منتديات الحوار الجامعية السياسية

شخصيات صنعت التاريخ

المشرف: بدريه القحطاني

By احمد خالد الدعفس 101
#58176
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب : بدائع السلك في طبائع الملك
المؤلف : ابن الأزرق
مصدر الكتاب : موقع الوراق
http://www.alwarraq.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]
الكتاب الأول
في حقيقة الملك والخلافة
وسائر أنواع الرياسات وسبب وجود ذلك وشرطه وفيه بابان
الباب الأول
في حقيقة الملك والخلافة وسائر الرياسات
وفيه ثلاثة أنظار: أحدها في حقيقة الملك، والثاني في حقيقة الخلافة، الثالث في سائر أنواع الرياسات.
النظر الأول
في حقيقة الملك
وفيه مسائل: المسألة الأولى تقدم أن الاجتماع الإنساني لا بد فيه من وازع عن العدوان الواقع فيه بمقتضى الطبيعة البشرية، بما يكون هو من سطوة السلطان وقهره. وتلك الخصوصية الحاصلة له بما هو منصب طبيعي للإنسان، كما سبقت الإشارة إليه، هي الملك في مشهور المارد به.
المسألة الثانية لا تتم حقيقة هذا المنصب، إلا لمن تكمن بقهر يده، التي لا فوقها يد ظهور أثر ذلك، باستبعاد الرعية وجباية الأموال، وبعث البعوث، وحماية الثغور، والقاصر عن ذلك ناقص الملك، بقدر الفائت منه، وله في الواقع صورتان:
الصورة الأولى
فوات بعض ما ذكر، والملك به خداج غير تام.
قال ابن خلدون: " كما وقع لكثير من ملوك البربر في دولة الأغالبة بالقيروان وملوك العجم صدر الدواة العباسية " .
الصورة الثانية
فوت الضرب على سائر الأيدي لقصور العصبية عن استعلائها على سائر العصبيات، ووجود من يده فوق يده، والملك بذلك ظاهر نقصه عن تمام حقيقته.
قال: وهؤلاء كأمراء النواحي ورؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة.
تعريف: قال: وكثيراً ما يوجد في هذا الدول المتسعة النطاق، فيوجد ملوك في النواحي القاصية، يدينون بطاعة الدولة الجامعة لهم، كصنهاجة مع العبيديين، وزنانة مع الأمويين تارة، ومع العبيديين أخرى، وكملوك العجم في دولة بني العباس، وأمراء البرابرة وملوكهم مع الإفرنجة قبل الإسلام، وكملوك الطوائف من الفرس مع الاسكندر وقومه اليونانيين: وكثير من هؤلاء.
قال: " فاعتبر تجده والله القاهر فوق عباده "
النظر الثاني
في حقيقة الخلافة
وفيه مسائل: المسألة الأولى تقدم ما يدل على أن المراد بها وبالإمامة راجع إلى النيابة عن الشارع في حفظ الدين وسياسة الدنيا ولائمة الأصول في تحرير ذلك عبارات أصحها عند الأمدي، وفرض كلامهم في لفظ الإمامة: إنها خلافة.
المسألة الثانية يسمى القائم بهذا المنصب خليفة لحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، قاله الماوردي أو الماضي قبله، أي الخليفة الذي كان قبله، البغوي قاله البيضاوي وإماما تشبيها له بإمام الصلاة في وجوب اتباعه.
شخص النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الشرع، وحفظ الملة، على وجه يوجب اتباعه جميع الناس، قال ابن عرفة: انظر هل يخرج عنها أمام ذي فسق، وظاهر نصوصهم. والأحاديث أنها فيه إمامة لا تنقض.
قلت: تقدم تمام تقريره عند بيان أن جوره لا يسقط وجوب الطاعة له.
قال: " والأقرب أنها صفة حكمية توجب امتثال أمر موصوفها في غير منكر عموماً، فيخرج القضاء لخصوصه بإخراج أحكام الحروب والقضايا ونحوهما " .
قال ابن خلدون: " ولهذا يقال الإمامة الكبرى " .
قلت: وتنشأ هنا فروع: أحدها: قال الماوردي: " يجوز أن يقال: الخليفة على الإطلاق وخليفة رسول الله صلى الله عله وسلم.
الثاني: قال النووي: " ينبغي أن لا يقال خليفة الله. بل يقال الخليفة، وخليفة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وأمير المؤمنين.
قلت: حكاه الماوردي عن الجمهور قال: " وقد قيل لأبي بكر رضي الله عنه يا خليفة الله قال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثالث البغوي: " لا بأس أن يسمى القائم بأمر المسلمين أمير المؤمنين والخليفة، وإن كان مخالفاً لسيرة أئمة العدل لقيامه بأمر المؤمنين وتسمع المؤمنين له.
المسألة الثالثة لبيعة الخلفاء والملوك مدلولان: أحدهما: بحسب العرف اللغوي والمعهود الشرعي، وهو العهد على الطاعة، وذلك لأنهم كانوا إذا عقدوا عهداً لأمير، جعلوا أيديهم في يده، توكيداً للعهد بذلك، فأشبه فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة، وصارت مصافحة بالأيدي، ومنه بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وعند الشجرة.
والثاني: باعتبار المشهود لهذا العهد.
قال ابن خلدون وهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل أطلق عليها اسم البيعة، التي هي العهد على الطاعة مجازاً، لما كان الخضوع من لوازمها وغلب فيه، حتى صار حقيقة عرفية . واستغنى بها عن مصافحة أيدي الناس، لما فيها لكل واحد من الابتذال المنافي للرياسة فوق المنصب الملوكي، إلا في الأقل لقصد تواضع من يأخذ به نفسه من الملوك مع خواصه، ومشاهير أهل الدين من الرعية.
