By محمد العمري9 - الأحد إبريل 07, 2013 11:59 am
- الأحد إبريل 07, 2013 11:59 am
#60319
الجريمة السياسية بين الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية
الجريمة السياسية بين الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية
إن من أخطر المشاكل التي تعاني منها أغلب دول العالم اليوم، ظاهرة الإرهاب والاضطرابات السياسية، من مظاهرات ومشادَّات وشغب ناتجة عن المعارضة السياسية العنيفة، التي قد تصل إلى الإرهاب، والجريمة المنظَّمة العابرة للحدود.
هذه المشاكل قد يطول أمدها، فتوقع الحكومات في مواقف حرجة، سياسيا وقانونيا، فهي من جهة تريد الحفاظ على كيان الدولة وهيبتها، ومؤسساتها الشرعية، ومن جهة أخرى تريد إخماد الفتنة، وإسكات المعارضة، بأية طريقة، لأن مجرد الاعتراف بها وبشرعية مطالبها، وبوصف جرائمها بأنها سياسية، يعني زحزحتها عن الحكم، وفسح المجال للمعارضة كي تتولَّى الحكم بدلا منها.
فإمَّا أن تتساهل مع المشاغبين الثائرين، وسيؤدي ذلك حتما إلى زعزعة مواقفها والتنازل عن سلطتها، فتنهار الحكومات ويستقيل أو يقال الرؤساء وتُحل الأحزاب، ويجمد الدستور فتعلن حالة الطوارئ، ويتدخل الجيش فتنهار الثقة بين الشعب والسلطة، فتدخل السلطة في مرحلة اللاشرعية، وقد تطول مدتها، وهذه هي حال الكثير من دول العالم، ومنها دول العالم الإسلامي.
وإمَّا أن تتصلب السلطة الحاكمة، وتتشبث بالحكم وتتعامل مع المعارضة بكل قوة ووحشية، مستعملة القوة الأمنية والعسكرية والإعلامية، معتبرة أن تلك المعارضة هي معادية للأمَّة ومقوماتها، وهي خطر على المصالح العليا للبلاد، وأنها تهدد كيان الدولة، وهي عدو للشعب والإنسانية وضد الحضارة، وليس لها أي مطالب سياسية، بل هدفها التخريب والتقتيل فقط، فتصفها بكل الأوصاف، التي تؤلب عليها الرأي العام الداخلي والخارجي، مما يبرر لها غلق كل أبواب الحوار والنقاش والتسامح أو التنازل أو حتى الاعتراف بوجودها، فترصد لذلك أجهزة الأمن والمخابرات والجيوش والأسلحة والإجراءات الصارمة والشديدة أبشع مما تواجه به أعداءها الخارجيين، وهكذا تستمر الأزمة لعقود عديدة، إلى أن تتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية فينتج عنها:
1 ـ استمرار الأزمة بين السلطة والمعارضة عدة سنوات، مما يعرقل التنمية والتطور في جميع المجالات.
2 ـ اختراق المعارضة من قبل العصابات والمجرمين، فتتشوَّه مطالبها السياسية التي كانت مشروعة.
3 ـ قد تتعاطف مع المعارضة قوى أجنبية مغرضة، للتدخل في الشؤون الداخلية.
4 ـ تدخل المنظمات والهيئات الدولية، باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الأقليات.
5 ـ تبعا لمنظمات حقوق الإنسان قد تساندها المنظمات والهيئات السياسية والمالية والاقتصادية الدولية.
6 ـ تسيطر السلطة الحاكمة على الجيش والإعلام فتوجه الرأي العام وتكيف جرائم المعارضة تكييفا يخدم موقفها.
أمام هذا الموقف المتصلب، تجد السلطة نفسها في مأزق سياسي وقانوني، فتبحث عن المبررات للخروج من الأزمة التي طالت وأتت على الأخضر واليابس، وفي النهاية وبعد عدة عقود من الخراب والدمار، والخسائر التي يصعب عدها في الأرواح والأموال، وبعد تغير أو تغيير رجال السلطة، وأنظمة الحكم، يضطر هؤلاء الحكام الجدد أو القدامى، إلى الاعتراف بحقوق المعارضة السياسية، وتبدأ التنازلات بالمفاوضات السرية، وعبر الوساطات، فتصل إلى تدابير المصالحة، والعفو الشامل، وهكذا تضطر السلطة إلى أن تعامل المعارضة معاملة أخف وأرحم، من قوانين العقوبات العادية، معترفة في النهاية أن الإجرام السياسي يختلف عن الإجرام العادي.
