حول الدور الأمريكي في الحراك المعارض في الدول الموالية
مرسل: الثلاثاء ديسمبر 18, 2012 10:13 pm
قبل حوالي عام من الثورات العربية، والحديث يدور بالتحديد عن الثورات العربية في الأنظمة الموالية للولايات المتحدة، وليس عن غيرها، نشر موقع “سويس إنفو” Swiss Info الرسمي السويسري في 26/2/2010 تقريراً بالعربية يضم ملخصاً لدراسة أمريكية بعنوان “دعم الديموقراطية ضروري للمصالح الأمنية”، مع لقاءات مع الأمريكيين الثلاثة الذين وضعوا تلك الدراسة، وهم د. دانييال برومبيرغ (اليهودي)، والبروفسور لاري دايموند، وفوكوياما صاحب “نهاية التاريخ”… وقد صدرت الدراسة عن “معهد السلام” الرسمي الأمريكي الذي أنشأه الكونغرس الأمريكي عام 1984 لدراسة حل النزاعات، وله برامج تدريبية ونشاطات في ثلاثين دولة حول العالم. والدراسة المذكورة للمعهد موجهة للرئيس الأمريكي باراك أوباما والمؤسسة الحاكمة. وهي موجودة بالعربية على الرابط التالي:
http://www.swissinfo.ch/ara/detail/cont ... id=8298350
ونقدم فيما يلي بتصرف أهم ما تمخضت عنه تلك الدراسة كما جاءت في تقرير موقع “سويس إنفو”، ونكرر أنها وضعت قبل عام من الحراك الشعبي في تونس ومصر تقريباً:
1) أن الأنظمة المتعاونة مع الولايات المتحدة في المنطقة العربية يجب أن تتم إعادة إنتاجها بصيغة ديموقراطية، لأن وضعها الحالي يجعلها فاقدة للمشروعية والتأييد الشعبي، مما يتركها ويترك المصالح الأمريكية معها في حالة من عدم الاستقرار.
2) أن المواطن العربي يربط بين السياسات القمعية لتلك الأنظمة وبين تحالفها مع الولايات المتحدة، مما يزيد منسوب العداء للولايات المتحدة في الشارع العربي، وبالتالي يجب أن تسعى الولايات المتحدة للضغط جدياً على الأنظمة الموالية لها للقيام بإصلاحات حقيقية باتجاه الليبرالية السياسية، ولانتقادها علناً عندما تنتهك حقوق الإنسان، ولاستخدام الدبلوماسية العامة والخاصة لفرض التحول الديموقراطي.
3) أن الصراع العربي-”الإسرائيلي”، كأحد مصادر النقمة الشعبية العربية على الولايات المتحدة، وكأحد ذرائع الأنظمة لإعاقة “التحول الديموقراطي”، يجب أن يتم العمل على تسويته بالتوازي مع الضغط باتجاه فرض “التغيير الديموقراطي”.
4) وهناك توصيات بالدراسة تتعلق بكل من مصر والأردن واليمن والمغرب ولبنان (ويبدو أن الاستحقاق السعودي مؤجل إلى حين).
وقد رأينا أكثر من دراسة أمريكية بهذا الاتجاه قبل انفجار الثورات الشعبية العربية، كانت تبدو كدعاية إعلامية للسياسة الأمريكية ليس إلا، فبات من الضروري اليوم العودة لتلك الدراسات على ضوء تخلي الولايات المتحدة عن الحكام الذين دعمتهم على مدى عقود، وعلى ضوء عدم عناية الثورات الشعبية العربية حتى الآن للأسف بالتناقض المركزي مع الإمبريالية والصهيونية، لا بل على ضوء الدعم المباشر لحلف الناتو أو مجلس التعاون الخليجي للحراك الجاري في ليبيا وسوريا بالتوالي…
ونحن لا نقول أن الحراك الشعبي والشبابي في تونس ومصر هو من إنتاج الولايات المتحدة، كما تذهب بعض التقارير الروسية، وحتى الأمريكية، ومنها مثلاً تقرير النيويورك تايمز في 14/4/2011 الذي يحمل عنوان “مجموعات من الولايات المتحدة ساعدت على تغذية الانتفاضات العربية”. ويسلط ذلك التقرير الضوء على برامج التدريب والتمويل والرعاية التي قدمتها واشنطن للنشطاء “الديموقراطيين” في الوطن العربي خلال السنوات المنصرمة، وهو مترجم للعربية ومنشور على موقع الصوت العربي الحر لمن يرغب. وهنالك أيضاً مادة مجلة نيوزويك الأمريكية في 1/2/2011: “مدرسة وزارة الخارجية الأمريكية للمدونين الثوريين” التي تحدثت عن دور برامج تدريب المدونين في تعبئة الحراك الشبابي في مصر، وفي كولومبيا وفنزويلا ضد الفارك وشافيز.
