ابن تيمية وفكره التربوي
مرسل: الثلاثاء ديسمبر 18, 2012 9:55 pm
ابن تيمية وفكره التربوي :
تقديم :
يعتبر ابن تيمية من العلماء الذين شغلوا الناس في حياتهم وبعد مماتهم بفكره وآرائه التي خالفت المألوف في عصره، وقد ابتلي بالمحن في حياته نتيجة آرائه في العقيدة والفقه التي أثارت الكثيرين من معاصريه من علماء الشام ومصر، الذين لم يألفوا نهج ابن تيمية في قضايا العقيدة والشريعة.
ومع أن ابن تيمية كان حادًّا في بعض أفكاره التي صدمت معاصريه لكنه كان في عصره أكثر تسامحًا وأوسع أفقًا من الكثيرين الذين حملوا أفكاره في عصرنا، فلم يزك نفسه ولم يتهم مخالفيه من أهل السنة والجماعة في دينهم، بل كان يرى أن المخالف الباحث عن الحقيقة إما أن يكون مجتهدًا أو مخطئًا أو مذنبًا، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد معفو عنه، والثالث الله يغفر لنا وله ولسائر المسلمين.
ولابن تيمية عند بعض المسلمين -لا سيما- الحنابلة موقع متميز في القرون الأخيرة، فاجتهاداته وأحكامه فيما يتصل ببعض قضايا العقيدة والشريعة تؤخذ أحيانًا من هؤلاء لا على أنها اجتهادات بشرية تقبل الصواب والخطأ، لأنها من غير معصوم، وإنما ينظر بعضهم إليها نظرة تغض من شأن المخالفين له وتعلو به إلى درجة لا يرضاها ابن تيمية نفسه مؤلف "رفع الملام عن الأئمة الأعلام".
ونتيجة لذلك ألبس المتعصبون فكر ابن تيمية ما تغور به نفوسهم من تعصب وتزمت وانغلاق، وهي سمات بعيدة ابن تيمية الذي حمل فكره ودعا إليه بالحجة والجدال الحسن دون قسر أو إرهاب.
وتمتاز كتابات ابن تيمية بالثقافة الواسعة والتحليل الدقيق للأفكار وبخاصة أفكار المخالفين له ولم يمنعه الاختلاف معهم من أن ينصفهم ويتأثر بهم أحيانًا ويأخذ عنهم ما رآه ويتفق مع منهجه وأصوله وتلك سمة العقلية الناقدة الناضجة.
وسوف نبدأ الحديث عن الفكر التربوي لابن تيمية للتعرف على نشأته والظروف التي أحاطت به والعوامل المؤثرة في شخصيته واتجاهه العلمي، ثم نعرض فكره التربوي لنتعرف أولًا على الهدف التربوي عنده ونظرته إلى الطبيعة الإنسانية، ثم رأيه في المعرفة والتربية السياسية ونقده للبيئات العلمية في عصره.
ابن تيمية مسيرة حياة :
ابن تيمية هو تقي الدين أحمد بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي الحنبلي، ولد بحران عام 661 هـ/ 1262م، ثم قدم به والده وأهله إلى دمشق وهو صغير بعدما أغار التتار على العراق والشام عام 667هـ/ 1268، واستقر المقام بأسرته في دمشق.
ارتبط ابن تيمية في دمشق منذ السادسة من عمره ونشأ بها محبًّا للعلم فحفظ القرآن الكريم ودرس علوم الحديث والفقه وعلم الكلام، وكان قوي الحفظ ذكيًّا، وقد استطاع مناظرة العلماء وهو ما زال في مقتبل الشباب حتى انبهر به أهل دمشق الذين رأوه يفتي ويناضل ويحاور العلماء ويؤلف وهو ابن التاسعة عشرة.
كان ابن تيمية حنبليًّا في الأصول والفروع تابع في ذلك أسرته الحنبلية؛ إذ كان أبوه وجدُّه من علماء الحنابلة، وكان لأبيه حلقات درس في مسجد دمشق كما تولى مشيخة الحديث بدار السكرية التي كانت أولى المدارس التي تلقى فيها ابن تيمية دروسه.
ومع اعتزاز ابن تيمية بالمذهب الحنبلي كانت له اختيارات في الفروع خرج فيها عن الحنابلة وغيرهم من المذاهب الأربعة، واعتمد فيها على أدلته التي وصل إليها باجتهاده.
انقطع ابن تيمية منذ بواكير حياته للعلم والجهاد في سبيل الله، فلم يطلب الدنيا لا عن طريق التجارة أو الوظائف ولم يربط نفسه -شأن كثيرين- بأرباب السلطة يستجدي المال والنفوذ، كما لم يتزوج وظل ملازمًا للتعليم والإفتاء ونشر آراءه التي أغضبت الكثيرين حتى توفي بسجن القلعة في دمشق عام 1327م.
تهيأت لابن تيمية بيئة خاصة وعامة أثرت في شخصيته وأكسبته ملامح متمايزة في مسيرة حياته ونشاطه العلمي وأسلوبه في نشر أفكاره، فكان أبوه وجدّه -كما سبق القول- من علماء الحنابلة وكان تواقًا إلى المعرفة فدرس علوم الشريعة وعلوم العربية، وأخذ العلم عن أكثر من مائة شيخ، كما درس الفلسفة والتصوف والعقائد والنحل التي اختلف معها وحاربها بلا هوادة.
وكان عصر ابن تيمية بطابعه السياسي والاجتماعي والثقافي ذا تأثير كبير في شخصيته فقد تعرضت الشام والعراق لغزو التتار أكثر من مرة وارتبط ذلك الخطر بحياة ابن تيمية منذ سنواته الأولى التي هاجرت فيها أسرته من مسقط رأسه في حران إلى دمشق فزعًا من التتار، وقد جاهد التتار كثيرًا تحت راية المماليك الذين حكموا مصر والشام، وكانوا عجمًا يغلب الجهل عليهم مما أتاح لبعض مدعي التصوف أن يروج الخرافات مستظلين بالسلطة المملوكية التي كان جهلها وضحالة ثقافتها وراء الملاحقة الصارمة لكل من يخالف المألوف من التقاليد والأفكار حتى لو ثبت خطأ هذا المألوف؛ من هنا سجن ابن تيمية أكثر من مرة، وكان أشياع السلطة من مدعي التصوف وغيرهم وراء سجنه الذي لم يجد فيه غير خلوة العابد مع معبوده.
وكان مجتمع ابن تيمية الذي شمل أجناسًا كثيرة وأقليات كبيرة من النصارى واليهود يشهد ضروبًا من الانحلال والإلحاد دفعت الفقهاء إلى الاستنكار والملاحقة للخارجين على الدين.
وكان التعصب المذهبي يمزق البيئات العلمية ويشيع فيها لونًا من الركون الفكري والتقليد الأعمى دون اجتهاد يطور الواقع لأحكام الدين وقيمه.
