- الأربعاء ديسمبر 19, 2012 3:43 am
#58652
وفاء رسول الله بالعهد
معاهدات رسول الله مع اليهودعقد رسول الله المعاهدات بينه وبين كل الطوائف غير المسلمة في عصره، فكان وفيًّا بكل ما عاهدهم عليه امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]. ويُعَلِّق ابن كثير على هذه الآية قائلاً: "وهذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكَّدة"[1].
على هذه المبادئ سارت حياة رسول الله ، بل وربَّى أصحابه عليها، فقال رسول الله : مُعَلِّمًا إياهم قيمة الوفاء بالعهد: "مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَشُدُّ عُقْدَةً، وَلا يَحُلُّهَا، حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ"[2].
والوفاء بالعهد والمعاهدات واجب ديني يُحَاسَب عليه المسلم أمام ربه؛ وحول هذا المعنى يقول الشيخ محمود شلتوت مُبَيِّنًا قيمة المعاهدات عند المسلمين: "الوفاء بالمعاهدة واجب ديني، يُسأل عنه المسلم فيما بينه وبين الله، ويكون الإخلال بها غدرًا وخيانة"[3].
معاهدات رسول الله مع يهود المدينة
عقد رسول الله المعاهدة مع يهود المدينة بعد هجرته إليها مباشرة وفي أوائل أيامه بها؛ مما يدل دلالة قاطعة على فكره التعايش ورغبة رسول الله في مسالمة غير المسلمين، وقد جاء في نصوص المعاهدة ما يلي:
1- أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم[4].
2- وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
3- وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
4- وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
5- وأنه لا يأثم امرؤُ بحليفه.
6- وأن النصر للمظلوم.
7- وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
8- وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
9- وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله ، وإلى محمد رسول الله .
10- وأنه لا تُجَارُ قريشٌ ولا مَن نَصَرَهَا.
11- وأن بينهم النصر على من دَهَم يثرب.. على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلَهُمْ.
12- وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم[5].
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الموضع أن هذه الوثيقة لم تذكر يهود بني قينقاع ولا يهود بني النضير ولا يهود بني قريظة[6]؛ مع ما صحَّ من وقائع السيرة التي تُثْبِتُ أنه قد تمت معهم عهود ومواثيق أخرى غير هذه الوثيقة.
وتثبت هذه الوثيقة بما لا يدع مجالاً للشكِّ ما كانت عليه الدولة الإسلامية -وهي في هذه المرحلة الأولى من البناء والتأسيس- من حرية تامَّة، وإفساح للغير للمشاركة والمعايشة القائمة على احترام الآخر، كما يظهر ذلك من خلال القراءة المتأنية لبنود هذه الوثيقة أنها تقبل الآخر، وتشرع القوانين من أجله، ولأجل ما ينظِّم حياته بين أفراد المجتمع المسلم، ويحفظ له حقوقه ويرد عنه الظلم إن وقع عليه.
التعايش السلمي بين المسلمين واليهود
وقد حَرَصَ رسول الله والمسلمون -رغم ما واجهوه من صعوبات بالغة ومكائد متكررة- على استمرار تطبيق بنود هذه المعاهدة، فكان التعايش السلمي الآمن مع مَنْ يعيش من اليهود مع رسول الله والمسلمين هو سمة الحياة داخل المدينة؛ فبدأ التبادل التجاري بينهم حيث امتلأت أسواق اليهود في المدينة بالمسلمين، ومن أشهر أسواق اليهود سوق بني قينقاع. وإتمام عمليات البيع والشراء لا تتم إلا بين قوم يأمن بعضهم بعضًا، وقد كانت المرأة المسلمة تذهب بنفسها لتشتري من اليهود في سوقهم دون حرج؛ مما يدل على مدى ثقة المسلمين باليهود[7]، كما اشترى عثمان بن عفان بئر رومة[8] من يهودي.