وبالنسبة للروس، هنالك مثلاً تقرير “الدور الأمريكي في الثورات العربية: تعبئة الاحتجاج من خلال الديبلوماسية العامة والشبكات الاجتماعية”، وهو تقرير من عشرين صفحة نشر باللغة الروسية على موقع “مركز بيترسبرغ لدراسات الشرق الأدنى المعاصر”، وقد صدر منه ملخص بالإنكليزية في 31/3/2011 على موقع “الإعلام الرابع” الصيني، وقد قمنا بترجمة التلخيص ونشره أيضاً في “السبيل” في 7/4/2011. ويظهر التقرير الروسي أن الروس ذهبوا مبكراً، منذ بداية الحراك الشعبي العربي، إلى اعتباره نتاجاً مباشراً ل”مبادرة الشراكة الشرق أوسطية” التي أشرفت على 350 برنامجاً منذ عام 2001 تحت إدارة الخارجية الأمريكية، وخضع عشرات آلاف المواطنين العرب من خلاله للتدريب و”التشبيك” والتعبئة السياسية باستخدام وسائل الاتصال الحديثة.
ولكن، على عكس ما يذهب إليه التقرير الروسي وغيره، ليس من المعقول أن تتمكن الولايات المتحدة من إنتاج ثورات مليونية في الوطن العربي، بل ثمة عوامل داخلية حقيقية للثورة، والشعب العربي ليس ألعوبة بيد الولايات المتحدة كحكامه، ولا من المعقول أن تجرؤ أمريكا على إطلاق مثل تلك الثورات ولو افترضنا جدلاً أنها قادرة على ذلك – والحديث يدور هنا فقط عن إطلاقها في حضن الأنظمة التابعة لها، والحكام الذين استنفذوا فعاليتهم، وباتوا يشكلون عبئاً عليها.
لذلك أرى أن تقرير النيويورك تايمز المتبجح أن الولايات المتحدة أسهمت بإطلاق الثورات الشعبية العربية، وتقارير الروس التي تتعامل مع كل تلك الثورات، بلا تمييز، كنتاج لجهود الإدارة الأمريكية، هو أمر يجانب الصواب في حالة الأنظمة الموالية للولايات المتحدة، والاختراق المكثف وبرامج التدريب والتمويل والرعاية وتأسيس الشبكات لا يعني أن ذلك هو ما أنتج الثورات.
والثورات لها ديناميات خاصة بها، ويمكن بسهولة أن تذهب باتجاهات لا تستطيع واشنطن أن تسيطر عليها بعد انفجارها، وانهيار سلطة القوى الأمنية ونزول الملايين إلى الشارع أمر غير مأمون العواقب بالنسبة للولايات المتحدة، ولهذا وضعوا أيديهم على قلوبهم في الأيام الأولى للثورة.
على العكس، فإن الأقرب للمنطق هو أن الأمريكيين والأوروبيين كانوا، وما برحوا، يراقبون بدقة مدى تراكم النقمة عند المواطن العربي، وكل التطورات السياسية في بلادنا، وبما أنهم وصلوا لاستنتاج أن مصالحهم أصبحت في خطر لأن الأنظمة التي يعتمدون عليها تفتقد للمشروعية والمصداقية وباتت معرضة للانهيار، فقد وضعوا خططهم منذ البداية لاختراق تلك الثورات (أو أي حراك سياسي)، وأسسوا الشبكات “الديموقراطية” للمشاركة فيها لتوجيهها بالاتجاه الذي يرغبونه عند قيامها.
