الحرب العراقية الإيرانية
مرسل: الجمعة ديسمبر 21, 2012 8:11 pm
لم تكن الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات مجرد حرب عسكرية عادية وإنما تعدّتها لتصبح حربًا نفطية واقتصادية دُمّرت فيها المنشآت النفطية والاقتصادية، وحربًا سياسية وعقائدية وحدودية بين نظامين سياسيين مختلفين، ثم تطورت في أسوأ مراحلها وأبغضها لتصبح حربًا عنصرية بين "العرب" و"الفرس"، أو بين "المسلمين" و"الكفار".
ولم تكن القوى الدولية غائبة عن تأجيج نار تلك الحرب الشرسة لخدمة مصالحها في تصفية نظام الثورة الإسلامية في إيران، ونظام البعث في العراق، ولم تتحرك هذه الدول لوقف هذه الحرب إلا بعد أن امتدت نيرانها إلى ناقلات النفط التي تنقل بترول الخليج إلى الدول الكبرى.
وكانت هذه الحرب فرصة كبرى للولايات المتحدة الأمريكية لتكثف وجودها العسكري في الخليج العربي بصورة تقبلها الدول الخليجية، كما كانت فرصة للاتحاد السوفيتي أن يقترب من الخليج بعد غزوه أفغانستان وينافس الولايات المتحدة في أهم مناطق نفوذها ومصالحها الإستراتيجية في العالم، وبذلك انتقلت تلك الحرب من كونها حربًا إقليمية بين دولتين لتصبح حربًا ذات طبيعة دولية مع ازدياد حدة الحرب الباردة بين القوتين العظميين في ظل إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان.
الدوافع والأسباب
بدأت الحرب العراقية الإيرانية يوم [ 13 ذي القعدة 1400 ه= 22 سبتمبر 1980م) عندما بدأت القوات المسلحة العراقية في غزو الأراضي الإيرانية. وبعد خمسة أيام من اندلاع الحرب أعلن الرئيس العراقي صدام حسين أن مطالب العراق من حربه مع إيران هي: الاعتراف بالسيادة العراقية على التراب الوطني العراقي ومياهه النهرية والبحرية، وإنهاء الاحتلال الإيراني لجزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى في الخليج عند مدخل مضيق هرمز، وكف إيران عن التدخل في الشؤون الداخلية للعراق.
والواقع أن هذه الأهداف العراقية المُعلَنة للحرب تأتي في إطار التنافس بين البلدين في القيام بدور إقليمي مهيمن في منطقة الخليج العربي، إلا أن البداية الحقيقية للحرب كانت مع انهيار نظام الشاه في إيران، وقيام الثورة الإيرانية، وهو ما أزعج العراق بشدة لأسباب متعددة، أهمها وجود أغلبية شيعية كبيرة في العراق، وهناك احتمالات كبيرة لأن تصدّر إيران الثورة إليهم، ومن شأن هذا أن يقلب موازين التوازن السياسي في العراق، كما أن الثورة الإيرانية أحدثت خللا في توازن القوى الإقليمي بين إيران والعراق لصالح العراق بسبب ما أحدثته الثورة من تخريب داخلي وانهيار سياسي امتد إلى الجيش الإيراني وقيادته، وازدياد قوة الحركات الانفصالية الداخلية، مع تدهور حالة الاستقرار السياسي الداخلي، وتعامل قادة الثورة مع الجيش بتوجس وتشكك، وأصبح هذا الجيش القوي الذي أنفق عليه الشاه مليارات الدولارات على وشك الانهيار والسقوط.
هذه الأمور أغرت القيادة العراقية بإمكانية تحقيق نصر عسكري سريع في حرب قصيرة على إيران في ظل تفكك قواتها المسلحة بفعل الثورة لتحقيق عدد من المكاسب، أبرزها فرض المطالب العراقية التي اضطر الرئيس العراقي أن يتنازل عنها في اتفاقية الجزائر في [1395ه= 1975م] حيث أبرم العراق صفقة سياسية مع شاه إيران السابق، كف فيها الشاه عن مساعدة الثوار الأكراد في العراق، في مقابل تنازل العراق عن بعض حقوقه في شط العرب، وكانت هذه الاتفاقية تصب في المصلحة الإيرانية، واستفاد العراق من هذه الاتفاقية في إيقاف المساعدات الإيرانية لحركة التمرد الكردية التي قادها الملا مصطفى البرزاني، ونجاح النظام العراقي في القضاء على الثورة الكردية.
وقد بادر الرئيس العراقي صدام حسين في جلسة أمام البرلمان - قبل بدء الحرب بخمسة أيام- إلى إعلان إلغاء اتفاقية الجزائر، والتنديد بها ووصفها بأنها "كانت نتيجة الظروف التي أمْلتها، أما شط العرب فيجب أن يظل عراقيًّا اسمًا وفعلا"، وشجع صدام على اتخاذ قرار الحرب عدد من السياسيين والقادة العسكريين الإيرانيين الذين فروا من إيران بعد قيام الثورة، وصوّر هؤلاء لصدام الوضع الداخلي في إيران على أنه شديد التمزق، وأن الحكومة شديدة الضعف، وأن إيران أصبحت هدفًا سهل المنال، وكان دافع هؤلاء من ذلك التحريض هو الانتقام لأنفسهم من الثورة، والأمل الذي كان يراودهم في العودة السريعة إلى طهران، إذا ما نجح العراق في إسقاط النظام القائم في إيران.
