صفحة 1 من 1

ازمة التطور الومي في السودان

مرسل: السبت إبريل 06, 2013 7:51 pm
بواسطة ممدوح تيسير العتيبي
القبلية وضرورة القراءة الموضوعية للتاريخ
تطور الذات القبلية في اتجاه علاقات الهيمنة والخضوع في إطار التنوع وتعدد القوميات ، يشكل أزمة حقيقية في استقرار معظم الدول ووحدتها الوطنية وتكاملها القومي. ومن هنا تأتي أهمية القراءة الموضوعية لهذه المسالة ووضعها في سياقها التاريخي كجزء من أزمة التطور القومي في السودان بشكل عام. وقد بدا لبعض الباحثين السودانيين في الآونة الأخيرة ، أهمية العودة إلى التاريخ السوداني لاستبطان جذور الذات القبلية . وفي هذا الإطار، يؤكد مختار عجوبة، عند قراءته لمذكرات يوسف ميخائيل، على ضرورة العودة إلى قراءة التاريخ السوداني. ويقول في هذا الصدد: "إن تاريخ السودان كتبه الأجانب والشماليون وقراؤه بطرق مختلفة، وغداً يكتبه الجنوبيون بطرق مختلفة . وواجب الكتاب أن يعيدوا قراءة التاريخ..بتجرد تام عن الهوى. وفي ذات الاتجاه يقول زكي البحيري " أن كتابة تاريخ السودان في القرون الوسطى كانت وكأنها دراسة لمجموعة من القبائل ، تمثل كل قبيلة فيه شعباً قائماً بذاته.
لقد ظهرت على الساحة السودانية دعوات تنادي بالقومية السودانية التي لا تستند على أي نوع من التحيز العرقي أو الثقافي بقدر ما تستند على مجمل الروافد التاريخية التي تشكل الهوية السودانية . وعلى عكس الكتابات التي تنادي في نعرة عنصرية بالسودان العربي المسلم ، كما هي الحال في كتابات عبد الرحمن الضرير في كتابه" العربية في السودان"، ومحمد عبد الرحيم في كتابه " نفثات اليراع في الأدب والتاريخ والثقافة " ، جاء طرح المنظور الفكري للسودانوية الذي تولى نشره أحمد الطيب زين العابدين وفي تحليلات نورالدين ساتي حول العناصر التاريخية للأمة السودانية. كما جاءت مساهمات مدرسة الغابة والصحراء وكتابات محمد عبد الحي ومحمد المكي إبراهيم والنور عثمان، لتفعيل التاريخ السوداني لخدمة القومية السودانية في إطارها الأفروعربية.
وبدأ الاهتمام بالحقوق التاريخية لكل الأقوام السودانية على حد سواء ، يتخذ منحى تصاعدياًً مع إعلان قوانين سبتمبر1983 ، وبعد إعلان قيام الدولة الواحدية في يوليو 1986 وما تبعها من زخم وتعبئة جهادية في اتجاه المشروع الحضاري الإسلامي . وقد يأتي الإصرار على ضرورة العودة لقراءة تاريخ السودان وأجناسها ، لما فيه من حقائق تؤكد قدرة البيئات السودانية على صهر مختلف التعدديات الاثنية والعرقية في بوتقة واحدة . فالإنسان السوداني الراهن ، يتميز بشخصيته المستقلة بملامحه وبنمط ثقافته وسلوكه وعاداته لدرجة أن المستعربين منهم اقرب وجدانياَ في كل ذلك إلى المستفرقين منهم من أية أجناس أخرى. إن عاملي التاريخ والجغرافيا قد ساهما ومازال يساهمان على تشكيل هذه الشخصية المستقلة التي تمنح السودان كيانه وشخصيته القومية المستقلة.
الدولة السودانية المعروفة بحدودها وبمكوناتها البشرية ، ظهرت ككيان جامع للعديد من الوحدات السياسية العشائرية المتفرقة . وقد تم توحيد بعض هذه الكيانات عن طريق غزو خارجي منظم يرجع تاريخه إلى دخول إسماعيل باشا السودان عام 1821م . ولا يعني ظهور هذه الدولة ككيان يتمتع بوضع سياسي وقانوني في وقت معين ، عدم وجود تاريخ وشعب له خصوصيته في العهود القديمة السابقة لهذا التاريخ . فقد شهدت الأقاليم التي تحدد واقع السودان الجغرافي تاريخاً زاخراً بالأحداث التي لا يمكن الإغفال عنها عند الحديث عن قضية هامة كقضية الهوية والتكامل القومي والوحدة الوطنية .