وإذا كانت الدول المتقدمة التي عانت من الإجرام السياسي قديما، وتعاملت معه بقسوة وشدة قد تداركت هذا الخلل السياسي والقانوني منذ النهضة الأوربية، وخصوصا بعد الثورة الفرنسية، حيث اضطر المشرِّع الأوروبي أمام كثرة الثورات، وبفضل جهود الفلاسفة والمفكرين، فاعترف بوجود الجريمة السياسية، التي تختلف عن الجريمة العادية، فوضع لها نصوصا خاصة وعقوبات متميزة، معتبرًا أنَّ المجرم السياسي رجل نبيل، وفاضل ذو أخلاق ومبادئ يناضل من أجلها ويضحي بمصلحته الخاصة من أجل مصلحة وطنه وشعبه، حتى وإن أخطأ في الوسائل وأحرق المراحل، واستعجل النتائج، فالمجرم السياسي قد يصبح حاكما في المستقبل، ولعل أغلب المصلحين والمجددين والزعماء والقادة في العالم كانوا مجرمين سياسيين، في نظر الحكم القائم في عهدهم.
فإذا كانت الدول الأوروبية قد خرجت من هذه المعضلة السياسية والقانونية بتعديل دساتيرها وقوانينها الوضعية، فما هو موقف الشريعة الإسلامية من الإجرام السياسي؟ وما هي آراء الفقهاء المسلمين في المجرمين السياسيين؟ وكيف تعامل الحكام المسلمون مع المعارضة السياسية العنيفة؟ وهل يميز الفقه الإسلامي بين الجريمة السياسية والجريمة العادية؟
رجعتُ إلى كتب الفقه الإسلامي فاطَّلعت على أبواب البغي والبغاة فوجدت فيها بحوثا مستفيضة لأحكام جرائم البغاة انطلاقا من قوله تعالى {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُومِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتِ اِحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ اِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُومِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1).
ومن تفسير هذه الآية، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأعمال الخلفاء الراشدين، وآراء الفقهاء واجتهاداتهم، تكونت ثروة فقهية ضخمة، في موضوع جريمة البغي، وشروطها، وضوابطها، وأحكامها، وتمييز البغاة عن غيرهم من المجرمين، كل هذا مبسوط في كتب الفقه بشكل يحق للمسلمين أن يعتزوا به أمام فقهاء العالم، ولكن هذه الثروة تحتاج إلى دراسة علمية أكاديمية مستفيدة من تجارب الإنسانية، وأحدث ما توصلت إليه القوانين المعاصرة في التعامل مع الإجرام السياسي.
أمام هذا التراث الإسلامي الكبير والثروة الفقهية الزاخرة، وهذا البعد التشريعي الذي سبقت به الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية بثلاثة عشر قرنا؛ إذ لم تعترف القوانين الفرنسية بالجريمة السياسية إلا بعد الثورة الفرنسية، وجدت نفسي معتزًا و منبهرًا، من جهة، وحائرًا متحسرًا، من جهة أخرى، على مواقف الأنظمة السياسية العربية والإسلامية اليوم، فلا هي أخذت بالقوانين الوضعية، وما توصلت إليه من ديمقراطية وحرية الرأي، والمعارضة السياسية السلميَّة، التي تمنع الوصول إلى الإجرام السياسي، الذي وإن حصل فقد قنن المشرع تدابير وإجراءات لمحاكمة المجرم السياسي، محاكمة تليق بمقامه، كما أنَّ تلك الأنظمة لم ترجع إلى الشريعة الإسلامية التي اعترفت بالجريمة السياسية منذ نزول الوحي.
هذا هو الدافع القوي الذي جعلني أختار هذا الموضوع لجدته، وأهمية، فهو يفيد السلطة السياسية، كما يفيد المشرع والقاضي، وخاصة في هذه الظروف التي تعاني فيها أغلب الدول الإسلامية، من عنف المعارضة السياسية، وها هي السلطة الجزائرية مثلا تنتقل من التعامل الأمني الصارم إلى قانون الرحمة، ثم قانون الوئام المدني ثم إلى المصالحة الوطنية وهي تدعو اليوم إلى العفو الشامل.
وفي هذا البحث سنميز بين الجريمة السياسية، وكفاح الشعوب، وبين غيرها من الجرائم الوحشية والإرهابية، بضوابط وشروط، حتى نزيل الشبه والالتباس الحاصل لدى الكثير من السياسيين، مستخلصين ذلك من النصوص الشرعية وآراء الفقهاء ومن تاريخ الإجرام السياسي.
وتهدف هذه الدراسة إلى الإجابة عن الإشكاليات التالية وهي:
1 ـ ما هو مفهوم الجريمة السياسية في الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية؟ وما هي نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف؟
2 ـ كيف حدد الفقهاء شروط جريمة البغي حتى لا يستغلها المجرمون للاعتداء على الحقوق العامة والخاصة مستفيدين بذلك من الصبغة السياسية.
3 ـ إبراز أسبقية الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية في التمييز بين الإجرام العادي والإجرام السياسي.
4 ـ توضيح مواقف الفرق المعارضة للسلطة ومدى صحَّة أو خطإ تأويلها للخروج على الإمام.
5 ـ إثراء الفقه الإسلامي حتى يسعف المشرِّع في الدول الإسلامية كي يضع نصوصًا يضبط بها الجريمة السياسية فتستفيد منها السلطة الحاكمة للخروج من الأزمة.
