- الثلاثاء ديسمبر 18, 2012 9:45 pm
#58408
د. إبراهيم علوش
أولاً، حول إمكانية ضرب الولايات المتحدة لإيران في الوقت الذي تغرق فيه في مستنقعي العراق وأفغانستان: بقدر ما قد يبدو ضرب إيران الآن سلوكاً غير عقلاني، من الناحية السياسية الصرف، فإن من يرون ذلك لا يأخذون بعين الاعتبار العامل النفسي، أو الاجتماعي-السياسي، في عقل شرائح واسعة من الشعب الأمريكي، وليس فقط النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة.
مثلاً، شكل ضرب برجي التجارة العالميين جرحاً نرجسياً للكبرياء القومي الأمريكي المغرق في العليائية والتفوق، وكان لا بد من رد ما يعيد لذلك الكبرياء شيئاً من التوازن. وقبيل العدوان على العراق، كان بعض الأخوة يجادل بمنطق عقلي صرف أن تدمير العراق كان سيحدث اختلالاً في التوازن الإقليمي في الخليج العربي يتيح تطاول النفوذ الإيراني غرباً على حساب النفوذ الأمريكي، وبالتالي استنتجوا منطقياً أن الحرب لن تقع، وأن كل التهديدات ضد العراق لا تتجاوز التهويش الهادف للابتزاز (إعادة المفتشين الدوليين للعراق، وتدمير أسلحته الإستراتيجية، الخ...)، بيد أن الحرب وقعت، والعراق دمر، والنفوذ الإيراني تطاول، وكأن الساسة الأمريكيين لا يعرفون ماذا يفعلون!
ولكن، من قال أن سياسات الأمم تنبع دوماً وبالضبط من فوهة الحسابات الإستراتيجية؟! ومن قال أن الحسابات الباردة تكفي لفهم سياسات الأمم؟! فمعركة ستالينغراد مثلاً وصمود تلك المدينة الأسطوري في وجه القوات الهتلرية الزاحفة تحت الحصار لا يفهم من زاوية القرار الاستراتيجي فحسب، بل من زاوية الكبرياء القومي، ولكنها كانت معركة قلبت الحسابات الإستراتيجية النازية وكسرتها على صخرة الكبرياء القومي.
ومقاومة بلجيكا للزحف النازي في بداية الحرب العالمية الثانية يفهم أيضاً من زاوية الكبرياء القومي، بالرغم من أنه لم يقوَ على قلب الحسابات الإستراتيجية الألمانية.
أما صمود المقاومة العراقية الأسطوري في وجه أكبر قوة عظمى في العالم فيفهم أولاً من زاوية الكبرياء القومي، ثم من زاوية الحسابات الإستراتيجية، وقد نجح ذلك الصمود بقلب ميزان القوى على صعيد عالمي، ولكن أنى للذين لا يملكون كبرياءً قومياً أن يفهموا عظمة ذلك الكبرياء القومي العربي!
الولايات المتحدة الأمريكية نمر جريح بالفعل كما قال رافسنجاني، ولذلك فهي بحاجة ماسة لتلقين أحداً ما درساً ما! على الأقل لأنها تظن أن أي سلوكٍ غير هذا سوف يشجع بقية الأمم عليها وعلى جبروتها، وعلى الأقل لأن هذا أحد اتجاهين رئيسيين في الإدارة الأمريكية اليوم، أحدهما يرى تقليل الخسائر، وأحدهما يحركه الخوف على نظام القطب الواحد. وفي هذه الحالة يتضارب الكبرياء القومي الأمريكي مع المصلحة الإستراتيجية الأمريكية، بينما المقاومة العراقية، الممثل الشرعي الوحيد للمصلحة القومية العربية، يتقاطع كبرياؤها القومي مع المصلحة الإستراتيجية العربية.