تنبيه: قال فافهم معنى البيعة في العرف. فإنه أكيد على الإنسان معرفته، لما يلزمه من حق سلطانه وإمامه، ولا تكون أفعاله عبثاً ومجاناً، واعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك، والله القوي العزيز.
قلت: ومما يتأكد معرفته مع ذلك أن جوار بعض أنواع هذا الخضوع في التحية إنما هو لما عرض، مما أوجب عند الاقتصار على البيعة السنية تبذلاً. وقد قال الغزالي: " إن الانحناء في الخدمة معصية إلا عند الخوف " .
المسألة الرابعة: من توابع نظر الخلافة في مصالح الدين والدنيا ولوازم الطاعة له في ذلك، تولية العهد، لمن يوفي له بعد مماته، مبالغة في النظر للخلق، وخروجاً عن عهدة ما يخشى من التقصير فيذلك ، وقد عهد أبو بكر إلى عمر بمحضر الصحابة رضي الله عنهم، وعهد عمر في الشورى إلى الستة المعروفين رضي الله عنهم جميعهم، وعند ما أوجبوا على أنفسهم طاعة العهد بذلك، دل على أنهم أجمعوا على جواز النظر به أولاً، وعلى انعقاده بعد الوقوع ثانياً.
تنبيه: إذا خص الابن بولاية العهد، واقتضى الحال ذلك، فلا تهمه فيه على الإمام خلافاً لقوم.
قال ابن خلدون: " وإما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء، فليس من المقاصد الدينية، إذ هو أمر من الله يختص به من يشاء، فينبغي أن تحسن النية فيه ما أمكن، خوفاً من العبث بالمناصب الدينية، والملك لله يوتيه من يشاء سبحانه " .
المسألة الخامسة تقدم أن انقلاب الخلافة إلى الملك لا بد منه بحسب طبيعة الوجود، وبيانه الآن من حيث سببه، متوقف على مقدمات: إن الملك غاية طبيعية للعصبية على ما يأتي تقريره إن شاء الله، وإذا ذاك فحصوله عنها ضروري بحسب ترتيب الوجود الاختياري.
الثانية: إن الشرائع والديانات، وكل أمر يحمل عليه الجمهور ولا بد فيه من العصبية، كما يتضح ، بعد أن شاء الله. وعليه فهي ضرورية في الملة، وإلا لما تم أمر الله بها.
الثالثة: إن ذم الملك والنهي عن أهله في الاستمتاع بالخلاف، والتنكيب عن صراط الله مصرف لقصد التغلب بالباطل، وتصريف الخلق طوع الأغراض والشهوات. وأما نية فيه حمل الناس به على عبادة الله وجهاد عدوه لازم فيه بوجه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
الرابعة: إن ذم العصبية والأعلام بعدم فائدتها كقوله تعالى " لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم " وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها وبالأباء، أنتم بنو آدم و آدم من تراب " المراد به حيث تكوم على باطل، كما كانت الجاهلية، ومتى استعين بها على إقامة حق فلا ذم فيها وإلا لما تم ظهور ذلك.
إذا تقرر هذا، فللخلافة والملك في الدولة الإسلامية مقامات ثلاثة: المقام الأول: عند وجود الخلافة بدون الملك: وذلك حين البراءة منه، والتنكب على طريقه في أول الأمر استغناء عنه بوازع الدين لما كانوا عليه من ايثار الحق أولاً،وغضاضة البداوة المعينة عليه ثانياً.
المقام الثاني: بعد اختلاطهما، وامتزاج الدولة بهما: وذلك عند تدرج البداوة إلى نهايتها، تجيء طبيعة الملك لمقتضى العصبية، وحصول التغلب ثم انفراده بالمجد، مع تحري مذاهب الدين والجري على نهج الحق، إذ التغيير لم يطهر أي في الوازع الديني فقط.
تعيين تغيير: قال ابن خلدون: " كما كان الأمر لعهد معاوية رضي الله عنه مروان وابنه عبد الملك والصدر الأول من خلفاء بني العباس أبى الرشيد وبعض ولده " .
قلت: يشهد له حديث: " الخلافة بعدي ثلاثون ثنى يملكون ملكاً " .
قال عياض: " فكانت كذلك مدة الحسن رضي الله عنه " .
المقام الثالث: " وهو الانقلاب الكلي إلى الملك البحت: وذلك عند ذهاب معاني الخلافة ماعدا اسمها، وجريان طبيعة التغلب إلى غايتها في استعمال أغراضها من القهر والتحكم في الشهوات والملاذ:
قلت: يدل عليه حديث أن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة وخلافة ثم يكون ملكاً عضوضاً ثم يكون عتواً وجبرية وفساداً في الأمة " .
تعريف: قال: " كما كان الأمر بخلف بني عبد الملك، ولمن جاء بعد المعتصم والمتوكل من بني العباس.
قال: " واسم الخلافة كان باقياً لبقاء عصبية العرب، ثم ذهب رسمها وأثرها بذهاب عصبية العرب، وفناء جيلهم وبقي الأمر ملكاً، كما في ملوك العجم في المشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركاً، والملك بجميع مناحيه لهم، لا شيء منه للخليفة، وكما في ملوك زنانة بالمغرب كصنهاجة مع العبيديين، ومغراواة وبني يفرن مع بني أمية بالأندلس " .
النظر الثالث
في سائر أنواع الرياسات.