6 ـ تحديد الشروط والضوابط الواجب توافرها في الجريمة السياسية حتى توصد الأبواب أمام الاتهامات التي توجه ضدَّ الشريعة الإسلامية بأنها تشجع الإرهاب أو لا تحاربه ولا تُدينُه، للخلط الحاصل بين كفاح الشعوب للحصول على حريتها، والإرهاب الهمجي على الحضارة والإنسانية.
ومنهج الدراسة يقتضي عرض الآراء الفقهية والقانونية ثم مناقشتها بتوظيف المنهج التحليلي مع تأصيل المسائل الفقهية ثم اعتماد المنهج النقدي، لأعمال الحكام المسلمين، ولثورات المعارضة، وبيان الصحيح وغير الصحيح منها. أما المنهج المقارن بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، فسأوظفه في المقارنات التي أجريتها في نهاية كل باب، وهي خلاصة مركزة أظهر فيها أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف بين موقف الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية من الإجرام السياسي، مضيفا إليها ما أستنتجه من المقارنة والأمثلة الواقعية في نظم الحكم الإسلامي والنظم المعاصرة.
وسأعتمد في هذا البحث غالبا على مراجع فقه أهل السنة، باعتباره الفقه الغالب على الأمة الإسلامية، وأنظمة الحكم الإسلامي قديما، كما سأعتمد على كتب الفقه الإباضي، باعتباره من الفرق السياسية المعارضة الأولى في التاريخ الإسلامي، كما أن أهل السنة والإباضية لهم تقارب في أهم الآراء السياسية، وذلك بحكم انتمائهم جميعا إلى منهج أصولي واحد وهي التعامل مع النصوص بالنقل والعقل، باستثناء اختلافهم في مسألة الشرط القرشي والخروج على الإمام.
ولهذا فسوف لن أتعرض كثيرا للفقه الشيعي وفرقه العديدة؛ لأن الشيعة تتميز بفقه سياسي مغاير يستند كثيرًا على النقل، مما روي عن آل البيت، ويستبعد الشيعة ما رواه غيرهم، مما جعلهم يشتهرون بمبدإ النقل واستبعاد العقل، فجاءت نظريتهم السياسية خاصة ومتميزة، تحتاج إلى دراسة خاصة ومستقلة، فالخلافة عندهم بالنص، وهي في أبناء علي بن أبي طالب، والإمام عندهم معصوم عن الخطإ، فلا يجوز الخروج عليه.
ولا يخفى على باحث في الدراسات المقارنة، بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، صعوبة هذا العمل وخاصة في نظم الحكم والإدارة التي لم يُولِ لها الفقهاء المسلمون عناية كبيرة، في القرون الأولى، حيث كان جهدهم الكبير منصبًّا على فقه العبادات والمعاملات، وقد أهمل الفقه الدستوري، والسياسي والإداري، وبقيت المادة الخام من مبادئ في القرآن والسنة تراوح مكانها، ولعل انحراف السلطة بعد الخلافة الراشدة، كان السبب الرئيس في تخلف وجمود الفكر السياسي الإسلامي، وتحول الكتاب إلى تأصيل وتأويل، وتبرير أعمال السلطة، في كتب قليلة عرفت بالأحكام السلطانية والسياسية الشرعية.
كما أن الفارق الزمني بين الفقه الدستوري الإسلامي النظري والمثالي، وبين الدساتير المعاصرة العملية والواقعية، يصعّب الدراسة المقارنة بين ما بقي نظريا، ولم يطبق إلا نادرًا، كمبدإ الشورى، والبيعة، والحسبة، وقضاء المظالم، وبين الدساتير والقوانين المعاصرة، التي ورغم ظلمها واستبدادها قديما، إلا أنها بفضل جهود المفكرين وثورات الشعوب، فقد هذّبت وعدّلت بشكل كبير خلال التجارب التي شهدتها كثير من دول وشعوب العالم، فأكسبتها واقعية، وزودتها بآليات التطبيق، مما يجعلها تتعامل مع المعارضة السياسية بآليات وقنوات شرعية كالصحافة والأحزاب والمجالس المنتخبة، وتضمن حقوق وحريات الشعوب بأجهزة دستورية توفر حرية التعبير والنقد والمحاسبة بأساليب تمنع العنف وتحمي السلطة من الإجرام السياسي.
ويمكن حصر تلك الصعوبات في النقاط التالية:
1 ـ النصوص القطعية في الشريعة تقيِّد الاجتهاد خاصة في المجال الجنائي كالحدود والقصاص.
2 ـ في النصوص الظنية، أو حيث لا يوجد النص، من يجتهد؟ وكيف؟ وأين؟
3 ـ اختلاف المصطلحات الفقهية بين الشريعة والقانون يصعِّب إسقاط بعضها على البعض.
4 ـ التداخل بين السيادة والحاكمية؛ فالأولى للأمَّة والثانية لله، يمارسها الحاكم نيابة عن الشعب وليس نيابة عن الله.
5 ـ اختصاص الشريعة الإسلامية بمصطلحات، لا تعرفها القوانين الوضعية كالجهاد والردَّة والقصاص.
