ما يجري في مالي
مرسل: السبت مارس 16, 2013 8:19 am
سيكون من السخف بالطبع تلخيص التطورات المتسارعة في مالي بأنها تعود فحسب الى الحدث الليبي: التدخل العسكري الاطلسي هناك، وزوال حكم القذافي… ولو أنه من الصحيح بداية أن القذافي كان قد طور معرفة بكيفية التدخل في إدارة الأمور في بلدان منطقة «الساحل» الأفريقية التي تمتد على عرض القارة، جنوب البلدان العربية فيها، من الصومال على الطرف الشرقي وحتى موريتانيا على الطرف الغربي منها… وأن «ملك ملوك أفريقيا» قد تمكن من امتلاك نفوذ فعلي فيها بفضل مزيج من الإمكانات المالية الكبيرة التي كان ينفقها هناك، ومن رعاية علاقات متنوعة.
وفي اليومين الماضيين، أمكن رؤية عشرات التعليقات على مواقع الكترونية عبر العالم، تردّ تفجر الأحوال في مالي الى غياب «صمام الأمان» ذاك، وتسخر من الحكومات الغربية التي لا ترى أبعد من أنفها.
كما هو صحيح ان الآلاف من أبناء طوارق مالي كانوا منخرطين في الجيش الليبي، منذ التسعينيات، وأنهم غادروه عائدين الى منطقتهم الأصلية، وأن كميات كبيرة من الأسلحة، الخفيفة والثقيلة، التي كانت في مستودعات القذافي أو التي وزعها «الناتو»، قد وصلت الى أيدي مجموعات قائمة، فغيرت تماماً من قدراتها الميدانية.
ورغم عدم امتلاكها حدوداً مشتركة مع ليبيا، تتشارك مالي في هذا الأثر مع التشاد، التي تمتد حدودها مع كل من ليبيا والسودان، فيتجاوز طول كل منها الألف كيلومتر. بينما تتقاسم مالي حدوداً طويلة هي الاخرى مع الجزائر وموريتانيا.
منطقة الساحل تلك لغز كبير أو هي سر.... هناك افتراضات ما زالت في طور الشائعات عن اختزان جوف أراضيها الصحراوية لمعادن ثمينة ونادرة، بل استراتيجية، علاوة على البترول والغاز.... وهناك شائعات لا تقل قوة عن استخدام الدول الغربية لتلك الاراضي كمدافن للنفايات النووية المشعة ولسواها من المواد الكيماوية المدمرة للبيئة والانسان، وسط عدم مبالاة عامة حيال مصير هذه المناطق المترامية من الكثبان الرملية التي تسكنها جماعات متنوعة.
وإن كان الطوارق أهمها، فهم ليسوا وحدهم فيها. فهناك مثلا «التبو» الذين اشتبكوا في الأيام الماضية مع القبائل العربية في جنوب ليبيا، ووقع نتيجة ذلك مئات القتلى... ولهؤلاء امتداداتهم خارج الحدود الليبية، تماماً كما يمتد الطوارق على أكثر من بلد افريقي.
هذا حتى لو اعتبرت «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» التي بدأت التمرد في شمالي مالي، أن منطقة أزواد هي مهد بلاد الطوارق، إذ أن مطالبتها باستقلال «بلادها»، تعني إعادة تركيب للخارطة السياسية في مالي بالتأكيد، ولكن أيضاً في عدة دول افريقية... وهذا مس باستقرار الحدود الكولونيالية المكرسة منذ نصف قرن، والتي يقوم على أساسها الاتحاد الأفريقي... وفي الواقع، فقد مُست هذه الحدود مرات، وإن قليلة، كان آخرها نشوء «دولة جنوب السودان».
ومع حفظ الفوارق، أفلا يذكرنا هذا بمعطيات تقوم في قلب المنطقة العربية، أبرزها تلك العائدة للمسألة الكردية؟
ما يجري في مالي يخصنا إذاً، ليس فحسب لأنه على تماس جغرافي مع بلدان عربية، وليس فحسب لأنه واحد من تداعيات الأحداث التي عصفت بتلك البلدان، بل وعلاوة على ذلك وقبلهما، لأنه يثير القضية الشائكة لحقوق الجماعات المختلفة، عرقياً أو دينياً أو جهوياً أو قبلياً أو مذهبياً...وتفحص ولادة نزوع لديها للانفصال في وقت من الأوقات وفي ظروف محددة، بينما يكون الجنوح الى متحدات كبيرة والى بناء مشاريع مجتمعية وسياسية هو الطاغي بينها هي نفسها في أحوال أخرى. ويعني هذا أن مسألة تلك الحقوق لا تمتلك إجابات من داخل منطقها الخاص.
