الملك فيصل....قرارات و انجازات...
مرسل: الجمعة ديسمبر 21, 2012 11:17 pm
وضع الملك فيصل بن عبد العزيز تحقيق مفهوم التضامن الإسلامي ضمن جهوده وإسهاماته امتدادا للدور الذي قام به الملك عبد العزيز وأبناؤه في خدمة هذا المطلب وتفعيله وجعله حقيقة واقعة، حيث ساهم قيام الدولة السعودية ومجيء الملك المؤسس في إحياء هذا الأمل الذي كان هاجس المسلمين على مر التاريخ ابتداء من عصر الخلفاء الراشدين مرورا بالدولة الأموية والدولة العباسية والدول الإسلامية التي ظهرت على مسرح الأحداث في فترات من تاريخ الأمة، مرورا بجهود علماء المسلمين في العصور المختلفة. ولعل أبرزهم ابن تيمية وصلاح الدين الأيوبي والعز بن عبد السلام والظاهر بيبرس، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد اقبال وغيرهم، وهي جهود ظهرت وكانت سائدة في ربوع الدولة الاسلامية من أقصاها الى أقصاها على كل المستويات العلمية والعسكرية والسياسية والاقتصادية. وشكل التضامن الإسلامي والالتفاف المتحد حول كلمة التوحيد أهم أسباب النجاح الذي حققته الأمة الإسلامية في عصورها الذهبية، كما شهدت الأمة عندما شعرت بالأخطار المحدقة بها ورأت الفرقة والشتات وذاقت آثار الحروب، دعوات أطلقها المخلصون من أبناء الأمة من السياسيين والعلماء الى ضرورة إحياء التضامن الاسلامي والوقوف في وجه أعداء الأمة والدفاع عن الاسلام ومكتسباته.
ويعد الملك فيصل الرائد الحقيقي للتضامن الاسلامي في العصر الحديث، حيث كان مقتنعا بالتضامن فكرة ومنهجاً، وتوافرت لديه آليات تطبيق التضامن الإسلامي، فأخذ يسعى حثيثا لترسيخ قواعده وإقناع الآخرين به، مما دفع مشروع التضامن الإسلامي الى الأمام وجعله الخيار الأفضل الذي يتفق مع ثوابت الأمة ومنهاجها.
وتمكن الملك فيصل، الذي حكم بلاده من عام 1964 الى 1975م، من تسجيل مواقف مشرفة له في خدمة القضايا العربية والإسلامية، حيث أسهم في لم شمل العرب بعد هزيمة 1967، ووقف موقفا حازما فيما يتعلق بحرق المسجد الأقصى، كما أنه أول من استخدم سلاح النفط في وجه المعادين للحق العربي والإسلامي في فلسطين وغيرها. وقد هابه الغرب ونفذ كثيرا من مطالبه العادلة.
اعتبر الدكتور مانع بن حماد الجهني، الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي، وعضو مجلس الشورى السعودي سابقاً في رصده لفكرة وتاريخ التضامن الإسلامي ودور السعودية في ذلك، أن مشروع التضامن الإسلامي كان الهم الكبير الذي شغل الملك فيصل طوال حياته السياسية، ولاسيما بعد ان اشتدت حملة الأفكار المستوردة في المنطقة العربية خاصة الشيوعية، مشددا على أن الملك فيصل كان مؤمنا أعمق الإيمان بأن الأمة الاسلامية لا ينهض بها إلا الإسلام، ولقد تحمل في سبيل دعوته للتضامن الاسلامي عداوة المعارضين وتهم المشككين، ولكنه كان مؤمنا بما يفعل، ماضيا فيما يعتقد.
يقول صلاح الدين المنجد في كتابه أحاديث عن فيصل والتضامن الإسلامي: «لقد كان فيصل بطل الدعوة إلى التضامن الإسلامي، ولقد لقي في دعوته هذه مصاعب لا تحد، ومتاعب لا توصف، لكنه كان مؤمنا حقا فيما يدعو إليه. ما كان يبغي زعامة ولا شهرة، ولا سلطانا ولا ثروة، فتابع سيره في دعوته بذكاء وحذر، وجرأة وعناد، وحكمة ومرونة، حسب الظروف، واستطاع أن يبلغ هدفه وأن ينتصر».