وكانت خلافات الفقهاء لا تنقطع، وعرف الصواب في جدالهم بالانتساب إلى هذا المذهب أو ذاك، فالتأييد والصواب للموافق مذهبيًّا، والمعارضة والخطأ لمن يخالف مذهبيًّا، هذا في الفروع، أما في الأصول فكان المذهب السائد هو المذهب الأشعري الذي كان يطلق عليه مذهب أهل السنة والجماعة.
وكان الحنابلة يختلفون بشدة مع الأشاعرة، وكل من الطرفين كان يرى أنه يمثل أهل السنة والجماعة، ولعل تأويل الأشاعرة لبعض الآيات الكريمة في صفات الله تعالى سدًّا لباب التجسيم أو التشبيه عن الله تعالى -لعل ذلك كان من نقاط الاختلاف الحادة بين الحنابلة والأشاعرة.
وكانت السمة العامة للبيئات العلمية هي الجمود وانعدام الابتكار، الأمر الذي عطل المواهب وأزرى بالعقل وبكرامة الإنسان الذي تنازعته البدع والخرافات والخلافات ودعاوى بعض المنسوبين إلى التصوف التي لا تتصل من قريب أو بعيد بالإسلام.
وعلى الرغم من سلبيات عصر ابن تيمية وضغوطه السياسية والاجتماعية والثقافية ظهر تأثيره الإيجابي في شخصية ابن تيمية، ويبدو ذلك واضحًا في إعلائه فريضة الجهاد والحرص على أن يستعيد المسلمون ما تمثله التربية الجهادية من قيم عملية سامية، كما يبدو في حرصه على استعادة روح المسئولية والتعاون بمفهومهما الواسع في النشاط الاجتماعي، والاتباع لا الابتداع في الدين وفي كل ما يتصل به.
وكان ابن تيمية يرى أن الابتداع في الدين هو سبب الاختلاف والفساد والضعف السائد في الحياة الإسلامية وَمِنْ ثَمَّ لا تتأتى القوة والوحدة إلا بالاتباع والسير على نهج السلف أهل القرون الثلاثة الأولى؛ لأنهم أفضل الناس وأفضلهم من اقترب من عصر النبوة.
والخلاصة أن ابن تيمية خرج في بعض أفكاره عن المألوف في عصر فأفاض عليه بعض أصحاب السلطان وبعض العلماء، فأثار عليه بعض أصحاب السلطان وبعض العلماء ولم يأبه بذلك؛ لأنه كان يعتمد على الدليل الشرعي الذي يأنس إليه دون أن يتقيد بالمألوف في البيئات العلمية.
من هنا كان مصدر إثارة وقلق في أوساط العلماء ومن الطبيعي أن يكون له في التربية والسلوك منهج واضح يكشف عن الجانب الإجرائي في فكره.
الهدف التربوي عند ابن تيمية :
تهدف التربية عند ابن تيمية إلى توحيد الإلوهية أي : صرف العبادة لله وحده، فلا يجوز صرف شيء منها لغير الله سبحانه، والغاية المقصودة هي حقيقة الدين، وهي عبادة الله وحده لا شريك الله وهي حقيقة دين الإسلام، وهو أن يستسلم العبد لله رب العالمين، لا يستسلم لغيره فمن استسلم له ولغيره كان مشركًا.
والإنسان بفطرته -كما يرى ابن تيمية- يبحث عن معبود، فمن استكبر عن عبادة الله عبد غيره كالمال والجاه والسلطان والكواكب وغيرها، والمعبود هو موطن حب الإنسان وإرادته ومنتهى أمله، ولأن الإنسان يتجه إلى المعبود بالحس والإرادة فإن الحرية لا تتوفر للإنسان إلا في عبوديته لله وحده، ويرتبط الرق والذل بالعبودية لما سوى الله؛ ولهذا كانت العبودية لله هي هدف التربية عند ابن تيمية بل هي هدف خلق الإنس والجن {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}.
ويرى ابن تيمية أن الإنسان يصل إلى الكمال عندما تتحقق عبوديته لله وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، فمن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم.
الطبيعة الإنسانية عند ابن تيمية :
يتحدث ابن تيمية عن الطبيعة الإنسانية من حيث المكونات والقوى والفعل الإنساني، ومن حيث الدوافع.
فمن حيث مكونات الإنسان يرى ابن تيمية أن الإنسان "عبارة عن الروح والبدن مقابل، بل هو بالروح أخص منه بالبدن وإنما البدن مطية الروح".
ويرى التلازم قائمًا بين الجسد والروح؛ ولذا تتناول الأحكام هذا تارة وذاك أخرى، ويتبع ابن تيمية القرآن الكريم في حديثه عن مكونات الإنسان يقول تعالى : {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}.
ويتحدث عن القلب المدرك كأحد أعضاء الإنسان بل كملك للأعضاء جميعًا، ويرى ابن تيمية أنه يميز الإنسان عن الحيوان؛ لأنه يفقه المعاني والأصوات ويتأثر ويحب أو يكره إذا تجرد الإنسان من الحب أو البغض كان مجردًا من الإدراك وكان هو والعدم سواء.
ويتحدث ابن تيمية عن العقل في ارتباطه بالعلم والعمل فالعلم يستلزم العقل، والعقل شرط في العلم، العلم هو مستلزم للعقل، فكل عالم عاقل، والعقل شرط في العلم، فليس مثلًا له ولا ضده ولا نوعًا منه، ومع هذا لا يجوز وجوده مع ضد العقل....
ويرى ابن تيمية أن للإنسان ثلاث قوى : قوة العقل، وقوة الغضب، وقوة الشهوة، وأعلى هذه القوى عنده القوة العقلية التي يتميز بها الإنسان عن الحيوان، ويشارك الإنسان فيها الملائكة، أما القوة الغضبية فإن الإنسان يدفع ما يضره ويطلب بالقوة الشهوية ما ينفعه. إن قوى الأفعال في النفس إما جذب وإما نفع، والقوة الجاذبة التي تحقق ما يلائم الإنسان هي القوة الشهوية، وجنس هذه القوة المحبة والإرادة ونحو ذلك، أما القوة المانعة الدافعة عن الإنسان ما لا يناسبه فهي القوة الغضبية وما يتصل بها من البغض والكراهية.
ويرى ابن تيمية أن الله جعل للإرادة الإنسانية دورًا لا ينكر، ونأى بها عن العجز أو الضعف بدعوى مجاراة السنن الكونية، فالله خلق الأسباب ولم يجعلها مستقلة بإحداث الأشياء، كما لم يطلق سببًا ما لقهر الأسباب الأخرى، وإنما جعل كل سبب يحتاج سببًا آخر يعاونه أو يدفع عنه ضره، وهذا يدفع بالإرادة الإنسانية إلى أن تتوخى من الأسباب ما يساعدها في تحقيق أهدافها، فليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل ولا دفع ضرر، بل هو ما هو إلا سبب محتاج إلى سبب آخر يعاونه، وإلى ما يدفع عنه الضر الذي يعاهده ويمانعه.