كما كان رسول الله يخالط كل من يقيم بالمدينة، مسلمين وغير مسلمين، ويجلس معهم ويحدِّثهم ويحدِّثونه، ومما جاء في ذلك ما رواه عروة بن الزبير قال: أخبرني أسامة بن زيدٍ أنَّ النَّبيَّ ركب حمارًا عليه إكافٌ[9] تحته قطيفةٌ[10] فدكيَّةٌ[11]، وأردف وراءه أسامة بن زيدٍ[12]، وهو يعود سعد بن عبادة[13] في بني الحارث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدرٍ، حتَّى مرَّ في مجلسٍ فيه أخلاطٌ من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول، وفي المجلس عبد اللَّه بن رواحة، فلمَّا غشيت المجلس عجاجة الدَّابَّة[14] خمَّر[15] عبد اللَّه بن أبيٍّ أنفه بردائه، ثمَّ قال: لا تغبِّروا علينا. فسلَّم عليهم النَّبيُّ ، ثمَّ وقف فنزل فدعاهم إلى اللَّه، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول: أيُّها المرء، لا أحسن من هذا إن كان ما تقول حقًّا؛ فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منَّا فاقصص عليه.
قال عبد اللَّه بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا؛ فإنَّا نحبُّ ذلك. فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود، حتَّى همُّوا أن يتواثبوا، فلم يزل النَّبيُّ يخفِّضهم، ثمَّ ركب دابَّته، حتَّى دخل على سعد بن عبادة فقال: "أَيْ سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ (يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ) قَالَ: كَذَا وَكَذَا". قال: اعفُ عنه يا رسول اللَّه واصفح، فواللَّه لقد أعطاك اللَّه الَّذي أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحرة[16] -عند مسلم: البحيرة- على أن يتوِّجوه فيعصِّبونه[17] بالعصابة، فلمَّا ردَّ اللَّهُ ذلك بالحقِّ الَّذي أعطاك شَرِقَ[18] بذلك، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه النَّبيُّ "[19].
استفزاز اليهود لرسول الله بالمدينة
تهجمهم على رب العالمين
ورغم حرص رسول الله على التعايش السلمي مع اليهود في المدينة إلاَّ أن اليهود قاموا بأفعال مستفزَّة، لكن رسول الله كان يقابلها بسعة صدر كبيرة، وبحكمة بالغة. وسنكتفي هنا بذكر أمثلة من أفعال اليهود الاستفزازية؛ منها تهجُّمهم على رب العالمين، وهذه بمفردها كارثة تستوجب أشدَّ العقاب، ليس فقط لضعف إيمانهم، وإنكارهم الحق الذي يعرفونه؛ ولكن لأنهم بهذا التعدِّي يطعنون في المرجعية الأساسية للمسلمين؛ وبذلك فهم يحضُّون الناس على رفض التشريع الذي يحكمهم، وفي هذا فتنة كبيرة في المدينة، ومن ذلك ما نسبوه إلى رب العالمين I من الفقر، وفيهم أنزل الله : {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181][20].
تعديهم على رسول الله
وكذلك تعدِّيهم على رسول الله فقد كانوا يمرُّون عليه، ويَدْعُون عليه بالموت في وجهه، وهم يحاولون أن يُظهِروا عكس ذلك، فيقول أحدهم: السام عليك. والسام هو الموت، فلا يزيد رسول الله في ردِّه عليهم على قول: "وَعَلَيْكُمْ"[21]. بل وكان رسول الله يأمر الصحابة الذين يسمعون هذا الدعاء بأن يترفَّقُوا بالردِّ ولا يتفحَّشُوا في القول.
إثارة الشحناء بين المهاجرين والأنصار
ومن ذلك -أيضًا- تعدِّيهم على الأنبياء والقرآن وإثارة الشحناء بين المهاجرين والأنصار.. وغير ذلك، ولكن لو بقي حال اليهود على ما هو عليه لكان الأمر محتملاً ومقبولاً؛ ولكنهم تطاولوا أكثر من ذلك، وما زادهم حلم رسول الله إلاَّ جهلاً، فارتكبوا من الأمور ما لا يمكن احتماله، ومن ثَمَّ كان هذا نقضًا صريحًا للمعاهدة، يتعذَّر معه صفح، ويستحيل حياله تجاهل؛ فقد خالفت بنو قينقاع مخالفات جسيمة، بمراودة المرأة المسلمة على كشف وجهها، ثم التحايل على كشف عورتها، ثم الاجتماع القبلي على قتل رجل مسلم[22]، وخالفت بنو النضير بمحاولة صريحة لقتل رسول الله[23]، وكذلك خالفت بنو قريظة في محاولة أشد عنفًا وضراوةً تهدف إلى قتل واستباحة كل مَنْ في المدينة المنورة[24]!!