6 ـ اختلاف الشريعة والقانون، في مبدأَي التجريم والعقاب.
7 ـ اختلاف الفِرق والمدارس الإسلامية، حول شروط الخروج على الإمام، ومن هي الفرقة الباغية؟
8 ـ الفارق الزمني المقدر بأربعة عشر قرنا، بين نظامين لم يعيشا، ولم يطبقا في عصور متقاربة.
9 ـ المصادر التاريخية كيف كُتبت؟ وهل كل الأخبار الواردة فيها تفيد اليقين؟ وهل يجوز أن نبني عليها أحكامًا؟
وأما المصادر والمراجع التي سبقتني في دراسة هذا الموضوع ففي الجامعة الجزائرية و في حدود علمي، لم أعثر على دراسة متخصصة للجريمة السياسية في الفقه الإسلامي مقارنة مع النظم الوضعية، بينما توجد في جامعات المشرق العربي كثير من الدراسات حول الجريمة السياسية في الفقه الإسلامي أو مقارنة مع القوانين الوضعية وسأذكرها لاحقا.
وأهم المصادر التاريخية لنظم الحكم والإدارة التي استفدتُ منها: كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي فهو كتاب نفيس يجمع نظريات فقهية في الحقوق العامة الدستورية والإدارية والمالية والجنائية، إلا أنه يغلب عليه الطابع النظري، ولأبي يعلى الفراء كتاب مماثل يعتقد أنه منقول عنه.
وبما أن موضوع البغي والبغاة، هو موضوع فقهي حسب المؤلفات القديمة، فقد وجدت له مادة غزيرة، في أغلب كتب الفقه الإسلامي، من كل المذاهب الإسلامية، أذكر منها «المبسوط» للسرخسي، و«المغني» لابن قدامة، و«نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج» للرملي، و«البحر الرائق شرح كنز الدقائق» لابن نجيم، و«الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي، و«بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع» للكاساني، و«حاشية ابن عابدين»، و«حاشية الشلبي على شرح الزيعلي على كنز الدقائق». و«الشرح الكبير» لمحمد الدسوقي، و«التاج والإكليل لمختصر الشيخ خليل» لأبي عبد الله محمد الغرناطي، و«المهذب» للشيرازي، و«كشاف القناع» للبهوتي، و«شرح النيل» لمحمد بن يوسف اطفيش، وغيرهم.
ولكن هذه الموسوعات الفقهية لا يخلو أغلبها من عيوب وأخطاء في موضوع الحكم والإمامة فهي آراء فقهية ليست ملزمة لأي عصر ولا لأي مصر، ونذكر من هذه العيوب:
1 ـ أن يكون رئيس الدولة من قريش.
2 ـ عدم قابلية الخليفة للعزل إلاَّ إذا كفر أو أقر بالكفر أو ترك الصلاة.
3 ـ تنعقد البيعة بخمسة أو ستة أو أربعين.
4 ـ إقرار النظام الو راثي.
5 ـ إقرار حكم الوالي المتغلب.
وأمَّا المراجع الحديثة، التي تناولت موضوع الجريمة السياسية، فنذكر منها، «التشريع الجنائي الإسلامي» للدكتور عبد القادر عودة، وكتاب «الجريمة والعقوبة» للشيخ محمد أبو زهرة، ومجموعة كتب الدكتور فتحي بهنسي، و«الجرائم والعقوبات»، للدكتور توفيق علي وهبة، و«الإسلام وأصول الحكم» للدكتور محمد عمارة، و«الفقه الجنائي الإسلامي»، للدكتور بهجت عتيبة، و«عبقرية الإسلام في أصول الحكم» للدكتور منير العجلاني، و«القانون والعلاقات الدولية في الإسلام» للدكتور صبحي محمصاني، وغيرهم.
وأمَّا الكتب المتخصصة في موضوع الجريمة السياسية فهي في المشرق العربي كثيرة أذكر منها:
كتاب «الجرائم السياسية وأوامر الاعتقال» للدكتور عبد الحميد الشواربي، و«التمهيد لدراسة الجريمة السياسية» للدكتور محمد عطية راغب، و«الإجرام السياسي» للدكتور عبد الوهاب حومد، و«الجريمة السياسية وضوابطها» للدكتور محمد الفاضل، و«الجرائم السياسية» للدكتور جاك يوسف الحكيم، وكتاب «مبدأ عدم تسليم المجرمين في الجرائم السياسية» لإلهام محمد العاقل.
ومن الأطروحات الجامعية التي تناولت الجريمة السياسية بدراسة منهجية وأكاديمية نذكر منها:
1 ـ رسالة الدكتوراه سند نجاتي سيد أحمد، بعنوان «الجريمة السياسية دراسة مقارنة»، نوقشت بجامعة القاهرة كلية الحقوق سنة 1983 فقد تناولت هذه الرسالة الجريمة السياسية مقارنة مع التشريعات العقابية في جمهورية مصر.