المهم، ضربة إيران محتملة، ولو لم تكن مؤكدة، وهي تتأرجح بين قوتين رهيبتين تتنازعان المجتمع، وليس فقط النخبة الحاكمة الأمريكية. فماذا يجب أن يكون موقفنا لو ضربت الولايات المتحدة إيران يا ترى، وبدأنا نشاهد صور القتل والدمار في إيران على الجزيرة؟!
قبل الإجابة، لا بد من التأكيد على أمرين بديهيين يحب أن يتجاوزهما المطبلون والمزمرون لإيران اليوم:
الأمر الأول هو أن الموقف من إيران لا ينسحب على الموقف من الشيعة العرب، فالموقف القومي يعتبر الشيعة العرب جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية، كغيرهم من الطوائف والفئات التي تكون الأمة العربية. والموقف القومي لا يمكن أن يكون مع الفتنة والتفتيت.
الأمر الثاني هو أن الموقف من إيران لا يجوز أن ينسحب على الموقف من حلفاء إيران العرب، خاصة عندما يكون أولئك الحلفاء في الموقع المناهض لموقع الطرف الأمريكي-الصهيوني. ولا يمكن أن يقبل قومي عربي على نفسه أن يصطف مع القوى الموالية لأمريكا أو الليكود في لبنان أو فلسطين.
إذن الحديث يدور بالضبط حول الموقف من إيران، وليس حول الموقف من حلفاء إيران العرب، أو الشيعة العرب، خاصة عندما يكون حلفاء إيران أو الشيعة العرب في موقع الدفاع عن المصلحة القومية العربية وعن الكبرياء القومي العربي في آنٍ معاً، كما هم في لبنان وفلسطين وسوريا.
وفي الموقف من إيران – فقط - يجب أن نسأل: ما هي طبيعة الصراع بين الملالي وبين إدارة جورج بوش الإبن؟ هل هو صراع بين قوى التحرر وقوى الإمبريالية مثلاً؟ أم أنه صراع ضارٍ على حقول النفوذ والمجال الحيوي بين مشروعي هيمنة لا يختلفان من حيث المضمون؟
لو كان الملالي الإيرانيون يحملون مشروعاً تحررياً نهضوياً كما فنزويلا شافيز في أمريكا اللاتينية مثلاً، ولو كانوا يطبقون برنامجاً قائماً على تحرر الشعوب الإيرانية، ولا ننسى أن إيران تتألف من عدة قوميات: الفرس (51%) والأذريون (24%) والأكراد والعرب والبلوش والتركمان والأرمن وغيرهم، ولو كان الملالي الإيرانيون يطرحون مشروعاً لتحرر الشعوب من الإمبريالية بدلاً من استبدال هيمنة بأخرى، ولو كانوا يحملون مشروعاً تحررياً بأي مقياس، سياسي أو اجتماعي أو ثقافي، بدلاً من فرض هيمنة صاعدة بدلاً من هيمنة سائدة، ولو كان انتصارهم لو انتصروا مفيداً للأمة العربية موضوعياً، حتى لو كانوا معادين للعروبة بشكل صريح لأنها تناقض شروط هيمنتهم على الإقليم، لحق علينا أن يطلبوا دعمنا في مواجهة الولايات المتحدة.
ولكن حتى ونحن ندرك أننا لا يمكن أبداً أن نقف مع الولايات المتحدة وحلفائها وسياساتها ومشاريعها، فإن الملالي لم يتركوا لنا عملياً أي وسيلة لتأييدهم، لأنهم يطرحون عملياً التبعية للفرس مقابل التبعية للروم.
وليكن واضحاً أن المشروع الإيراني لو كان يحوي أي مضمون تحرري، ولو عن طريق الاصطفاف العرضي مع المستضعفين في الأرض، لكان التحليل مختلفاً بالضرورة، ولكن المشكلة مع الملالي الإيرانيين تتجاوز العراق إلى المشروع الإيراني في الإقليم برمته. والمشروع الإيراني في الإقليم هو مشروع هيمنة وتفكيك ما قبل تاريخي مقابل مشروع هيمنة وتفكيك ما بعد حداثي معولم. ولذلك لم يترك لنا الملالي ما نقوله لو ضربت أمريكا إيران سوى: فخار يكسر بعضه.