وقد ذكر الدكتور المنجد أن ما حققه الملك فيصل ـ رحمه الله ـ في دعوته للتضامن الاسلامي يرقى إلى مصاف المعجزة الجديدة، حيث يقول: «وفي هذا القرن بدأت معجزة جديدة تحققت على يد رجل عظيم، المعجزة هي كسر القيود التي كانت تمنع المسلمين في كل مكان في العالم، من العودة إلى ما أمرهم به الإسلام من التعارف والتآلف، والتضامن والتعاون، والسعي إلى عودتهم أمة واحدة تعود من جديد خير أمة، وأقوى أمة وأنفع أمة، أما الرجل فهو فيصل بن عبد العزيز».
منطلقات دعوته للتضامن الإسلامي
* لقد رأى الملك فيصل أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تنهض وتتحقق لها العزة والكرامة، إلا من خلال عودة حقيقية الى منابع الاسلام الصافية، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والى ما تدعو اليه هذه المنابع من التزام بالإسلام وتضامن بين المسلمين وتعاون على البر والتقوى لما فيه خير الاسلام والأمة الاسلامية.
ولذا كانت دعوة الملك فيصل امتدادا للدعوات الإصلاحية التي تدعو إلى العودة إلى الإسلام وتطبيقه في مناحي الحياة كافة. فالأساس الأول لدعوة الملك فيصل للتضامن الإسلامي هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعودة إلى الإسلام من جديد.
. أما المنطلق الثاني لدعوة التضامن الإسلامي فكان الرغبة الأكيدة في صد الفكر الشيوعي الذي اكتسح المنطقة العربية والاسلامية ووجد مؤيدين ومدافعين بين حكام العرب والمسلمين الذين لم يروا في الاسلام ما رأوا في الشيوعية. ورأى الملك فيصل أن عليه أن يطرح الإسلام والتضامن بديلا عن الدعوات الاجنبية التي تتعارض مع دين الامة وفكرها وطبيعتها.
أما المنطلق الثالث لدعوة فيصل للتضامن الاسلامي فكانت رغبته الأكيدة في جمع كلمة الأمة الاسلامية على الإسلام وقيام جبهة إسلامية موحدة تقف في وجه الاستعمار والصهيونية العالمية ومطامعها في العالم العربي، وكذلك الوقوف في وجه الزحف الشيوعي الذي يريد أن يحصل على مواقع استراتيجية في العالم الإسلامي ينفذ من خلالها سياسيا واقتصاديا وايديولوجيا إلى مراكز الحضارة الاسلامية في أنحاء العالم. ولقد أدرك دعاة هذه الثلاثة: الاستعمار والصهيونية والشيوعية خطر دعوة التضامن الإسلامي فكانوا أبرز أعدائها. وقد حذر الملك فيصل في أكثر من خطبة من هذه المخاطر، وأوضح العلاقة بين الشيوعية والصهيونية في أكثر من مناسبة، فقد قال في خطبته في موسم حج عام 1390هـ: من هم أيها الأخوة قادة الشيوعية الذين حملوا لواءها وبثوا معتقداتهم في العالم؟ إنهم ايها الإخوة كلهم من الصهيونيين الذين خططوا وسعوا إلى تحطيم البشرية وتهديدها ليصلوا الى مبتغاهم، وهو السيطرة على العالم.
وقد حدد الشيخ مناع القطان بواعث دعوة الملك فيصل إلى التضامن الإسلامي في أمور عديدة في مقدمتها:
* الباعث الديني: انطلاقا من تربية الملك فيصل وثقافته وقناعته الفكرية والايمانية بأن الاسلام هو سبيل النجاة للمسلمين في كل زمان ومكان.
* مواجهة التيارات والشعارات المبددة لآمال الأمة: أصبحت المنطقة العربية مرتعاً خصباً لعدد من الأفكار المستوردة والدعوات المناوئة للاسلام فصمم فيصل على مواجهتها بالتضامن الاسلامي.
* الرغبة في جمع شتات المسلمين لاسترداد حقوقهم ودرء الأخطار المحدقة بهم. لقد رأى الفيصل أن في التضامن جمعاً لكلمة الأمة وتوحيداً لشتاتها وتقوية لضعفها والوقوف في وجه أعدائها.
ولا شك أن هذه هي المنطلقات الصحيحة التي ينبغي أن تنطلق منها الدعوات العظيمة التي يمكن أن تستجيب لها الأمة وتحقق من خلالها أهدافها التي تسعى اليها.
