منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#58445
منذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بتبدّيل سياستها الخارجية تجاه العالم الخارجي، ووضعت خلف ظهرها سياستها التقليدية المبنية على عدم التدخل في شؤون الآخرين، وعدم تدخل الآخرين خاصةً دول أوروبا في شؤونها وشؤون بقية دول القارة الأمريكية فاتساع مصالحها وتضاربها مع مصالح دول أخرى عديدة، حتماً أدى إلى إخراجها من عزلتها شاءت أم أبت وذلك من آنٍ لآخر، مما أدى إلى جرّها لخلافاتٍ قد تكون خطيرة مع الدول الأوروبية التي لها مصالح قديمة في القارة الأمريكية، خاصةً إسبانيا وبريطانيا.

ونحن هنا لسنا بصدد الاسترسال في تقصي الوقائع التاريخية للتدخلات الأمريكية في شؤون الآخرين خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكننا سنكتفي بالإشارة إلى أهم تدخلاتها باقتضاب، فقد تدخلت في قضية فنزويلا من خلال الصراع الذي دار بين حكومة فنزويلا والمستعمرة البريطانية في غويانا حول ترسيم الحدود بينهما عام 1895م، وكذلك الحرب الأمريكية-الإسبانية عام 1898م على جبهتي كوبا في البحر الكاريبي والفيليبين في جنوب شرقي آسيا، وأيضاً شقها لقناة بناما التي كانت ضمن حدود دولة كولومبيا عام 1903، وأخيراً تدخلها في شؤون دول المحيط الهادي، خاصةً اليابان والصين، بعد هزيمة اليابان للصين عام 1895.

وكانت الحرب العالمية الأولى واشتداد أوارها إيذاناً بإعلان حالة الوفاة رسمياً للسياسة الأمريكية التقليدية المبنية على الحياد الإيجابي، ووجدت نفسها مرغمة على دخول الحرب وحققت نصراً جعل منها قوة عظمى سياسياً وعسكرياً على حساب الدول الأوروبية الأخرى ـ حتى المنتصرة منها ـ تلك الدول التي شاخت وهرِمت نتيجة حروبها المتواصلة فيما بينها، فأصبحت الولايات المتحدة فعلياً زعيمة العالم الغربي بلا منازع، ثمَّ تأكدت هذه الزعامة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945م، وبدأت تركّز اهتمامها على منطقة الشرق الأوسط الغنية بمصادر النفط، أي تكون بذلك قد ورثت أملاك الإمبراطورية البريطانية في المنطقة.

وبعد إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 وما تلاها من حروبٍ متواصلة بين هذا الكيان والدول العربية، احتفظت حكومات الولايات المتحدة لنفسها بكل الأوراق الضرورية والحيوية لحل الصراع العربي-الإسرائيلي، الأمر الذي تداركه الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1977، فعقد اتفاقية كامب ديفيد مع الطرف الإسرائيلي بعد أن قدّمت حكومة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر جزءاً من أوراق الحل السحرية التي تحتفظ بها، فكان ذلك الأمر بمثابة انفراط بقية العقد العربي، حيث بدأت بعض الأنظمة العربية تهرول إلى عتبات البيت الأبيض المقدسة تقرباً إلى الحلول ـ أي حلول ـ زُلفى.

ومما ساعد على تملك الولايات المتحدة لهدا الحق، عوامل عدة، منها:

أولاً ـ حربي الخليج الأولى والثانية، وما ترتب عليهما من التدخل الأمريكي في شؤون دول الخليج العربي بالكامل، فأصبحت هذه الدول محميات أمريكية رسمية، لا تقطع أمراً أو تبت فيه إلاَّ بموافقة سيد البيت الأبيض، طبعاً إذا كان لهذه الدول الحق بالفعل في مجرد التفكير بقطع هكذا أمر.

كما ترتب على حرب الخليج الثانية وما تلاها فقدان دولة عربية مهمة هي العراق لها ثقلها الاستراتيجي في الصراع العربي الإسرائيلي لمجمل قوتها العسكرية، التي كانت وقتذاك أكبر قوة عسكرية عربية في منطقة الشرق الأوسط، كما كانت إسرائيل تحسب لقوة العراق ألف حساب حتى أكثر مما تحسبه للقوى العربية المحيطة بها، فبدأت الولايات المتحدة أولاً بفرض حصار عسكري واقتصادي ضد العراق، ثمَّ كان قرار تدميره بالكامل كدولةً وحضارةً بمشيئة أمريكية، وللأسف بموافقةٍ ومباركة عربية أملاً بإطالة أمد عروش بعض الأنظمة العربية لبعض الوقت لا لإبقائها، لعلم هذه الأنظمة المسبق بأن دورها في التحلل والتفتت آتٍ لا محالة بيد من عاضدوه بالأمس. ولو شاءت الحكومة الأمريكية اليوم أو غداً في احتلال قطرٍ عربي آخر فمما لا شك فيه فإن الموافقة والمباركة العربية ستكون جاهزة تماماً لفعل الشيء نفسه.