وقد بدا للمؤرخين المحدثين أن يطلقوا اسم " السودان " على مجمل الكيانات والأحداث التي تعبر عن التموضع الإقليمي لحدود السودان الحالية أو بعض من هذه الحدود . ولعل التجاوز المقصود في إطلاق هذا الاسم ، لا يخرج عن أغراض التبسيط الذي لا يعني بالضرورة الوجود التاريخي للكيان السوداني بمظاهره الراهنة في تلك الأزمان . ذلك لأننا إذا اعتبرنا الإقليم أو الأرض معياراً ثابتاً لتحديد الواقع الجغرافي للدولة ،فإن الأقاليم التي تقوم عليها الدولة السودانية الحالية تتوقف عن أن تكون معياراً تاريخياً لتحديد الهوية الجغرافية لسودان ما قبل الدولة . ذلك لأن أكبر كيان سياسي من الكيانات السابقة لم تتعد حدودها إلا جزءً يسيراً من أقاليم السودان الحالية . كما وأن العناصر البشرية الحالية ليسوا جمعياً منحدرين من الأصول التاريخية التي عمرت بعض من هذه البلاد . يبقى هناك معيار لا يمكن تجاهله في تشكيل الهوية السودانية . ذلك هو عنصر الإرث الحضاري الذي خلفه التاريخ على هذه الأرض ليشكل الوجدان السوداني ويظل مرجعية مشتركة لكل الأقوام التي تشاطر الحياة فوقها ، وشاء لها القدر أن تكون داخل هذه الرقعة السياسية التي حملت اسم " السودان "
إن قراءة موضوعية لتاريخ السودان مع مراجعة صادقة لأصول الأجناس التي صنعته، ستكشف حتماً أن أولتك الأسلاف ما كانوا أسرة واحدة ، تمددت مع الحقب وتفرعت مع الزمن ليتمسك الأحفاد بشجرة النسب التي تصلهم بهم ، ليتحدثوا عن نقائهم السلالي ويحتكروا التركة التاريخية من الإرث الحضاري . لقد حدثت عبر التاريخ هجرات كثيرة إلى المنطقة . وقد يكون من ضمن الوافدين إليها أسلاف العرب الذين قدموا إلى السودان فيما بعد. وقد يكون منهم أسلاف القادمين حديثاً من الغرب الأفريقي . كما حدثت عبر التعايش بين المحليين والوافدين عمليات تمازج وانصهار بين المكونات العرقية المختلفة . فلم يعد هناك وجود لأرومة عرقية مميزة تبرهن حق الإدعاء التاريخي للموروث الحضاري . إلا أنه رغم هذه الحقيقة ،فإننا لا نستطيع أن ننفي وجود نزعات مكتومة أو معلنة تحاول توجيه التاريخ وتطويعه على هوى واقع يوجه فيه الحاضر إرث الماضي ، وفيما تهيمن القراءة الذاتية للتاريخ على قراءته الموضوعية .
هوية الأعراق في الممالك السودانية القديمة :
بالرجوع إلى تاريخ الأجناس التي استوطنت المناطق المعروفة حالياً بالسودان ، يمكن القول أن العناصر الأولى كانت تنتمي إلى عناصر زنجية تختلف عن العناصر الزنجية الحالية وأقرب إلى إنسان قديم من نوع ما قبل البوشمن (Proto-bushmen). هذا الإنسان الذي لم يكن مجهول الهوية السلالية ، لم يتواجد في منطقة واحدة من السودان . بل وجدت له آثار في مناطق مختلفة امتدت من الوسط السوداني إلى مناطق عطبرة ونوري والقعب وواوا وصاي وعبري وحلفا. في ذلك إشارة واضحة إلى أن العناصر الزنجية هي التي سادت معظم المناطق الوسطى والشمالية من مناطق السودان الحالية . كما أنه ليس هناك ما يدل على وفود عناصر غير زنجية إلى هذه المناطق في تلك الفترة المبكرة من تاريخ السودان .
في عصور المجموعات الحضارية ، هناك جملة من الاجتهادات الأثرية التي لا ترقى إلى مستوى اليقين العلمي. من هذه الاجتهادات ما يعتقد بأن عناصرها البشرية كانت أشبه بالعناصر البشرية التي سادت مصر في عصر ما قبل الأسر . وهذا أمر يشير إلى ظهور عناصر جديدة لا تنتمي إلى العناصر الزنجية التي سادت المنطقة من قبل . كما يعني وفود هذه العناصر الجديدة من مناطق طرد مناخي أو بيئي من الشمال عند حوض البحر المتوسط .
ففي الفترة المعروفة بالعصر الوسيط الأول ( 2250-2040ق.م ) ، ظهرت ملامح شعب جديد بين كوم أمبو وعكاشة عرف بأصحاب حضارة المجموعة الثالثة . يرجح كل من ريزنر واركل على أن هذه العناصر لها صلة بشعب بدوي يمت بالانتماء إلى الطمياح الذين يردون إلى أصول ليبية جنوبية . من جانبه ، يرى اشتندروف أن هذه العناصر جاءت من أثيوبيا أو من مناطق غرب أفريقيا. ولعل مما يرجح الاجتهاد الأول ، وجود صلة بين المفردات اللغوية ما بين النوبة في شمال السودان والبربر في شمال غرب أفريقيا. ويتأكد ذلك متى ما تم إثبات ما يدل على علاقة لسانية بين النوبيين الحاليين وبين سكان مناطق النوبة القدماء من جهة ، وبين اللغات البربرية ولغة الطمياح من جهة أخرى .