خطوات عملية لتحقيق التضامن
* لقد كان إيمان الملك فيصل بأهمية التضامن والتعاون بين المسلمين راسخاً حتى قبول توليه الحكم. كما يشهد بذلك كل من تتبع مسيرته واتصل به عن قرب. وعندما بدأ فعلاً بتنفيذ مشروعه للتضامن الاسلامي سار فيه بالتدريج على ثلاث مراحل:
ـ المرحلة الأولى: تمثلت في الدعوة الى التضامن الاسلامي وتأكيد أهمية التعاون بين المسلمين وانه هو السبيل الى تكامل الدول الاسلامية والتخلص من هيمنة: الاستعمار والصهيونية والشيوعية، وقد وجدت هذه الدعوة صدى لدى الكثيرين في العالم الاسلامي
خصوصا بين رجال الدعوة والفكر. وكان الملك فيصل يعرض دعوته في كل مناسبة ولا سيما في موسم الحج. ومع ذلك فقد وجدت معارضة شديدة من أعداء التضامن الإسلامي الذين حددهم «بأنهم الاستعماريون واليهود والصهيونيون والشيوعيون» و«اذنابهم من المخدوعين والمأجورين في العالم الاسلامي».
ـ المرحلة الثانية: تمثلت هذه المرحلة في برنامج الزيارات المكثف الذي قام به الملك فيصل، فقد اقتنع بأن فكرة التضامن الإسلامي اصبح لها مؤيدون وانها فكرة يمكن اقناع صانعي القرار في العالم الاسلامي بأهميتها. ولكن ذلك يحتاج الى اتصال شخصي وحوار مباشر مع حكام الدول الاسلامية وهكذا بدأت رحلات الملك فيصل المتعددة لدول العالم الاسلامي لكسب مؤيدين وأنصار لفكرة التضامن الاسلامي. وقد شملت رحلات الملك فيصل كثيرا من الدول الاسلامية، فقد قام برحلة في أواخر عام 1965م والنصف الأول من عام 1966م شملت الدول الآتية:
ـ إيران عام 1965 وزار في طريق عودته دولة الكويت، وفي عام 1966 زار كلا من الاردن والسودان وباكستان وتركيا والمغرب وغينيا ومالي وتونس.
أما رحلة الملك الثانية الطويلة فقد كانت إلى افريقيا في عام 1972م وقد شملت اوغندا وتشاد والسنغال وموريتانيا والنيجر.
ويلاحظ انه في كل هذه الزيارات كانت تصدر بيانات مشتركة يركز فيها على أهمية التضامن الإسلامي والتعاون بين الدول الاسلامية حتى في الدول العلمانية أو الشيوعية في ذلك الوقت، كما حصل في تركيا وغينيا. ولا شك أن في هذا نصرا لفكرة التضامن الاسلامي ونجاحا لسعي الملك فيصل في اقناع رؤساء الدول الإسلامية بأهمية التضامن الاسلامي والتعاون بين الدول الاسلامية.
ـ المرحلة الثالثة: من برنامج الملك فيصل للتضامن الإسلامي تمثلت في الخطوات العلمية التي وضعت القواعد الصلبة لمؤسسات التضامن الإسلامي حيث دعا لعقد المؤتمرات التي ناقشت الفكرة وتمخضت عن عقد مؤتمر قمة نتج عنه انشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، وكان من انجازات هذه الرحلة انشاء الندوة العالمية للشباب الإسلامي وغيرها من المؤسسات التي تدعم فكرة التضامن الإسلامي ومن ابرزها رابطة العالم الاسلامي التي انشئت في عهد الملك سعود بقرار من قادة المسلمين الذين اجتمعوا خلال المؤتمر اسلامي في عام 1962م في مكة المكرمة بواكير التضامن حقيقة واقعة
* لقد كان لجهود الملك فيصل وايمانه الذي لا يتزعزع بأهمية التضامن الاسلامي وضرورة السعي الى تحقيقه نتائج باهرة على المستويين العربي والإسلامي تحققت تدريجيا من الخطوات التدريجية التي اتبعها لتحقيق هدفه الكبير. فقد بدأ بالدعوة والتعريف بالتضامن وأهميته وضرورته للأمة الاسلامية ثم أتبع ذلك بزيارات متعددة لرؤساء الدول الاسلامية. وبعد ذلك بدأ بالخطوات التنفيذية التي جعلت بواكير التضامن حقيقة ملموسة ومن أهم تلك النتائج:
ـ توضيح مفهوم التضامن الاسلامي وإبراز آثاره الايجابية وايجاد القناعة بأنه السبيل الوحيد للنهوض بالأمة الاسلامية وتحقيق التعاون المثمر بين بلدانها واشاعة روح الوحدة والمحبة بين شعوبها. وقد سبق أن خفتت الدعوة الى التضامن الاسلامي والوحدة الاسلامية بعد الرواد الاوائل من امثال جمال الدين الافغاني ومحمد اقبال وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهما فأحياها الملك فيصل على مستوى أعلى وبزخم أشد وعرضها بديلا مناسبا من الدعوات المضللة التي اجتاحت المنطقة العربية. وقد تجاوز الملك فيصل في دعوته نطاق الدول العربية الى الدول الاسلامية في القارتين الاسيوية والافريقية.