فهل نسيت الذاكرة العربية ـ ودوماً الذكرى تنفع ـ الدور المشين من وجهة نظر الضمير الإنساني والتاريخ، والذي هو في الوقت ذاته الدور العقلاني المميز الذي لا ينطق عن الهوى من وجهة نظر الأنظمة الممالئة وأبواقها الإعلامية. هل نسيت هذه الذاكرة ما قام به حسين باي حاكم تونس، عندما وقف موقف الحياد الميَّال إلى فرنسا أثناء عملية احتلالها للجزائر عام 1830م، فردَّ دُعاة الجهاد الذين قدموا إليه من الجزائر ـ وربما يكون قد اتهمهم آنذاك بمساعدة الإرهابيين الجزائريين في مقاومتهم للاحتلال الفرنسي.

وقد تأكد موقف الباي المتحيز للفرنسيين لمَّا أسرع بإرسال وفدٍ إلى الجزائر لتهنئة المارشال "بورمون" قائد الحملة بانتصاره على جيرانه الجزائريين، ويبدو أن الباي كان متلهفاً على هذه التهنئة لتقديم يمين الولاء لفرنسا، حتى أن الوفد التونسي وصل للجزائر قبل أن يتمَّ المارشال انتصاره في 5 تموز (يوليه) 1830.

ترى هل موقف الأنظمة العربية المعاصرة لِما يدور في منطقتنا يختلف كثيراً عن موقف حسين باي في القرن التاسع عشر؟ أترك للقارئ الكريم حرية التقدير.

ثانياً ـ كان الدب السوفيتي المترهل مبكراً، والذي كان قد ورِث عام 1917م أملاك قياصرة روسيا العظام في حالة النزع الأخير عام 1991، وهذا ما أدى إلى تدعيم الموقف الأمريكي في المنطقة، خاصةً وأن السوفيت لم يبذلوا كثير عناء لوقف تدهورهم الجارف في المنطقة، وبالتالي تحجيم الدور الأمريكي، كما كان للسقوط المدوي للأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية أثرٌ بارز في فرض الهيمنة الأمريكية شبه المطلقة على معظم دول العالم.

فالدول التي قاومت سياسة التوسع الأمريكية، كان لا بد للجانب الأمريكي من استخدام عملية الجراحة التقليدية تجاهها، فأدوات هذه الجراحة غالباً ما تكون شفراتها حادة حسب التوصيف المسبق والمقترح للحالة المراد إجراء الجراحة لها، كما أن الطبيب الماهر الذي سيقوم بالمهمة المطلوبة لا بد من مضاء مخالبه لكي يسهل عليه غرسها في قلب المريض لاستئصال ما علِقَ به من حقدٍ وكراهية لكل ما هو أمريكي.

والحقيقة أن هذا النوع من الجراحة التقليدية التي أجرتها الولايات المتحدة ضد كل من أفغانستان والعراق بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، كان لا بد منها من المنظور الأمريكي، حتى لا تسول فيما بعد نفس الآخرين مقاومة توسعها في المنطقة؛ لذا كان لا بد للجراحة أن تكون قاسية ومؤلمة قدر الإمكان، وان يتم تصويرها بشكلٍ دراماتيكي.

وفي أحيانٍ أخرى تُستخدم وسيلة أخرى أكثر نجاعةً، وهي في الغالب ما تتبعها السياسة الأمريكية تجاه الدول المترددة في تقديم يمين الولاء لسياساتها. هذه الوسيلة عبارة عن عملية المنظار الطبي المريح، وهو ما يُتبع حالياً في لبنان وسوريا ومصر والسودان والسعودية واليمن.