على كل حال، يحاول الملالي جاهدين الآن أن يمتصوا الجرح النرجسي الأمريكي، ومنه زيارة أحمدي نجاد إلى السعودية. أما دعوة المالكي لمؤتمر في العراق، للتفاوض على العراق، تشارك فيه إيران والولايات المتحدة وبريطانيا، فيعبر عن قرار إيراني بامتصاص النقمة الأمريكية. ولو دعا سعد حداد سابقاً في دولة لبنان الجنوبي العميلة للكيان الصهيوني لمؤتمر دولي لما احتاج الأمر لعلماء رياضيات ليقدروا أن الدعوة تمت بموافقة ومباركة الكيان الصهيوني، والمالكي لإيران لا يختلف قيد أنملة عن سعد حداد أو أنطوان لحد للكيان الصهيوني.
وفي هذه الساعة المتأخرة من ساعات الليل العربي، لا تختلف إيران عن الكيان الصهيوني. وفي الواقع ربما يكون في هذا القول شيئاً من المبالغة، لأن إيران الآن أخطر من الكيان الصهيوني, فالعراق ليس مجرد جزء من الوطن العربي، وليس مجرد قطر عربي رئيسي، مع عدم اعترافنا بالأقطار جملة وتفصيلاً لأنها كلها أرضٌ عربية واحدة من المغرب إلى البحرين.
العراق في تاريخنا المعاصر الآن هو أهم بلد عربي، وهو أهم من فلسطين وغيرها، فالعراق كقطر عربي رئيسي، مقارنةً بفلسطين أو لبنان أو الأردن مثلاً، كأقطار عربية ثانوية، يتعرض لعملية تفكيك وتكسير إذا نجحت، فإنها ستشكل المقدمة المباشرة لما سيجري في سوريا والسعودية ومصر والجزائر والمغرب، وكل الأمة العربية. ولذلك، فإن الحفاظ على وحدة العراق بات يشكل اليوم شرطاً ضرورياً غير كافٍ لتحرير فلسطين وتوحيد الأمة العربية في هذه المرحلة من تاريخنا السياسي، والملالي الإيرانيون باتوا يشكلون نقيضاً تاريخياً غير فريد لمصلحتنا الإستراتيجية كأمة، ناهيك عن كبريائنا القومي، لمن يعني له هذا الأمر شيئاً ما.
باختصار، لن نقف يوماً مع الطرف الأمريكي-الصهيوني العدو الرئيس للأمة العربية والمسلمين وشعوب العالم الثالث، ولكننا لو وقفنا مع الملالي الإيرانيين الآن فإن ذلك لن يخدم مصلحة الأمة العربية ولا المسلمين ولا شعوب العالم الثالث. فلأول مرة في تاريخنا المعاصر، يشكل لعب دور المتفرج موقفاً سليماً من الناحية المبدئية.
بصراحة كاملة، من مصلحتنا في هذه اللحظة أن يستنزف الطرفان بعضهما، وليس من مصلحتنا أن نقدم دعماً لأيٍ من الطرفين، فهذه معركة بين الفرس والروم لا ناقة لنا فيها ولا جمل.
معركتنا القومية الأساسية اليوم هي معركة المقاومة العراقية. فإن تحرر العراق، يصبح لكل حادث حديث، ويمكن عندها أن نتحدث عن عقد التحالفات مع إيران من موقع غير موقع التهتك القومي. أما أعداء المقاومة العراقية، فهم أعداء الأمة بأسرها، وليسوا أعداء جزء من الأمة فحسب، حتى لو كان جزءاً رئيسياً منها مثل العراق. والمقاومة العراقية هي المقياس الرئيس الذي يتوجب أن نقيس به كل المواقف والشخصيات والدول في هذه اللحظة من تاريخنا العربي المعاصر. وفي العراق اليوم، يتحدد مصير كل الأمة العربية.