الثورة والخليج
أحدثت الثورة الإيرانية نتيجتين على المستوى الإقليمي، أولاهما حدوث اختلال نسبي في القوة لصالح العراق في ظل التداعيات الداخلية في إيران، والنتيجة الثانية أن إيران سعت لتصدير ثورتها إلى دول الخليج، وشكل ذلك تهديدًا حقيقيًا لهذه الدول، عندما وجدت نفسها مستهدفة من هذه الثورة وبخاصة العراق، وكان أبرز شعارات هذه الثورة تغيير النظام العلماني القائم في العراق، وحرّضت المعارضة الشيعية العراقية لتحقيق هذا الشعار، لذلك كان قرار الحرب الذي اتخذه صدام حسين لحماية نظامه السياسي، وتحقيق زعامة العراق على الخليج، في مرحلة اتسمت بغياب مصر عن النظام العربي بعد مقاطعة العرب لها نتيجة اتفاقية كامب ديفيد والصلح مع إسرائيل.
وعلى المستوى الدولي هددت الثورة المصالح الإستراتيجية الأمريكية في الخليج بعد سقوط الشاه الحليف السابق لواشنطن، ورفع الثورة شعارات معادية لواشنطن، باعتبارها الشيطان الأكبر في العالم، وضرورة إبعاد نفوذها عن الخليج في وقت كانت فيه واشنطن شديدة التوتر بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان.
حرب الدعاية
وكان النظام الإيراني الجديد بعد الثورة قد بدأ في تكثيف الهجوم السياسي والدعائي ضد الحكم في العراق، ونظمت السلطات الإيرانية مظاهرات ضخمة طالبت فيها بتأسيس جمهورية إسلامية في العراق، وهدد مسؤولون إيرانيون بمسيرة في بغداد، وأعلن الإمام الخميني أنه سيذهب إلى بغداد لتحرير الشعب العراقي، واعتبر الرئيس الإيراني "بني صدر" أن هذه المقولة ليست من قبيل التدخل في شؤون العراق، وتصاعدت الهجمات الدعائية بين البلدين مع اتهام إيران للعراق بأنه يساعد الصهيونية، ومهاجمة جماعات إيرانية مسلحة قنصليات عراقية، ونشاط الإيرانيين في أوساط العراقيين، فردت بغداد على هذه التحركات بطرد عشرات الآلاف من الشيعة من أصل إِيراني، ثم اعتقلت الإمام محمد باقر الصدر وأعدمته، فأعلنت طهران الحداد ثلاثة أيام، طالبت أثناءها الإذاعة الإيرانية الجيش العراقي بالفرار من الحزب الحاكم وإسقاطه. وعندما تفجرت الحرب كان خطاب الخميني للقوات الإيرانية: "أنتم تقاتلون في سبيل حماية الإسلام، والرئيس العراقي يقاتل في سبيل تدمير الإسلام، إن العدوان العراقي هو ثورة الكفار ضد الإسلام".
والمعروف أن العراق كان يحتضن في أراضيه عددًا من القيادات السياسية والعسكرية الإيرانية من نظام الشاه، ويشجع عمليات الإرهاب والتخريب في الأراضي الإيرانية بعد الثورة؛ لذلك وجه الزعماء الإيرانيون أحاديثهم وإذاعاتهم إلى الشعب العراقي مباشرة يحثونه على "عدم طاعة أعداء القرآن والإسلام"، وشكلوا ما عرف باسم "الجيش الثوري الإسلامي لتحرير العراق من حكم العملاء والظالمين والقتلة"، واتهموا صدام حسين بأنه حوّل العراق إلى "سجن للمؤمنين ومقبرة للحرية".. هذه الشعارات أقلقت النظام في العراق، خاصة أن الشيعة يشكلون أكثر من 60% من الشعب العراقي.
الحرب
القوات العراقية بعد اقتحام أحد المواقع
بدأت الحرب في وقت كانت فيه القوات المسلحة الإيرانية تعاني من ضعف شديد بسبب وقف الولايات المتحدة والدول الغربية تنفيذ العديد من صفقات الأسلحة الرئيسية التي كان متفقًا عليها مع نظام الشاه قبل سقوطه؛ وهو ما سبب خللا كبيرًا في القدرات القتالية والتسليحية الإيرانية، وقد غالى العراق في الاستناد إليها معتمدًا على التقديرات العربية التي تؤكد أن 90% من الطيران الإيراني قابع على الأرض لعدم وجود قطع غيار، وأنه يمكن للقوات العراقية أن تحتل مقاطعة "خورستان" بالكامل بدون خسائر تذكر لولا بقايا البحرية الإيرانية، وهو ما أقنع بغداد أن طهران الثورة ستستسلم سريعًا أمام الهجوم العسكري العراقي، يضاف إلى ذلك أن العراق كان يعتقد أنه يخوض حربًا بالوكالة عن الدول العربية الخليجية.
واستطاع العراق في الفترة الأولى للحرب والتي استمرت حتى [ رجب 1401 ه= مايو 1981م] تحقيق بعض التوغل في الأراضي الإيرانية، وامتلاك زمام السيطرة في العمليات الحربية؛ حيث احتل العراقيون في الشهور الأولى من الحرب مدينة "خورمشهر"، ورابطت على أطراف مدينة الأهواز، أما الإيرانيون فأعلنوا إصرارهم على الاستمرار في الحرب لتحقيق انتصار كامل على العراق، وليس سلامًا عن طريق الصلح، واستطاعوا استعادة توازنهم وبدءوا منذ [ شعبان 1401 ه= يونيو 1981م] في استعادة بعض المواقع الإيرانية المحتلة، ودخول الأراضي العراقية واحتلال بعض الأماكن الهامة ومنها جزيرة "الفاو" العراقية، وفي أعقاب ذلك دخلت الحرب بين البلدين في مرحلة من التدمير المتبادل وقصف المدن وتدمير المنشآت النفطية والبنية الاقتصادية لكل منهما، إلا أن التطور المتواصل في القدرات العسكرية العراقية والدعم العربي الذي حصلت عليه وبخاصة من الخليجيين أتاح للعراق في نهاية المطاف امتلاك زمام المبادرة مرة أخرى وتحقيق انتصارات متوالية على القوات الإيرانية لا سيما في عام [1408ه= 1988م] الأمر الذي اضطر إيران إلى قبول قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار.