لاحظ الآن التقلبات السياسية المتلاحقة في لبنان بعد اغتيال رئيس وزرائها الأسبق رفيق الحريري، واتهام سوريا بالوقوف وراءها، فالقارئ يلاحظ الآن انضمام أسرة الحريري ذات الثِقل السياسي والاقتصادي إلى جانب المعارضة اللبنانية ذات التوجهات المشبوهة، وعودة العماد ميشيل عون إلى لبنان رغم صدور قرار قضائي بإيقافه، ويلاحظ المحاولات الدؤوبة لإطلاق سراح سمير جعجع زعيم حزب الكتائب اللبنانية الملوثة يداه بدماء اللبنانيين المسلمين والفلسطينيين، وما يُثار من مطالبة بنزع سلاح المقاومة والمقصود سلاح حزب الله بالطبع. والهدف غير المعلن من وراء ذلك كله فرض هيمنة سياسية أمريكية على لبنان وسوريا، بمباركة فرنسية، حيث سيكون لفرنسا نصيبٌ من الكعكة اللبنانية والسورية مقابل ما حصلت عليه بريطانيا من الكعكة العراقية.

أما مصر، فبالإمكان ملاحظة موجة التفجيرات الأخيرة في طابا وأهم المناطق السياحية في القاهرة من جهة، وكثرة المظاهرات ذات الطابع السياسي التي أخذت صورة الديمومة، على الأقل أسبوعياً من جهةٍ أخرى، ثم لاحظ تقرير لجنة الحريات الأمريكي الذي أعلن أن أقباط مصر لم يحصلوا بعد على حقوقهم الكاملة، وأنه يجب إلغاء مصطلح الديانة من بطاقة الهوية المصرية ... الخ. هذا كله توطئة للتدخل الأمريكي غير المباشر في الشؤون المصرية والذي سيتطور طبقاً للمعطيات والمتغيرات، لكن حسب خطة مُعدة ومدروسة سلفاً في أروقة وزارة الخارجية وأجهزة الاستخبارات الأمريكية، ولن نستغرب كثيراً إذا ما تمَّ إحياء فكرة إقامة دولة قبطية في الجنوب المصري ـ أي صعيد مصر.

والسودان بوابة العرب إلى أدغال أفريقيا، أحكمت السياسة الأمريكية مخالبها فيه ولا فكاك منها، فالسودان بالذات لا بد من تجزئته إلى دويلات متناثرة متناحرة لضرب الأمن القومي المصري في الصميم من ناحية، ولتركيع نظامها من ناحيةٍ أخرى بعد أن يتم توزيع حصص مياه نهر النيل بين الدويلات السودانية المقترحة، ثمَّ حصول مصر فيما بعد على كميات محدودة من المياه لا تكفي الزيادة المطردة لسكانها، الأمر الذي تحاول الحكومة المصرية تفاديه بشتى السبل، فالاتفاق الذي تمَّ إبرامه مؤخراً بين حكومة الخرطوم ومتمردي الجنوب بمباركة أمريكية، يعتبر إرهاصاً لإقامة دولة مستقلة في الجنوب في القريب المنظور. والاضطرابات القائمة حالياً في إقليم دارفور غربي السودان يُمهد لعقد اتفاقٍ مماثل سيؤدي لاحقاً إلى استقلال هذا الإقليم عن الوطن الأم، وقريباً سيتم الإعلان عن اضطراباتٍ أخرى في شرق السودان، خاصةً المناطق المحاذية للبحر الأحمر الحيوي، لكي يصبح هذا البحر فيما بعد بحيرة أمريكية خالصة ـ بعدما عجز البرتغاليون في القرن السادس عشر في فرض هيمنتهم عليه- فيصبح العرب بذلك عاجزين عن حفظ أمنهم القومي في الدول المطلة على سواحله.

هذا البحر ـ أي البحر الأحمر ـ الذي كان خلال فترة الحكم العثماني للمنطقة العربية، بحيرة إسلامية خالصة، غير مسموح للسفن الأجنبية بالإبحار فيه، حتى سمح شيخ البلد في مصر (أي حاكمها) علي بك الكبير المملوكي للسفن الإنكليزية بدخوله عام 1771م، قادمةً من مستعمراتها الهندية بعد الاتفاق الذي أبرمه مع السير "وارن هاستنجز" حاكم الهند البريطانية.

والأصابع الأمريكية ليست بخافية عما يحدث في المملكة العربية السعودية من تفجيراتٍ وأعمال عنف. قد لا تكون هذه الأصابع وراء التفجيرات المذكورة، لكنها تغذيها بطرقٍ أخرى، ليتم تطويع نظام الحكم السعودي أكثر ويصير أكثر سلاسةً في تعامله مع السياسات الأمريكية، تمهيداً لتجزئة المملكة إلى إماراتٍ قبلية صغيرة يسهل قيادتها كما تشاء ووقتما تشاء.