أولاً، حول إمكانية ضرب الولايات المتحدة لإيران في الوقت الذي تغرق فيه في مستنقعي العراق وأفغانستان: بقدر ما قد يبدو ضرب إيران الآن سلوكاً غير عقلاني، من الناحية السياسية الصرف، فإن من يرون ذلك لا يأخذون بعين الاعتبار العامل النفسي، أو الاجتماعي-السياسي، في عقل شرائح واسعة من الشعب الأمريكي، وليس فقط النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة.
مثلاً، شكل ضرب برجي التجارة العالميين جرحاً نرجسياً للكبرياء القومي الأمريكي المغرق في العليائية والتفوق، وكان لا بد من رد ما يعيد لذلك الكبرياء شيئاً من التوازن. وقبيل العدوان على العراق، كان بعض الأخوة يجادل بمنطق عقلي صرف أن تدمير العراق كان سيحدث اختلالاً في التوازن الإقليمي في الخليج العربي يتيح تطاول النفوذ الإيراني غرباً على حساب النفوذ الأمريكي، وبالتالي استنتجوا منطقياً أن الحرب لن تقع، وأن كل التهديدات ضد العراق لا تتجاوز التهويش الهادف للابتزاز (إعادة المفتشين الدوليين للعراق، وتدمير أسلحته الإستراتيجية، الخ...)، بيد أن الحرب وقعت، والعراق دمر، والنفوذ الإيراني تطاول، وكأن الساسة الأمريكيين لا يعرفون ماذا يفعلون!
ولكن، من قال أن سياسات الأمم تنبع دوماً وبالضبط من فوهة الحسابات الإستراتيجية؟! ومن قال أن الحسابات الباردة تكفي لفهم سياسات الأمم؟! فمعركة ستالينغراد مثلاً وصمود تلك المدينة الأسطوري في وجه القوات الهتلرية الزاحفة تحت الحصار لا يفهم من زاوية القرار الاستراتيجي فحسب، بل من زاوية الكبرياء القومي، ولكنها كانت معركة قلبت الحسابات الإستراتيجية النازية وكسرتها على صخرة الكبرياء القومي.
ومقاومة بلجيكا للزحف النازي في بداية الحرب العالمية الثانية يفهم أيضاً من زاوية الكبرياء القومي، بالرغم من أنه لم يقوَ على قلب الحسابات الإستراتيجية الألمانية.
أما صمود المقاومة العراقية الأسطوري في وجه أكبر قوة عظمى في العالم فيفهم أولاً من زاوية الكبرياء القومي، ثم من زاوية الحسابات الإستراتيجية، وقد نجح ذلك الصمود بقلب ميزان القوى على صعيد عالمي، ولكن أنى للذين لا يملكون كبرياءً قومياً أن يفهموا عظمة ذلك الكبرياء القومي العربي!
الولايات المتحدة الأمريكية نمر جريح بالفعل كما قال رافسنجاني، ولذلك فهي بحاجة ماسة لتلقين أحداً ما درساً ما! على الأقل لأنها تظن أن أي سلوكٍ غير هذا سوف يشجع بقية الأمم عليها وعلى جبروتها، وعلى الأقل لأن هذا أحد اتجاهين رئيسيين في الإدارة الأمريكية اليوم، أحدهما يرى تقليل الخسائر، وأحدهما يحركه الخوف على نظام القطب الواحد. وفي هذه الحالة يتضارب الكبرياء القومي الأمريكي مع المصلحة الإستراتيجية الأمريكية، بينما المقاومة العراقية، الممثل الشرعي الوحيد للمصلحة القومية العربية، يتقاطع كبرياؤها القومي مع المصلحة الإستراتيجية العربية.
المهم، ضربة إيران محتملة، ولو لم تكن مؤكدة، وهي تتأرجح بين قوتين رهيبتين تتنازعان المجتمع، وليس فقط النخبة الحاكمة الأمريكية. فماذا يجب أن يكون موقفنا لو ضربت الولايات المتحدة إيران يا ترى، وبدأنا نشاهد صور القتل والدمار في إيران على الجزيرة؟!