2 ـ رسالة الدكتوراه لمنذر عرفات توفيق زيتون، تناولت «الجريمة السياسية في الفقه الإسلامي»، ونوقشت بكلية الدراسات العليا سنة 1998 في الفقه وأصوله، تعرض فيها الباحث إلى تعريف الجريمة السياسية وخصائصها وأنواعها في الفقه الإسلامي.
3 ـ رسالة دكتوراه لأحمد محمد عبد الوهاب «الجريمة السياسية دراسة مقارنة من نطاق التجريد القانوني إلى مجال التطبيق العملي»، نوقشت في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، بدون تاريخ، تعرض فيها الباحث إلى التطور التاريخي للإجرام السياسي، قبل الثورة الفرنسية وبعدها، ثم تطرق إلى نطاق التجريم السياسي، باستعراض نظريات تمييز الجريمة السياسية عن غيرها من الجرائم كما بحث أسباب الإجرام السياسي، وضمانات المتهم بالإجرام السياسي من التحقيق إلى المحاكمة.
4 ـ رسالة الماجستير، لهيثم سليمان سعيد العطروز، «الجريمة السياسية وتطبيقاتها في الأردن»، نوقشت بالجامعة الأردنية، كلية الدراسات العليا سنة 1998 وقد تضمنت تاريخ الجريمة السياسية، ثم تطرق الباحث إلى الجريمة السياسية في التشريع الأردني.
وسيرا مع منطق البحث وأهميته فقد قسَّمتُ الدراسة إلى فصل تمهيدي، وثلاثة أبواب على النحو التالي:
الفصل التمهيدي:
أوضحت فيه مبادئ أساسية اعتبرتها سببا للمعارضة العنيفة والإجرام السياسي وهي شرعية السلطة وحدود المعارضة السلمية، التي إن تحولت إلى العنف أصبحت جريمة سياسية وهي موضوع بحثنا.
الباب الأول:
خصَّصتُه لتعريف الجريمة السياسية وبيان أركانها في الفقه الإسلامي وفي القوانين الوضعية، وذلك في فصلين تحدثت في الأول على تعريف الجريمة السياسية، وشروطها وتمييزها عن غيرها من الجرائم المشابهة لها في الفقه الإسلامي.
أما الفصل الثاني فتناولت فيه تعريف الجريمة السياسية في الفقه والتشريع والقضاء، ثم أركان الجريمة السياسية وشروطها، في القوانين الوضعية.
الباب الثاني:
تناولت فيه أنواع الجرائم السياسية وتطورها في الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية، خصَّصت الفصل الأول منه لأنواع الجرائم السياسية في الفقه الإسلامي، بما فيها جرائم الرأي والجرائم الفعلية، وأنواعها في القوانين الوضعية بما فيها الجرائم السياسية البحتة والنسبية.
أمَّا الفصل الثاني فتتبعت فيه تطور الجريمة السياسية، عبر تاريخ البشرية منذ العصور البدائية، إلى اليوم، بما في ذلك تأثير الثورة الفرنسية، ومواقف المدارس الإسلامية من الإجرام السياسي.
الباب الثالث:
تحدثت فيه على أحكام الجرائم السياسية في الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية؛ خصَّصت الفصل الأول منه لأحكام البغي والبغاة في الفقه الإسلامي، بما في ذلك من يساعد البغاة.
وأمَّا الفصل الثاني فذكرت فيه باختصار أحكام الجريمة السياسية في القوانين الوضعية، بداية من المسؤولية السياسية، والجنائية والمدنية للمجرم السياسي، بما في ذلك التدابير والعفو، والإعدام، وتسليم المجرم السياسي.
وقد أنهيت كل باب بخلاصة لأهم نتائج المقارنة بين موقف الشريعة والقوانين المعاصرة من الجريمة السياسية.
الجريمة السياسية بين الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية
إن من أخطر المشاكل التي تعاني منها أغلب دول العالم اليوم، ظاهرة الإرهاب والاضطرابات السياسية، من مظاهرات ومشادَّات وشغب ناتجة عن المعارضة السياسية العنيفة، التي قد تصل إلى الإرهاب، والجريمة المنظَّمة العابرة للحدود.
هذه المشاكل قد يطول أمدها، فتوقع الحكومات في مواقف حرجة، سياسيا وقانونيا، فهي من جهة تريد الحفاظ على كيان الدولة وهيبتها، ومؤسساتها الشرعية، ومن جهة أخرى تريد إخماد الفتنة، وإسكات المعارضة، بأية طريقة، لأن مجرد الاعتراف بها وبشرعية مطالبها، وبوصف جرائمها بأنها سياسية، يعني زحزحتها عن الحكم، وفسح المجال للمعارضة كي تتولَّى الحكم بدلا منها.
فإمَّا أن تتساهل مع المشاغبين الثائرين، وسيؤدي ذلك حتما إلى زعزعة مواقفها والتنازل عن سلطتها، فتنهار الحكومات ويستقيل أو يقال الرؤساء وتُحل الأحزاب، ويجمد الدستور فتعلن حالة الطوارئ، ويتدخل الجيش فتنهار الثقة بين الشعب والسلطة، فتدخل السلطة في مرحلة اللاشرعية، وقد تطول مدتها، وهذه هي حال الكثير من دول العالم، ومنها دول العالم الإسلامي.