وإذا لم تستقل الأسباب بفعل ولا دفع ضرر كان هذا فتحًا للإرادة الحرة للاستعانة بالله، وهي تقوم بدورها في اختيار السلوك الذي يرضاه الله ويحث عليه.
المعرفة عند ابن تيمية :
شاع عند القدماء استخدام العلم وكانوا يقصدون به المعرفة التي تعني الإدراك البسيط أو المركب لكل المعارف والعلوم بالوسائل الحسية والعقلية.
والعلم النافع عند ابن تيمية هو الذي يُبنى الكلام فيه في الأصول والفروع على الكتاب والسنة وما أثر عن السابقين، وطريقه هو طريق النبوة، وهو أصل الهدى ولا ينفصل هذا العلم النافع عند ابن تيمية عن العمل؛ لذا يحتاج جهادًا وصبرًا على الطلب، الدين كله علم بالحق وعمل به، والعمل به لا بد فيه من الصبر.
وإذا كان الدين علم بالحق -كما يقول ابن تيمية- فإن هذا العلم يقوم على الإدراك الحسي والعقلي؛ لذا يتفاوت الناس في العلم بالدين كما يتفاوتون في فهم أصوله وقضاياه والمشكلات التي نبحث لها عن حلول في الأصول الإسلامية، من هنا لزم الاجتهاد والبحث عن حلول فيما لا نص فيه وتتجدد الحاجة إلى الاجتهاد في كل عصر؛ لأن النصوص محدودة والمشكلات غير محدودة وعطاء الكتاب والسنة بلا حدود بعيدًا عن التكلف والاصطناع، من هنا يجب علينا أن نبحث فيها عن الهداية في كل عصر إلى قيام الساعة.
ولكي يكون العلم والعمل نافعين لا بد أن يقوم على الكتاب والسنة والمنهج الذي كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم- فهذا هو طريق أئمة الهدى، فمن بنى الكلام في العلم : الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليهما محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة وهذه طريق أئمة الهدى.
وطلب العلم الشرعي عند ابن تيمية فرض على الكفاية يجزئ فيه البعض عن الآخرين إلا فيما يتعين على الإنسان علمه ليقيم أمر دينه عليه، فإن هذا فرض على الأعيان كما أخرجه في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين))، وكل من أراد الله به خيرًا لا بد أن يفقهه في الدين، فمن لا يفقه في الدين لم يرد الله به خيرًا، ويحرص ابن تيمية على توفير المتخصصين في كل مجال يحتاجه الناس؛ ولذا يرى أن الأعمال التي هي فرض على الكفاية إذا لم يتوفر فيها القادرون عليها صارت فرض عين لا سيما إن كان الآخرون عاجزين عنها فمثلًا إذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبًا يجبرهم ولي الأمر عليه كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم.
ومن شروط العلم النافع عند ابن تيمية أن يراد به وجه الله وأن يكون موافقًا للشريعة؛ ولذا توعد من يطلب العلم رياء وزهوًا، وروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ثبت في الصحيح عن أهل الرياء في الأعمال، ومنهم من طلب العلم ليتحدث عنه الناس، ((إن أول ثلاثة تسجر بهم جهنم رجل عَلِم العلم وعَلَّمه وقرأ القرآن وأقرأه ليقول الناس عالم وقارئ))، ويذكر ابن تيمية أدوات المعرفة ويراها متمثلة في الحواس الخمس وقلب الإنسان ونفسه، ويرى طريق المعرفة متمثلًا في الطريقة العلمية والطريقة العملية، أما الطريقة العلمية فتقوم على صحة النظر في الأدلة، والأسباب هي الموجبة للعلم كتدبر القرآن والحديث، وتقوم على ثلاثة قواعد صحة أداة التعلم وهي القلب، والإحاطة التامة بموضوع التعليم، والتطبيق العملي للتعليم.
وأما الطريقة العملية فتقوم بصحة الإرادة، والأسباب هي الموجبة للعمل، ويشترط في الطريقة العملية معرفة ما هي الإرادة ومعرفة المراد التي تتجه إليه الإرادة، وتوفير البيئة المناسبة لتربية الإرادة، ولا بد أن تكون الطريقتان العلمية والعملية في إطار الأصول الإسلامية؛ لأنها المرجع فيما نتوصل إليها بالطريقتين من علم وعمل وأي علم لا يتفق مع علم الله لا يكون علم، وأي إرادة لا توافق محبة الله ورضاه تكون مذمومة.
ويحذر ابن تيمية من ضعف العلم الذي يقترن بطريقة الإرادة ومن ضعف العمل الذي يقترن بطريقة العلم ويطلب من السالك هذا الطريق أن يبذل جهده بلا تأثم لأن المطلوب شرعًا هو الجهد في حدود الاستطاعة، ويكفي السالك طريق التربية ما قدمه من جهد ومحاولات.
وإذا كان المرجع في الطريقة العلمية القائمة على صحة النظر في الأدلة وفي الطريقة العملية القائمة على صحة الإرادة وتطبيق العلم هو الموافقة لما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه فإن ابن تيمية يرى في غير المسلمين نموذج الضلال عن الطريقتين العلمية والعملية.
وأما العلوم وأنواعها فإن ابن تيمية يذكر أن أهل الملل أفضل في العلوم والأعمال الصالحة من غيرهم فأي خير يوجد عند غير المسلمين نجد عند المسلمين ما هو أكمل منه وعند أهل الملل من العلوم ما لا يوجد عند غيرهم، والعلوم نوعان :
الأول : العلوم العقلية :
التي تحصل بالعقل كعلم الحساب وعلم الطب وعلم الصناعات والحرف مثل الحياكة؛ أي النسيج والخياطة والتجارة وهذه العلوم يراها ابن تيمية عند كل ملة كما هي عند غيرهم؛ لأنها تراث مشترك بين البشر لكن أهل الملل أكمل فيها فإن علوم المتفلسفة مثل علوم الطبيعة والمنطق والهيئة وغيرها من علوم اليونان والفرس والهند لما صارت بعد الترجمة إلى المسلمين هذبوها ونفحوها لكمال عقولهم وحسن ألسنتهم وكان كلامهم فيها أتم وأجمع وأبين.
النوع الثاني :
العلوم التي لا تعلم بمجرد العقل وهي علوم الديانات والعلوم الإلهية وهذه العلوم مختصة بأهل الملل وهي قسمان :
ما يمكن أن يقام عليه أدلة عقلية فهي علوم شرعية عقلية لعدالة الرسل وتبينهم المعقول وهي معلومة بالفعل؛ لأن الرسل هدوا الناس وأرشدوهم إلى دلالة العقول عليها، وبهذه العلوم يعلم صحة ما جاء به الرسل وبطلان قول من خالفهم.