ويبدو أن الإمبريالية تعلمت دروس الثورات الشعبية أكثر منا بكثير، ففي غياب حركات سياسية ثورية منظمة تقودها، وفي غياب مرجعيات قيادية شعبية معترف بها وبوصلة سياسية واضحة وبرنامج سياسي تناضل تلك الحركات الثورية الغائبة لتعبئة الشعب به على مدى سنوات، يصبح من المنطقي الاستنتاج أن قيادة الحراك العفوي، ولو كان نقياً في البداية، ودوافعه وطنية صرف، ستؤول للقوى الأكثر تنظيماً واستعداداً وانتشاراً. ولهذا رأينا الحراك يبتعد في النهاية عن التناقض الرئيسي مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، ويركز على إعادة إنتاج الأنظمة الموالية “ديموقراطياً” (وعلى إغراق الأنظمة الممانعة بالتفكيك والتمرد المسلح)، بحيث تكون أنظمة تابعة ولكن مكتسِبة للمشروعية الشعبية والانتخابية. وهنا تمكنت الولايات المتحدة من الحراك.
وقد كتب عدة كتاب مصريين، مشهودٌ لهم بأنهم مع الثورة منذ البداية حتى النهاية، وضد حسني مبارك، مثل الأستاذ محمد عصمت سيف الدولة، ود. رفعت سيد أحمد، عن الجهود الأمريكية والأوروبية المنهجية والمنظمة لاختراق الحراك الشعبي والشبابي المصري، محذرين ومنبهين من خطورتها، ومنه مثلاً مقالة محمد عصمت سيف الدولة “الاختراق الغربي لشباب الثورة في مصر”، ومقالة د. رفعت سيد أحمد “انتبهوا يا شباب، الخارجية الفرنسية تخترق الثورة لتدميرها”، وهي مقالات تعالج حالات الاختراق بعد الثورة، بعد أن راحت تسير في العراء، ولكن ماذا عنها قبل الثورة؟ وما هو الدور الذي لعبته في الثورة؟ فذلك هو السؤال الذهبي.
إذن الثورة الشعبية والشبابية انطلقت من دوافع مشروعة بلا أدنى شك، ولكن بما أنها افتقدت منذ البداية للتنظيم والقيادة الثورية، وللبرنامج الثوري، فأن الطاقة الثورية للجماهير تبددت في قنوات المساومة والانتهازية والاختراق والتجيير، وبالتالي افتقدت للقدرة على التصدي للمسائل السياسية التي تطرحها حركة الواقع على مستوى إستراتيجي، والأهم، للقدرة على توجيه الدفة لمصلحة الوطن.
إن ما تحقق في مصر وتونس عظيم حقاً، ولكنه لم يذهب إلى أقصى مداه، ولا حتى إلى ربع الطريق في التغيير، بسبب عدم وجود طليعة ثورية تقود الحراك بالاتجاه الصحيح، فانتهى به الأمر إلى إنتاج تغيير ديكور شكلي “دستوري” و”ديموقراطي” على مستوى قطري، ولم يتصدى لأهم القضايا، وهي التبعية والاحتلال والتجزئة وطبيعة النظام الاقتصادي-الاجتماعي حتى ضمن حدود القطر. فكانت النتيجة إعادة إنتاج التبعية برداء جديد، أكثر قبولاً لدى الشعب، وأكثر معاصرة للقرن الحادي والعشرين.
أخيراً، ثمة بُعد أخر في إدارة الولايات المتحدة للعلاقة مع حراك الشارع، وهنا نشير إلى تحليل إخباري صدر عن وكالة الصحافة الفرنسية من بغداد في 28/3/2011 بعنوان “الغرب يتخلى عن الأنظمة التقليدية لصالح علاقات مع الشارع الإسلامي”. وقد ذكر ذلك التقرير، فيما ذكره عن تقرب واشنطن من الإسلاميين، أن واشنطن دأبت على تشجيع مصر وغيرها على الاقتداء بالنموذج التركي الذي يحكم فيه إسلاميون يحتكمون للديموقراطية والانتخابات وتداول السلطة… (والمعاهدات الدولية والعلاقات مع العدو الصهيوني والانخراط في حلف الناتو والمشاركة في العدوان على أفغانستان وليبيا الخ…).
