منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
By سلطان الدويش 9
#58811
كتب الدكتور أليكسي بيلكو، جامعة موسكو الحكومية

لم تكن العلاقات بين السعودية والاتحاد السوفيتي سابقا ومن ثم روسيا، صافية وخالية من العثرات أبدا، فهي تمر اليوم بحالة توتر شديدة يبدو أنها ستستمر في المستقبل القريب.
والسبب لا يعود فقط إلى تباين رؤية البلدين لكيفية معالجة الأزمة السورية، إنما أيضا إلى كون موسكو والرياض تقفان موقفين متضادين من مسألة التحول الجاري في منطقة الشرق الأوسط.
ومع ذلك يعتمد هذان البلدان أحدهما على الآخر في نواح عدة لدرجة أن بإمكانهما أن يصبحا شريكين في يوم من الأيام، وإن طال انتظار هذا الزمن المنشود.
يميل البعض إلى تناسي موقف الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان أول دولة غير عربية تعترف دبلوماسيا بالسعودية في شباط/فبراير 1926 (حتى قبل أن تصبح دولة مستقلة ). كانت موسكو تنظر إلى استقلال السعودية كإشارة جديدة إلى الانهيار الحتمي للإمبراطوريات الاستعمارية.
إلا أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قطعت عام 1938 بمبادرة الرياض وتحولت هذه العلاقات إلى "غير ودية" وحتى "عدائية" لوقت طويل.
فراهنت موسكو لدى إتباعها سياستها في الشرق الأوسط خلال فترة "الحرب الباردة" على الأنظمة السياسية العلمانية في المنطقة، مثل مصر (قبل تغيير موقفها والانحياز إلى الولايات المتحدة عام 1974)، وسورية والعراق.
وسقطت السعودية تلقائيا من قائمة الحلفاء أو الشركاء المحتملين للاتحاد السوفيتي السابق لمجرد كونها دولة ثيوقراطية ملكية، وفي الوقت نفسه كانت السعودية تنظر إلى الاتحاد السوفيتي السابق كنظام شيوعي مناهض للإسلام لا يتفق مع قيمها.
لا شك في أن الموقفين (السوفيتي والسعودي) كانا مبنيين على معتقدات إيديولوجية بحتة. وإلى جانب ذلك كانت هناك صدامات بين موسكو والرياض، خاصة بسبب دعم الاتحاد السوفيتي السابق للنظام اليساري في جنوب اليمن.
وعملية العلمنة والتحديث السياسي (على الأسس الاشتراكية ) للأنظمة القائمة في شبه الجزيرة العربية كانت تهديدا خطيرا للسلطات السعودية قد يزعزع استقرارها ويؤدي إلى انهيار دولتها، مما أجبر الرياض على تعزيز علاقاتها بالغرب ولاسيما الولايات المتحدة التي مثلت وقتها القوة الوحيدة التي كان بإمكانها تقديم الدعم السياسي والعسكري للحكومة السعودية في حال ارتفاع حدة التوتر مع موسكو.
في الوقت عينه، كان لموسكو ما أخذته على السياسة السعودية، ففي الثمانينات من القرن الماضي دعمت السعودية المجاهدين الأفغان في صراعهم ضد النظام الموالي للسوفيت. كما أن الرياض عقدت اتفاقا مع واشنطن حول تخفيض أسعار النفط، مما أسفر عن خسارة الاتحاد السوفيتي لجزء كبير من عائداته النفطية. كل ذلك جعل الأجواء غير قابلة لتقبل أي تعاون محتمل بين البلدين، كما كان يبدو وقتذاك.
ولكن مع طرح الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف إعادة النظر في السياسة السوفيتية بدأت موسكو تنظر إلى الشرق الأوسط من منظار جديد، وبين عامي 1990 و1991 تخلت موسكو عن حليفها صدام حسين ولم تعترض على عملية "العاصفة في الصحراء".
على خلفية هذه الأحداث عادت العلاقات الدبلوماسية بين روسيا والسعودية إلى مجراها الطبيعي عام 1990.
وكانت تلك بمثابة نقطة انطلاق جيدة لإعادة تشغيل العلاقات بين موسكو والرياض. غير أن التطورات اللاحقة أظهرت أن هناك نقاطا خلافية أكثر بكثير في هذه العلاقات مما كانوا يتصورون.
لقد عادت الخلافات إلى الواجهة بسرعة عندما بدأت السعودية (إلى جانب عدة دول أخرى) في تسعينات القرن الماضي بتحويل الأموال إلى منظمات إسلامية متشددة في روسيا وفي فضاء الاتحاد السوفيتي السابق.
بالطبع، سيكون من غير الدقيق القول إن السعودية تعمدت دعم الانفصاليين في شمال القوقاز بهدف إضعاف الدولة الروسية وإحداث مشاكل إقليمية ومحلية لها. ولكن من الواضح أن جزءا من التمويل وصل إلى أيدي متطرفين ما شجعهم على مواصلة نشاطهم الدموي.