أما القسم الثاني من علوم الديانات :
فهي العلوم التي لا تعلم إلا بخبر الرسل ولا تقام عليها أدلة عقلية، والعلم بها يأتي عن طريق اتفاق الرسل على الإخبار بها دون تواطؤ بينهم، وقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الله وملائكته وعرشه وكرسيه وأنبيائه ورسله وأخبارهم وأخبار مكذبيهم بمثل ما وجد في كتب الأنبياء من التوراة وغيرها، وعلم الأنبياء -عليهم السلام- ليس قائمًا على مجرد الخبر -كما يقول ابن تيمية- وإنما يجمع بين الأدلة العقلية والأدلة السمعية بخلاف الذين خالفوهم فإن تعليمهم غير مفيد للأدلة العقلية والسمعية مع ما في نفوسهم من الكبر الأجوف، وواضح أن العلوم العقلية عند ابن تيمية تشمل الحرف والصناعات، وقد ذكر منها الحياكة والخياطة والتجارة هذا فضلًا عن الرياضيات والطبيعيات وإلى جانب العلوم العقلية أي الرياضيات والطبيعيات والحرف والصناعات والعلوم الدينية يوجد نوع رابع من العلوم هي العلوم العسكرية، وترتبط بالجهاد وتتنوع مجالاتها وأساليبها من عصر إلى عصر، لكنها ترتبط بالهدف الأسمى وهو أن يكون الجهاد في سبيل الله.
ويرى ابن تيمية ارتباطًا واضحًا بين العلوم العسكرية والعلوم الدينية؛ لأن دين الإسلام أن يكون السيف تابعًا للكتاب فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة وكان السيف تابعًا لذلك كان أمر الإسلام قائمًا وأما إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه، كان دين من هو كذلك بحسب ذلك.
يريد ابن تيمية من عبارته السابقة أن الإسلام مصحف وسيف وأنه إذا حمل السيف من يفهم القرآن الكريم ومقاصده ازدهر أمر الإسلام والمسلمين، أما عندما يحمل السيف من لا يفهم القرآن الكريم أو يفهمه على غير ما فهمه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم- فتلك هي البلوى التي تنزل بالمسلمين حينما لا يتفق صاحب كتاب أي عالم وصاحب سيف أي حاكم؛ ولذا يحرص ابن تيمية على بيان أن الانحراف حدث في المجتمع الإسلامي عندما حدث انحراف في ولاة الأمور من العلماء والأمراء، فإذا استقام ولاة الأمور الذين يحكمون في النفوس والأموال استقام عامة الناس كما قال الصديق أبو بكر للمرأة في الحديث الذي رواه البخاري لما سألته فقالت : ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح، قال : ما استقامت لكم أئمتكم. وفي الأثر صنفان إذا صلحوا صلح الناس : العلماء والأمراء، أهل الكتاب، وأهل الحديد، وهم أولوا الأمر في قوله تعالى : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}. وكذلك من جهتهم يقع الفساد كما يرى ابن تيمية.
ويتضح من كلام ابن تيمية حاجة الأمة إلى العلماء والأمراء الصالحين لبعث نهضتها، وإذا نظرنا إلى فكرة في ضوء الواقع الإسلامي المعاصر وما يحدث فيه من اختلال نتيجة الخلافات المحتدمة بين أبناء الأمة الواحدة إذا نظرنا إلى ذلك أدركنا مدى حاجة الأمة الإسلامية إلى دور غير مسبوق يقوم به الأزهر الشريف لتوضيح المقاصد الإسلامية ورأب الصدع بين المسلمين وتوجيه قوتهم لما فيه العزة للمسلمين بعيدًا عن القضايا الهامشية والتفريعات التي أولاها البعض عناية لا تستحقها غافلين عن الأهداف الكبرى للأمة الإسلامية والعربية.
نقد ابن تيمية للعلاقات في البيئات العلمية :
غلب التعصب المذهبي والجمود الفكري على العلاقات في البيئات العلمية في عصر ابن تيمية وَمِنْ ثَمَّ كانت الحقيقة ضائعة بين قوم يعرفون الحق بالإمام والمذهب فما يخالفهم ليس حق وإنما الحق هو الذي يتوافق مع أئمتهم ولقد عانى ابن تيمية كثيرًا من المتعصبين الجامدين الذين أدخلوه السجن أكثر من مرة؛ لأنه خرج في فتاويه عما ألفوه رغم اعتماده على الأدلة فيما قاله، ويرى ابن تيمية أن اليهود هم أسلاف كل متعصب لطائفة أو مذهب لأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به فلما جاءهم الناطق به من غير طائفتهم لم ينقادوا له وهذا داء ابتلي به طوائف من المشتغلين بالعلم والتصوف فإنهم لا يقبلون من الدين إلا ما يتفق مع ما جاءت به طائفتهم على الرغم من أن الدين لا يزكي أحد غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو الإنسان الوحيد الذي يجب اتباعه اتباعًا كاملًا.
وَمِنْ ثَمَّ يرى ابن تيمية أن التعصب المذهبي داء يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهين أو المتصوفة أو غيرهم أو إلى رئيس معظّم عندهم في الدين غير النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنهم لا يقبلون من الدين رأي أو رواية إلا ما جاءت به طائفتهم.
تعليق ختامي :
كان منهج ابن تيمية واضحًا في استنباط معظم فكره التربوي من الأصول الإسلامية وما أثر عن السلف ومع اعتزازه بالكتاب والسنة كان منفتحًا على الثقافات الأجنبية فأخذ منها ما اعتقد أنه صواب كما رأينا مثلًا في نظرته إلى المعرفة، ونرى أن ابن تيمية في هذا الاتجاه سما كثيرًا على معظم المشايعين له من المعاصرين الذين حصروا المعارف في العلوم الشرعية وعادوا الثقافات العقلية ونسبوا ذلك إلى السلفية، والسلفية من ذلك براء.
ويحمد لابن تيمية اهتمامه بالتفكير الاستقلالي ومعاداته للتقليد الأعمى كما يحمد له إخلاصه لمنهجه ودينه واعتماده أساسًا في فكر تربوي على الأصول والثقافة الإسلامية، كما يحمد له العمل على تطبيق أفكاره التربوية في محيطه المحدود فكان مثلًا يحتذى من تلاميذه وأتباعه فلم يرتبط بسلطة ولا منصب وجعل جهده كله خالصًا لله.
ويبدو من أثار ابن تيمية -وبخاصة فتاويه- أن شئون الشريعة والعقيدة قد ملكت عليه نفسه وأثارت عليه خواطر الفقهاء والمتصوفة وغيرهم فكانت إسهاماته التربوية -على ما يبدو- مرتبطة أشد الارتباط في العقيدة والفقه والتصوف وغيره.