وإمَّا أن تتصلب السلطة الحاكمة، وتتشبث بالحكم وتتعامل مع المعارضة بكل قوة ووحشية، مستعملة القوة الأمنية والعسكرية والإعلامية، معتبرة أن تلك المعارضة هي معادية للأمَّة ومقوماتها، وهي خطر على المصالح العليا للبلاد، وأنها تهدد كيان الدولة، وهي عدو للشعب والإنسانية وضد الحضارة، وليس لها أي مطالب سياسية، بل هدفها التخريب والتقتيل فقط، فتصفها بكل الأوصاف، التي تؤلب عليها الرأي العام الداخلي والخارجي، مما يبرر لها غلق كل أبواب الحوار والنقاش والتسامح أو التنازل أو حتى الاعتراف بوجودها، فترصد لذلك أجهزة الأمن والمخابرات والجيوش والأسلحة والإجراءات الصارمة والشديدة أبشع مما تواجه به أعداءها الخارجيين، وهكذا تستمر الأزمة لعقود عديدة، إلى أن تتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية فينتج عنها:
1 ـ استمرار الأزمة بين السلطة والمعارضة عدة سنوات، مما يعرقل التنمية والتطور في جميع المجالات.
2 ـ اختراق المعارضة من قبل العصابات والمجرمين، فتتشوَّه مطالبها السياسية التي كانت مشروعة.
3 ـ قد تتعاطف مع المعارضة قوى أجنبية مغرضة، للتدخل في الشؤون الداخلية.
4 ـ تدخل المنظمات والهيئات الدولية، باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الأقليات.
5 ـ تبعا لمنظمات حقوق الإنسان قد تساندها المنظمات والهيئات السياسية والمالية والاقتصادية الدولية.
6 ـ تسيطر السلطة الحاكمة على الجيش والإعلام فتوجه الرأي العام وتكيف جرائم المعارضة تكييفا يخدم موقفها.
أمام هذا الموقف المتصلب، تجد السلطة نفسها في مأزق سياسي وقانوني، فتبحث عن المبررات للخروج من الأزمة التي طالت وأتت على الأخضر واليابس، وفي النهاية وبعد عدة عقود من الخراب والدمار، والخسائر التي يصعب عدها في الأرواح والأموال، وبعد تغير أو تغيير رجال السلطة، وأنظمة الحكم، يضطر هؤلاء الحكام الجدد أو القدامى، إلى الاعتراف بحقوق المعارضة السياسية، وتبدأ التنازلات بالمفاوضات السرية، وعبر الوساطات، فتصل إلى تدابير المصالحة، والعفو الشامل، وهكذا تضطر السلطة إلى أن تعامل المعارضة معاملة أخف وأرحم، من قوانين العقوبات العادية، معترفة في النهاية أن الإجرام السياسي يختلف عن الإجرام العادي.
وإذا كانت الدول المتقدمة التي عانت من الإجرام السياسي قديما، وتعاملت معه بقسوة وشدة قد تداركت هذا الخلل السياسي والقانوني منذ النهضة الأوربية، وخصوصا بعد الثورة الفرنسية، حيث اضطر المشرِّع الأوروبي أمام كثرة الثورات، وبفضل جهود الفلاسفة والمفكرين، فاعترف بوجود الجريمة السياسية، التي تختلف عن الجريمة العادية، فوضع لها نصوصا خاصة وعقوبات متميزة، معتبرًا أنَّ المجرم السياسي رجل نبيل، وفاضل ذو أخلاق ومبادئ يناضل من أجلها ويضحي بمصلحته الخاصة من أجل مصلحة وطنه وشعبه، حتى وإن أخطأ في الوسائل وأحرق المراحل، واستعجل النتائج، فالمجرم السياسي قد يصبح حاكما في المستقبل، ولعل أغلب المصلحين والمجددين والزعماء والقادة في العالم كانوا مجرمين سياسيين، في نظر الحكم القائم في عهدهم.
فإذا كانت الدول الأوروبية قد خرجت من هذه المعضلة السياسية والقانونية بتعديل دساتيرها وقوانينها الوضعية، فما هو موقف الشريعة الإسلامية من الإجرام السياسي؟ وما هي آراء الفقهاء المسلمين في المجرمين السياسيين؟ وكيف تعامل الحكام المسلمون مع المعارضة السياسية العنيفة؟ وهل يميز الفقه الإسلامي بين الجريمة السياسية والجريمة العادية؟
رجعتُ إلى كتب الفقه الإسلامي فاطَّلعت على أبواب البغي والبغاة فوجدت فيها بحوثا مستفيضة لأحكام جرائم البغاة انطلاقا من قوله تعالى {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُومِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتِ اِحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ اِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُومِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1).