معاهدات رسول الله مع يهود خيبر
أمَّا معاهدة رسول الله مع يهود خيبر فقد تمَّت بعد حربهم، التي لم يلجأ إليها رسول الله إلاَّ بعد تأكُّده من أنها أصبحت ملاذًا لمن يريد التخطيط لهدم الدولة الإسلامية وتقويض بنيانها، فقد لجأ إليها سلامُ بن أبي الحقيق المعروف بأبي رافع، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وهم من أشراف بني النضير[25]، ومن ألدّ أعداء المسلمين، ومن الذين أجلاهم رسول الله من المدينة بعد ما اقترفوا من الجرائم، فبدأ يهود بنو النضير المقيمون بخيبر، ومن معهم من يهود خيبر وزعمائها بتأليب[26] المجتمع القَبَلي على المسلمين؛ فخرجت مجموعة من يهود خيبر ويهود بني النضير لتجميع الأحزاب المشركة بهدف حصار المسلمين، فكانت غزوة الأحزاب، التي تجمَّع فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل من المشركين؛ لإبادة المسلمين في المدينة، ولكن الله مَنَّ على المسلمين بنصره فيها، ولكن خيبر أصبحت بؤرة خطرٍ عظيمٍ على المسلمين؛ لذلك كان لا بُدَّ من تأديبهم، ومحاسبتهم على بعض ما اقترفوا من جرائم في حقِّ الدولة الإسلامية.
فخرج النبي لمحاربتهم في العام السابع من الهجرة، وبعد معارك عديدة وحصار لحصونهم الواحد تلو الآخر طلب اليهود أن ينزلوا على الصلح، وأن يتفاوضوا مع رسول الله ، وقَبِلَ رسول الله منهم ذلك، وكانت خلاصة الأمر أن تمَّ التصالح على حقْن دمائهم، ودماء كل من في الحصون من المقاتلة والذُّرِّيَّة والنساء، وعلى أن يتركوا خلفهم الديار، والسلاح، والأموال، والذهب، والفضة، ويخرجوا دون شيء، كما اشترط رسول الله في هذه المعاهدة عليهم شرطًا مهمًّا فقال: "وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إِنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا[27]". أي لو أن أحدًا من اليهود أخفى شيئًا من الأموال أو من الذهب أو الفضة؛ فللرسول أن يقتله بهذا الإخفاء[28]. وقَبِل اليهود هذا الصلح، وبدءوا في الخروج من خيبر، وقد حقن الرسول دماءهم جميعًا بهذا الصلح، وذلك رغم ما قدَّمت أيديهم من سوء، ولم يقتل إلاَّ مَنْ برزتْ خيانته لهذا العهد، كما وقع لكنانة بن أبي الحقيق[29].
إلى هذا الحدِّ كان الأمر كله بيد المسلمين، وليس أمام اليهود اختيار غير الخروج، ومع ذلك ولرغبة رسول الله في التعايش السلمي مع الآخر قَبِلَ بالطرح الذي قدَّمه اليهود؛ لقد طلب اليهود من رسول الله أن يزرعوا هذه الأرض مناصفة مع المسلمين، ففي البخاري عن عبد الله بن عمر قال: أعطى رسول الله خيبر لليهود أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها[30].
وكان هذا الصلح بمنزلة الإحسان التامِّ من قِبل رسول الله ليهود خيبر، وإنقاذًا لهم من الخروج إلى الصحراء، فقد كانت المعاهدة الأولى تنصُّ على إجلائهم تاركين خلفهم كل شيء، لقد جرت الحياة بصورة طبيعية مع أهل خيبر، الذين ظلُّوا في أعمالهم يقومون بها بحُرِّيَّة تامَّة، ولم تُؤثَر أية مواقف تدلُّ على تعنُّت المسلمين معهم.
بهذه الأخلاق الراقية وبهذا الحب العظيم للآخر عقد رسول الله معاهداته مع اليهود، ولكنهم لم يحافظوا عليها ونقضوها واحدة تلو الأخرى.