تقديم :
يعتبر ابن تيمية من العلماء الذين شغلوا الناس في حياتهم وبعد مماتهم بفكره وآرائه التي خالفت المألوف في عصره، وقد ابتلي بالمحن في حياته نتيجة آرائه في العقيدة والفقه التي أثارت الكثيرين من معاصريه من علماء الشام ومصر، الذين لم يألفوا نهج ابن تيمية في قضايا العقيدة والشريعة.
ومع أن ابن تيمية كان حادًّا في بعض أفكاره التي صدمت معاصريه لكنه كان في عصره أكثر تسامحًا وأوسع أفقًا من الكثيرين الذين حملوا أفكاره في عصرنا، فلم يزك نفسه ولم يتهم مخالفيه من أهل السنة والجماعة في دينهم، بل كان يرى أن المخالف الباحث عن الحقيقة إما أن يكون مجتهدًا أو مخطئًا أو مذنبًا، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد معفو عنه، والثالث الله يغفر لنا وله ولسائر المسلمين.
ولابن تيمية عند بعض المسلمين -لا سيما- الحنابلة موقع متميز في القرون الأخيرة، فاجتهاداته وأحكامه فيما يتصل ببعض قضايا العقيدة والشريعة تؤخذ أحيانًا من هؤلاء لا على أنها اجتهادات بشرية تقبل الصواب والخطأ، لأنها من غير معصوم، وإنما ينظر بعضهم إليها نظرة تغض من شأن المخالفين له وتعلو به إلى درجة لا يرضاها ابن تيمية نفسه مؤلف "رفع الملام عن الأئمة الأعلام".
ونتيجة لذلك ألبس المتعصبون فكر ابن تيمية ما تغور به نفوسهم من تعصب وتزمت وانغلاق، وهي سمات بعيدة ابن تيمية الذي حمل فكره ودعا إليه بالحجة والجدال الحسن دون قسر أو إرهاب.
وتمتاز كتابات ابن تيمية بالثقافة الواسعة والتحليل الدقيق للأفكار وبخاصة أفكار المخالفين له ولم يمنعه الاختلاف معهم من أن ينصفهم ويتأثر بهم أحيانًا ويأخذ عنهم ما رآه ويتفق مع منهجه وأصوله وتلك سمة العقلية الناقدة الناضجة.
وسوف نبدأ الحديث عن الفكر التربوي لابن تيمية للتعرف على نشأته والظروف التي أحاطت به والعوامل المؤثرة في شخصيته واتجاهه العلمي، ثم نعرض فكره التربوي لنتعرف أولًا على الهدف التربوي عنده ونظرته إلى الطبيعة الإنسانية، ثم رأيه في المعرفة والتربية السياسية ونقده للبيئات العلمية في عصره.
ابن تيمية مسيرة حياة :
ابن تيمية هو تقي الدين أحمد بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي الحنبلي، ولد بحران عام 661 هـ/ 1262م، ثم قدم به والده وأهله إلى دمشق وهو صغير بعدما أغار التتار على العراق والشام عام 667هـ/ 1268، واستقر المقام بأسرته في دمشق.
ارتبط ابن تيمية في دمشق منذ السادسة من عمره ونشأ بها محبًّا للعلم فحفظ القرآن الكريم ودرس علوم الحديث والفقه وعلم الكلام، وكان قوي الحفظ ذكيًّا، وقد استطاع مناظرة العلماء وهو ما زال في مقتبل الشباب حتى انبهر به أهل دمشق الذين رأوه يفتي ويناضل ويحاور العلماء ويؤلف وهو ابن التاسعة عشرة.
كان ابن تيمية حنبليًّا في الأصول والفروع تابع في ذلك أسرته الحنبلية؛ إذ كان أبوه وجدُّه من علماء الحنابلة، وكان لأبيه حلقات درس في مسجد دمشق كما تولى مشيخة الحديث بدار السكرية التي كانت أولى المدارس التي تلقى فيها ابن تيمية دروسه.
ومع اعتزاز ابن تيمية بالمذهب الحنبلي كانت له اختيارات في الفروع خرج فيها عن الحنابلة وغيرهم من المذاهب الأربعة، واعتمد فيها على أدلته التي وصل إليها باجتهاده.
انقطع ابن تيمية منذ بواكير حياته للعلم والجهاد في سبيل الله، فلم يطلب الدنيا لا عن طريق التجارة أو الوظائف ولم يربط نفسه -شأن كثيرين- بأرباب السلطة يستجدي المال والنفوذ، كما لم يتزوج وظل ملازمًا للتعليم والإفتاء ونشر آراءه التي أغضبت الكثيرين حتى توفي بسجن القلعة في دمشق عام 1327م.
تهيأت لابن تيمية بيئة خاصة وعامة أثرت في شخصيته وأكسبته ملامح متمايزة في مسيرة حياته ونشاطه العلمي وأسلوبه في نشر أفكاره، فكان أبوه وجدّه -كما سبق القول- من علماء الحنابلة وكان تواقًا إلى المعرفة فدرس علوم الشريعة وعلوم العربية، وأخذ العلم عن أكثر من مائة شيخ، كما درس الفلسفة والتصوف والعقائد والنحل التي اختلف معها وحاربها بلا هوادة.
وكان عصر ابن تيمية بطابعه السياسي والاجتماعي والثقافي ذا تأثير كبير في شخصيته فقد تعرضت الشام والعراق لغزو التتار أكثر من مرة وارتبط ذلك الخطر بحياة ابن تيمية منذ سنواته الأولى التي هاجرت فيها أسرته من مسقط رأسه في حران إلى دمشق فزعًا من التتار، وقد جاهد التتار كثيرًا تحت راية المماليك الذين حكموا مصر والشام، وكانوا عجمًا يغلب الجهل عليهم مما أتاح لبعض مدعي التصوف أن يروج الخرافات مستظلين بالسلطة المملوكية التي كان جهلها وضحالة ثقافتها وراء الملاحقة الصارمة لكل من يخالف المألوف من التقاليد والأفكار حتى لو ثبت خطأ هذا المألوف؛ من هنا سجن ابن تيمية أكثر من مرة، وكان أشياع السلطة من مدعي التصوف وغيرهم وراء سجنه الذي لم يجد فيه غير خلوة العابد مع معبوده.
وكان مجتمع ابن تيمية الذي شمل أجناسًا كثيرة وأقليات كبيرة من النصارى واليهود يشهد ضروبًا من الانحلال والإلحاد دفعت الفقهاء إلى الاستنكار والملاحقة للخارجين على الدين.
وكان التعصب المذهبي يمزق البيئات العلمية ويشيع فيها لونًا من الركون الفكري والتقليد الأعمى دون اجتهاد يطور الواقع لأحكام الدين وقيمه.