ـ كسب أعوان ومؤيدين لمشروع التضامن الاسلامي وأهمية التعاون بين الدول الاسلامية وبناء جسور للتفاهم والسعي المشترك لتحقيق الاهداف التي يسعى اليها في خدمة الأمة الاسلامية.
ـ تعزيز موقف الدول العربية وحشد التأييد لقضية فلسطين قضية المسلمين الاولى، وقد اسفرت بعض الزيارات عن قطع علاقات بعض الدول التي زارها الفيصل مع اسرائيل مما يدل على نجاح مساعيه.
ـ القيام بالخطوات التنفيذية لعقد أول مؤتمر اسلامي لوضع الأسس التي دعا اليها الفيصل. وقد سبق للرئيس الصومالي ان قدم اقتراحا الى مؤتمر العالم الاسلامي الذي عقد في مقديشو أواخر عام 1964م لعقد مؤتمر قمة اسلامي للنظر في شؤون المسلمين وتوحيد جهودهم، وتبنى المؤتمر هذا الاقتراح وأيد الملك فيصل الدعوة مجددا في اجتماع الدورة الثاني لرابطة العالم الاسلامي في 17/4/1965م في مكة المكرمة حيث قال: «اننا نؤيد الدعوة الى مؤتمر قمة اسلامي ليكون في مقدور أعلى قمة اسلامية ان تبحث في قضايا المسلمين وتقرر امورهم». وقد أكدت هزيمة 1967م ثم حرق المسجد الاقصى أهمية الدعوة الى مؤتمر القمة، فجاءت الدعوة مجددا إلى عقد مؤتمر قمة في الرباط وعقد فعلا في 12 سبتمبر 1969م، وحضرته حوالي 23 دولة. وقد احتوى البيان الختامي على بعض الفقرات التي تدعم التعاون والتضامن الاسلامي منها: «ايمانا منهم بأن وحدة عقيدتهم الدينية هي عامل قوي لتقارب شعوبهم وتفاهمها، وتعبيرا عن ايمانهم الراسخ بتعاليم الاسلامي التي أرست قاعدة المساواة التامة في الحقوق بين جميع البشر، يعلنون ما يلي: ستتشاور حكوماتهم بغية التعاون الوثيق والمساعدة المتبادلة في الميادين الاقتصادية والعلمية والثقافية والروحية، وحيا من تعاليم الاسلام».
وقد اجتمعت لجان المتابعة، ثم اجتمع وزراء خارجية الدول الاسلامية في جدة، حيث وافقوا على إنشاء امانة عامة للدول الاسلامية لتنسيق الأمور بين الدول الاسلامية. ووافقت على المشروع 17 دولة واعترضت عليه مصر والسودان وليبيا. وهاجم وزير خارجية مصر آنذاك محمود رياض مشروع تأسيس الامانة. وقد وضع ميثاق للمؤتمر الاسلامي الذي صدق عليه وزراء الخارجية في اجتماعهم الثالث في جدة بتاريخ 9 يناير 1973م. وفي اغسطس 1974 اجتمع وزراء مالية الدول الاسلامية وأقروا مشروع اتفاقية البنك الاسلامي للتنمية.
وتلا ذلك انشاء عدد من الهيئات المنبثقة عن منظمة المؤتمر الاسلامي التي حاولت ان تضع الاسس للتعاون بين الدول الاسلامية في عدد من المجالات المهمة.
ـ في اطار تفعيل التضامن الاسلامي أنشأ الملك فيصل في عام 1972م، بالاضافة الى منظمة المؤتمر التي تسعى لتحقيق التضامن الاسلامي على المستوى الرسمي بين الدول الاسلامية، الندوة العالمية للشباب الاسلامي لتحقيق التضامن بين المراكز الاسلامية والجاليات المسلمة في الدول غير الاسلامية وتقديم العون والمساعدة لهم، وكان ذلك في اثناء موسم الحج حيث عقد مؤتمر لمناقشة قضايا العالم الاسلامي. وبعد ذلك بحوالي عشر سنوات وايمانا من الفيصل بأهمية الشباب ودوره في نهضة الأمة وضرورة ان ينشأ على الاسلام والتضامن الاسلامي، انشئت الندوة العالمية للشباب الاسلامي عام 1392هـ /1972م لتحقيق التضامن الاسلامي بين شباب الأمة المسلمة وتقديم الخدمات لابناء المسلمين في انحاء العالم وتنسيق جهود المنظمات الشبابية والطلابية لتقوية الأمة الاسلامية وتعزيز وحدتها والارتباط فيما بين شعوبها واقطارها.