العرب والحرب
قوات إيرانية على متن دبابة
خلقت الحرب العراقية الإيرانية مأزقًا حقيقيًّا للدول الخليجية؛ لأن المنتصر في الحرب سوف يكون المهيمن على الخليج، إلا أنها قررت الوقوف بجانب العراق وبخاصة الأنظمة المتقاربة مع الولايات المتحدة، وترتب على هذا الانحياز التزامات سياسية وعسكرية ومالية ونفطية إزاء العراق، وقدرت مساهمة الدول الخليجية للعراق في جهوده الحربية بحوالي مائتي مليار دولار. كما جمعت السعودية والكويت (300) ألف برميل نفط يوميًّا لتعويض العراق عن تراجع إنتاجه النفطي بسبب التدمير الذي لحق بحقوله ومنشآته النفطية، وسمحت السعودية للعراق ببناء خط أنابيب قادر على نقل 1.5 مليار برميل نفط يوميًّا على الشاطئ السعودي في البحر الأحمر، وفي الوقت نفسه اتبعت السعودية سياسة نفطية معادية لإيران أدت إلى خفض أسعار النفط؛ وهو ما سبب خسائر فادحة لإيران، ووصل الأمر بالسعودية إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع طهران [رمضان 1408 ه= إبريل 1988م].
ورغم هذا الدعم الخليجي للعراق فإنه كان يعتريه تقلبات تبعًا لمسار الحرب، إذ لم تكن هذه الدول تنحاز إلى العراق انحيازًا مطلقًا بقدر انحيازها إلى مصالحها الإستراتيجية العليا التي لم تتغير عن المخاوف من إيران والعراق إذا انتصر أي من الطرفين على الآخر؛ لذلك كان الدعم الخليجي بهدف استمرار الحرب وليس بهدف تحقيق انتصار لأي من الدولتين وهو ما عبر عنه وزير الدفاع السعودي في مقابلة مع إحدى الصحف حيث قال: "لن نسمح بهزيمة العراق ولا بهزيمة إيران".
أما الدول العربية الأخرى فقد انقسمت بين مؤيد للعراق ومؤيد لإيران، حيث أيدت سوريا وليبيا طهران، وأوقفت دمشق تصدير النفط العراقي، ووقّعت اتفاقية لشراء النفط الإيراني، كما أصبحت ليبيا أحد المصادر الهامة في تقديم المساعدات العسكرية لإيران نيابة عن الاتحاد السوفيتي الذي لم يرد الدخول في خلافات مع العراق، وأصبحت مصر بعد تقاربها مع بغداد أهم مصادر الدعم البشري والعسكري للعراق.
ويلاحظ أن سوريا وقفت ضد التهديدات الإيرانية للدول الخليجية، وفي نفس الوقت ساندت إيران ضد العراق، ولكن ليس للدرجة التي تستطيع فيها إيران تحقيق انتصار على العراق؛ خشية أن يؤدي ذلك إلى حدوث تحول في التوازن الإقليمي لصالح إيران.
القوى الدولية والحرب
كانت مواقف الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تجاه الحرب محكومة بالمصالح الإستراتيجية والاقتصادية لكل منهما في الخليج، وأهمية كل من العراق وإيران لهذه المصالح، ومدى تأثير الحرب على التنافس بينهما، فرغم ما أبدته واشنطن وموسكو من الالتزام بموقف حيادي من الحرب، فإن الواقع كان يؤكد أن الحياد سياسة مدروسة ولها مغزاها وأهدافها، كما أنه كان حيادًا مؤقتًا محكومًا بقدرتهما على إطالة أمد الحرب إلى الوقت الذي تتحقق فيه مصالحهما من الحرب، فالحياد الأمريكي ظهر في بداية الحرب حيث كان العراق مسيطرًا على مقاليد المواجهة العسكرية، واقترن بقطع إمدادات السلاح الأمريكية عن إيران، كما استغلت واشنطن هذه الحرب لتكثيف وجودها العسكري في الخليج والحصول على تسهيلات عسكرية من الدول الخليجية، وبذلك كانت الحرب تتوافق مع المصالح الأمريكية؛ حيث رأت فيها واشنطن بديلا لإسقاط نظام الحكم الإسلامي في إيران أو زعزعة استقراره، وهذا ما يفسر تعمد واشنطن تشجيع إسرائيل لبيع أسلحة لإيران، كما سمحت لأطراف أخرى بإمداد العراق عسكريًّا، لضمان استمرار الحرب، وضمان ضبطهما عند الحدود التي لا تسمح بانتصار أي من الطرفين المتحاربين.