وكانت خلافات الفقهاء لا تنقطع، وعرف الصواب في جدالهم بالانتساب إلى هذا المذهب أو ذاك، فالتأييد والصواب للموافق مذهبيًّا، والمعارضة والخطأ لمن يخالف مذهبيًّا، هذا في الفروع، أما في الأصول فكان المذهب السائد هو المذهب الأشعري الذي كان يطلق عليه مذهب أهل السنة والجماعة.
وكان الحنابلة يختلفون بشدة مع الأشاعرة، وكل من الطرفين كان يرى أنه يمثل أهل السنة والجماعة، ولعل تأويل الأشاعرة لبعض الآيات الكريمة في صفات الله تعالى سدًّا لباب التجسيم أو التشبيه عن الله تعالى -لعل ذلك كان من نقاط الاختلاف الحادة بين الحنابلة والأشاعرة.
وكانت السمة العامة للبيئات العلمية هي الجمود وانعدام الابتكار، الأمر الذي عطل المواهب وأزرى بالعقل وبكرامة الإنسان الذي تنازعته البدع والخرافات والخلافات ودعاوى بعض المنسوبين إلى التصوف التي لا تتصل من قريب أو بعيد بالإسلام.
وعلى الرغم من سلبيات عصر ابن تيمية وضغوطه السياسية والاجتماعية والثقافية ظهر تأثيره الإيجابي في شخصية ابن تيمية، ويبدو ذلك واضحًا في إعلائه فريضة الجهاد والحرص على أن يستعيد المسلمون ما تمثله التربية الجهادية من قيم عملية سامية، كما يبدو في حرصه على استعادة روح المسئولية والتعاون بمفهومهما الواسع في النشاط الاجتماعي، والاتباع لا الابتداع في الدين وفي كل ما يتصل به.
وكان ابن تيمية يرى أن الابتداع في الدين هو سبب الاختلاف والفساد والضعف السائد في الحياة الإسلامية وَمِنْ ثَمَّ لا تتأتى القوة والوحدة إلا بالاتباع والسير على نهج السلف أهل القرون الثلاثة الأولى؛ لأنهم أفضل الناس وأفضلهم من اقترب من عصر النبوة.
والخلاصة أن ابن تيمية خرج في بعض أفكاره عن المألوف في عصر فأفاض عليه بعض أصحاب السلطان وبعض العلماء، فأثار عليه بعض أصحاب السلطان وبعض العلماء ولم يأبه بذلك؛ لأنه كان يعتمد على الدليل الشرعي الذي يأنس إليه دون أن يتقيد بالمألوف في البيئات العلمية.
من هنا كان مصدر إثارة وقلق في أوساط العلماء ومن الطبيعي أن يكون له في التربية والسلوك منهج واضح يكشف عن الجانب الإجرائي في فكره.
الهدف التربوي عند ابن تيمية :
تهدف التربية عند ابن تيمية إلى توحيد الإلوهية أي : صرف العبادة لله وحده، فلا يجوز صرف شيء منها لغير الله سبحانه، والغاية المقصودة هي حقيقة الدين، وهي عبادة الله وحده لا شريك الله وهي حقيقة دين الإسلام، وهو أن يستسلم العبد لله رب العالمين، لا يستسلم لغيره فمن استسلم له ولغيره كان مشركًا.
والإنسان بفطرته -كما يرى ابن تيمية- يبحث عن معبود، فمن استكبر عن عبادة الله عبد غيره كالمال والجاه والسلطان والكواكب وغيرها، والمعبود هو موطن حب الإنسان وإرادته ومنتهى أمله، ولأن الإنسان يتجه إلى المعبود بالحس والإرادة فإن الحرية لا تتوفر للإنسان إلا في عبوديته لله وحده، ويرتبط الرق والذل بالعبودية لما سوى الله؛ ولهذا كانت العبودية لله هي هدف التربية عند ابن تيمية بل هي هدف خلق الإنس والجن {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}.
ويرى ابن تيمية أن الإنسان يصل إلى الكمال عندما تتحقق عبوديته لله وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، فمن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم.
الطبيعة الإنسانية عند ابن تيمية :
يتحدث ابن تيمية عن الطبيعة الإنسانية من حيث المكونات والقوى والفعل الإنساني، ومن حيث الدوافع.
فمن حيث مكونات الإنسان يرى ابن تيمية أن الإنسان "عبارة عن الروح والبدن مقابل، بل هو بالروح أخص منه بالبدن وإنما البدن مطية الروح".
ويرى التلازم قائمًا بين الجسد والروح؛ ولذا تتناول الأحكام هذا تارة وذاك أخرى، ويتبع ابن تيمية القرآن الكريم في حديثه عن مكونات الإنسان يقول تعالى : {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}.
ويتحدث عن القلب المدرك كأحد أعضاء الإنسان بل كملك للأعضاء جميعًا، ويرى ابن تيمية أنه يميز الإنسان عن الحيوان؛ لأنه يفقه المعاني والأصوات ويتأثر ويحب أو يكره إذا تجرد الإنسان من الحب أو البغض كان مجردًا من الإدراك وكان هو والعدم سواء.
ويتحدث ابن تيمية عن العقل في ارتباطه بالعلم والعمل فالعلم يستلزم العقل، والعقل شرط في العلم، العلم هو مستلزم للعقل، فكل عالم عاقل، والعقل شرط في العلم، فليس مثلًا له ولا ضده ولا نوعًا منه، ومع هذا لا يجوز وجوده مع ضد العقل....
ويرى ابن تيمية أن للإنسان ثلاث قوى : قوة العقل، وقوة الغضب، وقوة الشهوة، وأعلى هذه القوى عنده القوة العقلية التي يتميز بها الإنسان عن الحيوان، ويشارك الإنسان فيها الملائكة، أما القوة الغضبية فإن الإنسان يدفع ما يضره ويطلب بالقوة الشهوية ما ينفعه. إن قوى الأفعال في النفس إما جذب وإما نفع، والقوة الجاذبة التي تحقق ما يلائم الإنسان هي القوة الشهوية، وجنس هذه القوة المحبة والإرادة ونحو ذلك، أما القوة المانعة الدافعة عن الإنسان ما لا يناسبه فهي القوة الغضبية وما يتصل بها من البغض والكراهية.
ويرى ابن تيمية أن الله جعل للإرادة الإنسانية دورًا لا ينكر، ونأى بها عن العجز أو الضعف بدعوى مجاراة السنن الكونية، فالله خلق الأسباب ولم يجعلها مستقلة بإحداث الأشياء، كما لم يطلق سببًا ما لقهر الأسباب الأخرى، وإنما جعل كل سبب يحتاج سببًا آخر يعاونه أو يدفع عنه ضره، وهذا يدفع بالإرادة الإنسانية إلى أن تتوخى من الأسباب ما يساعدها في تحقيق أهدافها، فليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل ولا دفع ضرر، بل هو ما هو إلا سبب محتاج إلى سبب آخر يعاونه، وإلى ما يدفع عنه الضر الذي يعاهده ويمانعه.