بجانب احتمال وفود عناصر ليبية للمنطقة لأول مرة وإضفائها عنصراً سلالياً جديداً على العناصر السودانية القديمة ، فإن المجموعة الحضارية الثالثة
تميزت عن سابقاتها بميزة روحية جديدة لم تكن معروفة من قبل . فقد دخلت المنطقة معتقدات روحية تمثلت في ظهور علاقات تقديسية لبعض الحيوانات. ولا يستبعد أن تكون تلك العلاقات ذات صلة بالطقوس الطوطمية مما يرجح احتمالاً آخر بوفود جماعات من مناطق رعوية كانت تمارس فيها مثل هذه الطقوس .
يبدأ التاريخ السوداني بشيء من الوضوح وتتضح الهوية السياسية لأول سلطة سياسية حاكمة مع بداية الممالك التي تعرف بالممالك الكوشية. يقول في ذلك عالم الآثار ب.ج هيكوك في تقديمه لإحدى البحوث الأثرية ،"مازال يرجى الكثير من المعرفة بين كرمة وكريمة عن هوية أولئك السودانيين الذين كانوا أول مجموعة اتخذت لنفسها ملوكاً لهذا البلد. تقسم هذه الممالك عادة إلى ثلاث ممالك حسب الترتيب الزمني وحسب مراكزها الإقليمية (عواصمها) هي ، كرمة ونبتة ومروي . وقد يخطر لبعض الباحثين أن يجمع بين المملكتين الأخيرتين تحت أسم مروي ويفصل بينهما زمنياً حسب الموضع بحيث يكون الأسبق منهما مروي البركل والتالية مروي البجراوية.
يختلف الباحثون في أصول تلك المجموعات اختلافهم في أصول المجموعات التي شكلت المجموعات الحضارية السابقة . يذهب ريزنر إلى انهم ينتمون إلى المجموعات التي استوطنت المنطقة منذ أيام الدولة المصرية القديمة . وفيما يؤكد فركوتي أنها عناصر محلية ، يذهب اشتندروف إلى أن الشعوب التي كونت حضارة كرمة طائفة من شمال أفريقيا. ومع اختلاف آراء الباحثين ، يبقى الاعتماد على رأي واحد مجازفة وضرباً من التحيز غير العلمي. وعليه فإن الصيغة التوفيقية في هذا الشأن ، هي أن العناصر البشرية التي عرفت أول نظام سياسي وإداري في السودان ، كانوا خليطاًً من الأجناس المحلية والوافدة والتي تأثرت بحكم الموقع بالحضارات المجاورة . وربما كانت سحناتهم أقرب إلى سحنات السودانيين الحاليين . وكانوا بذلك اقرب في تعددياتهم العرقية التي جمعتها كرمة ومزجتها البيئة إلى التعدديات التي تعجز الدولة السودانية الحديثة من حزمها في إطارها الوطني .
ظهرت المملكة النبتية بعد حوالي ألف عام بعد انهيار حضارة كرمة . ظهرت مملكة نبتة واستمرت ما بين عاميّ 751 و295 ق.م . أما مروي والتي يراها بعض المؤرخين إمتداداً تاريخياً للمالك الكوشية ، فقد استمرت إلى حوالي عام 350 م كمركز للملكة الكوشية بعد انتقال العاصمة من منطقة البركل في العصر النبتي إلى منطقة البجراوية. تمثل هذه الحقبة مرحلة هامة من مراحل التاريخ السوداني المؤثر في تطورات الهوية السودانية والإرث الحضاري للسودانيين . وانطلاقا من الدور البارز للملكتين على صعيدي السياسة والاقتصاد على المستويين المحلى والإقليمي ، فقد انصبت اهتمامات الدارسين على البحث في أصول الأسر الحاكمة وهوياتها دون التركيز على هوية الشعب الذي تشكلت منه هذه الممالك. تذهب معظم الاجتهادات إلى أن أصول هذه الأسر محلية ولا تمت بعلاقة عرقية بسلالات الملوك المصريين أو الليبيين . إلا أن بعض الباحثين ، يردونها إلى أصول مصرية استناداً على منهج المقارنة بين الحضارة المصرية والكوشية وما بهما من تشابه في كثير من جوانب الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية . فريق آخر من الباحثين يرجح انتماء هذه الأسر إلى أصول ليبية باعتبار أن فرعاً من الطمياح الليبيين اتجه خلال الهجرة الكبرى للقبائل الليبية إلى دنقلا عبر درب الأربعين وذلك في زمـن حكم الملك الليبي شيشنقه الأول في شمـال الوادي (920-860 ق.م ). وقد أعتمد أصحاب هذا الرأي - ومنهم رايزنر - في تأكيد افتراضاتهم على بعض نتائج الحفريات التي أسفرت عن وجود بعض الأثريات ذات الطابع الليبي وعلى لوحة تحمل لقب "سيدة الطمياح" للملكة تابيري زوجة الملك بعانخي . كذلك اعتمد هذا الفريق على بناءات بعض أسماء الملوك الكوشيين التي تنتهي بالمقطع "قه" والمشترك مع أسماء الملوك الليبيين كما نجده في اسمي " تهراقه " و"شيشنقه". إلا أن الباحث محمد إبراهيم بكر يذهب إلى أن هذا المقطع الذي يترجمه البعض على أنه يقابل كلمة "المبجل " لم يكن وقفاً على ملوك نبته وإنما استمر ظهوره كذلك في نهاية أسماء الملوك المرويين. كما نجد اليوم مقابلاً لهذا المقطع في اللغة النوبية الحالية بمعنى " الذات " مما يعني أن هذا المقطع محلي صرف متي ما ثبت أن اللغة النوبية الحالية هي نفس لغة المحليين في تلك المراحل التاريخية .