وقبل بيان ذلك، فهنا مقدمتان: المقدمة الأولى أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره، لما تقدم أن الوازع فيه ضروري، سواء كان يزع الخلق بمقتضى السياسة الشرعية أو العقلية، وحينئذ فرياسته بذلك إن لم تنته إلى الملك الحقيقي لفقد شرطه، فلا أقل من تمكنه وتمشيه ما يسوس به من تحت رياسته، وحينئذ يسمى رئيساً.
المقدمة الثانية إن الملة لا بد فيها من القائم بها، عند غيبة نبيها، يكون فيها كالخليفة عنه في حملهم على ما جاء به من الأحكام والشرائع، والحاجة مع ذلك إلى الوازع المسمى بالملك، إنما هو لما تقدم التنبيه عليه، والملة الإسلامية، لما شرع فيها الجهاد، لحما الكافة على إجابة دعوتها العامة طوعاً أو كرهاً، فلا جرم اتخذت فيها الخلافة والملك، ولا كذلك غيرها من الملل. فلذلك لا ينبغي للقائم فيها بأمر الدين شيء من سياسة الملك، ووجوده فيها إنما هو بالعرض، والأمر غير ديني، إذا لم يخاطبوا بالتغلب على الأمم كما في الملة الإسلامية، زادها الله ظهوراً. إذا عرفت هذا، فتلك الرياسة القائمة بالسياستين نوعان بحسبهما.
النوع الأول الرياسة الشرعية ومن مشهور الواقع من ذلك ، ملخصاً من كلام ابن خلدون، رياستان: أحدهما لليهود، وهي رياسة الكوهن، والأخرى للنصارى، وهي رياسة البابا.
الرياسة الأولى
رياسة الكوهن
ولهم فيها باعتبار الاقتصاد عليها، والتدرج معها إلى الرياسات الطبيعية، ثم الرجوع إليها إلى الآن: ست حالات.
الحالة الأولى
أقاموا فيها بعد موسى ويوشع عليما السلام نحو أربعمائة سنة لا يعتنون فيها بشيء من أمر الملك اقتصاراً على إقامة رئيس من ذرية هارون عليه السلام، كأنه خليفة موسى عليه السلام في إقامة الدين خاصة كالصلاة والقربان، ويسمونه الكوهن. ثم اختاروا سبعين شيخاً لإقامة السياسة الطبيعية للبشر، فكانوا يتولون تنفيذ أحكامها العامة، والكوهن فوقهم بالرتبة الدينية، واتصل ذلك بهم إلى أن استحكمت طبيعة العصبية، وتهيأت الشوكة للملك وهي:
الحالة الثانية
فغلبوا الكنعانيين على الأرض التي أورثهم الله ببيت المقدس وما جاورها، كما وعدوا على لسان موسى عليه السلام، ورياستهم راجعة إلى شيوخهم مدة من نحو أربعمائة سنة. ولما لم تكن لهم صولة ملك، ضجروا من مغالبة الأمم فطلبوا على لسان شمويل عليه السلام إن يأذن الله تعالى لهم في تمليك رجل عليهم، فكان طالوت، وغلب الأمم، وقتل جالوت، ثم ملك بعده داود، ثم سليمان عليهما السلام، واستعجل ملكه وهي:
الحالة الثالثة
فامتد إلى الحجاز ثم إلى أطراف اليمن، ثم إلى أطراف بلاد الروم ثم افترق الأسباط بعد سليمان عليه السلام إلى دولتين: أحدهما بالجزيرة والموصل للأسباط العشرة. والأخرى بالقدس والشام لبني يهود وبني يامين ثم غلبهم بخت نصر،ملك بابل،على ما كان بأيديهم بعد اتصال ملكهم نحو ألف سنة. وخرب مسجدهم واحرق توراتهم ونقلهم إلى أصبهان والعراق، إلى أن ردهم بعض ملوك الفرس إلى بيت المقدس بعد سبعين سنة من خروجهم، فبنوا المسجد وأقاموا دينهم على الرسم الأول للكهنة فقط وهي:
الحالة الرابعة
والملك حينئذ إنما هو للفرس، ثم غلب الإسكندر واليونانيون على الفرس وصار اليهود في ملكهم، ثم فشل أمر اليونانيين، فاعتز اليهود عليهم بالعصبية، وقائم مملكتهم الكهنة الذين كانوا فيهم إذ ذاك وقاتلوا يونان، حتى انقرضوا وهي.
الحالة الخامسة
ثم غلبهم الروم، ورجعوا إلى بيت المقدس، وبها بقية دولتهم،فحاصروهم مدة، ثم افتتحوها عنوة، وأفحشوا في القتل والهدم والتحريق، وخربوا بيت المقدس، وأجلوهم إلى روما وما وراءها.وهو الخراب الثاني للمسجد. ويسميه اليهود: بالجلوة الكبرى، فلم يقم لهم بعد ذلك ملك، لفقدان العصبية، وبقوا بعد ذلك في ملكة الروم، ومن بعدهم،والمقيم لدينهم رئيسهم المسمى بالكوهن إلى الآن وهي:
الحالة السادسة
لا أبدلهم الله منها وزادهم ذلاً وصغاراً إلى يوم الدين، وقد فعل.
الرياسة الثانية
رياسة البابا
وضبط هذه الفظة بباءين موحدتين من أسفل، والنطق بهما مفخماً، والثانية مشددة. ومعناه أبو الأباء وإيجاز التوقيف على مصيرهم إلى اعتماد هذه الرياسة، بتلخيص ما وقع من الاضطراب من لدن رفع عيسى عليه السلام إلى هذا العهد.