وعلى الرغم من أن التضامن الاسلامي الكامل لم يتحقق بعد، فان انجازات الملك فيصل وضعت الأسس ومهدت السبيل للخطوات القادمة. وقد ظل حتى استشهاده يرعى التضامن الاسلامي ومؤسساته ويقدم كل ما يستطيع لتفعيل دورها والوصول بها الى المستوى المطلوب.
ويعد الملك فيصل الرائد الحقيقي للتضامن الاسلامي في العصر الحديث، حيث كان مقتنعا بالتضامن فكرة ومنهجاً، وتوافرت لديه آليات تطبيق التضامن الإسلامي، فأخذ يسعى حثيثا لترسيخ قواعده وإقناع الآخرين به، مما دفع مشروع التضامن الإسلامي الى الأمام وجعله الخيار الأفضل الذي يتفق مع ثوابت الأمة ومنهاجها.
وتمكن الملك فيصل، الذي حكم بلاده من عام 1964 الى 1975م، من تسجيل مواقف مشرفة له في خدمة القضايا العربية والإسلامية، حيث أسهم في لم شمل العرب بعد هزيمة 1967، ووقف موقفا حازما فيما يتعلق بحرق المسجد الأقصى، كما أنه أول من استخدم سلاح النفط في وجه المعادين للحق العربي والإسلامي في فلسطين وغيرها. وقد هابه الغرب ونفذ كثيرا من مطالبه العادلة.
اعتبر الدكتور مانع بن حماد الجهني، الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي، وعضو مجلس الشورى السعودي سابقاً في رصده لفكرة وتاريخ التضامن الإسلامي ودور السعودية في ذلك، أن مشروع التضامن الإسلامي كان الهم الكبير الذي شغل الملك فيصل طوال حياته السياسية، ولاسيما بعد ان اشتدت حملة الأفكار المستوردة في المنطقة العربية خاصة الشيوعية، مشددا على أن الملك فيصل كان مؤمنا أعمق الإيمان بأن الأمة الاسلامية لا ينهض بها إلا الإسلام، ولقد تحمل في سبيل دعوته للتضامن الاسلامي عداوة المعارضين وتهم المشككين، ولكنه كان مؤمنا بما يفعل، ماضيا فيما يعتقد.
يقول صلاح الدين المنجد في كتابه أحاديث عن فيصل والتضامن الإسلامي: «لقد كان فيصل بطل الدعوة إلى التضامن الإسلامي، ولقد لقي في دعوته هذه مصاعب لا تحد، ومتاعب لا توصف، لكنه كان مؤمنا حقا فيما يدعو إليه. ما كان يبغي زعامة ولا شهرة، ولا سلطانا ولا ثروة، فتابع سيره في دعوته بذكاء وحذر، وجرأة وعناد، وحكمة ومرونة، حسب الظروف، واستطاع أن يبلغ هدفه وأن ينتصر».
وقد ذكر الدكتور المنجد أن ما حققه الملك فيصل ـ رحمه الله ـ في دعوته للتضامن الاسلامي يرقى إلى مصاف المعجزة الجديدة، حيث يقول: «وفي هذا القرن بدأت معجزة جديدة تحققت على يد رجل عظيم، المعجزة هي كسر القيود التي كانت تمنع المسلمين في كل مكان في العالم، من العودة إلى ما أمرهم به الإسلام من التعارف والتآلف، والتضامن والتعاون، والسعي إلى عودتهم أمة واحدة تعود من جديد خير أمة، وأقوى أمة وأنفع أمة، أما الرجل فهو فيصل بن عبد العزيز».
منطلقات دعوته للتضامن الإسلامي
* لقد رأى الملك فيصل أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تنهض وتتحقق لها العزة والكرامة، إلا من خلال عودة حقيقية الى منابع الاسلام الصافية، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والى ما تدعو اليه هذه المنابع من التزام بالإسلام وتضامن بين المسلمين وتعاون على البر والتقوى لما فيه خير الاسلام والأمة الاسلامية.