والأمر نفسه ينطبق على اليمن، فالمخطط الأمريكي لن يكون قاصراً على تجزئة اليمن إلى يمنين كما كان الحال حتى مطلع التسعينات من القرن المنصرم، بل قد يصل الأمر إلى تجزئته إلى يمنٍ ثالث في منطقة حضر موت التي يشتهر سكانها بتفوقهم الاقتصادي.

هذه الأمور السالفة الذكر، تعالجها الإدارة الأمريكية الحالية برويةٍ وباستخدام جراحة مبسطة يُطلق عليها في العُرف الطبي بالمنظار الطبي، لتفادي إلحاق خسائر بشرية فادحة بقوتها العسكرية. ونجاح هذه الجراحة أو فشلها يتوقف على تدارك الأنظمة العربية للمخاطر المحيقة والمحيطة بها، فهل يفعلون ؟

إن الدارس للتاريخ الإسلامي سواء عشية الحروب الصليبية أو ما تلاها، يدرك أن حكام الإمارات الإسلامية في الشام والدولة الفاطمية في مصر لم يستوعبوا حجم المخاطر التي حاقت بهم إلاَّ بعد فوات الأوان، وبعد أن فقدت دويلاتهم استقلالها، بفضل سلبيتهم من جهة، وتآمرهم ضد بعضهم البعض وتعاونهم مع المحتل الأجنبي ضد بني جلدتهم من جهةٍ أخرى.

ولا يغيب عن بالنا تشابه السياسة الأمريكية الحالية مع السياسة التي انتهجتها من قبل الإمبراطورية الرومانية، التي حكمت الشام ومصر وشمال أفريقيا بالبطش والإرهاب وإقامة القواعد العسكرية بمعزلٍ عن المناطق السكانية المأهولة، لأن الغرض منها لم يكن خدمة أهالي البلاد بقدر ما كان هدفه خدمة الآلة العسكرية في تحقيق المكاسب، ففشلت بعد أن عجزت عن كسب ودَّ الأهلين تجاه سياساتها تلك. وهذا ما نلاحظه الآن من كره الجماهير العربية للسياسة الأمريكية، التي تحاول بكل ما أُتيت من حيلة في إنجاح تسويق سياستها في المنطقة، وبالأخص فرض ديمقراطية مشوهة ممسوخة بينهم، هم في غنى عنها، لأنهم لم يعتادوها من قبل.

والواقع إن السياسة التوسعية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، ليست ناتجة من رغبة الولايات المتحدة في الاستحواذ على خيرات المنطقة بقدر ما تعود لرغبة دفينة في تحطيم بقايا حضارة لا زال العرب متمسكون بها، متمثلة في الجانب الروحي منها، فالولايات المتحدة دولة استعمارية ثرية أساساً، ليست بحاجة لقمح مصر وشمال أفريقيا كما كان حال الرومان سابقاً. فلا عجب إذن مما نراه الآن من كثرة انتشار المحطات الفضائية التي تدعو إلى الانحطاط والرذيلة، لِتُفقد الأمة آخر مقوماتها الحضارية، وبالتالي تسبح هذه الأمة في المستنقع الذي أُعِدَّ لها بإحكام.

وخلاصة القول، إن الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة بحكومتها اليمينية المتطرفة والتي تتبنى النهج الصهيوـ مسيحي، قارئة جيدة للتاريخ، بارعة في تحليل وتكيف فلسفته وما يتفق مع غاياتها الطموحة في التوسع وإقناع الآخرين بمزاياه، وما الديمقراطية الأمريكية التي بدأت بتطبيقها في المنطقة إلاَّ جزءٌ من هذه الغايات التي لن تقف عند هذا الحد. كما إن صُنّاع القرار الأمريكي لم ينسوا قط أن أجدادهم الأُول الذين وفدوا إلى الولايات المتحدة كانوا يحملون معهم الإرث الأوروبي من عِشقٍ لسياسة التوسع واستعمار الآخرين، وما كانت الجملة العابرة التي ظهرت عرضاً في خطاب الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش بعد أحداث 11 سبتمبر، بأن الحروب الصليبية قد عادت، إلاَّ تنفيس لهذه الروح المحتقنة داخله، وإن حاول المطبخ السياسي الأمريكي التخفيف فيما بعد من غلواء هذه الجملة والتقليل من شأنها، لكنها دون شك تُعبّر بجلاءٍ متناهٍ وصادق عن الإرث الذي بقي دفين أجيالٍ من الأمريكيين، وعلى الأخص ذوي الأصول الأنجلو-سكسونية.