الاضطراب الأول
عند افتراق الحواريين، ودخول أكثرهم إلى بلاد الروم داعين إلى دين النصرانية واستقرار كبيرهم بنظرة برومية دار ملك القياصرة، وكتبهم الأناجيل الأربعة، المختلفة الرواية من وحي غيرهم، واجتماعهم برومة لوضع قوانين الملة النصرانية الملتقطة من الكتب المتضمنة لشرع اليهود وتلك الأناجيل الملتقطة عن الكاتبين لها.
ورئيس ملتهم لذلك العهد، وخليفة المسيح فيهم، المسمى بالبطرك: وثانية المنعوت لمن بعد منه يسمى بالأسقف، والإمام والمقيم للصلاة بهم والمفتي لهم في الدين يسمى قسيس، والمنقطع للعبادة والخلوة، وأكثرها في الصوامع، يسمى بالراهب.
الاضطراب الثاني
حين اختلف القياصرة في الأخذ بهذه الشريعة، وتعظيم أهلها تارة، ثن بتركها والتسلط على أهلها بالقتل والنفي أخرى، إلى أن جاء قسطنطين الملك، وأخذ بها، واستمروا عليها، ورئيسهم في هذه الحالة صاحب دينهم، كما أمر.
الاضطراب الثالث: لما اختلف البطارقة، والقديسون بعد ذلك، في قواعد دينهم وعقائده، واجتمعوا في أيام قسطنطين لتحرير الحق في الدين، واتفق ثلاثمائة وثمانية عشر منهم على رأي واحد فكتبوه، وسموه " الأمانة " وجعلوه أصلاً يرجعون إليه، فبقي الأمر كذلك إلى أن اختلفوا بعد ذلك في قواعد الدين اختلافاً آخر هو:
الاضطراب الرابع
وكانت لهم مجتمعات في تقريره، واتصل فيهم بنيابة الأساقفة عن البطارقة، وكان الأساقفة يدعون البطرك " بالأب " تعظيماً له، والأسقف يدعى، حيث ينوب عن البطرك بالأب أيضاً، تعظيماً له، فأرادوا أن يميزوا البطرك عن الأسقف في التعظيم لحصول الاشتباه بينهما منذ عصور متطاولة فدعوه " البابا " ومعناه " أبو الأباء " . فلم تزل سمته عليه بعد اختصاصه بكرسي روما إلى الآن.
الاضطراب الخامس
وهو اختلافهم في الأعظم بعد ذلك في الدين، وما يعتقدونه في المسيح وصاروا طوائف وفرقاً، واستظهروا بملوك النصرانية، كل على صاحبه، إلى أن استقرت ثلاث طوائف، وهي فرقهم التي لا معول لهم على غيرها، وهي الملكانية واليعقوبية والنسطورية. ثم اختصت كل فرقة منهم ببطرك فبطرك روما المسمى بالبابا على رأي الملكانية، وملكهم قديم بتلك الناحية، وبطرك المعاهدين بمصر على رأياليعقوبية، وهو ساكن بينهم، والحبشة يدينون بدينهم، ولبطرك مصر فيهم أساقفة ينوبون عنه في إقامة دينهم هناك واسم البابا مخصوص ببطرك روما، ولا يسمى به اليعقوبية بطركهم.
إعلام: قال ابن خلدون " ومن مذاهب البابا عند نصرانية روما تحضيضهم على الانقياد لملك واحد يرجعون إليه اختلافاً واجتماعاً، تحرجاً من افتراق الكلمة، ويتحرى فيه العصبية التي لا فوقها، لتكون يده عالية على جمعهم، ويباشره بوضع التاج على رأسه للتبرك، فيسمى المتوج، والله يضل ما يشاء ويهدي من يشاء.
عاطفة تكميل:
تقدم أن النصارى التقطوا من كتب ليهود ما كتبوه بالإنجيل وجعلوه أصل دينهم المشرف على شفا جرف هاو. والشيخ شمس الدين ابن الأكفاني لخص تلك الكتب، فرأينا نقله، تكميلاً لقصد الإطلاع على ما وقع في الوجود. والأعمال بالنيات.
قال: " بعد تقرير أن المشهور من فرقهم ثلاث: الربانيون والقراؤون والسامريون " . غير أن السامرية منهم نقلوا عن أنبيائهم تسعة عشر كتاباً يضيفونها إلى خمسة أسفار من التوراة على ما فيها من التبديل والاختلاف، ويعبرون عن جملتها بالنبوات.
قال: وهي مراتب:
المرتبة الأولى
التوراة
وهي خمسة أسفار: أحدها: يذكر فيه استخدام المصريين لبني إسرائيل، وظهور موسى عليه السلام، وهلاك فرعون، ويصف قبة الزمان وأحوال التيه وإقامة هارون عليه السلام ونزول العشر كلمات ، وسماع القوم كلام الله تعالى.
الثالث: يذكر فيه تعليم القوانين بالإجمال.
الرابع: يذكر فيها عدد القوم ويقسم الأرض عليهم، وأحوال الرسل ثم موسى عليه السلام إلى الشام وأخبار المن والسلوى والغمام.
الخامس: إعادة أحكام التوراة وتفصيل المجمل، وذكر وفاة هارون، ثم موسى، وخلافة يوشع عليهم.
المرتبة الثانية
أربعة أسفار
أحدها يدعى ليوشع عليه السلام، يذكر فيه ارتفاع المن، وأكلهم المال بعد تقريب القربان ومحاربة يوشع عليه السلام الكنعانيين، وفتحه البلاد وتقسيمها بالقرعة.