وإذا لم تستقل الأسباب بفعل ولا دفع ضرر كان هذا فتحًا للإرادة الحرة للاستعانة بالله، وهي تقوم بدورها في اختيار السلوك الذي يرضاه الله ويحث عليه.
المعرفة عند ابن تيمية :
شاع عند القدماء استخدام العلم وكانوا يقصدون به المعرفة التي تعني الإدراك البسيط أو المركب لكل المعارف والعلوم بالوسائل الحسية والعقلية.
والعلم النافع عند ابن تيمية هو الذي يُبنى الكلام فيه في الأصول والفروع على الكتاب والسنة وما أثر عن السابقين، وطريقه هو طريق النبوة، وهو أصل الهدى ولا ينفصل هذا العلم النافع عند ابن تيمية عن العمل؛ لذا يحتاج جهادًا وصبرًا على الطلب، الدين كله علم بالحق وعمل به، والعمل به لا بد فيه من الصبر.
وإذا كان الدين علم بالحق -كما يقول ابن تيمية- فإن هذا العلم يقوم على الإدراك الحسي والعقلي؛ لذا يتفاوت الناس في العلم بالدين كما يتفاوتون في فهم أصوله وقضاياه والمشكلات التي نبحث لها عن حلول في الأصول الإسلامية، من هنا لزم الاجتهاد والبحث عن حلول فيما لا نص فيه وتتجدد الحاجة إلى الاجتهاد في كل عصر؛ لأن النصوص محدودة والمشكلات غير محدودة وعطاء الكتاب والسنة بلا حدود بعيدًا عن التكلف والاصطناع، من هنا يجب علينا أن نبحث فيها عن الهداية في كل عصر إلى قيام الساعة.
ولكي يكون العلم والعمل نافعين لا بد أن يقوم على الكتاب والسنة والمنهج الذي كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم- فهذا هو طريق أئمة الهدى، فمن بنى الكلام في العلم : الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليهما محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة وهذه طريق أئمة الهدى.
وطلب العلم الشرعي عند ابن تيمية فرض على الكفاية يجزئ فيه البعض عن الآخرين إلا فيما يتعين على الإنسان علمه ليقيم أمر دينه عليه، فإن هذا فرض على الأعيان كما أخرجه في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين))، وكل من أراد الله به خيرًا لا بد أن يفقهه في الدين، فمن لا يفقه في الدين لم يرد الله به خيرًا، ويحرص ابن تيمية على توفير المتخصصين في كل مجال يحتاجه الناس؛ ولذا يرى أن الأعمال التي هي فرض على الكفاية إذا لم يتوفر فيها القادرون عليها صارت فرض عين لا سيما إن كان الآخرون عاجزين عنها فمثلًا إذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبًا يجبرهم ولي الأمر عليه كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم.
ومن شروط العلم النافع عند ابن تيمية أن يراد به وجه الله وأن يكون موافقًا للشريعة؛ ولذا توعد من يطلب العلم رياء وزهوًا، وروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ثبت في الصحيح عن أهل الرياء في الأعمال، ومنهم من طلب العلم ليتحدث عنه الناس، ((إن أول ثلاثة تسجر بهم جهنم رجل عَلِم العلم وعَلَّمه وقرأ القرآن وأقرأه ليقول الناس عالم وقارئ))، ويذكر ابن تيمية أدوات المعرفة ويراها متمثلة في الحواس الخمس وقلب الإنسان ونفسه، ويرى طريق المعرفة متمثلًا في الطريقة العلمية والطريقة العملية، أما الطريقة العلمية فتقوم على صحة النظر في الأدلة، والأسباب هي الموجبة للعلم كتدبر القرآن والحديث، وتقوم على ثلاثة قواعد صحة أداة التعلم وهي القلب، والإحاطة التامة بموضوع التعليم، والتطبيق العملي للتعليم.
وأما الطريقة العملية فتقوم بصحة الإرادة، والأسباب هي الموجبة للعمل، ويشترط في الطريقة العملية معرفة ما هي الإرادة ومعرفة المراد التي تتجه إليه الإرادة، وتوفير البيئة المناسبة لتربية الإرادة، ولا بد أن تكون الطريقتان العلمية والعملية في إطار الأصول الإسلامية؛ لأنها المرجع فيما نتوصل إليها بالطريقتين من علم وعمل وأي علم لا يتفق مع علم الله لا يكون علم، وأي إرادة لا توافق محبة الله ورضاه تكون مذمومة.
ويحذر ابن تيمية من ضعف العلم الذي يقترن بطريقة الإرادة ومن ضعف العمل الذي يقترن بطريقة العلم ويطلب من السالك هذا الطريق أن يبذل جهده بلا تأثم لأن المطلوب شرعًا هو الجهد في حدود الاستطاعة، ويكفي السالك طريق التربية ما قدمه من جهد ومحاولات.
وإذا كان المرجع في الطريقة العلمية القائمة على صحة النظر في الأدلة وفي الطريقة العملية القائمة على صحة الإرادة وتطبيق العلم هو الموافقة لما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه فإن ابن تيمية يرى في غير المسلمين نموذج الضلال عن الطريقتين العلمية والعملية.
وأما العلوم وأنواعها فإن ابن تيمية يذكر أن أهل الملل أفضل في العلوم والأعمال الصالحة من غيرهم فأي خير يوجد عند غير المسلمين نجد عند المسلمين ما هو أكمل منه وعند أهل الملل من العلوم ما لا يوجد عند غيرهم، والعلوم نوعان :
الأول : العلوم العقلية :
التي تحصل بالعقل كعلم الحساب وعلم الطب وعلم الصناعات والحرف مثل الحياكة؛ أي النسيج والخياطة والتجارة وهذه العلوم يراها ابن تيمية عند كل ملة كما هي عند غيرهم؛ لأنها تراث مشترك بين البشر لكن أهل الملل أكمل فيها فإن علوم المتفلسفة مثل علوم الطبيعة والمنطق والهيئة وغيرها من علوم اليونان والفرس والهند لما صارت بعد الترجمة إلى المسلمين هذبوها ونفحوها لكمال عقولهم وحسن ألسنتهم وكان كلامهم فيها أتم وأجمع وأبين.
النوع الثاني :
العلوم التي لا تعلم بمجرد العقل وهي علوم الديانات والعلوم الإلهية وهذه العلوم مختصة بأهل الملل وهي قسمان :
ما يمكن أن يقام عليه أدلة عقلية فهي علوم شرعية عقلية لعدالة الرسل وتبينهم المعقول وهي معلومة بالفعل؛ لأن الرسل هدوا الناس وأرشدوهم إلى دلالة العقول عليها، وبهذه العلوم يعلم صحة ما جاء به الرسل وبطلان قول من خالفهم.
