقيقه، يكمن في تبني أساليب دبلوماسية خلاقة لأن أنظمة الحظر والعقوبات غير قادرة وحدها على وضع حد للجهود النووية الإيرانية. وينتقد كيمبال البديل العسكري لكونه مكلفًا وقد يأتي بنتائج عكسية وغير متوقعة ويقترح بدلاً عنه، إعادة صياغة العرض الغربي بحيث تتم مطالبة إيران التوقف كّليا عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 بالمائة مقابل إلغاء العقوبات المفروضة على إيران وخصوصًا العقوبات المالية وتلك المتعلقة بمبيعات النفط الإيراني.
أما البديل الثالث: فيكمن في السعي إلى احتواء إيران إن أصبحت دولة نووية أو إن فشلت في تطوير سلاح نووي مثلما تم احتواء الاتحاد السوفيتي في فترة الحرب الباردة. ويبرر أستاذ الدراسات الإستراتيجية الدولية إدوارد هالي خيار الاحتواء استنادًا إلى اعتقاده بحتمية فشل الخيار العسكري والخيار الدبلوماسي أو العقوبات لمنع إيران من حيازة الأسلحة النووية. وتشمل سياسة الاحتواء التي يروج لها هالي: عزل إيران ومقاطعتها تجاريًا وماليًا وعدم التواصل معها، إضافة إلى تبني سياسة الردع النووي ضدها. كما يقترح هالي إنشاء مظلة نووية أميركية لحماية الدول الصديقة في المنطقة، وإعطاءها المقدرة على مقاومة النفوذ الإيراني إقليميًا.
من الواضح أن الرئيس أوباما، حسب ما جاء في تصريحاته الشخصية والرسمية، يعارض الخيار الأول بشدة ويعتبر الخيار الثالث سابقًا لأوانه. ولذلك ليس من المتوقع أن يختار أيًا منهما في تعامل إدارته مع الملف الإيراني في فترة حكمه الثانية. إن جميع الأدلة الحالية في واشنطن تشير في الواقع إلى أن الإدارة الأميركية مزمعة في المستقبل القريب على فتح حوار ثنائي مع طهران حسب تفاصيل الخيار الثاني المدرج أعلاه في محاولة أخيرة لحث الحكومة الإيرانية على إيقاف أية محاولة تقوم بها لتطوير الأسلحة النووية عبر سياسة "العصا والجزرة" مع بعض التعديلات بالنسبة لرفع تدريجي للعقوبات عن طهران في حال تجاوبها بمسؤولية وإيجابية مع العروض الأميركية الجديدة.
ويبدو للبعض أن الموقف الأميركي الجديد يتحلّى أيضًا بقسط من المرونة الدبلوماسية تجاه موضوع الربط بين البرنامج النووي الإيراني، من ناحية، والقضايا الأخرى العالقة بين الطرفين، من ناحية أخرى. ومن المعروف أن واشنطن قد رفضت في الماضي رفضًا باتًا مثل هذا الربط كي تحرم طهران من أي مكسب سياسي يُذكر. ويمكن وصف الموقف الأميركي الجديد بمقولة "More for More” أي "المزيد من تخفيف العقوبات مقابل المزيد من القيود على عمليات التخصيب". ومن المحتمل أن تقوم واشنطن بعرض اقتراح نهائي على طهران يضمن لها الحفاظ على برنامج نووي سلمي قابل للتفتيش المحكم مقابل التنازل عن عمليات التخصيب لأغراض "عسكرية".
وتؤكد الشائعات التي أشارت إليها صحيفة نيويورك تايمز في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن الإدارة الأميركية قد توصلت إلى اتفاق مبدئي مع إيران للدخول، وللمرة الأولى، في محادثات مباشرة حول البرنامج النووي الإيراني. وتهدف هذه الخطوة الأميركية إلى تفادي توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية، أو من أي طرف آخر، على المنشآت النووية الإيرانية، بصورة تعكس موقف أوباما الذي ما زال متمسكًا، على عكس الموقف الإسرائيلي، بإمكانية التوصل إلى حل سياسي للأزمة مع طهران. وتدور هذه الشائعات حول لقاءات عدة تمت بين مسؤولين أميركيين ونظرائهم الإيرانيين طوال الأشهر الأخيرة من فترة الحكم الأولى للرئيس أوباما بمشاركة بعض مسؤولي البيت الأبيض المقربين من الرئيس نفسه وبإشراف مساعدته الرئيسة: فاليري غاريت. وقد أنكر المتحدث الرسمي للبيت الأبيض التوصل إلى أي اتفاق نهائي بين واشنطن وطهران على فتح حوار ثنائي بينهما. لكن جميع المسؤولين في الإدارة يصرّون على أنهم يرحبون بمثل هذا الحوار، وهم مستعدون لعقد لقاءات ثنائية مع المسؤولين الإيرانيين.