ولذا كانت دعوة الملك فيصل امتدادا للدعوات الإصلاحية التي تدعو إلى العودة إلى الإسلام وتطبيقه في مناحي الحياة كافة. فالأساس الأول لدعوة الملك فيصل للتضامن الإسلامي هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعودة إلى الإسلام من جديد.
. أما المنطلق الثاني لدعوة التضامن الإسلامي فكان الرغبة الأكيدة في صد الفكر الشيوعي الذي اكتسح المنطقة العربية والاسلامية ووجد مؤيدين ومدافعين بين حكام العرب والمسلمين الذين لم يروا في الاسلام ما رأوا في الشيوعية. ورأى الملك فيصل أن عليه أن يطرح الإسلام والتضامن بديلا عن الدعوات الاجنبية التي تتعارض مع دين الامة وفكرها وطبيعتها.
أما المنطلق الثالث لدعوة فيصل للتضامن الاسلامي فكانت رغبته الأكيدة في جمع كلمة الأمة الاسلامية على الإسلام وقيام جبهة إسلامية موحدة تقف في وجه الاستعمار والصهيونية العالمية ومطامعها في العالم العربي، وكذلك الوقوف في وجه الزحف الشيوعي الذي يريد أن يحصل على مواقع استراتيجية في العالم الإسلامي ينفذ من خلالها سياسيا واقتصاديا وايديولوجيا إلى مراكز الحضارة الاسلامية في أنحاء العالم. ولقد أدرك دعاة هذه الثلاثة: الاستعمار والصهيونية والشيوعية خطر دعوة التضامن الإسلامي فكانوا أبرز أعدائها. وقد حذر الملك فيصل في أكثر من خطبة من هذه المخاطر، وأوضح العلاقة بين الشيوعية والصهيونية في أكثر من مناسبة، فقد قال في خطبته في موسم حج عام 1390هـ: من هم أيها الأخوة قادة الشيوعية الذين حملوا لواءها وبثوا معتقداتهم في العالم؟ إنهم ايها الإخوة كلهم من الصهيونيين الذين خططوا وسعوا إلى تحطيم البشرية وتهديدها ليصلوا الى مبتغاهم، وهو السيطرة على العالم.
وقد حدد الشيخ مناع القطان بواعث دعوة الملك فيصل إلى التضامن الإسلامي في أمور عديدة في مقدمتها:
* الباعث الديني: انطلاقا من تربية الملك فيصل وثقافته وقناعته الفكرية والايمانية بأن الاسلام هو سبيل النجاة للمسلمين في كل زمان ومكان.
* مواجهة التيارات والشعارات المبددة لآمال الأمة: أصبحت المنطقة العربية مرتعاً خصباً لعدد من الأفكار المستوردة والدعوات المناوئة للاسلام فصمم فيصل على مواجهتها بالتضامن الاسلامي.
* الرغبة في جمع شتات المسلمين لاسترداد حقوقهم ودرء الأخطار المحدقة بهم. لقد رأى الفيصل أن في التضامن جمعاً لكلمة الأمة وتوحيداً لشتاتها وتقوية لضعفها والوقوف في وجه أعدائها.
ولا شك أن هذه هي المنطلقات الصحيحة التي ينبغي أن تنطلق منها الدعوات العظيمة التي يمكن أن تستجيب لها الأمة وتحقق من خلالها أهدافها التي تسعى اليها.
خطوات عملية لتحقيق التضامن
* لقد كان إيمان الملك فيصل بأهمية التضامن والتعاون بين المسلمين راسخاً حتى قبول توليه الحكم. كما يشهد بذلك كل من تتبع مسيرته واتصل به عن قرب. وعندما بدأ فعلاً بتنفيذ مشروعه للتضامن الاسلامي سار فيه بالتدريج على ثلاث مراحل:
ـ المرحلة الأولى: تمثلت في الدعوة الى التضامن الاسلامي وتأكيد أهمية التعاون بين المسلمين وانه هو السبيل الى تكامل الدول الاسلامية والتخلص من هيمنة: الاستعمار والصهيونية والشيوعية، وقد وجدت هذه الدعوة صدى لدى الكثيرين في العالم الاسلامي
خصوصا بين رجال الدعوة والفكر. وكان الملك فيصل يعرض دعوته في كل مناسبة ولا سيما في موسم الحج. ومع ذلك فقد وجدت معارضة شديدة من أعداء التضامن الإسلامي الذين حددهم «بأنهم الاستعماريون واليهود والصهيونيون والشيوعيون» و«اذنابهم من المخدوعين والمأجورين في العالم الاسلامي».