الثاني: يعرف بسفر الحكام، فيه أخبار قضاة إسرائيل في البيت الأول.
الثالث: لشمويل عليه السلام، فيه نبوته، وملك طالوت، وقتل داوود جالوت، الرابع: يعرف بسفر الملوك، وفيه أخبار ملك داوود وسليمان عليهما السلام وغيرهما، وانقسام ذلك الملك بين الأسباط والملاحم والجلاء الأول، ومجيء " بختنصر " وخراب بيت المقدس.
المرتبة الثالثة
أربعة أسفار تدعى الأخيرة
أحدها لشعيا عليه السلام يذكر فيها توبيخ الله تعالى لبني إسرائيل، وإنذارهم بما يقع، وبشرى للصابرين، وأشار إلى خراب البيت الثاني، والخلاص على يد كورش الملك.
الثاني: لأرميا عليه السلام يذكر فيه خراب البيت بالتصريح والهبوط إلى مصر.
الثالث: لحزقيال عليه السلام، يذكر فيه حكماً طبيعة وفلكية مرموزة وشكل بيت المقدس وأخبار يأجوج ومأجوج.
الرابع: اثنا عشر سعراً فيها إنذارات بزلازل وجراد وإشارة إلى المنتظر والمحشر ونبوة يونس علية السلام، وغرقة وابتلاع الحوت له، وتوبة قومه ونبوة زكريا عليه السلام، وإشارة إلى اليوم العظيم وبشارة بورود الخضر عليه السلام.
المرتبة الرابعة تدعى الكتب وهي إحدى عشر سفراً أحدها: التاريخ من آدم إلى البيت الثاني ونسب الأسباط وقبائل العالم.
الثاني: مزامير داوود عليه السلام، وعدتها مائة وخمسون مزمار ما بين طلبات وأدعية عن موسى عليه السلام وغيره...
الثالث: قصة أيوب عليه السلام، وفيه مباحث كلامة.
الرابع: أمثال حكمية عن سليمان عليه السلام.
الخامس: أخبار الحكام قبل الملوك.
السادس: نشائد عبرانية لسليمان عليه السلام، مخاطبات بين النفس والعقل.
السابع: يدعي جامع الحكمة لسليمان عليه السلام، فيه الحث على طلب اللذات العقلية الباقية وتحقير الجسمية الفانية، وتعظيم الله تعالى والتخويف منه.
قلت: لا يفهم من هذا أن الذات الحسية لا وجود لها في الآخرة، فإن الملة المحمدية، على الآتي بها أفضل الصلاة والسلام وأزكي التحية قد تكفلت بصدق الوعد بها على وجه لا ريب فيه.
الثامن: يدعي النواح لأرميا عليه السلام فيه خمس مقالات على حروف المعجم، ندب على البيت.
التاسع: فيه ملك أزدشير وعبد النور.
العاشر: لدانيال عليه السلام، فيه تعبير منامات " بختنصر " وولده، مرموز على ما يقع في الممالك وحلل البعث والنشور.
الحادي عشر: لعزير عليه السلام فيه صفة عودة القوم من أرض بابل إلى البيت الثاني وبناءه.
قال: " وينفرد الربانيون بشروح لعوائم التوراة، وتفريعات عليها ينقلونها عن موسى عليه السلام " .
النوع الثاني الرياسة غير الشرعية أما لعدم التدين بها من أصل، أو القيام بها من حيث الحاجة إليها طبعاً غير التفات إلى موافقة قصد الشارع بها أو مخالفته، وإن صدق بالشريعة ولا خفاء أن فرض هذه الرياسة، إنما هو فيما دون الملك كما تقدم، ولها في الواقع على ذلك الفرض صور عديدة، يكفي منها اثنتان.
الصورة الأولى: انفراد واحد بنوع م التغلب بسياسة من غلب عليه، لينتظم عمرانها برعايتها، جلباً ودفعاً، ولا يخفي موقعه في الوجود قديماً وحديثاً.
الصورة الثانية: إقامة جماعة من مشيخة المرؤوس عليهم لينهضوا بتدبير أمرهم وإقامة مصالحهم وقد تقدم مثله لبني إسرائيل قبل وجود العصبية الحاملة على التغلب الذي غايته الملك الذي بلغوه بعد، وأمثالهم في ذلك من سائر الأمم، والله العليم الحكيم.
الباب الثاني
في سبب وجود الملك وشرطه
والنظر في طرف سبب وجوده وشرطه وما يقضي إليه ذلك هو الحرب والقتال.
الطرف الأول
في سبب وجود الملك
قد سبق تقرير أن الاجتماع الطبيعي للبشر لا بد فيه من وازع وهو السلطان القائم بقهر ملكه عن محذور ما يعرض فيه من الشرور الطبيعية لوجوده، وظاهر من توقع هذا المحذور أن سبب كاف في وجود الملك من تلك الجهة. والغرض الآن تنزل البيان لبعض الحكم المشتمل عليها بحسب الحاجة إليه على الإطلاق منضماً لما سبق من ذلك تمهيداً وتأصيلاً، والمذكور منها عشر حكم: الحكمة الأولى ذلك السبب الذي تقدم، ولظهور العناية به أشير إليه عن طريق التعريف بها في قوله تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض على بعض محتملاته " ، وهو أن معناه أن الله تعالى يدفع بوضع الشرائع ونصب الملوك أنواع الشرور والمفاسد.
قال الإمام فخر الدين: ويشهد له قوله تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً " .
الحكمة الثانية إن السلطان المستقل به من حجج الله تعالى على وجوده وبينات الدلالة على توحيده، لأن عدم استقامة العالم بغير مدبر، شاهد بأن اختراعه على أفضل وجوه العناية به لا يصح إسناده لغير شيء، بل لا بد من الإقرار بفاطره الحكيم واستحالة صلاح البلد الواحد بنصب سلطانين دليل على أن العالم لا يصلح بوجود الاثنين " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " .
قال الطرطوشي: والعالم بأسره في سلطان الله عز وجل، كالبلد الواحد في سلطان الأرض قال: ولهذا قال رضي الله عنه: أمران جليلان لا يصلح أحدهما إلا بالتفرد ولا يصلح الآخر إلا بالمشاركة، وهما: الملك والرأي، فكما لا يستقيم الرأي بالتفرد.
الحكمة الثالثة أنه يتنزل من الدين منزلة الأخ المعين، والعماد الرافع لفسطاطه. فقديما قال: الدين والسلطان توأمان وعن أزدشير أنه قال لابنه: يا بني إن الملك والدين إخوان، لا غنى بأحدهما عن الآخر، فالدين أس والملك حارس. وما لم تكن له أسس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع، وعن كعب: مثل الإسلام والسلطان والناس، مثل الفسطاط والعمود والأوتاد والأطناب.
فالفسطاط: الإسلام، والعمود: السلطان والأطناب والأوتاد والناس ولا يصلح بعضهم إلا ببعض قال.
قال الشاعر:
لا يصلح الناس الفوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتني إلا على عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فأن تجمع أوتاد وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
الحكمة الرابعة أنع يدفع بتخويفه وتهديده. مالاً يدفع بالقرآن بتكرير وعظه وترديده، في الحديث: إن الله ليزع بالسلطان مالاً يزع بالقرآن.
وقال الطرطوشي: معناه ليدفع.
قلت: وذلك لما في الطباع البشرية من العدوان والاستعصاء عن الطاعة ومن ثم قال ابن المبارك:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... بعروته الوثقى لمن دانا
كم يدفع الله بالسلطان مظلمة ... في ديننا رحمة منه ودينانا
لولا الخليفة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبا لا قوانا
الحكمة الخامسة أنه يندفع به ضرر ما يفوت بتقدير فقده. من حاجة الخلق لتنفي الأحكام، وإقامة الصلوات،وجباية الخراج، ونصب القضاة وحماية البيضة، وسد الثغور، وتجهيز الجيوش، وقسم الغنائم،وبعث السعادة والولاة، وإنصاف المظلوم والظاهر أن دفع الضرر عن النفس واجب بإجماع الأنبياء والرسل، وبصريح العقل عند القائلين بتحسينه وتقبيحه وحينئذ فنصبه واجب تحصيلاً لهذه الحكمة البالغة. وهي طريقة غير واحد في تقرير هذا الواجب اعتباراً كالإمام فخر الدين والأمدي والبيضاوي في آخرين.
لكن قررنا على مقتضى تقرير ابن التلمساني فيها.
الحكمة السادسة
أنه لا يتم قصد الشارع في وضع الشريعة لصلاح العباد عاجلاً وآجلاً حسبما خلص برهانه في علم الكلام إلا بنصبه وقرره الأمدي بأن عدم انقياد الناس لما جبلوا عليه من اختلاف الأهواء، يفوت عليهم موافقة ذلك القصد، مع وقوع الفتن باختلاف الكلمة عند موت الأئمة إلى النصب أمام آخر، بحيث لو تأخرت إقامته وبطل المعاش، وصار كل مشغولاً بنفسه تحت قائم يتبعه، وذلك مفض إلى الهلاك لا محال.
قال: فإذا نصب الإمام من أهم مصالح المسلمين وأعظم مقامات الدين وهو حكمة الإيجاب السمعي انتهى ملخصاً.
الحكمة السابعة إنه يحرس الدين من محذور تبديله وتغييره. فقد تقدم عن أزدشير أن الدين أس والسلطان حارس. وقرره الماوردي بما حاصله: أنه ما من دين زال سلطانه، إلا بدلت أحكامه وغيرت سننه، كما أن السلطان إذا عري عن الدين، كان السلطان قهر ومفسد دهر.
قال: ومن هذين الوجهين وجبت إقامته، ليحرس الدين، ويجري على سننه.
قلت: وعلى ما سبق عن ابن خلدون أن الدين الذي لم تتخذ فيه الخلافة والملك ما عدى دين الإسلام، لا يجري فيه التقرير على حسب المراد به. نعم يتمشى فيه من حيث الأولى، لا الوجوب نقلاً أو عقلاً.
الحكمة الثامنة إنه العدة العظمى لرفع ما يتوقع من الفتن المبيرة والافتراق المفضي لفساد النظام، بتقدير أن يكون غيره هو المتصدي لضم نشر الأمة وجمع كلمتها بعد وقوع ذلك وللقرافي فيه تقرير بالغ حاصلة أن النظام لا يستمر إلا بمترصد بعين الكلاءة لمبادئ الفتن ليتبادر إلى إطفاء نارها قبل تصدي الطغام لذلك، فتختلف الأهواء، ويبقى الناس فوضى مهملين وذلك مفض إلى استيلاء الأراذل على الأفاضل، وامتداد الأيدي العادية إلى الفروج والأموال، ولا يخفي ما في ذلك من حل عصم الدين والدنيا.
قال: فيبين من هذا للناظر البصير أن الإمام ضروري للخلق،وأنهم لا غنية لهم عنه في دفع الباطل وتقرير الحق. انتهى ملخصاً.
