- الأحد ديسمبر 23, 2012 11:17 am
#58964
كان الظاهر بأمر الله عادلاً محسنًا قالوا إنه أعاد سنة العُمَرين، وكانت تأتيه الأخبار عن الناس والأحوال على عادة من قبله فيردها ويقول: أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم، فلا يكتب أحد لنا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا، فقيل له: إن العامة يفسدها ذلك ويعظم شرها، قال إنا ندعو الله أن يصلحهم، ولم يزل كل يوم يزداد من الخير والإحسان إلى الرعية، فجدد من العدل ما كان دارسًا، وأذكر من الإحسان ما كان منسيًّا حتى توفاه الله.
خلافة المستنصر بالله بن الظاهر
بويع المستنصر بالله بالخلافة من رجب 623 حتى جمادى الآخرة 640هـ بعد وفاة أبيه الظاهر بأمر الله، فنشر العدل بين الرعية، وبذل الإنصاف في القضايا، وقرب أهل العلم والدين، وبنى المساجد والمدارس، وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة، وجعل فيها دار حديث وحمامًا ودار طب، وجمع الجيوش لنصرة الإسلام، وأحبه الناس، وكان له ذا شجاعة وإقدام، وقد هزم جنود التتار في الوقت الذي خافهم البشر، وكان أخ شجاع أيضًا صاحب همة عالية يقال له الخفاجي، فكان يقول: لئن وُلّيت لأعبرن بالعسكر نهر جيحون، وآخذ البلاد من أيدي التتار وأستأصلهم. غير أنه لم يتول، وإنما تولى المستعصم بعد أبيه المستنصر.
وكان المستنصر جميل الصورة حسن السريرة جيد السيرة، كثير الصدقات والبر والصلات محسنًا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه. وكان يبني الربُط والقناطر والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات، وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء، لا سيما في شهر رمضان. وقد أوقف كتبًا نفيسة على المدرسة المستنصرية، توفي المستنصر في العاشر من جمادي الآخرة من عام 640 فكان عمره ثلاثًا وخمسين سنة.
آخر خلفاء العباسيين ببغداد
خلافة أبي أحمد عبد الله المستعصم بالله بن المستنصر
بويع المستعصم بالله بالخلافة في جمادى الآخرة 640هـ، حتى قتل بين يدي هولاكو خان في محرم 656هـ.
ففي آبائه سبعة عشر خليفة لم يغنوا عنه من الله شيئًا. وبقتله انتهت الخلافة العباسية ببغداد.
كان خيرًا متدينًا عفيف اللسان والفَرْج وكان يتقن تلاوة القرآن حفظًا وتجويدًا، خرج له الشرف الدمياطي 40 حديثًا، وأجيز له بالحديث، وأجاز جماعة بالحديث عنه، إلا أنه كان مستضعف الرأي ضعيف البطش.
وزيره مؤيد الدين محمد بن العلقمي صاحب التوجه الشيعي الناقم على الدولة العباسية وقيل إنه يهودي الأصل، وهو الذي كان يوافي التتار بأخبار المسلمين ويمنع أخبارهم من الوصول إلى المستعصم.
دخول التتار بغداد
يقول ابن كثير في وصف كيفية دخول التتار بغداد: ثم دخلت سنة 656هـ فيها أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها، حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها، استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكوخان، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل[1] يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفًا على نفسه من التتار ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى، وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئًا، كما ورد في الأثر "لا يغني حذر من قدر"، وكما قال تعالى: {إنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ} [نوح: 4].
وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك فزعًا شديدًا، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم. فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة.
وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها -وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، وهو شديد الحنق على الخليفة؛ بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه، وهو أن هولاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجهًا إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سَنِيَّة؛ ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم، فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا: إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشار بأن يبعث بشيء يسير، فأرسل شيئًا من الهدايا فاحتقرها هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه، ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية الشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، ولا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم بقية الجيش، كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله.
وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة، حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو خان، لعنه الله، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورءوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسًا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خواجة نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئًا كثيرًا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة.
وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو ألا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك!! وحسَّنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله، ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان نصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت، وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وانتخب هولاكو نصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة، هوَّن عليه الوزير ذلك فقتلوه رفسًا، وهو في جوالق لئلاَّ يقع على الأرض شيء من دمه، خافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل بل خنق، ويقال: بل أغرق، فالله أعلم. فباءوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده، ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانًا، بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.
وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكي لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعًا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتيين، والله غالب على أمره، وقد رد كيده في نحره، وأذله بعد العزة القعساء، وجعله حوشكاشًا للتتار بعدما كان وزيرًا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء.
وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يومًا، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفى قبره، وكان عمره يومئذ 46 سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله 25 سنة، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحدًا بعد واحد، منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد، وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما يذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين على ابن النيار، وقتل الخطباء والأئمة، وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي -قبحه الله ولعنه- أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون عملهم وعلمهم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى من ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده، فاجتمعا -والله أعلم- بالدرك الأسفل من النار.