ـ المرحلة الثانية: تمثلت هذه المرحلة في برنامج الزيارات المكثف الذي قام به الملك فيصل، فقد اقتنع بأن فكرة التضامن الإسلامي اصبح لها مؤيدون وانها فكرة يمكن اقناع صانعي القرار في العالم الاسلامي بأهميتها. ولكن ذلك يحتاج الى اتصال شخصي وحوار مباشر مع حكام الدول الاسلامية وهكذا بدأت رحلات الملك فيصل المتعددة لدول العالم الاسلامي لكسب مؤيدين وأنصار لفكرة التضامن الاسلامي. وقد شملت رحلات الملك فيصل كثيرا من الدول الاسلامية، فقد قام برحلة في أواخر عام 1965م والنصف الأول من عام 1966م شملت الدول الآتية:
ـ إيران عام 1965 وزار في طريق عودته دولة الكويت، وفي عام 1966 زار كلا من الاردن والسودان وباكستان وتركيا والمغرب وغينيا ومالي وتونس.
أما رحلة الملك الثانية الطويلة فقد كانت إلى افريقيا في عام 1972م وقد شملت اوغندا وتشاد والسنغال وموريتانيا والنيجر.
ويلاحظ انه في كل هذه الزيارات كانت تصدر بيانات مشتركة يركز فيها على أهمية التضامن الإسلامي والتعاون بين الدول الاسلامية حتى في الدول العلمانية أو الشيوعية في ذلك الوقت، كما حصل في تركيا وغينيا. ولا شك أن في هذا نصرا لفكرة التضامن الاسلامي ونجاحا لسعي الملك فيصل في اقناع رؤساء الدول الإسلامية بأهمية التضامن الاسلامي والتعاون بين الدول الاسلامية.
ـ المرحلة الثالثة: من برنامج الملك فيصل للتضامن الإسلامي تمثلت في الخطوات العلمية التي وضعت القواعد الصلبة لمؤسسات التضامن الإسلامي حيث دعا لعقد المؤتمرات التي ناقشت الفكرة وتمخضت عن عقد مؤتمر قمة نتج عنه انشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، وكان من انجازات هذه الرحلة انشاء الندوة العالمية للشباب الإسلامي وغيرها من المؤسسات التي تدعم فكرة التضامن الإسلامي ومن ابرزها رابطة العالم الاسلامي التي انشئت في عهد الملك سعود بقرار من قادة المسلمين الذين اجتمعوا خلال المؤتمر اسلامي في عام 1962م في مكة المكرمة بواكير التضامن حقيقة واقعة
* لقد كان لجهود الملك فيصل وايمانه الذي لا يتزعزع بأهمية التضامن الاسلامي وضرورة السعي الى تحقيقه نتائج باهرة على المستويين العربي والإسلامي تحققت تدريجيا من الخطوات التدريجية التي اتبعها لتحقيق هدفه الكبير. فقد بدأ بالدعوة والتعريف بالتضامن وأهميته وضرورته للأمة الاسلامية ثم أتبع ذلك بزيارات متعددة لرؤساء الدول الاسلامية. وبعد ذلك بدأ بالخطوات التنفيذية التي جعلت بواكير التضامن حقيقة ملموسة ومن أهم تلك النتائج:
ـ توضيح مفهوم التضامن الاسلامي وإبراز آثاره الايجابية وايجاد القناعة بأنه السبيل الوحيد للنهوض بالأمة الاسلامية وتحقيق التعاون المثمر بين بلدانها واشاعة روح الوحدة والمحبة بين شعوبها. وقد سبق أن خفتت الدعوة الى التضامن الاسلامي والوحدة الاسلامية بعد الرواد الاوائل من امثال جمال الدين الافغاني ومحمد اقبال وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهما فأحياها الملك فيصل على مستوى أعلى وبزخم أشد وعرضها بديلا مناسبا من الدعوات المضللة التي اجتاحت المنطقة العربية. وقد تجاوز الملك فيصل في دعوته نطاق الدول العربية الى الدول الاسلامية في القارتين الاسيوية والافريقية.
ـ كسب أعوان ومؤيدين لمشروع التضامن الاسلامي وأهمية التعاون بين الدول الاسلامية وبناء جسور للتفاهم والسعي المشترك لتحقيق الاهداف التي يسعى اليها في خدمة الأمة الاسلامية.
ـ تعزيز موقف الدول العربية وحشد التأييد لقضية فلسطين قضية المسلمين الاولى، وقد اسفرت بعض الزيارات عن قطع علاقات بعض الدول التي زارها الفيصل مع اسرائيل مما يدل على نجاح مساعيه.