الحكمة التاسعة أنه في الأرض الظل الظليل، والدواء الذي تحفظ به الصحة، ويشفي به العليل وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم ك " السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم " ثم من كمال هذه الحكمة من حيث هي نعمة أنها تعم الظالم والمظلوم، فالظالم تكفه عن الظلم والمظلوم بأمنه وكف الظالم عنه، ولو فقد هذا، لكان مثلهم، كما قال الطرطوشي كمثل الحوت في الماء يبتلع الكبير والصغير.
قال: ولهذا قال بعض القدماء لو رفع السلطان من الأرض، ما كان لله تعالى في أهل الأرض من حاجة.
الحكمة العاشرة إنه الكفيل بتنجيز ما ورد به الوعد الصادق من ظهور دين الحق على الدين كله، وبلوغ ملك الأمة به مازوي للنبي صلى الله عليه وسلم من مشارق الأرض ومغاربها. إذ لا خفاء إن ما وقع من ذلك أو يقع إلى يوم القيامة، يستدعي نصبه لإقامة ما تتم به مطالبة ذلك ومن ثم، لما أمر بنو إسرائيل بقتال من غلبهم على الدين، طلبوا ملكاً يتيسر به بلوغ ذلك المرام.
قال تعالى: " ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، ثم قال تعالى: أخباراً إجابة ما سألوا من ذلك،وقال لهم نبيهم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً.
تعريف: ذكر المؤرخون أن أول ملك وضع في الأرض " كيومرث " ابن آدم عليه السلام،فساروا إليه وعرفوه حاجتهم إلى ملك قيم، وقالوا له: أنت أكبرنا وأشرفنا، وبقية أبينا، وليس في العصر، من يوازيك، فأضم أمرنا إليك، وكن القائم فينا،فإننا سمعك وطاعتك، والقائلون بما تراه فأجابهم إلى ما دعوه إليه، واستوثق منهم توكيد العهود والمواثق على السمع والطاعة، وترك الخلاف عليه. فلما وضع التاج على رأسه. قال إن النعمة لا تدوم إلا بالشكر، وأحمد الله على أياديه، ونشكره على نعمته، ونرغب لله في مزيده، ونسأله المعونة على ما دفعنا إليه، وحسن الهداية إلى العقل الذي يجمع الشمل، ويصفي العيش، فثقوا بالعدل منا، وانصفونا من أنفسكم، نوردكم أفضل ما في هممكم والسلام.
الطرف الثاني
في شرط وجوب الملك
وهي: العصبية أو ما يقوم مقامها وفيه لبيان ذلك وما يلحق به مسائل: المسألة الأولى
إن الملك والدولة إنما تحصل بالعصبية والشوكة وقد يعبر عنها بالجند، حيث يقوم مقامها، وذلك لأن حصول الملك أولاً متوقف على التغلب عليه بقهر من ينافس فيه، لشرف منصبه واشتماله على الملاذ البدنية والنفسانية كما قال: " والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا " والتغلب من حيث هو كذلك، متوقف على العصبية لما فيها من النعرة الحاملة على التعاضد والتناحر لا محالة لأن شأن كل أمر لا يتم حمل الناس عليه إلا بالسيف والسنان، لما في طباعهم من استعصاء وصعوبة الانقياد، كما سبقت الإشارة إليه.
تنبيه: قال ابن خلدون: " وهذا الأمر بعيد عن إفهام الجمهور لنسيانهم عهد تمهيد الدول أولاً، فلا يعرفون ما فعل الله أول الدولة ، وما لقي أولهم من المتاعب " .
قال: " وخصوصاً أهل الأندلس في نسيان هذه العصبية لطول الأمد واستغنائهم في الغالب عن قوتها لتلاشي وطنهم وخلوه من العصائب، والله قادر على ما يشاء " .
قلت: وذكر في موضع آخر: " أن أول قائم بأمر المسلمين من هؤلاء الملوك النصريين أيدهم الله ونصرهم، وهو السلطان الغالب بالله محمد بن يوسف بن نصر - قدس الله روحه - لم يحتج لأكثر من عصابة قليلة قرابته المسمين بالرؤساء لقلة العصائب بالأندلس، وإنها سلطان ورعية، فلا يظن به خلاف ذلك، والله غني عن العالمين، انتهى المراد منه.
المسألة الثانية إن الغية التي تجري إليها العصبية هي الملك: لأن صاحبها إذا بلغ رتبة الرياسة التي يصير بها متبوعاً لا غير، وأمكنه الترقي إلى ما وراء ذلك من القهر والتغلب فإنه يترامى إليه بأقصى جهده، تكميلاً لمطلوب النفس منه، وتحصيلاً لغاية ما تجري إليه العصبية القاهرة، وهو الملك الذي به كمال القهر والتغلب.
قلت: من له همة علية يطلب بعده ما وراء ذلك من الملك الكبير في الدار الآخرة.
قال عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه: كانت لي نفس تواقة، تاقت إلى الخلافة فلما بلغتها تاقت إلى الجنة.
المسالة الثالثة إن الدولة إذا تمهدت، قد تستغني عن العصبية: وسر ذلك أن الدولة العامة في ابتدائها يصعب الانقياد لها لغرابتها إلا بتغلب قوى، فإذا استقرت رياستها في أهل النصاب المخصوص بالملك، واستحكمت لهم صبغتها، فلا يحتاج إذ ذاك إلى كبير عصابة ويكفي الاستظهار عليه إما بالموالي والمصطنعين أو بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها.