الهوية الكوشية ودلالات الأسماء :
للنظر في أصول الأعراق للشعب الكوشي والتي لم نجد لها دراسة دقيقة ، فقد رأينا الاعتماد على دلالات الأسماء على هوية المسميات . فنجد هناك عدة أسماء ارتبطت بالحضارات السودانية القديمة ؛ منها "كوش" و"نبته" و "مروي" ، بجانب اسم عام يطلق عليها دون تحديد لحضارة معينة من هذه الحضارات عندما يقال "الحضارات النوبية ". فهل لهذه الأسماء دلالات معينة على الهوية العرقية للعناصر البشرية التي بدأ بها التاريخ السوداني ؟ أم أن لهذه الأسماء دلالات أخرى ترمز إلى هويات غير الهوية العرقية ؟ إذاً ينبغي النظر إلى مدلولات التسميات ، إذا جاز اتخاذ الأسماء مدخلاً منهجياً لاستنباط هوية الأشياء .
من الأسماء الهامة التي لها دلالة من ظاهر المعنى اللفظي على الهوية العرقية ، اسم "كوش" الذي ورد في نص قديم يرجع إلى العام الثامن عشر من حكم سنوستر الأول بالنطق "كاس"على رأس قائمة من البلاد الواقعة في مناطق النوبة الحالية منها واوات وشعات (صاي) وشميك(سمت). كما يرد ذكره في بعض النصوص بالنطق "كاش" و"كوش". كذلك عرفت مناطق الشمال السوداني لدى العبرانيين والآشوريين والفرس وفي التوراة بأرض كوش. وقد اختلف الباحثون في تحديد أرض كوش . فذهب شامبليون إلى أنها تعني أرض أثيوبيا . بينما يرى بروقش أنها هي أرض النحسو التي ينتمي أصحابها إلى أصل زنجي . أما يونكر فيشير إلى أنها أرض المجموعة الثالثة الواقعة بين الشلال الأول والثاني. وأما اركل فيرجح أن تكون أرض كوش هي الأرض المطابقة للمناطق التي قامت عليها حضارة كرمة.
نلاحظ أن لفظ " كوش" ومشتقاته "كاس" و"كاش" و "كاسو" كان يطلق على أرض معينة اختلف الباحثون في تحديدها . إلا أن اللفظ "كوش" دائما ما كان مرتبطاً ومقروناً بلفظ الأرض . وارتباط الاسم بالأرض لا يعني بالضرورة دلالة على طبيعة السكان ولونيتهم العرقية . ومن هذه الزاوية ، لا تختلف "كوش" عن المفردات الأخرى التي ارتبطت بالأرض مثل أرض الأقواس وارض تاتسي وأرض يام التي وردت جميعها في النصوص المصرية القديمة . كما لا تختلف عن مدلول ارض أثيوبيا التي حدد بها مانتيون هوية الأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت مصر والسودان ، والتي تعني الأرض المبهمة التي أشار إليها أيضاً هيرودت في كتابه " التاريخ" عند حديثه عن الملك النبتي كاشتا. وقد يذهب البعض إلى أن الكوشية لها دلالة عرقية ، تطلق على عناصر بشرية ترد إلى أصول تنتمي سلالياً إلى كوش بن كنعان ، وذلك استناداً على آراء مؤرخين من أمثال ابن الأثير والمسعودي . وفي ذلك يقول ابن الأثير أنه لما تفرق ولد حام في الأرض ، استقرت بقية منهم بالسواحل من النوبة والحبشة والزنج. أما المسعودي فيقول أن "أبناء كوش بن كنعان ساروا نحو المغرب حتى قطعوا نيل مصر ، ثم افترقوا فسارت طائفة ميمنة بين المشرق والمغرب وهم النوبة والبجة والزنج ، وسار فريق منهم نحو المغرب وهم أنواع كثيرة نحو الزغاوة والكانم وفركه وغانه وغير ذلك من أنواع السودان. وربما اتخذ ابن الأثير والمسعودي لون البشرة معياراً سلاليًا ًلتحديد هوية الأجناس البشرية . هذا المعيار الذي ليس في محله حسب التفسير العلمي لتباين الألوان. ولا يتفق معه ابن خلدون الذي يرى أن "تعميم القول في أهل جهة معينة بأنهم من ولد فلان لما شملهم من نحلة أو لون إنما من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات. وحتى في حالة الاتفاق مع ما ذهب إليه ابن الأثير والمسعودي من أن النوبة ينتمون إلى السلالة الكوشية ، وبافتراض أن أولئك الذين شكلوا الحضارات السودانية الأولى ، هم النوبيون الكوشيون ، فإن هذا يعني أن كثيراً من العناصر البشرية السودانية الحالية من زنج وزغاوة ، هم بنو عمومتهم بحكم الانتماء إلى الأصل الكوشي. ولا مجال في حالة كهذه للتوجهات العرقية ذات الصبغة الاستعلائية بين بعض العناصر البشرية السودانية في الوقت الراهن .