ـ القيام بالخطوات التنفيذية لعقد أول مؤتمر اسلامي لوضع الأسس التي دعا اليها الفيصل. وقد سبق للرئيس الصومالي ان قدم اقتراحا الى مؤتمر العالم الاسلامي الذي عقد في مقديشو أواخر عام 1964م لعقد مؤتمر قمة اسلامي للنظر في شؤون المسلمين وتوحيد جهودهم، وتبنى المؤتمر هذا الاقتراح وأيد الملك فيصل الدعوة مجددا في اجتماع الدورة الثاني لرابطة العالم الاسلامي في 17/4/1965م في مكة المكرمة حيث قال: «اننا نؤيد الدعوة الى مؤتمر قمة اسلامي ليكون في مقدور أعلى قمة اسلامية ان تبحث في قضايا المسلمين وتقرر امورهم». وقد أكدت هزيمة 1967م ثم حرق المسجد الاقصى أهمية الدعوة الى مؤتمر القمة، فجاءت الدعوة مجددا إلى عقد مؤتمر قمة في الرباط وعقد فعلا في 12 سبتمبر 1969م، وحضرته حوالي 23 دولة. وقد احتوى البيان الختامي على بعض الفقرات التي تدعم التعاون والتضامن الاسلامي منها: «ايمانا منهم بأن وحدة عقيدتهم الدينية هي عامل قوي لتقارب شعوبهم وتفاهمها، وتعبيرا عن ايمانهم الراسخ بتعاليم الاسلامي التي أرست قاعدة المساواة التامة في الحقوق بين جميع البشر، يعلنون ما يلي: ستتشاور حكوماتهم بغية التعاون الوثيق والمساعدة المتبادلة في الميادين الاقتصادية والعلمية والثقافية والروحية، وحيا من تعاليم الاسلام».
وقد اجتمعت لجان المتابعة، ثم اجتمع وزراء خارجية الدول الاسلامية في جدة، حيث وافقوا على إنشاء امانة عامة للدول الاسلامية لتنسيق الأمور بين الدول الاسلامية. ووافقت على المشروع 17 دولة واعترضت عليه مصر والسودان وليبيا. وهاجم وزير خارجية مصر آنذاك محمود رياض مشروع تأسيس الامانة. وقد وضع ميثاق للمؤتمر الاسلامي الذي صدق عليه وزراء الخارجية في اجتماعهم الثالث في جدة بتاريخ 9 يناير 1973م. وفي اغسطس 1974 اجتمع وزراء مالية الدول الاسلامية وأقروا مشروع اتفاقية البنك الاسلامي للتنمية.
وتلا ذلك انشاء عدد من الهيئات المنبثقة عن منظمة المؤتمر الاسلامي التي حاولت ان تضع الاسس للتعاون بين الدول الاسلامية في عدد من المجالات المهمة.
ـ في اطار تفعيل التضامن الاسلامي أنشأ الملك فيصل في عام 1972م، بالاضافة الى منظمة المؤتمر التي تسعى لتحقيق التضامن الاسلامي على المستوى الرسمي بين الدول الاسلامية، الندوة العالمية للشباب الاسلامي لتحقيق التضامن بين المراكز الاسلامية والجاليات المسلمة في الدول غير الاسلامية وتقديم العون والمساعدة لهم، وكان ذلك في اثناء موسم الحج حيث عقد مؤتمر لمناقشة قضايا العالم الاسلامي. وبعد ذلك بحوالي عشر سنوات وايمانا من الفيصل بأهمية الشباب ودوره في نهضة الأمة وضرورة ان ينشأ على الاسلام والتضامن الاسلامي، انشئت الندوة العالمية للشباب الاسلامي عام 1392هـ /1972م لتحقيق التضامن الاسلامي بين شباب الأمة المسلمة وتقديم الخدمات لابناء المسلمين في انحاء العالم وتنسيق جهود المنظمات الشبابية والطلابية لتقوية الأمة الاسلامية وتعزيز وحدتها والارتباط فيما بين شعوبها واقطارها.
وعلى الرغم من أن التضامن الاسلامي الكامل لم يتحقق بعد، فان انجازات الملك فيصل وضعت الأسس ومهدت السبيل للخطوات القادمة. وقد ظل حتى استشهاده يرعى التضامن الاسلامي ومؤسساته ويقدم كل ما يستطيع لتفعيل دورها والوصول بها الى المستوى المطلوب.