منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#59332
يطرح موضوع العولمة ثلاثة اشكالات نظرية وفعلية رئيسة. تتعلق الاولى بغموض وتعقيد مفهوم العولمة، وترتبط الثانية باختلاف الرأي حولها ووجود نظرتين مختلفتين للعولمة احداهما سلبية والأخرى ايجابية. ومصدر الاشكالية الثالثة هو الاختلاف على كيفية التعامل مع ظاهرة العولمة. ويعود سبب الصعوبة في تعريف العولمة الى حقيقة ان العولمة تتضمن مجموعة متداخلة من العناصر والمضامين ومستويات التحليل والعلاقات. فالعولمة عملية تغير سياسية واقتصادية وثقافية عالمية تتعلق بالنظام الدولي وبالتقنية المدنية والعسكرية، وثورة المعلومات والاتصالات، والانتاج الاقتصادي، والاستثمار الدولي، والعمالة الوطنية والاجنبية، والسيادة الوطنية للدولة والهيمنة الخارجية، وبالثقافة المحلية والثقافات الاجنبية وتحديات الهوية الوطنية، وغير ذلك من العناصر والمضامين. فمن الطبيعي لظاهرة العولمة هذه ان تكون معقدة وصعبة التعريف.
ترتبط فكرة العولمة من حيث المبدأ بعملية احتكاك واتصال وتفاعل الجماعات البشرية المختلفة مع بعضها. وهناك من المفكرين من يعود الى الجذور التاريخية للعولمة ويجدها في الامبراطوريات القديمة التي ضمت شعوبا وقبائل مختلفة مثل الامبراطورية الرومانية والخلافة الاسلامية وهناك من يرى ان نشوء الدولة القومية هي عملية عولمة بالنسبة لمرحلة القبيلة والاقطاعية والامارة التي سبقتها. ويعيد البعض عملية العولمة الى سيطرة اوربا على العالم والى نشوء النظام الدولي وتطوره بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية. ويؤكد البعض على اهمية التفريق بين العولمة وبين مبدأ العالمية الذي يوجد في الديانتين المسيحية والاسلامية كما يوجد في بعض الآيديولوجيات السياسية مثل الشيوعية والرأسمالية. ويركز بعض المفكرين في شرحهم للعولمة على التطورات السياسية والاقتصادية والتقنية التي شهدها العالم منذ بداية الخمسينات الميلادية والتي وضعت غالبية دول العالم امام تحديات سياسية واقتصادية وثقافية دولية كبيرة.

ويتضح مما سبق ان مفهوم العولمة ليس مفهوما جديدا ويرتبط بمفهوم الاعتماد الدولي المتبادل ولكنه اخذ في اعقاب انتهاء الحرب الباردة ابعادا جديدة وسيطر على النظريات والاطروحات السياسية والاقتصادية والثقافية. فلقد ارتبط مفهوم العولمة الجديد بانتصار الرأسمالية الديمقراطية على الشيوعية الشمولية، وهذا ما جعل البعض يقولون إن العولمة هي عولمة الانتاج الرأسمالي وعولمة علاقاته وانظمته وقيمه. وهناك كما اعتقد حقيقة تاريخية مهمة تؤكد ان التجربة الدولية الثقافية كانت وما زالت تحظى بنفس اهمية التجربتين الدوليتين السياسية والاقتصادية. فالتجربة الانسانية هي تجربة سياسية اقتصادية ثقافية متداخلة والبعض يرى بأن التجربة الانسانية في حقيقتها هي تجربة ثقافية. ولقد اعادت التطورات الدولية التي اعقبت انتهاء الحرب الباردة تأكيد القوة الثقافية في الحياة الانسانية. وغني عن القول ان عملية العولمة الحالية تعمل لصالح ولخدمة الانماط السياسية والاقتصادية والثقافية الغربية. وبينما اظهرت غالبية دول ومجتمعات العالم قبولها واستعدادها للتكيف مع الاسس والمؤسسات والانماط السياسية والاقتصادية الغربية فإن الكثير منها رفض شيوع الثقافة الغربية وهيمنتها وركز على مواجهتها. وهذه هي المشكلة الرئيسية الاولى المرتبطة بالعولمة وهي مشكلة ثقافية. وتتمثل المشكلة الثانية وهي مشكلة سياسية واقتصادية في رفض آحادية السيطرة الامريكية على العالم ورفض هيمنة الاقتصاد الرأسمالي الغربي على الاقتصاد الدولي. وان المشكلة الثقافية للعولمة في نظري هي المشكلة الاصعب والاكثر تعقيدا. فالمشكلة السياسية الاقتصادية المرتبطة بالنفوذ الامريكي وبسيطرة الاقتصاد الغربي يمكن ان تعالج من خلال منظمات وترتيبات واتفاقيات دولية تعمل على تحقيق التوازن بين رغبة الاطراف المهيمنة وبين السيادة الوطنية للدولة. فالعولمة السياسية والاقتصادية