وذكر ذلك التقرير أيضاً أن الحركات الإسلامية شاركت في الحراك الشعبي متأخرة، لكنها عادت لتحتل فيه موقع الصدارة مع الشباب “الديموقراطيين”. ويذكر أن هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية قد صرحت في 24/2/2011 أن الولايات المتحدة لا تمانع وصول الإسلاميين للحكم في مصر، ما داموا يلتزمون ب….. (ويستطيع القارئ أن يملأ الفراغ)، وقد جاء ذلك في نفس المؤتمر الصحفي الذي دافعت فيه عن استخدام وزارة الخارجية الأمريكية لحق “الفيتو” في الأمم المتحدة ضد قرار يدين التوسع الإستيطاني الصهيوني في فلسطين في مجلس الأمن الدولي.
والعبرة هي أن واشنطن لا تمانع بالتعاون مع وبتوظيف أي طرف يخدم مصالحها، كما تتعاون مع المملكة العربية السعودية في ليبيا اليوم، ومعها في لبنان منذ سنوات، وكما تعاونت قبل ذلك مع قوى إسلامية في أفغانستان، وفي العراق، وقد ذكر موقع دبيكا الصهيوني في 9/5/2011 أن إدارة أوباما تبنت توجهاً للتفاهم مع الإسلاميين في المنطقة على حساب الأنظمة ضمن نفس السياق المذكور أعلاه، وهي الفكرة التي عززتها بشكل أو بأخر محاضرة مائير داغان، رئيس الموساد السابق، في الجامعة العبرية بالقدس (أنظر العرب اليوم 10/5/2011).
المهم، تشهد منطقتنا اصطفافاً جديداً للقوى اليوم، وعلى الجميع أن يجد مكانه فيه، وعلى الإسلاميين واليساريين و”الديموقراطيين” المنخرطين في لعبة “التغيير” أن يحذروا جيداً من مخاطر الانزلاق إلى المعسكر الأخر تحت إغراء جائزة السلطة. فالديموقراطية والحركات الدستورية التي تكرس التبعية وتعيد إنتاجها هي جزء من معسكر أعداء الأمة، تماماً مثل التدخل الأجنبي وأعوانه، ولا تهم نكهة الخطاب العقائدي لمن يحكم ما دامت التبعية للإمبريالية قائمة. فالصراع سيأخذ أشكالاً جديدة في ظل تحالفات جديدة، إقليمياً ومحلياً في كل قطر، وها هو يُبرِز قوى جديدة كل يوم، وأدواراً جديدة لقوى قديمة، لكن التناقض الرئيسي الذي ينتج كل ذلك يبقى كما هو: التناقض مع الطرف الأمريكي-الصهيوني ومشاريع الهيمنة بأشكالها.
http://www.swissinfo.ch/ara/detail/cont ... id=8298350
ونقدم فيما يلي بتصرف أهم ما تمخضت عنه تلك الدراسة كما جاءت في تقرير موقع “سويس إنفو”، ونكرر أنها وضعت قبل عام من الحراك الشعبي في تونس ومصر تقريباً:
1) أن الأنظمة المتعاونة مع الولايات المتحدة في المنطقة العربية يجب أن تتم إعادة إنتاجها بصيغة ديموقراطية، لأن وضعها الحالي يجعلها فاقدة للمشروعية والتأييد الشعبي، مما يتركها ويترك المصالح الأمريكية معها في حالة من عدم الاستقرار.
2) أن المواطن العربي يربط بين السياسات القمعية لتلك الأنظمة وبين تحالفها مع الولايات المتحدة، مما يزيد منسوب العداء للولايات المتحدة في الشارع العربي، وبالتالي يجب أن تسعى الولايات المتحدة للضغط جدياً على الأنظمة الموالية لها للقيام بإصلاحات حقيقية باتجاه الليبرالية السياسية، ولانتقادها علناً عندما تنتهك حقوق الإنسان، ولاستخدام الدبلوماسية العامة والخاصة لفرض التحول الديموقراطي.
3) أن الصراع العربي-”الإسرائيلي”، كأحد مصادر النقمة الشعبية العربية على الولايات المتحدة، وكأحد ذرائع الأنظمة لإعاقة “التحول الديموقراطي”، يجب أن يتم العمل على تسويته بالتوازي مع الضغط باتجاه فرض “التغيير الديموقراطي”.