بجانب الدلالة الاسمية لكوش ، هناك اسم آخر لا يقل في أهميته عن اسم كوش من حيث عموميته في التعبير عن الحضارات القديمة ، ومن حيث استمراريته كاسم مازال يطلق على مجموعة سكانية كبيرة في الوقت الراهن . هذا الاسم هو "النوبة" المشتق من الأصل "نب" في لهجة المحس ، أو من الأصل "نبر" في لهجة الدنقلاويين . وكلتا المفردتين تعني "الذهب" ومن هذا الأصل جاءت "النوبية " و"نبته" لتستعمل في التعبير المصري القديم . وفي ذلك يقول أحد الباحثين أن المنطقة التي كانت معروفة لدى الساميين القدماء وفي التوراة بأرض كوش والتي عرفها الاغريقيون والرومان بأثيوبيا بدأت تعرف منذ القرن الثالث الميلادي بالتعبير المصري القديم "نوبيا" الذي حل محل أرض كوش وأثيوبيا. فهل يصدر هذا الاسم تعبيراً عن أي مدلول يمت إلى هوية عرقية ؟ هل له علاقة بالانتماء إلى مجموعة سلالية معينة يميزها هذا الاسم عن المجموعات الأخرى من جهة الانحدار من أصل واحد ؟ ليس من شك في أن أصل المفردة وجذرها له مفهوم واضح في اللغة النوبية بمعنى الذهب كما أسلفنا . ومن هذا الأصل جاءت مشتقات كثيرة ، منها تسمية نبته التي تعني أرض الذهب . لذلك يمكن القول أنه من البديهي عدم وجود رابط بين الذهب والعرق ، بين المعدن والدم ، ولا علاقة للذهب بجنس السلالة أو العرق إلا أن يكون صفة للمشابهة بقرينة النقاء في كل منهما . فهل أضفت تلك المجموعات التي تواجدت في الممالك القديمة هذه الصفة على نفسها تعبيراً عن نقائهم العرقي ؟ ولكن من هم أولئك المجموعات المتشبهون بالذهب والمنتمين إلى أصول نقية بحكم السلالة ؟ إنه بتأكيد الباحثين ، سادت المناطق التي عرفت بأرض النوبة العديد من العناصر البشرية ، المحلية منها والوافدة ، الحامية منها والسامية . وهذا أمر يجعل من الصعوبة تحديد فئة بشرية معينة منها لتنفرد بالتسمية . فالنوبية ليست لها بالتأكيد أي دلالة عرقية بقدر ما هي تعبير عن هوية الأرض التي تحمل في جوفها معدنا مقدساً ونفيساً . وما النوبيون إلا كل المجموعات التي انتمت لتلك الأرض دون تحديد لهوياتها العرقية أو انتماءاتها السلالية . ولعل في اقتران الأسماء السودانية بهوية الأرض ، دلالات بانتماء حضاراتها لا إلى هويات عنصرية أو دينية ، بقدر ما فيها من دلالات بانتماء هذه الحضارات إلى هوية الأرض التي هي أرض الأقواس وأرض كوش و الأرض المبهمة وأرض الذهب " أرض النب" . إضافة إلى ذلك وبقليل من الاجتهاد غير المؤكد من لغة أهل الشمال من النوبيين الحاليين – والتي وجدنا كثيراً من المفردات القديمة وأسماء الملوك تمت أليها بصلة قريبة - يمكن رد اسم مروي إلى هوية الأرض , فالمفردة فيما تبدو تتكون من مقطعين هما "مري + اوي " . المقطع الأول بمعني "الذرة " والثاني بمعني " "يزرع أو ينبت" ليكون معنى الاسم حسب هذا الاجتهاد " الأرض التي تنبت الذرة ." ولعل هذا الاجتهاد قد يجانبه التأكيد متى ما عرف أن الذرة كانت معروفة في الحضارة المروية ولاسيما وأن هناك ما يدل على ذلك في نقش صخري على جبل قيلي " الجبل الأحمر" باللغة النوبية . يعبر النقش عن انتصار الملك المروي شركارير على أعدائه من الأكسوميين حيث يمثل أحد عناصر هذا النقش صورة لإحدى الآلهات تحمل في يدها اليمنى حزمة من الذرة التي تقدمها للملك المروي. فهل نجد في هذا التعبير ما يدل على معرفة المرويين بالذرة واعتبارها محصولاً مقدساً كهبة من الآلهة لنجد أثراً لصدى هذا التقديس في كثير من الطقوس السودانية حتى اليوم هوية السلطة والمقدس في الحضارات الكوشية :
عرف السودانيون ولأول مرة فنون الحكم والسياسة والإدارة مع بداية حضارة كرمة .
إذ أن كرمة كانت تتمتع بحكم مستقل وبنظام اجتماعي وسياسي مركزي لا يقل في قوته عن الدولتين المتجاورتين إلى الشمال ، دولة الهكسوس في الشمال على الدلتا ودولة المصريين إلى الجنوب في طيبة**. حيث كانت الدولتان المتجاورتان تحاولان كسب ودها وإقامة علاقات معها للاستفادة من قوتها البشرية والاقتصادية . ولاشك أن هذا البعد العلائقي مع الشمال قد أضفى طابع الحضارة الشرقية الذي استمر حتى نهاية المملكة النبتية ، ليتراجع هذا الطابع الشرقي مع توجهات مروي الأفريقية ويعود بقوة مع دخول العرب المسلمين السودان , والمتوقع أن يتراجع مرة أخرى مع تركز الثروة في عمق الجنوب السوداني ومع نجاح الدعوة الملحة إلى السودانوية المستقلة .