قبل الإجابة، لا بد من التأكيد على أمرين بديهيين يحب أن يتجاوزهما المطبلون والمزمرون لإيران اليوم:
الأمر الأول هو أن الموقف من إيران لا ينسحب على الموقف من الشيعة العرب، فالموقف القومي يعتبر الشيعة العرب جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية، كغيرهم من الطوائف والفئات التي تكون الأمة العربية. والموقف القومي لا يمكن أن يكون مع الفتنة والتفتيت.
الأمر الثاني هو أن الموقف من إيران لا يجوز أن ينسحب على الموقف من حلفاء إيران العرب، خاصة عندما يكون أولئك الحلفاء في الموقع المناهض لموقع الطرف الأمريكي-الصهيوني. ولا يمكن أن يقبل قومي عربي على نفسه أن يصطف مع القوى الموالية لأمريكا أو الليكود في لبنان أو فلسطين.
إذن الحديث يدور بالضبط حول الموقف من إيران، وليس حول الموقف من حلفاء إيران العرب، أو الشيعة العرب، خاصة عندما يكون حلفاء إيران أو الشيعة العرب في موقع الدفاع عن المصلحة القومية العربية وعن الكبرياء القومي العربي في آنٍ معاً، كما هم في لبنان وفلسطين وسوريا.
وفي الموقف من إيران – فقط - يجب أن نسأل: ما هي طبيعة الصراع بين الملالي وبين إدارة جورج بوش الإبن؟ هل هو صراع بين قوى التحرر وقوى الإمبريالية مثلاً؟ أم أنه صراع ضارٍ على حقول النفوذ والمجال الحيوي بين مشروعي هيمنة لا يختلفان من حيث المضمون؟
لو كان الملالي الإيرانيون يحملون مشروعاً تحررياً نهضوياً كما فنزويلا شافيز في أمريكا اللاتينية مثلاً، ولو كانوا يطبقون برنامجاً قائماً على تحرر الشعوب الإيرانية، ولا ننسى أن إيران تتألف من عدة قوميات: الفرس (51%) والأذريون (24%) والأكراد والعرب والبلوش والتركمان والأرمن وغيرهم، ولو كان الملالي الإيرانيون يطرحون مشروعاً لتحرر الشعوب من الإمبريالية بدلاً من استبدال هيمنة بأخرى، ولو كانوا يحملون مشروعاً تحررياً بأي مقياس، سياسي أو اجتماعي أو ثقافي، بدلاً من فرض هيمنة صاعدة بدلاً من هيمنة سائدة، ولو كان انتصارهم لو انتصروا مفيداً للأمة العربية موضوعياً، حتى لو كانوا معادين للعروبة بشكل صريح لأنها تناقض شروط هيمنتهم على الإقليم، لحق علينا أن يطلبوا دعمنا في مواجهة الولايات المتحدة.
ولكن حتى ونحن ندرك أننا لا يمكن أبداً أن نقف مع الولايات المتحدة وحلفائها وسياساتها ومشاريعها، فإن الملالي لم يتركوا لنا عملياً أي وسيلة لتأييدهم، لأنهم يطرحون عملياً التبعية للفرس مقابل التبعية للروم.
وليكن واضحاً أن المشروع الإيراني لو كان يحوي أي مضمون تحرري، ولو عن طريق الاصطفاف العرضي مع المستضعفين في الأرض، لكان التحليل مختلفاً بالضرورة، ولكن المشكلة مع الملالي الإيرانيين تتجاوز العراق إلى المشروع الإيراني في الإقليم برمته. والمشروع الإيراني في الإقليم هو مشروع هيمنة وتفكيك ما قبل تاريخي مقابل مشروع هيمنة وتفكيك ما بعد حداثي معولم. ولذلك لم يترك لنا الملالي ما نقوله لو ضربت أمريكا إيران سوى: فخار يكسر بعضه.