معاهدات رسول الله مع اليهودعقد رسول الله المعاهدات بينه وبين كل الطوائف غير المسلمة في عصره، فكان وفيًّا بكل ما عاهدهم عليه امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]. ويُعَلِّق ابن كثير على هذه الآية قائلاً: "وهذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكَّدة"[1].
على هذه المبادئ سارت حياة رسول الله ، بل وربَّى أصحابه عليها، فقال رسول الله : مُعَلِّمًا إياهم قيمة الوفاء بالعهد: "مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَشُدُّ عُقْدَةً، وَلا يَحُلُّهَا، حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ"[2].
والوفاء بالعهد والمعاهدات واجب ديني يُحَاسَب عليه المسلم أمام ربه؛ وحول هذا المعنى يقول الشيخ محمود شلتوت مُبَيِّنًا قيمة المعاهدات عند المسلمين: "الوفاء بالمعاهدة واجب ديني، يُسأل عنه المسلم فيما بينه وبين الله، ويكون الإخلال بها غدرًا وخيانة"[3].
معاهدات رسول الله مع يهود المدينة
عقد رسول الله المعاهدة مع يهود المدينة بعد هجرته إليها مباشرة وفي أوائل أيامه بها؛ مما يدل دلالة قاطعة على فكره التعايش ورغبة رسول الله في مسالمة غير المسلمين، وقد جاء في نصوص المعاهدة ما يلي:
1- أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم[4].
2- وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
3- وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
4- وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
5- وأنه لا يأثم امرؤُ بحليفه.
6- وأن النصر للمظلوم.
7- وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
8- وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
9- وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله ، وإلى محمد رسول الله .
10- وأنه لا تُجَارُ قريشٌ ولا مَن نَصَرَهَا.
11- وأن بينهم النصر على من دَهَم يثرب.. على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلَهُمْ.
12- وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم[5].
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الموضع أن هذه الوثيقة لم تذكر يهود بني قينقاع ولا يهود بني النضير ولا يهود بني قريظة[6]؛ مع ما صحَّ من وقائع السيرة التي تُثْبِتُ أنه قد تمت معهم عهود ومواثيق أخرى غير هذه الوثيقة.
وتثبت هذه الوثيقة بما لا يدع مجالاً للشكِّ ما كانت عليه الدولة الإسلامية -وهي في هذه المرحلة الأولى من البناء والتأسيس- من حرية تامَّة، وإفساح للغير للمشاركة والمعايشة القائمة على احترام الآخر، كما يظهر ذلك من خلال القراءة المتأنية لبنود هذه الوثيقة أنها تقبل الآخر، وتشرع القوانين من أجله، ولأجل ما ينظِّم حياته بين أفراد المجتمع المسلم، ويحفظ له حقوقه ويرد عنه الظلم إن وقع عليه.
التعايش السلمي بين المسلمين واليهود
وقد حَرَصَ رسول الله والمسلمون -رغم ما واجهوه من صعوبات بالغة ومكائد متكررة- على استمرار تطبيق بنود هذه المعاهدة، فكان التعايش السلمي الآمن مع مَنْ يعيش من اليهود مع رسول الله والمسلمين هو سمة الحياة داخل المدينة؛ فبدأ التبادل التجاري بينهم حيث امتلأت أسواق اليهود في المدينة بالمسلمين، ومن أشهر أسواق اليهود سوق بني قينقاع. وإتمام عمليات البيع والشراء لا تتم إلا بين قوم يأمن بعضهم بعضًا، وقد كانت المرأة المسلمة تذهب بنفسها لتشتري من اليهود في سوقهم دون حرج؛ مما يدل على مدى ثقة المسلمين باليهود[7]، كما اشترى عثمان بن عفان بئر رومة[8] من يهودي.