كما تجدر الإشارة إلى أن مقاتلين سعوديين شاركوا في الحروب الشيشانية إلى جانب الانفصاليين، وكان ذلك عامل إزعاج ترك أثره السلبي على العلاقات السعودية الروسية.
غير أن هذه العلاقات بدأت تشهد تطورا طفيفا بعد انتهاء عملية مكافحة الإرهاب في الشيشان، ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2003 توجه وفد برئاسة الملك المقبل عبدالله بين عبد العزيز آل سعود في زيارة إلى روسيا حيث أجرى محادثات مع الرئيس الروسي وقتها فلاديمير بوتين.
ونتج عن هذا الحدث الكبير إعطاء دفع جديد للتعاون بين البلدين تجلت ثماره في المصادقة على عدد من الاتفاقيات في ميادين النفط والغاز والعلوم والتكنولوجيا.
وفي شباط/فبراير 2007 كان بوتين أول رئيس روسي يقوم بزيارة إلى السعودية واستمر هذا التحسن حتى انطلاق "الربيع العربي".
في الواقع، بغض النظر عن الاختلافات السياسية أو العقائدية النابعة من ماضي العلاقات بين البلدين لا يزال التعاون بين روسا والسعودية ممكنا وواعدا في مجالات سوق الطاقة العالمية وتنظيم وضبط أسعار النفط وذلك في مصلحة الطرفين.
كانت روسيا مستعدة حتى لبيع أسلحة متطورة ومعدات عسكرية للسعودية ما كان قد يسمح للأخيرة بالابتعاد إلى حد ما عن الاتكال الكلي على الولايات المتحدة. كما كان بإمكان روسيا أيضا تقديم الفرص للاستثمارات السعودية في اقتصادها إلا أن كافة هذه الاحتمالات هيهات أن تتحقق قريبا.
فمنذ انطلاق الانتفاضات في الشرق الأوسط وبشكل خاص عقب اندلاع الحرب في ليبيا بدأت موسكو بالاشتباه في ضلوع السعودية بعملية تمويل وتسليح القوات المناهضة للقذافي.
ومن ثم فوجئت موسكو بقرار السعودية القضاء على حركة المعارضة في البحرين.
بدا موقف السعودية لعبة ذات وجهين ومعيارين: دعم المعارضة الليبية وضرب مثيلتها البحرينية. وأخذت العلاقات الروسية السعودية الثنائية تسوء عندما دعمت الرياض المعارضة السورية.
على خلاف ليبيا، تعتبر سورية حليفا رئيسيا بالنسبة لروسيا في المنطقة وبالتالي أتت ردود الفعل الروسية مبنية على هذه الأسس ما دفع إلى تغيير السياسة الروسية تجاه السعودية.
في الوقت الحالي، من السابق لأوانه تقييم ما إذا كان الفتور في العلاقات بين البلدين سيكون طويل الأمد إذ يعتمد الكثير على تطورات الأزمة السورية وتأثيرها على الأمن في المنطقة.
يبدو لموسكو أن السعودية لاعب رئيسي في خطة الولايات المتحدة الهادفة إلى تشكيل ائتلاف سني مناهض لإيران (الفكرة القديمة التي كانت تحاول واشنطن تطبيقها في ثمانينات القرن الماضي).
إذا ما انهار نظام الأسد فستخسر طهران آخر حلفائها في المنطقة بينما سيضعف موقعها الجيوسياسي.
على خلفية هذه الصورة يمكن القول إن إستراتيجية "سورية اليوم وإيران غدا" أمر لن تقبله روسيا بأي شكل من الأشكال لأن الفوضى التي قد تعم إيران في حال حصولها ستفتح أبوابا على حالات من عدم الاستقرار في جنوب القوقاز وفي آسيا الوسطى.
لذا فبدفاعها عن سورية ومعارضتها لكافة القوى العاملة على إسقاط النظام السوري، ومن بينها السعودية، تصون روسيا مصالحها القومية.
ولا نبالغ عند القول إن الأزمة الحالية في العلاقات بين روسيا والسعودية هي الأعمق منذ التسعينات.
لغز الشرق الأوسط أصبح أكثر تعقيدا ولا يترك مساحات وفرصا كبيرة للمناورات الدبلوماسية. لا شك في أن المواجهة السنية -الشيعية (التي تقودها الرياض وطهران) ستكون العامل الرئيسي الذي سيحدد وجه المنطقة الجديد في حال سقوط نظام الرئيس بشار الأسد.
في هذه الأوضاع التي تقع على حافة الانفجار فإن كل شيء ممكن والعلاقات الروسية السعودية المستقبلية ستعتمد بشكل مباشر على نتيجة التطورات والأحداث المتلاحقة في الشرق الأوسط.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)