وفي الحالة التي نحن بصددها، يتفق جميع الباحثين على استحالة قيام «بلاد الطوارق»، بسبب ما تعنيه من تعديل في حدود أكثر من بلد، وبسبب ضعف قدرتها على توفير مستلزمات ومقومات حياتها الخاصة، بما في ذلك الإبقاء على وحدتها بوجه صراعات لا تنتهي بين الجماعات الفرعية، سواء كانت جهوية أو ايديولوجية.
وها نحن نرى في مالي وخلال بضعة أيام من التطورات المتسارعة، صراعاً بين «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» التي تعرِّف نفسها بانتمائها الى المنطقة المحددة التي تحمل اسمها، وتشدد أيضاً على طابعها العلماني، ويرأسها محمد آغا نجم الذي كان حتى أشهر ضابطاً في الجيش الليبي، و«حركة أنصار الدين» التي تعلن انتماءها الى «القاعدة في المغرب الإسلامي»، وهي حركة من أبناء الطوارق ولكنها تقوم على أساس إسلامي وتفاخر بأنها تحوي في صفوفها صوماليين وموريتانيين ونيجيريين وتوانسة، ويرأسها أياد أغَّالي ويسانده الجزائري المختار بلمختار، زعيم أحد انشقاقات «القاعدة» في المغرب الإسلامي، «حركة الوحدة والجهاد»! وقد طردت «أنصار الدين» «حركة تحرير أزواد» من تمبكتو ورفعت أعلام القاعدة على مباني المدينة الشهيرة.
ما يجري في مالي يخصنا أيضاً، لأنه يطرح مسألة الإحجام عن التنمية، والإفقار المتعمد للناس خدمةَ لسياسات الشركات المتعددة الجنسيات ومصالحها، والتساهل، بل تشجيع الاقتصادات الموازية والمافياوية (منطقة الصحراء معروفة بالتهريب، وقد أضيف الكوكايين الى قائمة مواده، وهو يأتي من جنوب أميركا، ولا يوجد من يعتقد أن الطوارق يتولون جلبه من هناك ليمر الى أسواق أوروبا)....ويطرح عدم الاكتراث لانهيار البنى الإنتاجية كلها، ومعها مؤسسات الدولة. وهو كله مما تشهده بلداننا، وكان واحداً من أهم أسباب ثوراته
تمثل الزراعة 45 في المئة من الناتج الوطني الخام في مالي ويعمل فيها 70 في المئة من السكان... ولكن هناك فحسب 10 في المئة من الأراضي القابلة للزراعة مستغلة فعلاً، كما جرى تدمير زراعات مالي، وعلى رأسها القطن (وهو كان يأتي بعد الذهب في صادراتها)، بفعل منافسة البلدان الغنية وانتهاجها سياسات دعم قطاع القطن فيها (كحال الولايات المتحدة)، بمقابل منع البنك وصندوق النقد الدوليين مالي من اعتماد سياسات حمائية، ومن جدولة اولوياتها بما يلائم السكان.
وقد دفعت المؤسستان السلطات المالية الى إعادة الهيكلة (كالعادة) والى خصخصة شركات البلاد كلها، بما فيها الماء والكهرباء و«شركة مالي لتطوير النسيج»!، فكيف يعيش الـ14 مليون إنسان ونيف (وهو عدد المقيمين وليس كل الماليين، مما يقول الكثير عن حجم الهجرة)، إلا في فقر مدقع يشمل 50 في المئة من السكان، بل وفي ظل مجاعة كما بالنسبة لبعض مناطق البلاد، ما يضع مالي في أسفل سلم التنمية البشرية (بحسب ارقام 2008)، أي في المرتبة 173 من أصل 177 بلداً، ويدفع أهله للهرب منه تائهين في الصحراء أو غارقين في المتوسط فيما هم يحاولون عبوره خلسة.
حتى الملح والرز والذرة التي يعتمد عليها السكان في طعامهم، تعرضت لمنافسة شركات عملاقة كـ«مونسانتو» الاميركية التي تريد إلغاء الزراعة التقليدية واستبدالها بزراعات معدلة جينياً، تتحكم هي في بذارها وفي أسعار تسويقها، علاوة على تسببها بأمراض لم يكن يعرفها السكان قبلاً.
يمكن بالطبع إدانة انقلاب الرتباء في باماكو والاندهاش من وقوع نصف مساحة مالي (التي تتجاوز المليون كلمتر مربع) في يد حركات الطوارق خلال ايام قلائل، مما يقول الكثير عن حالة النخران القائمة والبحث عن رجل لينقذ الموقف.