4) وهناك توصيات بالدراسة تتعلق بكل من مصر والأردن واليمن والمغرب ولبنان (ويبدو أن الاستحقاق السعودي مؤجل إلى حين).
وقد رأينا أكثر من دراسة أمريكية بهذا الاتجاه قبل انفجار الثورات الشعبية العربية، كانت تبدو كدعاية إعلامية للسياسة الأمريكية ليس إلا، فبات من الضروري اليوم العودة لتلك الدراسات على ضوء تخلي الولايات المتحدة عن الحكام الذين دعمتهم على مدى عقود، وعلى ضوء عدم عناية الثورات الشعبية العربية حتى الآن للأسف بالتناقض المركزي مع الإمبريالية والصهيونية، لا بل على ضوء الدعم المباشر لحلف الناتو أو مجلس التعاون الخليجي للحراك الجاري في ليبيا وسوريا بالتوالي…
ونحن لا نقول أن الحراك الشعبي والشبابي في تونس ومصر هو من إنتاج الولايات المتحدة، كما تذهب بعض التقارير الروسية، وحتى الأمريكية، ومنها مثلاً تقرير النيويورك تايمز في 14/4/2011 الذي يحمل عنوان “مجموعات من الولايات المتحدة ساعدت على تغذية الانتفاضات العربية”. ويسلط ذلك التقرير الضوء على برامج التدريب والتمويل والرعاية التي قدمتها واشنطن للنشطاء “الديموقراطيين” في الوطن العربي خلال السنوات المنصرمة، وهو مترجم للعربية ومنشور على موقع الصوت العربي الحر لمن يرغب. وهنالك أيضاً مادة مجلة نيوزويك الأمريكية في 1/2/2011: “مدرسة وزارة الخارجية الأمريكية للمدونين الثوريين” التي تحدثت عن دور برامج تدريب المدونين في تعبئة الحراك الشبابي في مصر، وفي كولومبيا وفنزويلا ضد الفارك وشافيز.
وبالنسبة للروس، هنالك مثلاً تقرير “الدور الأمريكي في الثورات العربية: تعبئة الاحتجاج من خلال الديبلوماسية العامة والشبكات الاجتماعية”، وهو تقرير من عشرين صفحة نشر باللغة الروسية على موقع “مركز بيترسبرغ لدراسات الشرق الأدنى المعاصر”، وقد صدر منه ملخص بالإنكليزية في 31/3/2011 على موقع “الإعلام الرابع” الصيني، وقد قمنا بترجمة التلخيص ونشره أيضاً في “السبيل” في 7/4/2011. ويظهر التقرير الروسي أن الروس ذهبوا مبكراً، منذ بداية الحراك الشعبي العربي، إلى اعتباره نتاجاً مباشراً ل”مبادرة الشراكة الشرق أوسطية” التي أشرفت على 350 برنامجاً منذ عام 2001 تحت إدارة الخارجية الأمريكية، وخضع عشرات آلاف المواطنين العرب من خلاله للتدريب و”التشبيك” والتعبئة السياسية باستخدام وسائل الاتصال الحديثة.
ولكن، على عكس ما يذهب إليه التقرير الروسي وغيره، ليس من المعقول أن تتمكن الولايات المتحدة من إنتاج ثورات مليونية في الوطن العربي، بل ثمة عوامل داخلية حقيقية للثورة، والشعب العربي ليس ألعوبة بيد الولايات المتحدة كحكامه، ولا من المعقول أن تجرؤ أمريكا على إطلاق مثل تلك الثورات ولو افترضنا جدلاً أنها قادرة على ذلك – والحديث يدور هنا فقط عن إطلاقها في حضن الأنظمة التابعة لها، والحكام الذين استنفذوا فعاليتهم، وباتوا يشكلون عبئاً عليها.