وعندما تغير الموقف العسكري لصالح إيران أنهت واشنطن سياسة الحياد المعلنة وقررت دعم العراق، فأعادت العلاقات الدبلوماسية مع بغداد في [1405ه= 1984م] وأمدت العراق بمعلومات استخباراتية، ووفرت له مساعدات ومبيعات تكنولوجية وزراعية، ودعمت واشنطن قرارات مجلس الأمن الدول الذي أدان إيران لهجماتها على ناقلات النفط في الخليج. واتخذت إدارة الرئيس ريجان عام [1404 ه= 1983م] خطوات متزاتيدة لدعم العراق، وكان دافع هذا الحماس الأمريكي توظيف الخطر الإيراني للحصول على الكثير من المكاسب، ونهج سياسة نفطية تحول دون حدوث أزمات نفطية تؤثر على الاقتصاديات الغربية. ويتضح هذا من التناقض بين السياسة الأمريكية المعلنة ضد إيران، والتورط الأمريكي السري في تقديم أسلحة أمريكية إلى إيران بتخطيط من الإدارة الأمريكية، وبدور مميز لمستشار الأمن القومي الأمريكي "روبرت ماكفرفلين" الذي قام بزيارة إلى طهران لهذا الغرض، وهي الصفقة التي عرفت ب "إيران- كونتراجبت" ومن هنا فإن واشنطن كانت تهدف إلى استنزاف إيران والعراق للتخلص من الخطر الإسلامي والقومي العربي معًا، وإعادة ترتيب الأوضاع في الخليج؛ لتصبح قوة موجودة فيه.
أما السوفيت فكانوا يهدفون إلى إطالة أمد الحرب لأن ذلك يخدم أهدافهم الإستراتيجية في كسر احتكار النفوذ الأمريكي للخليج، فكانت موسكو لا تتجاوب مع مطالب العراق العسكرية رغم معاهدة التعاون والصداقة الموقعة بينهما عام [1392ه= 1972م] إلا أن موسكو أنهت كثيرًا من مساندتها لإيران بعد عام [1403ه= 1982م] عندما عبرت القوات الإيرانية إلى داخل العراق، وقدم السوفيت لبغداد صواريخ متوسطة المدى، وأصبحت الممول العسكري الرئيسي لها بقية سنوات الحرب.
قرار رقم 598
اشتدت الاعتداءات على الناقلات النفطية في الخليج العربي، فقامت الكويت بخطوة أدت إلى تدويل الحرب، وتدخل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في أحداثها، إذ تقدمت الكويت بعرض إلى واشنطن تطلب فيه نقل نفطها على ناقلات أمريكية، لكن واشنطن لم تتجاوب مع العرض التجاري الكويتي؛ لأنها كانت تتوقع أن توقع مع الكويت ترتيبات أمنية وليس صفقات تجارية، فبادرت الكويت بالتوجه إلى موسكو بهذا العرض، فوافق السوفيت على تأجير ثلاث ناقلات نفطية للكويت؛ وهو ما دفع واشنطن إلى تقديم عرض مثير للكويت في قبولها تسجيل جميع ناقلات النفط الكويتية لديها، فردت الكويت بأنها ترى أن التعاون بين موسكو وواشنطن ضروري في منطقة الخليج ويؤدي إلى حماية الملاحة البحرية من أي خطر فقبلت واشنطن هذه الرؤية على مضض.
وكانت إيران ترفض أي قرار من مجلس الأمن ما لم يعترف بأن العراق هو البادئ بالاعتداء، وتقرير التعويضات اللازمة لإيران والتي وصلت في بعض المطالب إلى 200 مليار دولار، وإسقاط النظام السياسي في العراق، إلا أن تطورات الأحداث جعلت إيران تسكت عن هذه المطالب، خاصة بعد حدوث مواجهة عسكرية في الخليج العربي بين القوات الأمريكية والبحرية الإيرانية دُمّرت فيها منصتان إيرانيتان للنفط، وأسقت طائرة إيرانية مدنية بصاروخ أمريكي، بالإضافة إلى ما ارتكبه الحُجّاج الإيرانيون أثناء موسم الحج من اضطرابات عام [1408ه= 1987م] واصطفاف معظم الدول العربية خلف العراق في حربه ضد إيران، كل ذلك جعل إيران تقبل بقرار مجلس الأمن رقم 598 الذي اتُّخذ بقصد وضع حد للحرب الدائرة بين الدولتين. وسبق صدور القرار مشاورات بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن استمرت ستة أشهر، وحضر جلسة التصويت عليه كثير من وزراء الخارجية في سابقة لا مثيل لها في تاريخ المجلس، وصدر القرار بالإجماع، وصدر هذا القرار في [رمضان 1405ه= يوليو 1987م] ولم تضع الحرب أوزارها بين البلدين إلا في [8 محرم 1409ه= 20 أغسطس 1988م] وبعد توقف الحرب بعشرين يومًا فرضت أمريكا عقوبات على العراق، وامتنعت عن استيراد النفط العراقي.
خسائر لم تنته
أسرى عراقيون عام 1983
انتهت الحرب العراقية الإيرانية بضعف للقوة الإقليمية لكل من البلدين، وأعطت مبررًا قويًا للدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة للتواجد العسكري في الخليج، وكانت إسرائيل هي الطرف الأكثر استفادة من هذه الحرب بإهدار قوة هاتين الدولتين في معارك لا طائل منها.
وقُدرت الخسائر الإجمالية لهذه الحرب بحوالي (500) مليار دولار، منها (280) مليار دولار خسائر إيران و(220) مليار دولار خسائر العراق، إضافة إلى (450) ألف قتيل وأضعافهم من الجرحى والمعوقين، وخسائر في المنشآت النفطية والاقتصادية تقدر ب (500) مليار دولار للبلدين، أي أن التكلفة الإجمالية لهذه الحرب تقدر ب(1000) مليار دولار، كما أنها خلقت فجوة نفسية عميقة بين شعبي البلدين ما زالت تطرح ذكرياتها المؤلمة والدموية في كل مناسبة تعوق دون فتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين، وما تزال بعض القضايا عالقة بين البلدين بسبب هذه الحرب، أبرزها قضية الأسرى؛ حيث تتهم إيران العراق بالاحتفاظ لديه بآلاف الأسرى الإيرانيين، وينفي العراق ذلك، ويتهم إيران باحتفاظها بأسرى عراقيين، وذلك رغم تبادل عدد كبير من الأسرى بين البلدين عام [ 1418ه= 1997م].