ومن تفسير هذه الآية، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأعمال الخلفاء الراشدين، وآراء الفقهاء واجتهاداتهم، تكونت ثروة فقهية ضخمة، في موضوع جريمة البغي، وشروطها، وضوابطها، وأحكامها، وتمييز البغاة عن غيرهم من المجرمين، كل هذا مبسوط في كتب الفقه بشكل يحق للمسلمين أن يعتزوا به أمام فقهاء العالم، ولكن هذه الثروة تحتاج إلى دراسة علمية أكاديمية مستفيدة من تجارب الإنسانية، وأحدث ما توصلت إليه القوانين المعاصرة في التعامل مع الإجرام السياسي.
أمام هذا التراث الإسلامي الكبير والثروة الفقهية الزاخرة، وهذا البعد التشريعي الذي سبقت به الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية بثلاثة عشر قرنا؛ إذ لم تعترف القوانين الفرنسية بالجريمة السياسية إلا بعد الثورة الفرنسية، وجدت نفسي معتزًا و منبهرًا، من جهة، وحائرًا متحسرًا، من جهة أخرى، على مواقف الأنظمة السياسية العربية والإسلامية اليوم، فلا هي أخذت بالقوانين الوضعية، وما توصلت إليه من ديمقراطية وحرية الرأي، والمعارضة السياسية السلميَّة، التي تمنع الوصول إلى الإجرام السياسي، الذي وإن حصل فقد قنن المشرع تدابير وإجراءات لمحاكمة المجرم السياسي، محاكمة تليق بمقامه، كما أنَّ تلك الأنظمة لم ترجع إلى الشريعة الإسلامية التي اعترفت بالجريمة السياسية منذ نزول الوحي.
هذا هو الدافع القوي الذي جعلني أختار هذا الموضوع لجدته، وأهمية، فهو يفيد السلطة السياسية، كما يفيد المشرع والقاضي، وخاصة في هذه الظروف التي تعاني فيها أغلب الدول الإسلامية، من عنف المعارضة السياسية، وها هي السلطة الجزائرية مثلا تنتقل من التعامل الأمني الصارم إلى قانون الرحمة، ثم قانون الوئام المدني ثم إلى المصالحة الوطنية وهي تدعو اليوم إلى العفو الشامل.
وفي هذا البحث سنميز بين الجريمة السياسية، وكفاح الشعوب، وبين غيرها من الجرائم الوحشية والإرهابية، بضوابط وشروط، حتى نزيل الشبه والالتباس الحاصل لدى الكثير من السياسيين، مستخلصين ذلك من النصوص الشرعية وآراء الفقهاء ومن تاريخ الإجرام السياسي.
وتهدف هذه الدراسة إلى الإجابة عن الإشكاليات التالية وهي:
1 ـ ما هو مفهوم الجريمة السياسية في الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية؟ وما هي نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف؟
2 ـ كيف حدد الفقهاء شروط جريمة البغي حتى لا يستغلها المجرمون للاعتداء على الحقوق العامة والخاصة مستفيدين بذلك من الصبغة السياسية.
3 ـ إبراز أسبقية الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية في التمييز بين الإجرام العادي والإجرام السياسي.
4 ـ توضيح مواقف الفرق المعارضة للسلطة ومدى صحَّة أو خطإ تأويلها للخروج على الإمام.
5 ـ إثراء الفقه الإسلامي حتى يسعف المشرِّع في الدول الإسلامية كي يضع نصوصًا يضبط بها الجريمة السياسية فتستفيد منها السلطة الحاكمة للخروج من الأزمة.
6 ـ تحديد الشروط والضوابط الواجب توافرها في الجريمة السياسية حتى توصد الأبواب أمام الاتهامات التي توجه ضدَّ الشريعة الإسلامية بأنها تشجع الإرهاب أو لا تحاربه ولا تُدينُه، للخلط الحاصل بين كفاح الشعوب للحصول على حريتها، والإرهاب الهمجي على الحضارة والإنسانية.
ومنهج الدراسة يقتضي عرض الآراء الفقهية والقانونية ثم مناقشتها بتوظيف المنهج التحليلي مع تأصيل المسائل الفقهية ثم اعتماد المنهج النقدي، لأعمال الحكام المسلمين، ولثورات المعارضة، وبيان الصحيح وغير الصحيح منها. أما المنهج المقارن بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، فسأوظفه في المقارنات التي أجريتها في نهاية كل باب، وهي خلاصة مركزة أظهر فيها أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف بين موقف الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية من الإجرام السياسي، مضيفا إليها ما أستنتجه من المقارنة والأمثلة الواقعية في نظم الحكم الإسلامي والنظم المعاصرة.
وسأعتمد في هذا البحث غالبا على مراجع فقه أهل السنة، باعتباره الفقه الغالب على الأمة الإسلامية، وأنظمة الحكم الإسلامي قديما، كما سأعتمد على كتب الفقه الإباضي، باعتباره من الفرق السياسية المعارضة الأولى في التاريخ الإسلامي، كما أن أهل السنة والإباضية لهم تقارب في أهم الآراء السياسية، وذلك بحكم انتمائهم جميعا إلى منهج أصولي واحد وهي التعامل مع النصوص بالنقل والعقل، باستثناء اختلافهم في مسألة الشرط القرشي والخروج على الإمام.