إن كانت حضارة كرمة تمكنت من إيجاد حكم على غرار الحكم الذي كان يسود في مصر، فلا بد وأن شرعية سلطة الأمراء والحكام كانت على غرار الشرعية التي يستمد منها الفراعنة شرعيتهم . وفي وقت لا نستطيع فيه الحديث عن أي صورة من صور القبلية التي يستند على نعرتها بعض الحكام في تركيز سلطاتهم ، يمكن حصر الحديث في طبيعة العلاقة بين الحكام ومجموع المحكومين، ومصادر الشرعية التي تمنح الحاكمين حقوق السلطة والحكم ، وتفرض على المحكومين واجبات الولاء والطاعة . إن طابع العلاقة بين الحكام والمحكومين في كرمة كان يحكمه نوع من القداسة كما كان الحال مع الملوك المؤلهين . ولا أدل على هذه العلاقة التقديسية من عادة دفن الضحايا الحيوانية والبشرية مع رب العائلة في نفس الوقت الذي يدفن فيه رب العائلة . ذلك اعتقاداً منهم بقدرة رب العائلة على حماية عائلته في عالم ما بعد الموت . إذ أن الضحايا كانوا ، كما لاحظ ريزنر، زوجات وأطفال وخدم رب العائلة . فإن كانت مثل هذه القدسية تضفى على رب العائلة لدرجة تضحية أفراد الأسرة بحياتهم في سبيل كسب حمايته في عالم ما بعد الموت ، فإنه بالضروري أن تضفى قدسية أكبر على راعي المجتمع في حياته وبعد مماته .هذه العقيدة الراسخة والتي انتقلت إلى الحضارة الكوشية أساساً من الحضارة المصرية لها علاقة بسلطة المقدس الذي يتحدث عنها الأنثربولوجيون السياسيون في المجتمعات البدائية . السلطة التي تستمد شرعيتها بتطابقها مع المقدس في نظر الرعية ، وتكون عادلة ومقبولة منهم متى ما سيطرت روح المقدس على الحكام والمحكومين للامتثال لإرادتها. إنها السلطة اللاقسرية التي يفتقدها الحكام في المجتمعات الحديثة ، والتي نادى بها أفلاطون في مثال "الناموس" والفارابي في مثال الشريعة لتجسيد العدل المثالي في الأرض . ولا شك في أن روح المقدس هذه كانت تسيطر في حضارة كرمة على الحكام والمحكومين . ولعلنا نجد مثل هذه السيطرة في عادة دفن التمائم والجعل والضحايا البشرية ما يدل علي الالتزام بالأوامر الروحية لسلطة المقدس . فقد ذكر أحد الباحثين أن الغرض من ذلك هو أن يعمل الضحايا في حقول أوزاريس حسب أوامره الإلهية . كما كان دور الجعل يرتبط بعقيدة لها علاقة بإله الشمس وأوامره بدفع الشمس إلى كبد السماء عند كل صباح . ومن الطريف أن هذه العقيدة التي تتحدث عن المهام التي تقوم بها الجعل ما زالت موجودة إلى يومنا هذا في أوساط بعض من أهل النوبة في شمال السودان.
أما المملكتان اللتان ظهرتا بعد مملكة كرمة وعرفتا بنبتة ومروي ، فقد عبرتا عن ملامح حكم مركزي قوي وإدارة منظمة وجيش متماسك . هذه الملامح التي تعكس القوة الحقيقية للدولة النبتية ، جعلتها تتجاوز محليتها إلى آفاق العالمية بمفهومها الضيق في ذلك الوقت . لقد كانت نبته تمثل واقع الحضارة الشرقية المتوسطية التي تأثرت بها من حضارات مصر واستوعبتها وأصبحت المسئولة عن حمايتها . وهي التي "نفخت الحياة فيها من جديد حين أصابها شيء من الأفول، وشاركت في إنقاذها وحمايتها ، مما جعل من الإمبراطورية الكوشية قوة عالمية. عالمية نبته تجسدت في قدرتها للوصول إلى احتلال الدولة المصرية وضمها إلى التاج النبتي وتشكيلها للأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت الدولتين معاً . كما تجسدت سمعتها العالمية خارج نطاق الدولتين في فرض حمايتها على الأمم الصغرى من السوريين والفينيقيين وأمراء فلسطين ودعمهم لصد الآشوريين الذين كانوا يسعون لتهديد أمن وسلامة المنطقة بأسرها. ولعل في ورود اسم تهراقه ، أحد ملوكها الأقوياء في التوراة ، دليل كاف على عظمة ملوك نبته وصيتهم التي وصلت إلى أقاصي الشرق المتوسطي وحضاراتها السائدة آنذاك .