ولم تكن القوى الدولية غائبة عن تأجيج نار تلك الحرب الشرسة لخدمة مصالحها في تصفية نظام الثورة الإسلامية في إيران، ونظام البعث في العراق، ولم تتحرك هذه الدول لوقف هذه الحرب إلا بعد أن امتدت نيرانها إلى ناقلات النفط التي تنقل بترول الخليج إلى الدول الكبرى.
وكانت هذه الحرب فرصة كبرى للولايات المتحدة الأمريكية لتكثف وجودها العسكري في الخليج العربي بصورة تقبلها الدول الخليجية، كما كانت فرصة للاتحاد السوفيتي أن يقترب من الخليج بعد غزوه أفغانستان وينافس الولايات المتحدة في أهم مناطق نفوذها ومصالحها الإستراتيجية في العالم، وبذلك انتقلت تلك الحرب من كونها حربًا إقليمية بين دولتين لتصبح حربًا ذات طبيعة دولية مع ازدياد حدة الحرب الباردة بين القوتين العظميين في ظل إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان.
الدوافع والأسباب
بدأت الحرب العراقية الإيرانية يوم [ 13 ذي القعدة 1400 ه= 22 سبتمبر 1980م) عندما بدأت القوات المسلحة العراقية في غزو الأراضي الإيرانية. وبعد خمسة أيام من اندلاع الحرب أعلن الرئيس العراقي صدام حسين أن مطالب العراق من حربه مع إيران هي: الاعتراف بالسيادة العراقية على التراب الوطني العراقي ومياهه النهرية والبحرية، وإنهاء الاحتلال الإيراني لجزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى في الخليج عند مدخل مضيق هرمز، وكف إيران عن التدخل في الشؤون الداخلية للعراق.
والواقع أن هذه الأهداف العراقية المُعلَنة للحرب تأتي في إطار التنافس بين البلدين في القيام بدور إقليمي مهيمن في منطقة الخليج العربي، إلا أن البداية الحقيقية للحرب كانت مع انهيار نظام الشاه في إيران، وقيام الثورة الإيرانية، وهو ما أزعج العراق بشدة لأسباب متعددة، أهمها وجود أغلبية شيعية كبيرة في العراق، وهناك احتمالات كبيرة لأن تصدّر إيران الثورة إليهم، ومن شأن هذا أن يقلب موازين التوازن السياسي في العراق، كما أن الثورة الإيرانية أحدثت خللا في توازن القوى الإقليمي بين إيران والعراق لصالح العراق بسبب ما أحدثته الثورة من تخريب داخلي وانهيار سياسي امتد إلى الجيش الإيراني وقيادته، وازدياد قوة الحركات الانفصالية الداخلية، مع تدهور حالة الاستقرار السياسي الداخلي، وتعامل قادة الثورة مع الجيش بتوجس وتشكك، وأصبح هذا الجيش القوي الذي أنفق عليه الشاه مليارات الدولارات على وشك الانهيار والسقوط.
هذه الأمور أغرت القيادة العراقية بإمكانية تحقيق نصر عسكري سريع في حرب قصيرة على إيران في ظل تفكك قواتها المسلحة بفعل الثورة لتحقيق عدد من المكاسب، أبرزها فرض المطالب العراقية التي اضطر الرئيس العراقي أن يتنازل عنها في اتفاقية الجزائر في [1395ه= 1975م] حيث أبرم العراق صفقة سياسية مع شاه إيران السابق، كف فيها الشاه عن مساعدة الثوار الأكراد في العراق، في مقابل تنازل العراق عن بعض حقوقه في شط العرب، وكانت هذه الاتفاقية تصب في المصلحة الإيرانية، واستفاد العراق من هذه الاتفاقية في إيقاف المساعدات الإيرانية لحركة التمرد الكردية التي قادها الملا مصطفى البرزاني، ونجاح النظام العراقي في القضاء على الثورة الكردية.
وقد بادر الرئيس العراقي صدام حسين في جلسة أمام البرلمان - قبل بدء الحرب بخمسة أيام- إلى إعلان إلغاء اتفاقية الجزائر، والتنديد بها ووصفها بأنها "كانت نتيجة الظروف التي أمْلتها، أما شط العرب فيجب أن يظل عراقيًّا اسمًا وفعلا"، وشجع صدام على اتخاذ قرار الحرب عدد من السياسيين والقادة العسكريين الإيرانيين الذين فروا من إيران بعد قيام الثورة، وصوّر هؤلاء لصدام الوضع الداخلي في إيران على أنه شديد التمزق، وأن الحكومة شديدة الضعف، وأن إيران أصبحت هدفًا سهل المنال، وكان دافع هؤلاء من ذلك التحريض هو الانتقام لأنفسهم من الثورة، والأمل الذي كان يراودهم في العودة السريعة إلى طهران، إذا ما نجح العراق في إسقاط النظام القائم في إيران.
الثورة والخليج
أحدثت الثورة الإيرانية نتيجتين على المستوى الإقليمي، أولاهما حدوث اختلال نسبي في القوة لصالح العراق في ظل التداعيات الداخلية في إيران، والنتيجة الثانية أن إيران سعت لتصدير ثورتها إلى دول الخليج، وشكل ذلك تهديدًا حقيقيًا لهذه الدول، عندما وجدت نفسها مستهدفة من هذه الثورة وبخاصة العراق، وكان أبرز شعارات هذه الثورة تغيير النظام العلماني القائم في العراق، وحرّضت المعارضة الشيعية العراقية لتحقيق هذا الشعار، لذلك كان قرار الحرب الذي اتخذه صدام حسين لحماية نظامه السياسي، وتحقيق زعامة العراق على الخليج، في مرحلة اتسمت بغياب مصر عن النظام العربي بعد مقاطعة العرب لها نتيجة اتفاقية كامب ديفيد والصلح مع إسرائيل.