ويمكن للسيد جوبيه، وزير خارجية فرنسا، المستعمر السابق، أن يعلن بلا مواربة أن بلده لا تنوي التدخل في مالي... ولكن ذلك كله لن يغيب أنها منطقة منكوبة بفعل السياسات العامة المطبقة عليها، وأن نكبتها غير قابلة للحصر في رقعتها، بل تجد طريقها للامتداد حتى قلب العالم «المتحضر»...هل من حاجة للتذكير بأمثلة؟
وفي اليومين الماضيين، أمكن رؤية عشرات التعليقات على مواقع الكترونية عبر العالم، تردّ تفجر الأحوال في مالي الى غياب «صمام الأمان» ذاك، وتسخر من الحكومات الغربية التي لا ترى أبعد من أنفها.
كما هو صحيح ان الآلاف من أبناء طوارق مالي كانوا منخرطين في الجيش الليبي، منذ التسعينيات، وأنهم غادروه عائدين الى منطقتهم الأصلية، وأن كميات كبيرة من الأسلحة، الخفيفة والثقيلة، التي كانت في مستودعات القذافي أو التي وزعها «الناتو»، قد وصلت الى أيدي مجموعات قائمة، فغيرت تماماً من قدراتها الميدانية.
ورغم عدم امتلاكها حدوداً مشتركة مع ليبيا، تتشارك مالي في هذا الأثر مع التشاد، التي تمتد حدودها مع كل من ليبيا والسودان، فيتجاوز طول كل منها الألف كيلومتر. بينما تتقاسم مالي حدوداً طويلة هي الاخرى مع الجزائر وموريتانيا.
منطقة الساحل تلك لغز كبير أو هي سر.... هناك افتراضات ما زالت في طور الشائعات عن اختزان جوف أراضيها الصحراوية لمعادن ثمينة ونادرة، بل استراتيجية، علاوة على البترول والغاز.... وهناك شائعات لا تقل قوة عن استخدام الدول الغربية لتلك الاراضي كمدافن للنفايات النووية المشعة ولسواها من المواد الكيماوية المدمرة للبيئة والانسان، وسط عدم مبالاة عامة حيال مصير هذه المناطق المترامية من الكثبان الرملية التي تسكنها جماعات متنوعة.
وإن كان الطوارق أهمها، فهم ليسوا وحدهم فيها. فهناك مثلا «التبو» الذين اشتبكوا في الأيام الماضية مع القبائل العربية في جنوب ليبيا، ووقع نتيجة ذلك مئات القتلى... ولهؤلاء امتداداتهم خارج الحدود الليبية، تماماً كما يمتد الطوارق على أكثر من بلد افريقي.
هذا حتى لو اعتبرت «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» التي بدأت التمرد في شمالي مالي، أن منطقة أزواد هي مهد بلاد الطوارق، إذ أن مطالبتها باستقلال «بلادها»، تعني إعادة تركيب للخارطة السياسية في مالي بالتأكيد، ولكن أيضاً في عدة دول افريقية... وهذا مس باستقرار الحدود الكولونيالية المكرسة منذ نصف قرن، والتي يقوم على أساسها الاتحاد الأفريقي... وفي الواقع، فقد مُست هذه الحدود مرات، وإن قليلة، كان آخرها نشوء «دولة جنوب السودان».
ومع حفظ الفوارق، أفلا يذكرنا هذا بمعطيات تقوم في قلب المنطقة العربية، أبرزها تلك العائدة للمسألة الكردية؟
ما يجري في مالي يخصنا إذاً، ليس فحسب لأنه على تماس جغرافي مع بلدان عربية، وليس فحسب لأنه واحد من تداعيات الأحداث التي عصفت بتلك البلدان، بل وعلاوة على ذلك وقبلهما، لأنه يثير القضية الشائكة لحقوق الجماعات المختلفة، عرقياً أو دينياً أو جهوياً أو قبلياً أو مذهبياً...وتفحص ولادة نزوع لديها للانفصال في وقت من الأوقات وفي ظروف محددة، بينما يكون الجنوح الى متحدات كبيرة والى بناء مشاريع مجتمعية وسياسية هو الطاغي بينها هي نفسها في أحوال أخرى. ويعني هذا أن مسألة تلك الحقوق لا تمتلك إجابات من داخل منطقها الخاص.
وفي الحالة التي نحن بصددها، يتفق جميع الباحثين على استحالة قيام «بلاد الطوارق»، بسبب ما تعنيه من تعديل في حدود أكثر من بلد، وبسبب ضعف قدرتها على توفير مستلزمات ومقومات حياتها الخاصة، بما في ذلك الإبقاء على وحدتها بوجه صراعات لا تنتهي بين الجماعات الفرعية، سواء كانت جهوية أو ايديولوجية.