ولما انقضى الأمراء المقدر وانقضت الأربعون يومًا بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمقابر، وكأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضًا فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، أما الوزير ابن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلة في الإنشاء ولديه فضيلة في الأدب، ولكنه كان شيعيًّا جلدًا رافضيًا خبيثًا، فمات جهدًا وغمًّا وحزنًا وندمًا، وإلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فولى الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام، ولله الحمد والمنة.
وذكر أبو شامة وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد، وذكروا أن سبب ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام، فالله أعلم.
خلافة المستنصر بالله بن الظاهر
بويع المستنصر بالله بالخلافة من رجب 623 حتى جمادى الآخرة 640هـ بعد وفاة أبيه الظاهر بأمر الله، فنشر العدل بين الرعية، وبذل الإنصاف في القضايا، وقرب أهل العلم والدين، وبنى المساجد والمدارس، وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة، وجعل فيها دار حديث وحمامًا ودار طب، وجمع الجيوش لنصرة الإسلام، وأحبه الناس، وكان له ذا شجاعة وإقدام، وقد هزم جنود التتار في الوقت الذي خافهم البشر، وكان أخ شجاع أيضًا صاحب همة عالية يقال له الخفاجي، فكان يقول: لئن وُلّيت لأعبرن بالعسكر نهر جيحون، وآخذ البلاد من أيدي التتار وأستأصلهم. غير أنه لم يتول، وإنما تولى المستعصم بعد أبيه المستنصر.
وكان المستنصر جميل الصورة حسن السريرة جيد السيرة، كثير الصدقات والبر والصلات محسنًا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه. وكان يبني الربُط والقناطر والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات، وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء، لا سيما في شهر رمضان. وقد أوقف كتبًا نفيسة على المدرسة المستنصرية، توفي المستنصر في العاشر من جمادي الآخرة من عام 640 فكان عمره ثلاثًا وخمسين سنة.
آخر خلفاء العباسيين ببغداد
خلافة أبي أحمد عبد الله المستعصم بالله بن المستنصر
بويع المستعصم بالله بالخلافة في جمادى الآخرة 640هـ، حتى قتل بين يدي هولاكو خان في محرم 656هـ.
ففي آبائه سبعة عشر خليفة لم يغنوا عنه من الله شيئًا. وبقتله انتهت الخلافة العباسية ببغداد.
كان خيرًا متدينًا عفيف اللسان والفَرْج وكان يتقن تلاوة القرآن حفظًا وتجويدًا، خرج له الشرف الدمياطي 40 حديثًا، وأجيز له بالحديث، وأجاز جماعة بالحديث عنه، إلا أنه كان مستضعف الرأي ضعيف البطش.
وزيره مؤيد الدين محمد بن العلقمي صاحب التوجه الشيعي الناقم على الدولة العباسية وقيل إنه يهودي الأصل، وهو الذي كان يوافي التتار بأخبار المسلمين ويمنع أخبارهم من الوصول إلى المستعصم.
دخول التتار بغداد
يقول ابن كثير في وصف كيفية دخول التتار بغداد: ثم دخلت سنة 656هـ فيها أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها، حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها، استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكوخان، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل[1] يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفًا على نفسه من التتار ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى، وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئًا، كما ورد في الأثر "لا يغني حذر من قدر"، وكما قال تعالى: {إنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ} [نوح: 4].
وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك فزعًا شديدًا، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم. فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة.
وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها -وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، وهو شديد الحنق على الخليفة؛ بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه، وهو أن هولاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجهًا إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سَنِيَّة؛ ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم، فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا: إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشار بأن يبعث بشيء يسير، فأرسل شيئًا من الهدايا فاحتقرها هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه، ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية الشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، ولا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم بقية الجيش، كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله.
وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة، حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو خان، لعنه الله، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورءوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسًا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خواجة نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئًا كثيرًا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة.
وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو ألا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك!! وحسَّنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله، ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان نصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت، وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وانتخب هولاكو نصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة، هوَّن عليه الوزير ذلك فقتلوه رفسًا، وهو في جوالق لئلاَّ يقع على الأرض شيء من دمه، خافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل بل خنق، ويقال: بل أغرق، فالله أعلم. فباءوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده، ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانًا، بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.
وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكي لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعًا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتيين، والله غالب على أمره، وقد رد كيده في نحره، وأذله بعد العزة القعساء، وجعله حوشكاشًا للتتار بعدما كان وزيرًا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء.
وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يومًا، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفى قبره، وكان عمره يومئذ 46 سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله 25 سنة، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحدًا بعد واحد، منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد، وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما يذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين على ابن النيار، وقتل الخطباء والأئمة، وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي -قبحه الله ولعنه- أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون عملهم وعلمهم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى من ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده، فاجتمعا -والله أعلم- بالدرك الأسفل من النار.
ولما انقضى الأمراء المقدر وانقضت الأربعون يومًا بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمقابر، وكأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضًا فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، أما الوزير ابن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلة في الإنشاء ولديه فضيلة في الأدب، ولكنه كان شيعيًّا جلدًا رافضيًا خبيثًا، فمات جهدًا وغمًّا وحزنًا وندمًا، وإلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فولى الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام، ولله الحمد والمنة.
وذكر أبو شامة وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد، وذكروا أن سبب ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام، فالله أعلم.