وعلى المستوى الدولي هددت الثورة المصالح الإستراتيجية الأمريكية في الخليج بعد سقوط الشاه الحليف السابق لواشنطن، ورفع الثورة شعارات معادية لواشنطن، باعتبارها الشيطان الأكبر في العالم، وضرورة إبعاد نفوذها عن الخليج في وقت كانت فيه واشنطن شديدة التوتر بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان.
حرب الدعاية
وكان النظام الإيراني الجديد بعد الثورة قد بدأ في تكثيف الهجوم السياسي والدعائي ضد الحكم في العراق، ونظمت السلطات الإيرانية مظاهرات ضخمة طالبت فيها بتأسيس جمهورية إسلامية في العراق، وهدد مسؤولون إيرانيون بمسيرة في بغداد، وأعلن الإمام الخميني أنه سيذهب إلى بغداد لتحرير الشعب العراقي، واعتبر الرئيس الإيراني "بني صدر" أن هذه المقولة ليست من قبيل التدخل في شؤون العراق، وتصاعدت الهجمات الدعائية بين البلدين مع اتهام إيران للعراق بأنه يساعد الصهيونية، ومهاجمة جماعات إيرانية مسلحة قنصليات عراقية، ونشاط الإيرانيين في أوساط العراقيين، فردت بغداد على هذه التحركات بطرد عشرات الآلاف من الشيعة من أصل إِيراني، ثم اعتقلت الإمام محمد باقر الصدر وأعدمته، فأعلنت طهران الحداد ثلاثة أيام، طالبت أثناءها الإذاعة الإيرانية الجيش العراقي بالفرار من الحزب الحاكم وإسقاطه. وعندما تفجرت الحرب كان خطاب الخميني للقوات الإيرانية: "أنتم تقاتلون في سبيل حماية الإسلام، والرئيس العراقي يقاتل في سبيل تدمير الإسلام، إن العدوان العراقي هو ثورة الكفار ضد الإسلام".
والمعروف أن العراق كان يحتضن في أراضيه عددًا من القيادات السياسية والعسكرية الإيرانية من نظام الشاه، ويشجع عمليات الإرهاب والتخريب في الأراضي الإيرانية بعد الثورة؛ لذلك وجه الزعماء الإيرانيون أحاديثهم وإذاعاتهم إلى الشعب العراقي مباشرة يحثونه على "عدم طاعة أعداء القرآن والإسلام"، وشكلوا ما عرف باسم "الجيش الثوري الإسلامي لتحرير العراق من حكم العملاء والظالمين والقتلة"، واتهموا صدام حسين بأنه حوّل العراق إلى "سجن للمؤمنين ومقبرة للحرية".. هذه الشعارات أقلقت النظام في العراق، خاصة أن الشيعة يشكلون أكثر من 60% من الشعب العراقي.
الحرب
القوات العراقية بعد اقتحام أحد المواقع
بدأت الحرب في وقت كانت فيه القوات المسلحة الإيرانية تعاني من ضعف شديد بسبب وقف الولايات المتحدة والدول الغربية تنفيذ العديد من صفقات الأسلحة الرئيسية التي كان متفقًا عليها مع نظام الشاه قبل سقوطه؛ وهو ما سبب خللا كبيرًا في القدرات القتالية والتسليحية الإيرانية، وقد غالى العراق في الاستناد إليها معتمدًا على التقديرات العربية التي تؤكد أن 90% من الطيران الإيراني قابع على الأرض لعدم وجود قطع غيار، وأنه يمكن للقوات العراقية أن تحتل مقاطعة "خورستان" بالكامل بدون خسائر تذكر لولا بقايا البحرية الإيرانية، وهو ما أقنع بغداد أن طهران الثورة ستستسلم سريعًا أمام الهجوم العسكري العراقي، يضاف إلى ذلك أن العراق كان يعتقد أنه يخوض حربًا بالوكالة عن الدول العربية الخليجية.
واستطاع العراق في الفترة الأولى للحرب والتي استمرت حتى [ رجب 1401 ه= مايو 1981م] تحقيق بعض التوغل في الأراضي الإيرانية، وامتلاك زمام السيطرة في العمليات الحربية؛ حيث احتل العراقيون في الشهور الأولى من الحرب مدينة "خورمشهر"، ورابطت على أطراف مدينة الأهواز، أما الإيرانيون فأعلنوا إصرارهم على الاستمرار في الحرب لتحقيق انتصار كامل على العراق، وليس سلامًا عن طريق الصلح، واستطاعوا استعادة توازنهم وبدءوا منذ [ شعبان 1401 ه= يونيو 1981م] في استعادة بعض المواقع الإيرانية المحتلة، ودخول الأراضي العراقية واحتلال بعض الأماكن الهامة ومنها جزيرة "الفاو" العراقية، وفي أعقاب ذلك دخلت الحرب بين البلدين في مرحلة من التدمير المتبادل وقصف المدن وتدمير المنشآت النفطية والبنية الاقتصادية لكل منهما، إلا أن التطور المتواصل في القدرات العسكرية العراقية والدعم العربي الذي حصلت عليه وبخاصة من الخليجيين أتاح للعراق في نهاية المطاف امتلاك زمام المبادرة مرة أخرى وتحقيق انتصارات متوالية على القوات الإيرانية لا سيما في عام [1408ه= 1988م] الأمر الذي اضطر إيران إلى قبول قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار.