لذلك أرى أن تقرير النيويورك تايمز المتبجح أن الولايات المتحدة أسهمت بإطلاق الثورات الشعبية العربية، وتقارير الروس التي تتعامل مع كل تلك الثورات، بلا تمييز، كنتاج لجهود الإدارة الأمريكية، هو أمر يجانب الصواب في حالة الأنظمة الموالية للولايات المتحدة، والاختراق المكثف وبرامج التدريب والتمويل والرعاية وتأسيس الشبكات لا يعني أن ذلك هو ما أنتج الثورات.
والثورات لها ديناميات خاصة بها، ويمكن بسهولة أن تذهب باتجاهات لا تستطيع واشنطن أن تسيطر عليها بعد انفجارها، وانهيار سلطة القوى الأمنية ونزول الملايين إلى الشارع أمر غير مأمون العواقب بالنسبة للولايات المتحدة، ولهذا وضعوا أيديهم على قلوبهم في الأيام الأولى للثورة.
على العكس، فإن الأقرب للمنطق هو أن الأمريكيين والأوروبيين كانوا، وما برحوا، يراقبون بدقة مدى تراكم النقمة عند المواطن العربي، وكل التطورات السياسية في بلادنا، وبما أنهم وصلوا لاستنتاج أن مصالحهم أصبحت في خطر لأن الأنظمة التي يعتمدون عليها تفتقد للمشروعية والمصداقية وباتت معرضة للانهيار، فقد وضعوا خططهم منذ البداية لاختراق تلك الثورات (أو أي حراك سياسي)، وأسسوا الشبكات “الديموقراطية” للمشاركة فيها لتوجيهها بالاتجاه الذي يرغبونه عند قيامها.
ويبدو أن الإمبريالية تعلمت دروس الثورات الشعبية أكثر منا بكثير، ففي غياب حركات سياسية ثورية منظمة تقودها، وفي غياب مرجعيات قيادية شعبية معترف بها وبوصلة سياسية واضحة وبرنامج سياسي تناضل تلك الحركات الثورية الغائبة لتعبئة الشعب به على مدى سنوات، يصبح من المنطقي الاستنتاج أن قيادة الحراك العفوي، ولو كان نقياً في البداية، ودوافعه وطنية صرف، ستؤول للقوى الأكثر تنظيماً واستعداداً وانتشاراً. ولهذا رأينا الحراك يبتعد في النهاية عن التناقض الرئيسي مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، ويركز على إعادة إنتاج الأنظمة الموالية “ديموقراطياً” (وعلى إغراق الأنظمة الممانعة بالتفكيك والتمرد المسلح)، بحيث تكون أنظمة تابعة ولكن مكتسِبة للمشروعية الشعبية والانتخابية. وهنا تمكنت الولايات المتحدة من الحراك.
وقد كتب عدة كتاب مصريين، مشهودٌ لهم بأنهم مع الثورة منذ البداية حتى النهاية، وضد حسني مبارك، مثل الأستاذ محمد عصمت سيف الدولة، ود. رفعت سيد أحمد، عن الجهود الأمريكية والأوروبية المنهجية والمنظمة لاختراق الحراك الشعبي والشبابي المصري، محذرين ومنبهين من خطورتها، ومنه مثلاً مقالة محمد عصمت سيف الدولة “الاختراق الغربي لشباب الثورة في مصر”، ومقالة د. رفعت سيد أحمد “انتبهوا يا شباب، الخارجية الفرنسية تخترق الثورة لتدميرها”، وهي مقالات تعالج حالات الاختراق بعد الثورة، بعد أن راحت تسير في العراء، ولكن ماذا عنها قبل الثورة؟ وما هو الدور الذي لعبته في الثورة؟ فذلك هو السؤال الذهبي.
إذن الثورة الشعبية والشبابية انطلقت من دوافع مشروعة بلا أدنى شك، ولكن بما أنها افتقدت منذ البداية للتنظيم والقيادة الثورية، وللبرنامج الثوري، فأن الطاقة الثورية للجماهير تبددت في قنوات المساومة والانتهازية والاختراق والتجيير، وبالتالي افتقدت للقدرة على التصدي للمسائل السياسية التي تطرحها حركة الواقع على مستوى إستراتيجي، والأهم، للقدرة على توجيه الدفة لمصلحة الوطن.