أما القسم الثاني من علوم الديانات :
فهي العلوم التي لا تعلم إلا بخبر الرسل ولا تقام عليها أدلة عقلية، والعلم بها يأتي عن طريق اتفاق الرسل على الإخبار بها دون تواطؤ بينهم، وقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الله وملائكته وعرشه وكرسيه وأنبيائه ورسله وأخبارهم وأخبار مكذبيهم بمثل ما وجد في كتب الأنبياء من التوراة وغيرها، وعلم الأنبياء -عليهم السلام- ليس قائمًا على مجرد الخبر -كما يقول ابن تيمية- وإنما يجمع بين الأدلة العقلية والأدلة السمعية بخلاف الذين خالفوهم فإن تعليمهم غير مفيد للأدلة العقلية والسمعية مع ما في نفوسهم من الكبر الأجوف، وواضح أن العلوم العقلية عند ابن تيمية تشمل الحرف والصناعات، وقد ذكر منها الحياكة والخياطة والتجارة هذا فضلًا عن الرياضيات والطبيعيات وإلى جانب العلوم العقلية أي الرياضيات والطبيعيات والحرف والصناعات والعلوم الدينية يوجد نوع رابع من العلوم هي العلوم العسكرية، وترتبط بالجهاد وتتنوع مجالاتها وأساليبها من عصر إلى عصر، لكنها ترتبط بالهدف الأسمى وهو أن يكون الجهاد في سبيل الله.
ويرى ابن تيمية ارتباطًا واضحًا بين العلوم العسكرية والعلوم الدينية؛ لأن دين الإسلام أن يكون السيف تابعًا للكتاب فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة وكان السيف تابعًا لذلك كان أمر الإسلام قائمًا وأما إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه، كان دين من هو كذلك بحسب ذلك.
يريد ابن تيمية من عبارته السابقة أن الإسلام مصحف وسيف وأنه إذا حمل السيف من يفهم القرآن الكريم ومقاصده ازدهر أمر الإسلام والمسلمين، أما عندما يحمل السيف من لا يفهم القرآن الكريم أو يفهمه على غير ما فهمه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم- فتلك هي البلوى التي تنزل بالمسلمين حينما لا يتفق صاحب كتاب أي عالم وصاحب سيف أي حاكم؛ ولذا يحرص ابن تيمية على بيان أن الانحراف حدث في المجتمع الإسلامي عندما حدث انحراف في ولاة الأمور من العلماء والأمراء، فإذا استقام ولاة الأمور الذين يحكمون في النفوس والأموال استقام عامة الناس كما قال الصديق أبو بكر للمرأة في الحديث الذي رواه البخاري لما سألته فقالت : ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح، قال : ما استقامت لكم أئمتكم. وفي الأثر صنفان إذا صلحوا صلح الناس : العلماء والأمراء، أهل الكتاب، وأهل الحديد، وهم أولوا الأمر في قوله تعالى : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}. وكذلك من جهتهم يقع الفساد كما يرى ابن تيمية.
ويتضح من كلام ابن تيمية حاجة الأمة إلى العلماء والأمراء الصالحين لبعث نهضتها، وإذا نظرنا إلى فكرة في ضوء الواقع الإسلامي المعاصر وما يحدث فيه من اختلال نتيجة الخلافات المحتدمة بين أبناء الأمة الواحدة إذا نظرنا إلى ذلك أدركنا مدى حاجة الأمة الإسلامية إلى دور غير مسبوق يقوم به الأزهر الشريف لتوضيح المقاصد الإسلامية ورأب الصدع بين المسلمين وتوجيه قوتهم لما فيه العزة للمسلمين بعيدًا عن القضايا الهامشية والتفريعات التي أولاها البعض عناية لا تستحقها غافلين عن الأهداف الكبرى للأمة الإسلامية والعربية.
نقد ابن تيمية للعلاقات في البيئات العلمية :
غلب التعصب المذهبي والجمود الفكري على العلاقات في البيئات العلمية في عصر ابن تيمية وَمِنْ ثَمَّ كانت الحقيقة ضائعة بين قوم يعرفون الحق بالإمام والمذهب فما يخالفهم ليس حق وإنما الحق هو الذي يتوافق مع أئمتهم ولقد عانى ابن تيمية كثيرًا من المتعصبين الجامدين الذين أدخلوه السجن أكثر من مرة؛ لأنه خرج في فتاويه عما ألفوه رغم اعتماده على الأدلة فيما قاله، ويرى ابن تيمية أن اليهود هم أسلاف كل متعصب لطائفة أو مذهب لأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به فلما جاءهم الناطق به من غير طائفتهم لم ينقادوا له وهذا داء ابتلي به طوائف من المشتغلين بالعلم والتصوف فإنهم لا يقبلون من الدين إلا ما يتفق مع ما جاءت به طائفتهم على الرغم من أن الدين لا يزكي أحد غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو الإنسان الوحيد الذي يجب اتباعه اتباعًا كاملًا.
وَمِنْ ثَمَّ يرى ابن تيمية أن التعصب المذهبي داء يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهين أو المتصوفة أو غيرهم أو إلى رئيس معظّم عندهم في الدين غير النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنهم لا يقبلون من الدين رأي أو رواية إلا ما جاءت به طائفتهم.
تعليق ختامي :
كان منهج ابن تيمية واضحًا في استنباط معظم فكره التربوي من الأصول الإسلامية وما أثر عن السلف ومع اعتزازه بالكتاب والسنة كان منفتحًا على الثقافات الأجنبية فأخذ منها ما اعتقد أنه صواب كما رأينا مثلًا في نظرته إلى المعرفة، ونرى أن ابن تيمية في هذا الاتجاه سما كثيرًا على معظم المشايعين له من المعاصرين الذين حصروا المعارف في العلوم الشرعية وعادوا الثقافات العقلية ونسبوا ذلك إلى السلفية، والسلفية من ذلك براء.
ويحمد لابن تيمية اهتمامه بالتفكير الاستقلالي ومعاداته للتقليد الأعمى كما يحمد له إخلاصه لمنهجه ودينه واعتماده أساسًا في فكر تربوي على الأصول والثقافة الإسلامية، كما يحمد له العمل على تطبيق أفكاره التربوية في محيطه المحدود فكان مثلًا يحتذى من تلاميذه وأتباعه فلم يرتبط بسلطة ولا منصب وجعل جهده كله خالصًا لله.
ويبدو من أثار ابن تيمية -وبخاصة فتاويه- أن شئون الشريعة والعقيدة قد ملكت عليه نفسه وأثارت عليه خواطر الفقهاء والمتصوفة وغيرهم فكانت إسهاماته التربوية -على ما يبدو- مرتبطة أشد الارتباط في العقيدة والفقه والتصوف وغيره.