على كل حال، يحاول الملالي جاهدين الآن أن يمتصوا الجرح النرجسي الأمريكي، ومنه زيارة أحمدي نجاد إلى السعودية. أما دعوة المالكي لمؤتمر في العراق، للتفاوض على العراق، تشارك فيه إيران والولايات المتحدة وبريطانيا، فيعبر عن قرار إيراني بامتصاص النقمة الأمريكية. ولو دعا سعد حداد سابقاً في دولة لبنان الجنوبي العميلة للكيان الصهيوني لمؤتمر دولي لما احتاج الأمر لعلماء رياضيات ليقدروا أن الدعوة تمت بموافقة ومباركة الكيان الصهيوني، والمالكي لإيران لا يختلف قيد أنملة عن سعد حداد أو أنطوان لحد للكيان الصهيوني.
وفي هذه الساعة المتأخرة من ساعات الليل العربي، لا تختلف إيران عن الكيان الصهيوني. وفي الواقع ربما يكون في هذا القول شيئاً من المبالغة، لأن إيران الآن أخطر من الكيان الصهيوني, فالعراق ليس مجرد جزء من الوطن العربي، وليس مجرد قطر عربي رئيسي، مع عدم اعترافنا بالأقطار جملة وتفصيلاً لأنها كلها أرضٌ عربية واحدة من المغرب إلى البحرين.
العراق في تاريخنا المعاصر الآن هو أهم بلد عربي، وهو أهم من فلسطين وغيرها، فالعراق كقطر عربي رئيسي، مقارنةً بفلسطين أو لبنان أو الأردن مثلاً، كأقطار عربية ثانوية، يتعرض لعملية تفكيك وتكسير إذا نجحت، فإنها ستشكل المقدمة المباشرة لما سيجري في سوريا والسعودية ومصر والجزائر والمغرب، وكل الأمة العربية. ولذلك، فإن الحفاظ على وحدة العراق بات يشكل اليوم شرطاً ضرورياً غير كافٍ لتحرير فلسطين وتوحيد الأمة العربية في هذه المرحلة من تاريخنا السياسي، والملالي الإيرانيون باتوا يشكلون نقيضاً تاريخياً غير فريد لمصلحتنا الإستراتيجية كأمة، ناهيك عن كبريائنا القومي، لمن يعني له هذا الأمر شيئاً ما.
باختصار، لن نقف يوماً مع الطرف الأمريكي-الصهيوني العدو الرئيس للأمة العربية والمسلمين وشعوب العالم الثالث، ولكننا لو وقفنا مع الملالي الإيرانيين الآن فإن ذلك لن يخدم مصلحة الأمة العربية ولا المسلمين ولا شعوب العالم الثالث. فلأول مرة في تاريخنا المعاصر، يشكل لعب دور المتفرج موقفاً سليماً من الناحية المبدئية.
بصراحة كاملة، من مصلحتنا في هذه اللحظة أن يستنزف الطرفان بعضهما، وليس من مصلحتنا أن نقدم دعماً لأيٍ من الطرفين، فهذه معركة بين الفرس والروم لا ناقة لنا فيها ولا جمل.
معركتنا القومية الأساسية اليوم هي معركة المقاومة العراقية. فإن تحرر العراق، يصبح لكل حادث حديث، ويمكن عندها أن نتحدث عن عقد التحالفات مع إيران من موقع غير موقع التهتك القومي. أما أعداء المقاومة العراقية، فهم أعداء الأمة بأسرها، وليسوا أعداء جزء من الأمة فحسب، حتى لو كان جزءاً رئيسياً منها مثل العراق. والمقاومة العراقية هي المقياس الرئيس الذي يتوجب أن نقيس به كل المواقف والشخصيات والدول في هذه اللحظة من تاريخنا العربي المعاصر. وفي العراق اليوم، يتحدد مصير كل الأمة العربية.