في ظل النظام الدولي الجديد لا تسعى ولن تتمكن من القضاء على السيادة الوطنية للدولة وامريكا ليست في طريقها لتكوين امبراطورية دولية جديدة مثل الامبراطورية الرومانية القديمة ولا حتى مثل الامبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر. ولهذا فإن العولمة السياسية والاقتصادية لن تخلق مشكلة دولية جديدة. ولكن الوضع يختلف بالنسبة للعولمة الثقافية. فالانماط الثقافية الغربية التي اصبحت تنتشر بخطوات سريعة على صعيد عالمي أدت بنفس الوقت الى وجود ردود افعال ثقافية وطنية قوية، والى تقوية بعض المظاهر التقليدية في الثقافات المحلية. فكثير من المثقفين والقادة الوطنيين في الدول النامية ينظرون للانماط الثقافية الاجنبية وخاصة الانماط الغربية نظرة ريبة ويرون فيها تهديدا قويا للثقافات الوطنية المحلية ولهذا فانهم يعارضونها ويحاربونها. واهم المواجهات الثقافية الرئيسية الموجودة في العالم في الوقت الحاضر هي مواجهة الثقافة الاسلامية للثقافة الغربية. والعرب المسلمون مشغولون اكثر من غيرهم من شعوب العالم في مواجهة مأزق التعامل مع العولمة وفي محاولة اجابة الاسئلة والخيارات الصعبة التي تقرر ماذا يقبلون من الانماط الغربية وماذا يرفضون. فغالبية المفكرين الاسلاميين يرفضون الفكرة التي ترى ان المرحلة التاريخية البشرية الحالية تعمل على بلورة ثقافة كونية جديدة يمكن وصفها (بثقافة العولمة) ويعتقدون بأنهم يواجهون عملية (عولمة الثقافة) التي تتمثل في محاولة فرض انماط الثقافة الغربية المنتصرة على العالم. وبعضهم يرون في العولمة الثقافية او (العدوان الثقافي الغربي على العالم العربي والاسلامي) كما يسمونها تهديدا مباشرا ليس للثقافة العربية والاسلامية فقط ولكن للسيادة الوطنية وللهوية العربية الاسلامية، فالعولمة كما يرونها تقدم مرجعية دولية جديدة للمجتمعات الاهلية والمحلية في العالم الاسلامي تختلف بشكل كبير عن المرجعية الاسلامية القائمة منذ مئات السنين. وان هذه المواجهة بين المفكرين الاسلاميين والعولمة الثقافية لا تشكل في نظري مشكلة كبيرة او خطيرة بحد ذاتها ويمكن فهمها بوصفها رد فعل طبيعي لخطر تحدي ثقافة اجنبية براقة. فمنذ اكثر من عقدين مثلا والمثقفون والزعماء السياسيون الفرنسيون يعارضون انتشار مطاعم الوجبات السريعة الامريكية في فرنسا وينتقدون الافلام الامريكية لانها تنمي ثقافة العنف، ويرفضون الكثير من التقليعات الامريكية الحديثة، ويعتقدون بأن الموسيقى الامريكية الجديدة متخلفة مقارنة بالموسيقى الفرنسية وان الخبز الفرنسي مع الزبدة أفضل بكثير من (البانكيك) والبيتزا. وقد يكون بعض ما يقوله الفرنسيون صحيحا وبعضه الآخر غير صحيح، والمهم هو ان المسألة تنتهي عند هذا الحد. ولكن الوضع يختلف كما اعتقد في العالم الاسلامي. فبعض الافكار التي يثيرها المفكرون الاسلاميون في مواجهة العولمة يتبناها بعض زعماء الحركات السياسية المتطرفة ويوظفونها في خطابهم السياسي ويستخدمونها في استقطاب عامة الناس من الجهلاء والمتعصبين والمتحمسين.

واذا كانت العولمة السياسية والاقتصادية لا تعني اضمحلال الدولة الوطنية ولن تؤدي الى القضاء على سيادتها وما دامت الدول تلعب دورا كبيرا في التحكم بثقافاتها الوطنية فإن المبالغة في الدعوة الى مواجهة الثقافات الأخرى ليست مبررة وقد تؤدي الى بعض الاخطار وفي مقدمتها خطرا الانغلاق والتطرف. ولهذا فإن المفكرين الاسلاميين مدعوون في تعاملهم ومواجهتهم للعولمة الثقافية الى تحديد افكارهم بوضوح والى توخي الدقة في اختيار مفرداتهم وذلك حتى لا يدفعوا عامة المسلمين نحو الانغلاق وحتى لا يعطوا أي فرصة لزعماء الحركات المتطرفة التي تدعي الاسلام باستغلال الافكار التي يطرحونها عن العولمة الثقافية. فنحن اصحاب حضارة عريقة ومرجعيتنا الاسلامية قوية ومتأصلة في النفوس ولا يمكن زعزعتها او تهديد ثوابتها بسهولة. ولهذا فإن تفاعلنا مع العولمة الثقافية ينبغي ان يكون تفاعل القوي الواثق وليس تفاعل الضعيف الخائف.