أما مملكة مروي التي كانت امتداداً سياسياً لمملكة نبته ، فقد مثلت امتداداً للحضارة المتوسطية إلى العمق الأفريقي لتعبر عن رمز الارتباط مع المحيط الأفريقي بفضل موقعها التجاري وقدرتها الصناعية التي تمثلت في صهر الحديد . هذا البعد الأفريقي الجديد هو الذي " أعطاها خصائص اختلفت من حيث التوجهات الثقافية والروحية والنظام الاجتماعي عن تلك التوجهات المصرية الصرف. وفي هذا الاتجاه ، يذهب المؤرخ دينز بولم عند حديثه عن أثر الحضارة المروية في الغرب الأفريقي إلى القول بأن "من مدهشات البرونز الذي اكتشف حديثاً في بلاد يوربا من نيجيريا ، بعض أشكال الزينة المرتبطة بتيجان ملوك النوبة. وفي ذات الاتجاه الذي يؤكد عالمية الحضارة النبتية وأفريقية الحضارة المروية ، يشير بازل ديفتسون إلي أهمية الدولتين ودورهما في بث الإشعاع الحضاري في الحقبة المبكرة لعصر المعادن . ويري أن الحضارة الكوشية التي تمثلها نبته ومروي تأتي على رأس قائمة الحضارات المعاصرة لها.
هذه الممالك التي وصلت إلى ما وصلت إليه من العظمة لا بد وأنها كانت تتمتع بنوع من الاستقرار السياسي ولا بد وأن ملوكها كانوا يتمتعون بنوع من الولاء من جانب الشعب . وللنظر في مصادر شريعة السلطات الحاكمة ، نستعرض هنا أيضاً نظرية المقدس والتوجهات الروحية في هذه الممالك . التوجهات الروحية وعلاقات السلطة بهذه التوجهات واستمداد شرعية الحكم من هذه العلاقة ، سمة أساسية لتحديد الحقل السياسي في المجتمعات القديمة على النحو الذي يؤكده الباحثون في الانثربولوجيا السياسية من أمثال بالانديه وكلاستر. ويبدو أن مثل هذه التوجهات في نبته ومروي لم تكن غريبة عن توجهات الثقافة الدينية التي سادت تلك العصور والعصور السابقة لها . فقد كانت التوجهات الروحية سائدة ومحركة للحكام والمحكومين، كما ذكرنا ،في علاقات القيادة والانقياد والطاعة والالتزام في حضارة كرمة . لذا لا نعتقد أن ملوك نبته قد أحدثوا لهم هوية دينية جديدة باعتبارها أيديولوجيا سياسية تمكنهم من السيطرة على شعوبهم وفرض واجب الولاء والطاعة عليهم كما كان الحال مع الملوك الذين ينزعون من هذا المنطلق ، إلى الحق الإلهي لفرض سلطاتهم على شعوبهم. فقد كانت مثل هذه المعتقدات التزاماً أخلاقياً يتقيد به الحكام والمحكومون دون وصاية وعلى حد سواء . لهذا التزم أولئك الملوك بهذه المعتقدات وكانوا متدينين بطبيعتهم الفطرية ، ويؤمنون بقدسية المعبودات وعدليتها . وكانوا يرون أن سلطتهم لن تكون عادلة ولا مقدسة إلا بتطابقها مع تلك العدلية المقدسة ، ولا تكون شرعية إلا بالتزامهم بالأوامر الكهنوتية النابعة من سلطان المعبود المقدس . لذا فإن ملوك نبته ومروي كانوا يدينون بالولاء والطاعة لهذه المقدسات . ومثلما سادت عادة دفن الأحياء مع الموتى خدمة لأوامر اوزاريس ، فإن ملوك نبته كانوا يقدمون بناتهم لخدمة آمون من مناصبهن الإلهية كزوجات للإله المقدس سيد الوجهين القائم على جبل نبتة المقدس . إن إيمان الملوك بقدرة معبوداتهم واعتقادهم الجازم في عدالة إرادتهم هو الذي جعل أولئك الحكام ورعين وأتقياء يقدمون القرابين لكهنة الرب مثلما فعل الملك النبتي بعانخي وهو في قمة انتصاراته على تفتخت، ويقبل الأرض على أعتاب المعابد في طيبة ومنف. ولعل في مثل هذه الطقوس إشارات واضحة إلى الاعتراف الفطري بقوة الآلهة التي يعتبرها المثال الذي يجسد العدل والشرعية والنصر . ولعل في هذه السطور التي ننقلها من "لوحة الانتصار" دليل كاف على استراتيجية المقدس في تشكيل "السياسي"في توجهات أولئك الملوك. يوجه بعانخي جيشه المتقدم لفتح طيبه بكلمات التبجيل للمقدس دون أن يضفي هذا التبجيل على نفسه. ورغم قوة إيمان الملوك وخلوصهم لمعتقداتهم ، فليس هناك ما يجزم على إجبارهم لشعوبهم ليتخذوا من معبوداتهم الخاصة معبودات لهم . ولا نعتقد أن عبادة مقدس معين كانت فرضاً على الشعب كدين رسمي . فقد كانت حرية العقيدة مكفولة للجميع ، وإلاّ ما تعددت المقدسات ولا تنوعت المعبودات ما بين المعبودات المحلية والمصرية من حورس وآمون إلى مندليس وحتحور وابادماك . فكلها آلهات مقدسة في عرف الحكام والشعب على حد سواء . وما دام الشعب والحكام ملتزمين بعدلية المقدسات هذه ، سيظل الحاكمون في مثل تلك المجتمعات ، ممنوحين بالقبول العام دون حاجة لاستخدام القوة القهرية لانتزاع الطاعة والخضوع .