وجاءت تصريحات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في نهاية الأسبوع الماضي لتؤكد من جديد استعداد الإدارة الأميركية لخوض مفاوضات ثنائية مباشرة مع إيران إذا كانت طهران مستعدة لذلك. وأضافت كلينتون: إن الولايات المتحدة جاهزة للرد بالمثل إذا أبدت إيران استعدادها لاتخاذ "خطوات بناء ثقة" بين الطرفين. وقد تلت هذه التصريحات إجابة سريعة وغير عادية لوزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي الذي أكد بدوره أن مثل هذه المحادثات ممكنة في حال موافقة القيادة الإيرانية عليها، وخص بالذكر المرشد الأعلى: آية الله علي خامنئي. ولم تُدلِ وزيرة الخارجية كلينتون، ولا نظيرها الإيراني صالحي، بأية تفاصيل إضافية حول فحوى هذه المحادثات المقترحة.
الموقف الإسرائيلي من إيران ودورها في المنطقة
تعتبر الحكومة الإسرائيلية الحالية إيران نظامًا متشددًا وعدوًا لدودًا يشكّل تهديدًا وجوديًا مباشرًا لأمن إسرائيل وسياساتها في المنطقة وخارجها. كما تتهم إسرائيل طهران بممارسة الإرهاب الدولي وتأييد وتدريب وتمويل العديد من المنظمات الإرهابية، على رأسها حزب الله وحماس وبعض فروع طالبان والقاعدة وغيرها. بالإضافة إلى ذلك، تعتقد تل أبيب أن إيران تملك برنامجًا نوويًا سريًا متطورًا ذا أهداف عسكرية يهدد الأمن والاستقرار والسلام في العالم أجمع، وبخاصةٍ أمن إسرائيل وبقاءها دولة يهودية. وبناء على ذلك، سعت الحكومة الإسرائيلية طوال أكثر من عشر سنوات إلى مواجهة إيران مباشرة بهدف وضع حد لأنشطتها النووية. وقد لجأت إسرائيل في حملتها إلى استعمال الأساليب الدبلوماسية والعسكرية والمخابراتية كافة، المعلنة والسرية، التي تشمل فرض نظام حظر دولي شامل وقاس على إيران، إضافة إلى اغتيال الخبراء الإيرانيين داخل إيران وخارجها، والمساهمة مع دول أخرى في اختراق أنظمة الأمن في المنشآت النووية الإيرانية وتعطيل أجهزتها عبر اختراقها إلكترونيًا. ولُقبّت هذه الإجراءات الأخيرة بعملية "الألعاب الأولمبية" حسب تسريبات تناقلتها وسائل الإعلام الأميركية.
ويبدو واضحًا أن هناك اتفاقًا إسرائيليًا وأميركيًا تامًّا على منع إيران من اقتناء السلاح النووي. لكنَّ الحليفين يختلفان في العديد من سياساتهما في تحقيق هذا الهدف المشترك. الهدف واحد والنوايا والأساليب مختلفة. ولذلك تصر الحكومة الإسرائيلية على وصف الموقف الأميركي تجاه إيران بالضعف وغير الجاد لأنه ما زال متمسكًا بالحل السياسي ويرفض الانصياع للضغوط الإسرائيلية الخاصة بتوجيه ضربة عسكرية لإيران. وقد شاهدنا خلال الحملة الانتخابية الأميركية هجومًا إسرائيليًا غير معهود على الرئيس أوباما وإدارته وهذا يشكّل تدخلاً سافرًا في الشؤون الأميركية الداخلية والذي لا تسمح واشنطن لأية دولة أخرى بالقيام به. فمن الواضح أن إسرائيل تعتبر سياسة العقوبات والجهود الدبلوماسية التي تتبعها واشنطن عقيمةً لم تنجح حتى الآن في وقف البرنامج النووي الإيراني. ثم إنّ العديد من القادة الإسرائيليين قد أشار إلى أن بلادهم غير مستعدة للانتظار إلى ما لا نهاية حتى تستنفد واشنطن كل ما في جعبتها الدبلوماسية من أفكار سلمية، وأنهم مستعدون لمواجهة إيران وحدهم وبكل الأساليب المتاحة لهم، حتى لو اضطروا إلى تحدي الاحتجاجات الأميركية.