كما كان رسول الله يخالط كل من يقيم بالمدينة، مسلمين وغير مسلمين، ويجلس معهم ويحدِّثهم ويحدِّثونه، ومما جاء في ذلك ما رواه عروة بن الزبير قال: أخبرني أسامة بن زيدٍ أنَّ النَّبيَّ ركب حمارًا عليه إكافٌ[9] تحته قطيفةٌ[10] فدكيَّةٌ[11]، وأردف وراءه أسامة بن زيدٍ[12]، وهو يعود سعد بن عبادة[13] في بني الحارث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدرٍ، حتَّى مرَّ في مجلسٍ فيه أخلاطٌ من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول، وفي المجلس عبد اللَّه بن رواحة، فلمَّا غشيت المجلس عجاجة الدَّابَّة[14] خمَّر[15] عبد اللَّه بن أبيٍّ أنفه بردائه، ثمَّ قال: لا تغبِّروا علينا. فسلَّم عليهم النَّبيُّ ، ثمَّ وقف فنزل فدعاهم إلى اللَّه، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول: أيُّها المرء، لا أحسن من هذا إن كان ما تقول حقًّا؛ فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منَّا فاقصص عليه.
قال عبد اللَّه بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا؛ فإنَّا نحبُّ ذلك. فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود، حتَّى همُّوا أن يتواثبوا، فلم يزل النَّبيُّ يخفِّضهم، ثمَّ ركب دابَّته، حتَّى دخل على سعد بن عبادة فقال: "أَيْ سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ (يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ) قَالَ: كَذَا وَكَذَا". قال: اعفُ عنه يا رسول اللَّه واصفح، فواللَّه لقد أعطاك اللَّه الَّذي أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحرة[16] -عند مسلم: البحيرة- على أن يتوِّجوه فيعصِّبونه[17] بالعصابة، فلمَّا ردَّ اللَّهُ ذلك بالحقِّ الَّذي أعطاك شَرِقَ[18] بذلك، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه النَّبيُّ "[19].
استفزاز اليهود لرسول الله بالمدينة
تهجمهم على رب العالمين
ورغم حرص رسول الله على التعايش السلمي مع اليهود في المدينة إلاَّ أن اليهود قاموا بأفعال مستفزَّة، لكن رسول الله كان يقابلها بسعة صدر كبيرة، وبحكمة بالغة. وسنكتفي هنا بذكر أمثلة من أفعال اليهود الاستفزازية؛ منها تهجُّمهم على رب العالمين، وهذه بمفردها كارثة تستوجب أشدَّ العقاب، ليس فقط لضعف إيمانهم، وإنكارهم الحق الذي يعرفونه؛ ولكن لأنهم بهذا التعدِّي يطعنون في المرجعية الأساسية للمسلمين؛ وبذلك فهم يحضُّون الناس على رفض التشريع الذي يحكمهم، وفي هذا فتنة كبيرة في المدينة، ومن ذلك ما نسبوه إلى رب العالمين I من الفقر، وفيهم أنزل الله : {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181][20].
تعديهم على رسول الله
وكذلك تعدِّيهم على رسول الله فقد كانوا يمرُّون عليه، ويَدْعُون عليه بالموت في وجهه، وهم يحاولون أن يُظهِروا عكس ذلك، فيقول أحدهم: السام عليك. والسام هو الموت، فلا يزيد رسول الله في ردِّه عليهم على قول: "وَعَلَيْكُمْ"[21]. بل وكان رسول الله يأمر الصحابة الذين يسمعون هذا الدعاء بأن يترفَّقُوا بالردِّ ولا يتفحَّشُوا في القول.
إثارة الشحناء بين المهاجرين والأنصار
ومن ذلك -أيضًا- تعدِّيهم على الأنبياء والقرآن وإثارة الشحناء بين المهاجرين والأنصار.. وغير ذلك، ولكن لو بقي حال اليهود على ما هو عليه لكان الأمر محتملاً ومقبولاً؛ ولكنهم تطاولوا أكثر من ذلك، وما زادهم حلم رسول الله إلاَّ جهلاً، فارتكبوا من الأمور ما لا يمكن احتماله، ومن ثَمَّ كان هذا نقضًا صريحًا للمعاهدة، يتعذَّر معه صفح، ويستحيل حياله تجاهل؛ فقد خالفت بنو قينقاع مخالفات جسيمة، بمراودة المرأة المسلمة على كشف وجهها، ثم التحايل على كشف عورتها، ثم الاجتماع القبلي على قتل رجل مسلم[22]، وخالفت بنو النضير بمحاولة صريحة لقتل رسول الله[23]، وكذلك خالفت بنو قريظة في محاولة أشد عنفًا وضراوةً تهدف إلى قتل واستباحة كل مَنْ في المدينة المنورة[24]!!