مما تقدم، نستطيع أن نتبين ملامح هوية الأعراق في الحضارات السودانية القديمة على الوجه التالي: -
- لا نستطيع الحديث عن وجود أعراق وقبائل متمايزة في تاريخ الحضارات السودانية القديمة.
- العناصر السلالية الأولى التي سادت السودان في العصور الحجرية كانت عناصر زنجية . -هناك تأكيدات على وفود أجناس من خارج المنطقة واختلاطهم بالمحليين في المراحل التالية. وهم في جملتهم إما عناصر زنجية أو حامية أو سامية قدمت من المناطق المجاورة وامتزجت في بعضها مع حركة التاريخ.
- طبيعة المنطقة الجغرافية وما تتمتع بها من مصادر مائية ، معيار حقيقي على إمكانية وفود عناصر جديدة إلى المنطقة مع التطور التاريخي للحاجات البشرية لمثل تلك المصادر. يعزى أسباب الهجرة إلى المنطقة إلى عوامل أساسية هي :
- عوامل الجذب التي تتمتع بها المنطقة من توفر المقومات الاقتصادية بمعيار تلك العصور، وسهولة الوصول إليها عبر المنافذ السالكة مع إمكانية تكيف الوافدين مع البيئة الطبيعية والبشرية ودون إثارة عداء بينهم وبين الوطنيين من ذلك النوع الذي تثيره قلة الموارد الطبيعية
- عوامل الطرد التي يردها بعض الباحثين إلى طبيعة المناطق المجاورة التي تتميز من جهة الشرق بطبيعة صحراوية تشح فيها الموارد المائية ، بجانب عدم الاستقرار السكاني الناجم عن الحروبات القبلية. كما تتميز الجهة الغربية ببيئة الصحراء الكبرى التي لا تحتمل الحياة إلا في قليل من أوديتها.
ركز بعض الباحثين على هذين العاملين قي تأكيداتهم على وفود سلالات عرقية غير محلية إلي المنطقة واختلاطها بالعناصر المحلية .إلا أن التعويل على عوامل الطرد فيه شئ من عدم الدقة ، ويبدو أضعف من الاعتماد عليه بطريقة قطعية . إذ أن هذه العوامل منظور إليها من وجهة نظر معاصرة لطبيعة المناطق المجاورة مع تجاهل لحركة التاريخ الطبيعي. فليس من المؤكد أن تكون تلك المناطق المجاورة مناطق صحراوية بالفعل في تلك الأزمان السحيقة . لأن البديهي هو عدم احتمال تحول الصحراء إلى ماء بقدر ما يحتمل أن يتحول الماء إلى صحراء . إن وجود النيل اليوم دليل على أزليته كقوة طبيعية جاذبة . أما وجود الصحراء الكبرى فليس دليلاً قاطعاً على أزلية وجودها ولاسيما وأن هناك بعض الآراء التاريخية التي تقول بوجود انهار وبحيرات في الصحراء الكبرى ، وبدليل وجود بحيرة شاد ، آخر تلك البحيرات المستمرة في تراجعها نحو الجفاف مع اتساع رقعة الصحراء . لهذا فإن عوامل الجذب تبدو أكثر اتساقاً مع فكرة وفود أجناس من خارج المنطقة لتختلط مع عناصرها المحلية لتشكيل أقدم هوية بشرية لسكان السودان .
- لم يكن هناك نوع من القبلية التي لها دور ما في تدعيم السلطات الحاكمة في الممالك الكوشية ولم تكن السلطات الحاكمة تستند على ولاء قبلي في بسط
سلطاتها.
- الالتزام بسلطان المقدس شرط أساسي في المجتمعات البدائية يكتسب من خلاله الحاكم طاعة المحكومين وولائهم .
أن الحضارات السودانية القديمة تمثلت في الانتماء للأرض والثقافة بكل ما يجسدان من قدرات على التواصل بين الشمال والعمق الأفريقي . ودون أن تعيق هذا التواصل انكفاءات عرقية أو دينية . حيث كانت هوية الموقع والأرض تتحمل كل الهويات العرقية المحلية والوافدة وتصهرهم في بيئتها . وحيث كانت حرية الاعتقاد مكفولة للجميع ، والمقدس من حيث ما هو مقدس كان محله الاحترام والتجلة من الحكام والمحكومين . إن في مراجعة التاريخ وتجاربه الثرة وقراءته قراءة موضوعية ، دروسً خصبة لصور التعايش بين الأجناس المختلفة التي تجمعهما الأرض وتعقلها الحضارة وتمزجها البيئة ويصهرها التاريخ . فهل يعقل الإرث الحضاري السوداني كلاً من العروبيين والمتأفرقين من لوثة التعنصر ، ويوجههم نحو الحوار الهادئ والتكامل والاندماج من اجل هوية وطنية أساسها الانتماء للأرض ومظلتها القومية السودانية .