وقد تفاقم هذا الخلاف بين واشنطن وتل أبيب بعد الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر/أيلول الماضي حيث أصر على توجيه "خط أحمر" إلى طهران يلزمها بإلغاء برنامجها النووي حسب جدول زمني معين. لكن واشنطن رفضت المطلب الإسرائيلي واعتبرته محاولة أخرى للضغط عليها ومن ثمَّ شن حرب على إيران نيابة عن إسرائيل. وأعلنت وزيرة الخارجية كلينتون أن الولايات المتحدة لا تفرض "مهلة نهائية" على إيران في إطار مساعيها لإقناعها بوقف برنامجها النووي. وأضافت كلينتون: "إن كل الخيارات مطروحة على الطاولة، ولكننا نؤمن بالتفاوض وبالجهد الدبلوماسي". وأضاف رئيس الأركان الأميركي الجنرال مارتن ديمبسي: "إن الولايات المتحدة وإسرائيل تنظران إلى التهديد الإيراني من منطلق مختلف، وإن لكل منهما جدولاً زمنيًا مختلفًا".
ويعود معظم هذه الخلافات السياسية بين واشنطن وتل أبيب إلى اقتناع الإدارة الأميركية بأن الحكومة الإيرانية، أي المرشد الأعلى خامنئي، لم يتخذ بعدُ قرارًا نهائيًا خاصًا بتطوير الأسلحة النووية، بينما تصر الحكومة الإسرائيلية على أن القرار قد اتُخذ منذ فترة طويلة وأن إيران قد قطعت شوطًا كبيرًا في تحقيق أهدافها النووية العسكرية.
تداعيات العلاقة الأميركية-الإيرانية على الأمن والاستقرار في المنطقة
يشكّل نجاح الولايات المتحدة أو فشلها في حل الأزمة النووية الإيرانية قضيةً حيويةً بالنسبة للحفاظ على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط عامة، ومنطقة الخليج العربي خاصة. ولا تقتصر تداعيات العلاقة الأميركية-الإيرانية على المناطق المجاورة لإيران فقط بل تؤثر حتمًا على الأوضاع الحساسة للغاية في سوريا والعراق واليمن ولبنان وفلسطين. لذلك تبدي واشنطن قلقًا كبيرًا تجاه استمرار هذه الأزمة وتفاقمها مما يُعرّض الأمن الإقليمي الهشّ إلى تعقيدات تكون جميع الأطراف في غنى عنها.
من جهةٍ أخرى، تبدي دول الخليج اهتمامًا بالغًا بتطورات هذا الملف لما يتضمنه من تأثير مباشر وطويل الأمد على أوضاعها الداخلية والإقليمية. ولكنْ رغم هذا الاهتمام المشترك بين دول مجلس التعاون الخليجي، وتخوفها من الأبعاد السياسية والإستراتيجية للبرنامج النووي الإيراني ومطامح طهران الإقليمية، فهناك أيضا تباين في وجهات النظر بين الدول الأعضاء حول الطريقة المثلى للتعامل مع هذه الأزمة. ويشير المراقبون إلى تصريحات علنية وسرية صادرة عن بعض دول الخليج ترحب بضربة أميركية عسكرية على المنشآت النووية الإيرانية بينما يحذّر آخرون من مغبة مثل هذه الخطوة وتداعياتها السلبية على المنطقة.