تمثيل: من مشهور الدول الواقع فيها ذلك ما يذكر: الدولة الأولى: دولة بني العباس.
لما فسدت عصبيتها في أيام المعتصم وابنه الواثق واستظهروا بعد ذلك بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية وغيرهم إلى أن تغلب العجم على النواحي، وتقلص ظل الدولة فلم تعد أعمال بغداد، حتى زحف إليها الديلم وملوكها، وصار الخلائف في ملكهم إلى أن ملك السلجوقية من بعدهم، والخلائف كذلك في حكمهم إلى أن جاء التتر فمحوا رسوم الدولة ونسخوها.
الدولة الثانية: دولة صنهاجة بالمغرب: فسدت عصبيتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها، واستمرت لهم الدولة متقلصة الظل بالمهدية وبجاية والقلعة وسائر ثغور إفريقية، إلى أن جاء الموحدون، أولو العصبية القوية، في المصامدة فمحوا أثارهم.
الدولة الثالثة: دولة الأموية الأندلس: لما فسدت عصبيتها، استولى عليها ملوك الطوائف، واقتسموا خطتها وأنتزى كل على ما كان بيده، وشمخ بأنفه وبلغهم شأن العجم في الدولة العباسية فتقلبوا بألقاب الملك ولبسوا شاراته، وأمنوا من تغيير ذلك عليهم لفقد القائم به في الأندلس إذ ليس بدار عصائب ولا قبائل، فاستظهروا بالموالي والمصطنعين والطراء عليهم من قبائل العدوة، اقتداءً بالدولة في آخر أمرها بالاستظهار بهم، لما ضعفت عصبية العرب واستبد ابن أبي عامر على الدولة، فكان لهم دول عظيمة، وحظ كبير من الملك، على نسبة الدول القديمة المقسمة إلى أن دخل إليهم المرابطون ذوو العصبية القوية في لمتونة، فاستزلوهم، ومحوا آثارهم، ولم يقدروا على مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم.
تنبيه على وهم: قال ابن خلدون: " وقد ظن الطرطوشي أن حامية الدول بإطلاق هم الجند المرتزقون، ولا يتناول كلامه تأسيس الدول أولاً، بل ما تمهد منها أخيراً باستقرار الملك في نصابه واستحكام الصبغة لأهله " .
قال: " فالرجل إنما أدرك الدولة عند هرمها ومصيرها إلى الاستعانة بالإجراء المرتزقة، ولاستظهار بالموالي والصنائع لفساد العصبية من العرب وهلاكهم منذ ثلاثمائة سنة، لعهد الذي كان في إيالته، وهو المستعين بن هود وابنه المظفر، فلم ير إلا سلطاناً مستبداً بالملك عن عشائره لا ينازع فيه لاستحكام صبغة الاستبداد، واستعانته بالمرتزقة، فأطلق القول، ولم يتفطن لكيفية الأمر في أول الدولة، وأنه لا يتم إلا بالعصبية، فتفطن أنت له، وافهم سر الله فيه، والله يؤتي ملكه من يشاء " .
المسألة الرابعة إن بعض أهل النصاب الملكي قد تحدث لهم دولة بغير عصبية استغناء عنها، لكن بشرطين: أن يكون في نفوس القائمين بأمره من أهل القاصية إذعان إليه وانقياد. فمتى نزع إليهم هذا الخارج، مستبداً عن مقر ملكه، ومستتب عزه اشتملوا عليه وقاموا بأمره، رجاء استقراره في نصابه، لما استحكم له ولقومه من صبغة الملك الظاهر في الأرض، والمستقر لهم من عقيدة الإيمان بوجوب الطاعة لهم.
تمثيل: قال: " كما اتفق للادارسة بالمغرب الأقصى والعبيديون بإفريقية ومصر، فقام بأمرهم البرابرة، واقتطعوا من ممالك آل العباس المغرب كله،إلى ملك العبيديون مصر والشام والحجاز وقاسموهم في الممالك الإسلامية شق الأبلحة تسليماً لمل حصل من الملك لبني هاشم ولما استحكم من غلب قريش ومضر على سائر الأمم، فلم يزل الملك في أعقابهم إلى انقراض دولة العرب بأسرها، والله وارث الأرض ومن عليها " .
المسألة الخامسة أن الأمة كانت وحشية، كان ملكها أوسع، وذلك لوجهين: أحدهما: أنهم أقدر على التغلب، وانقياد من سواهم على ما تقدم، كالعرب وزنانة، ومن في معناهم من الأكراد والتركمان وأهل الشام من صنهاجة.
والثاني: أنهم لتوحشهم لا وطن لهم يجنحون إليه، فنسبة الأقطار إليهم على سواء. وعند ذلك لا يقتصرون علة ملك قطرهم، ولا يقفون عند حدود أفقهم، بل يطيرون إلى الأقاليم البعيدة،ويتغلبون على الأمم القاصية.
برهان وجود بمثالين: أحدهما: ما يحكى من ذلك عن عمر رضي الله عنه، لما بويع، وقام يحرض الناس على العراق فقال: " إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين الطراء المهاجرون عن موعد الله، سيروا في الأرض التي وعدكم في الكتاب أن يورثكموها " فقال: " ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " .
الثاني: ما اتفق منه للملثمين بالمغرب لما نزعوا إلى الملك، ملكوا من الأقاليم الأول، ومجالهم منه في جوار السودان إلى الرابع والخامس ممالك الأندلس من غير واسطة، وهو شأن الأمم الوحشية، فلذلك تكون دولهم أوسع نطاقاً وأبعد من مراكزها نهاية " والله مقدر الليل والنهار "