العرب والحرب
قوات إيرانية على متن دبابة
خلقت الحرب العراقية الإيرانية مأزقًا حقيقيًّا للدول الخليجية؛ لأن المنتصر في الحرب سوف يكون المهيمن على الخليج، إلا أنها قررت الوقوف بجانب العراق وبخاصة الأنظمة المتقاربة مع الولايات المتحدة، وترتب على هذا الانحياز التزامات سياسية وعسكرية ومالية ونفطية إزاء العراق، وقدرت مساهمة الدول الخليجية للعراق في جهوده الحربية بحوالي مائتي مليار دولار. كما جمعت السعودية والكويت (300) ألف برميل نفط يوميًّا لتعويض العراق عن تراجع إنتاجه النفطي بسبب التدمير الذي لحق بحقوله ومنشآته النفطية، وسمحت السعودية للعراق ببناء خط أنابيب قادر على نقل 1.5 مليار برميل نفط يوميًّا على الشاطئ السعودي في البحر الأحمر، وفي الوقت نفسه اتبعت السعودية سياسة نفطية معادية لإيران أدت إلى خفض أسعار النفط؛ وهو ما سبب خسائر فادحة لإيران، ووصل الأمر بالسعودية إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع طهران [رمضان 1408 ه= إبريل 1988م].
ورغم هذا الدعم الخليجي للعراق فإنه كان يعتريه تقلبات تبعًا لمسار الحرب، إذ لم تكن هذه الدول تنحاز إلى العراق انحيازًا مطلقًا بقدر انحيازها إلى مصالحها الإستراتيجية العليا التي لم تتغير عن المخاوف من إيران والعراق إذا انتصر أي من الطرفين على الآخر؛ لذلك كان الدعم الخليجي بهدف استمرار الحرب وليس بهدف تحقيق انتصار لأي من الدولتين وهو ما عبر عنه وزير الدفاع السعودي في مقابلة مع إحدى الصحف حيث قال: "لن نسمح بهزيمة العراق ولا بهزيمة إيران".
أما الدول العربية الأخرى فقد انقسمت بين مؤيد للعراق ومؤيد لإيران، حيث أيدت سوريا وليبيا طهران، وأوقفت دمشق تصدير النفط العراقي، ووقّعت اتفاقية لشراء النفط الإيراني، كما أصبحت ليبيا أحد المصادر الهامة في تقديم المساعدات العسكرية لإيران نيابة عن الاتحاد السوفيتي الذي لم يرد الدخول في خلافات مع العراق، وأصبحت مصر بعد تقاربها مع بغداد أهم مصادر الدعم البشري والعسكري للعراق.
ويلاحظ أن سوريا وقفت ضد التهديدات الإيرانية للدول الخليجية، وفي نفس الوقت ساندت إيران ضد العراق، ولكن ليس للدرجة التي تستطيع فيها إيران تحقيق انتصار على العراق؛ خشية أن يؤدي ذلك إلى حدوث تحول في التوازن الإقليمي لصالح إيران.
القوى الدولية والحرب
كانت مواقف الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تجاه الحرب محكومة بالمصالح الإستراتيجية والاقتصادية لكل منهما في الخليج، وأهمية كل من العراق وإيران لهذه المصالح، ومدى تأثير الحرب على التنافس بينهما، فرغم ما أبدته واشنطن وموسكو من الالتزام بموقف حيادي من الحرب، فإن الواقع كان يؤكد أن الحياد سياسة مدروسة ولها مغزاها وأهدافها، كما أنه كان حيادًا مؤقتًا محكومًا بقدرتهما على إطالة أمد الحرب إلى الوقت الذي تتحقق فيه مصالحهما من الحرب، فالحياد الأمريكي ظهر في بداية الحرب حيث كان العراق مسيطرًا على مقاليد المواجهة العسكرية، واقترن بقطع إمدادات السلاح الأمريكية عن إيران، كما استغلت واشنطن هذه الحرب لتكثيف وجودها العسكري في الخليج والحصول على تسهيلات عسكرية من الدول الخليجية، وبذلك كانت الحرب تتوافق مع المصالح الأمريكية؛ حيث رأت فيها واشنطن بديلا لإسقاط نظام الحكم الإسلامي في إيران أو زعزعة استقراره، وهذا ما يفسر تعمد واشنطن تشجيع إسرائيل لبيع أسلحة لإيران، كما سمحت لأطراف أخرى بإمداد العراق عسكريًّا، لضمان استمرار الحرب، وضمان ضبطهما عند الحدود التي لا تسمح بانتصار أي من الطرفين المتحاربين.
وعندما تغير الموقف العسكري لصالح إيران أنهت واشنطن سياسة الحياد المعلنة وقررت دعم العراق، فأعادت العلاقات الدبلوماسية مع بغداد في [1405ه= 1984م] وأمدت العراق بمعلومات استخباراتية، ووفرت له مساعدات ومبيعات تكنولوجية وزراعية، ودعمت واشنطن قرارات مجلس الأمن الدول الذي أدان إيران لهجماتها على ناقلات النفط في الخليج. واتخذت إدارة الرئيس ريجان عام [1404 ه= 1983م] خطوات متزاتيدة لدعم العراق، وكان دافع هذا الحماس الأمريكي توظيف الخطر الإيراني للحصول على الكثير من المكاسب، ونهج سياسة نفطية تحول دون حدوث أزمات نفطية تؤثر على الاقتصاديات الغربية. ويتضح هذا من التناقض بين السياسة الأمريكية المعلنة ضد إيران، والتورط الأمريكي السري في تقديم أسلحة أمريكية إلى إيران بتخطيط من الإدارة الأمريكية، وبدور مميز لمستشار الأمن القومي الأمريكي "روبرت ماكفرفلين" الذي قام بزيارة إلى طهران لهذا الغرض، وهي الصفقة التي عرفت ب "إيران- كونتراجبت" ومن هنا فإن واشنطن كانت تهدف إلى استنزاف إيران والعراق للتخلص من الخطر الإسلامي والقومي العربي معًا، وإعادة ترتيب الأوضاع في الخليج؛ لتصبح قوة موجودة فيه.