وفي الواقع، فإنّ دول المنطقة متخوفة من جميع الخيارات المعروضة لحل الأزمة الأميركية-الإيرانية لأن لكل منها ثمنًا باهظًا. هذا من وجهة النظر الخليجية؛ ففي حال اختيار واشنطن خيار احتواء طهران، على سبيل المثال، والقبول بحتمية بقاء برنامجها النووي العسكري، ستواجه دول الخليج تحدياتٍ صعبةً جدًا، مثل: هل ستسعى دول مجلس التعاون الخليجي للدفاع عن نفسها عبر الخوض في سباق تسلح نووي إقليمي لموازنة البرنامج الإيراني؟ ما هو تأثير مثل هذا التطور على الأمن العسكري والاقتصادي في المنطقة؟ هل سيُضعف هذا الخيار تأثير الولايات المتحدة في المنطقة ويقود إلى تعزيز الموقف الإيراني؟ وأخيرًا، هل ستضطر دول الخليج الانضمام إلى مظلة نووية أميركية لحماية أمنها ومصالحها كما اقترحت مؤخرًا وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون؟
أما في حال تبني واشنطن الخيار العسكري والقيام بتوجيه ضربة عسكرية أحادية أو مشتركة ضد إيران، فإنّ دول الخليج تتخوف من الاضطرار إلى تأييد حملة عسكرية جديدة في المنطقة لا تُعرف أبعادُها في المستقبل. ويتوقع الخبراء العسكريون والمحللون الإستراتيجيون في مراكز الأبحاث الأميركية أن تنفذ طهران التهديدات المباشرة وغير المباشرة التي وجهتها منذ بداية الأزمة ضد المصالح الغربية في المنطقة مما يضاعف من قلق دول الخليج. وتتضمن لائحة المواقع التي تستهدفها إيران ما يلي:
إغلاق مضيق هرمز أمام الملاحة الدولية وخصوصًا أمام ناقلات النفط المتوجهة إلى الدول الغربية المشاركة في الهجوم.
استهداف القوات والقواعد الأميركية في منطقة الخليج.
ضرب المنشآت النفطية في المنطقة وخصوصًا تلك التي تشارك في تزويد الغرب بالوقود.
قصف الأهداف العسكرية والمدنية في إسرائيل، وبضمنها المنشآت النووية في ديمونة وغيرها.
فاللجوء إلى الحل العسكري سيكون كارثة ليس فقط على إيران، وإنما أيضًا على الدول المشاركة وعلى المنطقة بصورةٍ عامة. ويُقدّر الخبراء العسكريون تكاليف الضربة العسكرية بمئات المليارات من الدولارات من العتاد والتدريب والخسائر بينما نتائجها المتوقعة محدودة جدًا حيث لا أحد يضمن نهاية البرنامج النووي الإيراني، ولربما تؤدي هذه الضربة إلى تأخيره لفترة سنتين إلى أربع سنوات فقط على أقصى تقدير. أما تكاليف الحرب والخسائر المادية التي ستتكبّدها دول المنطقة فستصل إلى أضعاف خسائر الدول الغربية والتي تشمل المصاريف العسكرية المباشرة والخسائر المادية الإضافية التي ستنجم عن أي انقطاع محتمل لإنتاج وتصدير النفط وتجميد النشاط التجاري في المنطقة، مهما كانت مهلته.
وبناءً على ذلك، يبدو الخيار السياسي، أي فتح حوار ثنائي بين واشنطن وطهران، الخيار الأفضل والأقل ضررًا على مصالح دول المنطقة. بالطبع، فإن هذا الخيار لا يخلو من الصعوبات والتحديات. لذلك، تبقى إمكانية نجاحه محدودة جدًا لأسباب عديدة، أهمها: غياب الثقة بين الطرفين، ومعارضة إسرائيل وأتباعها في أميركا له. إضافة إلى ذلك، سيصطدم الطرفان في هذا الحوار المقترح بالواقع الصعب ومفاده أن الزمن المتاح لهما من أجل التوصل إلى تفاهم متبادل محدودٌ جدًا. وهذا يتطلب منهما التحرك بسرعة فائقة رغم الصعوبات الداخلية والخارجية التي تحول دون ذلك. وبالرغم من كل هذه الصعوبات، يبقى البديل السلمي الخيارَ الأقلَّ ضررًا والأفضل لخدمة مصالح جميع الأطراف.
____________________________________
خليل جهشان - أستاذ العلوم السياسية بجامعة بيبرداين