إن ما تحقق في مصر وتونس عظيم حقاً، ولكنه لم يذهب إلى أقصى مداه، ولا حتى إلى ربع الطريق في التغيير، بسبب عدم وجود طليعة ثورية تقود الحراك بالاتجاه الصحيح، فانتهى به الأمر إلى إنتاج تغيير ديكور شكلي “دستوري” و”ديموقراطي” على مستوى قطري، ولم يتصدى لأهم القضايا، وهي التبعية والاحتلال والتجزئة وطبيعة النظام الاقتصادي-الاجتماعي حتى ضمن حدود القطر. فكانت النتيجة إعادة إنتاج التبعية برداء جديد، أكثر قبولاً لدى الشعب، وأكثر معاصرة للقرن الحادي والعشرين.
أخيراً، ثمة بُعد أخر في إدارة الولايات المتحدة للعلاقة مع حراك الشارع، وهنا نشير إلى تحليل إخباري صدر عن وكالة الصحافة الفرنسية من بغداد في 28/3/2011 بعنوان “الغرب يتخلى عن الأنظمة التقليدية لصالح علاقات مع الشارع الإسلامي”. وقد ذكر ذلك التقرير، فيما ذكره عن تقرب واشنطن من الإسلاميين، أن واشنطن دأبت على تشجيع مصر وغيرها على الاقتداء بالنموذج التركي الذي يحكم فيه إسلاميون يحتكمون للديموقراطية والانتخابات وتداول السلطة… (والمعاهدات الدولية والعلاقات مع العدو الصهيوني والانخراط في حلف الناتو والمشاركة في العدوان على أفغانستان وليبيا الخ…).
وذكر ذلك التقرير أيضاً أن الحركات الإسلامية شاركت في الحراك الشعبي متأخرة، لكنها عادت لتحتل فيه موقع الصدارة مع الشباب “الديموقراطيين”. ويذكر أن هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية قد صرحت في 24/2/2011 أن الولايات المتحدة لا تمانع وصول الإسلاميين للحكم في مصر، ما داموا يلتزمون ب….. (ويستطيع القارئ أن يملأ الفراغ)، وقد جاء ذلك في نفس المؤتمر الصحفي الذي دافعت فيه عن استخدام وزارة الخارجية الأمريكية لحق “الفيتو” في الأمم المتحدة ضد قرار يدين التوسع الإستيطاني الصهيوني في فلسطين في مجلس الأمن الدولي.
والعبرة هي أن واشنطن لا تمانع بالتعاون مع وبتوظيف أي طرف يخدم مصالحها، كما تتعاون مع المملكة العربية السعودية في ليبيا اليوم، ومعها في لبنان منذ سنوات، وكما تعاونت قبل ذلك مع قوى إسلامية في أفغانستان، وفي العراق، وقد ذكر موقع دبيكا الصهيوني في 9/5/2011 أن إدارة أوباما تبنت توجهاً للتفاهم مع الإسلاميين في المنطقة على حساب الأنظمة ضمن نفس السياق المذكور أعلاه، وهي الفكرة التي عززتها بشكل أو بأخر محاضرة مائير داغان، رئيس الموساد السابق، في الجامعة العبرية بالقدس (أنظر العرب اليوم 10/5/2011).
المهم، تشهد منطقتنا اصطفافاً جديداً للقوى اليوم، وعلى الجميع أن يجد مكانه فيه، وعلى الإسلاميين واليساريين و”الديموقراطيين” المنخرطين في لعبة “التغيير” أن يحذروا جيداً من مخاطر الانزلاق إلى المعسكر الأخر تحت إغراء جائزة السلطة. فالديموقراطية والحركات الدستورية التي تكرس التبعية وتعيد إنتاجها هي جزء من معسكر أعداء الأمة، تماماً مثل التدخل الأجنبي وأعوانه، ولا تهم نكهة الخطاب العقائدي لمن يحكم ما دامت التبعية للإمبريالية قائمة. فالصراع سيأخذ أشكالاً جديدة في ظل تحالفات جديدة، إقليمياً ومحلياً في كل قطر، وها هو يُبرِز قوى جديدة كل يوم، وأدواراً جديدة لقوى قديمة، لكن التناقض الرئيسي الذي ينتج كل ذلك يبقى كما هو: التناقض مع الطرف الأمريكي-الصهيوني ومشاريع الهيمنة بأشكالها.