أما السوفيت فكانوا يهدفون إلى إطالة أمد الحرب لأن ذلك يخدم أهدافهم الإستراتيجية في كسر احتكار النفوذ الأمريكي للخليج، فكانت موسكو لا تتجاوب مع مطالب العراق العسكرية رغم معاهدة التعاون والصداقة الموقعة بينهما عام [1392ه= 1972م] إلا أن موسكو أنهت كثيرًا من مساندتها لإيران بعد عام [1403ه= 1982م] عندما عبرت القوات الإيرانية إلى داخل العراق، وقدم السوفيت لبغداد صواريخ متوسطة المدى، وأصبحت الممول العسكري الرئيسي لها بقية سنوات الحرب.
قرار رقم 598
اشتدت الاعتداءات على الناقلات النفطية في الخليج العربي، فقامت الكويت بخطوة أدت إلى تدويل الحرب، وتدخل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في أحداثها، إذ تقدمت الكويت بعرض إلى واشنطن تطلب فيه نقل نفطها على ناقلات أمريكية، لكن واشنطن لم تتجاوب مع العرض التجاري الكويتي؛ لأنها كانت تتوقع أن توقع مع الكويت ترتيبات أمنية وليس صفقات تجارية، فبادرت الكويت بالتوجه إلى موسكو بهذا العرض، فوافق السوفيت على تأجير ثلاث ناقلات نفطية للكويت؛ وهو ما دفع واشنطن إلى تقديم عرض مثير للكويت في قبولها تسجيل جميع ناقلات النفط الكويتية لديها، فردت الكويت بأنها ترى أن التعاون بين موسكو وواشنطن ضروري في منطقة الخليج ويؤدي إلى حماية الملاحة البحرية من أي خطر فقبلت واشنطن هذه الرؤية على مضض.
وكانت إيران ترفض أي قرار من مجلس الأمن ما لم يعترف بأن العراق هو البادئ بالاعتداء، وتقرير التعويضات اللازمة لإيران والتي وصلت في بعض المطالب إلى 200 مليار دولار، وإسقاط النظام السياسي في العراق، إلا أن تطورات الأحداث جعلت إيران تسكت عن هذه المطالب، خاصة بعد حدوث مواجهة عسكرية في الخليج العربي بين القوات الأمريكية والبحرية الإيرانية دُمّرت فيها منصتان إيرانيتان للنفط، وأسقت طائرة إيرانية مدنية بصاروخ أمريكي، بالإضافة إلى ما ارتكبه الحُجّاج الإيرانيون أثناء موسم الحج من اضطرابات عام [1408ه= 1987م] واصطفاف معظم الدول العربية خلف العراق في حربه ضد إيران، كل ذلك جعل إيران تقبل بقرار مجلس الأمن رقم 598 الذي اتُّخذ بقصد وضع حد للحرب الدائرة بين الدولتين. وسبق صدور القرار مشاورات بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن استمرت ستة أشهر، وحضر جلسة التصويت عليه كثير من وزراء الخارجية في سابقة لا مثيل لها في تاريخ المجلس، وصدر القرار بالإجماع، وصدر هذا القرار في [رمضان 1405ه= يوليو 1987م] ولم تضع الحرب أوزارها بين البلدين إلا في [8 محرم 1409ه= 20 أغسطس 1988م] وبعد توقف الحرب بعشرين يومًا فرضت أمريكا عقوبات على العراق، وامتنعت عن استيراد النفط العراقي.
خسائر لم تنته
أسرى عراقيون عام 1983
انتهت الحرب العراقية الإيرانية بضعف للقوة الإقليمية لكل من البلدين، وأعطت مبررًا قويًا للدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة للتواجد العسكري في الخليج، وكانت إسرائيل هي الطرف الأكثر استفادة من هذه الحرب بإهدار قوة هاتين الدولتين في معارك لا طائل منها.
وقُدرت الخسائر الإجمالية لهذه الحرب بحوالي (500) مليار دولار، منها (280) مليار دولار خسائر إيران و(220) مليار دولار خسائر العراق، إضافة إلى (450) ألف قتيل وأضعافهم من الجرحى والمعوقين، وخسائر في المنشآت النفطية والاقتصادية تقدر ب (500) مليار دولار للبلدين، أي أن التكلفة الإجمالية لهذه الحرب تقدر ب(1000) مليار دولار، كما أنها خلقت فجوة نفسية عميقة بين شعبي البلدين ما زالت تطرح ذكرياتها المؤلمة والدموية في كل مناسبة تعوق دون فتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين، وما تزال بعض القضايا عالقة بين البلدين بسبب هذه الحرب، أبرزها قضية الأسرى؛ حيث تتهم إيران العراق بالاحتفاظ لديه بآلاف الأسرى الإيرانيين، وينفي العراق ذلك، ويتهم إيران باحتفاظها بأسرى عراقيين، وذلك رغم تبادل عدد كبير من الأسرى بين البلدين عام [ 1418ه= 1997م].