معاهدات رسول الله مع يهود خيبر
أمَّا معاهدة رسول الله مع يهود خيبر فقد تمَّت بعد حربهم، التي لم يلجأ إليها رسول الله إلاَّ بعد تأكُّده من أنها أصبحت ملاذًا لمن يريد التخطيط لهدم الدولة الإسلامية وتقويض بنيانها، فقد لجأ إليها سلامُ بن أبي الحقيق المعروف بأبي رافع، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وهم من أشراف بني النضير[25]، ومن ألدّ أعداء المسلمين، ومن الذين أجلاهم رسول الله من المدينة بعد ما اقترفوا من الجرائم، فبدأ يهود بنو النضير المقيمون بخيبر، ومن معهم من يهود خيبر وزعمائها بتأليب[26] المجتمع القَبَلي على المسلمين؛ فخرجت مجموعة من يهود خيبر ويهود بني النضير لتجميع الأحزاب المشركة بهدف حصار المسلمين، فكانت غزوة الأحزاب، التي تجمَّع فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل من المشركين؛ لإبادة المسلمين في المدينة، ولكن الله مَنَّ على المسلمين بنصره فيها، ولكن خيبر أصبحت بؤرة خطرٍ عظيمٍ على المسلمين؛ لذلك كان لا بُدَّ من تأديبهم، ومحاسبتهم على بعض ما اقترفوا من جرائم في حقِّ الدولة الإسلامية.
فخرج النبي لمحاربتهم في العام السابع من الهجرة، وبعد معارك عديدة وحصار لحصونهم الواحد تلو الآخر طلب اليهود أن ينزلوا على الصلح، وأن يتفاوضوا مع رسول الله ، وقَبِلَ رسول الله منهم ذلك، وكانت خلاصة الأمر أن تمَّ التصالح على حقْن دمائهم، ودماء كل من في الحصون من المقاتلة والذُّرِّيَّة والنساء، وعلى أن يتركوا خلفهم الديار، والسلاح، والأموال، والذهب، والفضة، ويخرجوا دون شيء، كما اشترط رسول الله في هذه المعاهدة عليهم شرطًا مهمًّا فقال: "وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إِنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا[27]". أي لو أن أحدًا من اليهود أخفى شيئًا من الأموال أو من الذهب أو الفضة؛ فللرسول أن يقتله بهذا الإخفاء[28]. وقَبِل اليهود هذا الصلح، وبدءوا في الخروج من خيبر، وقد حقن الرسول دماءهم جميعًا بهذا الصلح، وذلك رغم ما قدَّمت أيديهم من سوء، ولم يقتل إلاَّ مَنْ برزتْ خيانته لهذا العهد، كما وقع لكنانة بن أبي الحقيق[29].
إلى هذا الحدِّ كان الأمر كله بيد المسلمين، وليس أمام اليهود اختيار غير الخروج، ومع ذلك ولرغبة رسول الله في التعايش السلمي مع الآخر قَبِلَ بالطرح الذي قدَّمه اليهود؛ لقد طلب اليهود من رسول الله أن يزرعوا هذه الأرض مناصفة مع المسلمين، ففي البخاري عن عبد الله بن عمر قال: أعطى رسول الله خيبر لليهود أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها[30].
وكان هذا الصلح بمنزلة الإحسان التامِّ من قِبل رسول الله ليهود خيبر، وإنقاذًا لهم من الخروج إلى الصحراء، فقد كانت المعاهدة الأولى تنصُّ على إجلائهم تاركين خلفهم كل شيء، لقد جرت الحياة بصورة طبيعية مع أهل خيبر، الذين ظلُّوا في أعمالهم يقومون بها بحُرِّيَّة تامَّة، ولم تُؤثَر أية مواقف تدلُّ على تعنُّت المسلمين معهم.
بهذه الأخلاق الراقية وبهذا الحب العظيم للآخر عقد رسول الله معاهداته مع اليهود، ولكنهم لم يحافظوا عليها ونقضوها واحدة تلو الأخرى.