وها نحن نرى في مالي وخلال بضعة أيام من التطورات المتسارعة، صراعاً بين «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» التي تعرِّف نفسها بانتمائها الى المنطقة المحددة التي تحمل اسمها، وتشدد أيضاً على طابعها العلماني، ويرأسها محمد آغا نجم الذي كان حتى أشهر ضابطاً في الجيش الليبي، و«حركة أنصار الدين» التي تعلن انتماءها الى «القاعدة في المغرب الإسلامي»، وهي حركة من أبناء الطوارق ولكنها تقوم على أساس إسلامي وتفاخر بأنها تحوي في صفوفها صوماليين وموريتانيين ونيجيريين وتوانسة، ويرأسها أياد أغَّالي ويسانده الجزائري المختار بلمختار، زعيم أحد انشقاقات «القاعدة» في المغرب الإسلامي، «حركة الوحدة والجهاد»! وقد طردت «أنصار الدين» «حركة تحرير أزواد» من تمبكتو ورفعت أعلام القاعدة على مباني المدينة الشهيرة.
ما يجري في مالي يخصنا أيضاً، لأنه يطرح مسألة الإحجام عن التنمية، والإفقار المتعمد للناس خدمةَ لسياسات الشركات المتعددة الجنسيات ومصالحها، والتساهل، بل تشجيع الاقتصادات الموازية والمافياوية (منطقة الصحراء معروفة بالتهريب، وقد أضيف الكوكايين الى قائمة مواده، وهو يأتي من جنوب أميركا، ولا يوجد من يعتقد أن الطوارق يتولون جلبه من هناك ليمر الى أسواق أوروبا)....ويطرح عدم الاكتراث لانهيار البنى الإنتاجية كلها، ومعها مؤسسات الدولة. وهو كله مما تشهده بلداننا، وكان واحداً من أهم أسباب ثوراته
تمثل الزراعة 45 في المئة من الناتج الوطني الخام في مالي ويعمل فيها 70 في المئة من السكان... ولكن هناك فحسب 10 في المئة من الأراضي القابلة للزراعة مستغلة فعلاً، كما جرى تدمير زراعات مالي، وعلى رأسها القطن (وهو كان يأتي بعد الذهب في صادراتها)، بفعل منافسة البلدان الغنية وانتهاجها سياسات دعم قطاع القطن فيها (كحال الولايات المتحدة)، بمقابل منع البنك وصندوق النقد الدوليين مالي من اعتماد سياسات حمائية، ومن جدولة اولوياتها بما يلائم السكان.
وقد دفعت المؤسستان السلطات المالية الى إعادة الهيكلة (كالعادة) والى خصخصة شركات البلاد كلها، بما فيها الماء والكهرباء و«شركة مالي لتطوير النسيج»!، فكيف يعيش الـ14 مليون إنسان ونيف (وهو عدد المقيمين وليس كل الماليين، مما يقول الكثير عن حجم الهجرة)، إلا في فقر مدقع يشمل 50 في المئة من السكان، بل وفي ظل مجاعة كما بالنسبة لبعض مناطق البلاد، ما يضع مالي في أسفل سلم التنمية البشرية (بحسب ارقام 2008)، أي في المرتبة 173 من أصل 177 بلداً، ويدفع أهله للهرب منه تائهين في الصحراء أو غارقين في المتوسط فيما هم يحاولون عبوره خلسة.
حتى الملح والرز والذرة التي يعتمد عليها السكان في طعامهم، تعرضت لمنافسة شركات عملاقة كـ«مونسانتو» الاميركية التي تريد إلغاء الزراعة التقليدية واستبدالها بزراعات معدلة جينياً، تتحكم هي في بذارها وفي أسعار تسويقها، علاوة على تسببها بأمراض لم يكن يعرفها السكان قبلاً.
يمكن بالطبع إدانة انقلاب الرتباء في باماكو والاندهاش من وقوع نصف مساحة مالي (التي تتجاوز المليون كلمتر مربع) في يد حركات الطوارق خلال ايام قلائل، مما يقول الكثير عن حالة النخران القائمة والبحث عن رجل لينقذ الموقف.
ويمكن للسيد جوبيه، وزير خارجية فرنسا، المستعمر السابق، أن يعلن بلا مواربة أن بلده لا تنوي التدخل في مالي... ولكن ذلك كله لن يغيب أنها منطقة منكوبة بفعل السياسات العامة المطبقة عليها، وأن نكبتها غير قابلة للحصر في رقعتها، بل تجد طريقها للامتداد حتى قلب العالم «المتحضر»...هل من حاجة للتذكير بأمثلة؟