ولهذا فسوف لن أتعرض كثيرا للفقه الشيعي وفرقه العديدة؛ لأن الشيعة تتميز بفقه سياسي مغاير يستند كثيرًا على النقل، مما روي عن آل البيت، ويستبعد الشيعة ما رواه غيرهم، مما جعلهم يشتهرون بمبدإ النقل واستبعاد العقل، فجاءت نظريتهم السياسية خاصة ومتميزة، تحتاج إلى دراسة خاصة ومستقلة، فالخلافة عندهم بالنص، وهي في أبناء علي بن أبي طالب، والإمام عندهم معصوم عن الخطإ، فلا يجوز الخروج عليه.
ولا يخفى على باحث في الدراسات المقارنة، بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، صعوبة هذا العمل وخاصة في نظم الحكم والإدارة التي لم يُولِ لها الفقهاء المسلمون عناية كبيرة، في القرون الأولى، حيث كان جهدهم الكبير منصبًّا على فقه العبادات والمعاملات، وقد أهمل الفقه الدستوري، والسياسي والإداري، وبقيت المادة الخام من مبادئ في القرآن والسنة تراوح مكانها، ولعل انحراف السلطة بعد الخلافة الراشدة، كان السبب الرئيس في تخلف وجمود الفكر السياسي الإسلامي، وتحول الكتاب إلى تأصيل وتأويل، وتبرير أعمال السلطة، في كتب قليلة عرفت بالأحكام السلطانية والسياسية الشرعية.
كما أن الفارق الزمني بين الفقه الدستوري الإسلامي النظري والمثالي، وبين الدساتير المعاصرة العملية والواقعية، يصعّب الدراسة المقارنة بين ما بقي نظريا، ولم يطبق إلا نادرًا، كمبدإ الشورى، والبيعة، والحسبة، وقضاء المظالم، وبين الدساتير والقوانين المعاصرة، التي ورغم ظلمها واستبدادها قديما، إلا أنها بفضل جهود المفكرين وثورات الشعوب، فقد هذّبت وعدّلت بشكل كبير خلال التجارب التي شهدتها كثير من دول وشعوب العالم، فأكسبتها واقعية، وزودتها بآليات التطبيق، مما يجعلها تتعامل مع المعارضة السياسية بآليات وقنوات شرعية كالصحافة والأحزاب والمجالس المنتخبة، وتضمن حقوق وحريات الشعوب بأجهزة دستورية توفر حرية التعبير والنقد والمحاسبة بأساليب تمنع العنف وتحمي السلطة من الإجرام السياسي.
ويمكن حصر تلك الصعوبات في النقاط التالية:
1 ـ النصوص القطعية في الشريعة تقيِّد الاجتهاد خاصة في المجال الجنائي كالحدود والقصاص.
2 ـ في النصوص الظنية، أو حيث لا يوجد النص، من يجتهد؟ وكيف؟ وأين؟
3 ـ اختلاف المصطلحات الفقهية بين الشريعة والقانون يصعِّب إسقاط بعضها على البعض.
4 ـ التداخل بين السيادة والحاكمية؛ فالأولى للأمَّة والثانية لله، يمارسها الحاكم نيابة عن الشعب وليس نيابة عن الله.
5 ـ اختصاص الشريعة الإسلامية بمصطلحات، لا تعرفها القوانين الوضعية كالجهاد والردَّة والقصاص.
6 ـ اختلاف الشريعة والقانون، في مبدأَي التجريم والعقاب.
7 ـ اختلاف الفِرق والمدارس الإسلامية، حول شروط الخروج على الإمام، ومن هي الفرقة الباغية؟
8 ـ الفارق الزمني المقدر بأربعة عشر قرنا، بين نظامين لم يعيشا، ولم يطبقا في عصور متقاربة.
9 ـ المصادر التاريخية كيف كُتبت؟ وهل كل الأخبار الواردة فيها تفيد اليقين؟ وهل يجوز أن نبني عليها أحكامًا؟
وأما المصادر والمراجع التي سبقتني في دراسة هذا الموضوع ففي الجامعة الجزائرية و في حدود علمي، لم أعثر على دراسة متخصصة للجريمة السياسية في الفقه الإسلامي مقارنة مع النظم الوضعية، بينما توجد في جامعات المشرق العربي كثير من الدراسات حول الجريمة السياسية في الفقه الإسلامي أو مقارنة مع القوانين الوضعية وسأذكرها لاحقا.
وأهم المصادر التاريخية لنظم الحكم والإدارة التي استفدتُ منها: كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي فهو كتاب نفيس يجمع نظريات فقهية في الحقوق العامة الدستورية والإدارية والمالية والجنائية، إلا أنه يغلب عليه الطابع النظري، ولأبي يعلى الفراء كتاب مماثل يعتقد أنه منقول عنه.
وبما أن موضوع البغي والبغاة، هو موضوع فقهي حسب المؤلفات القديمة، فقد وجدت له مادة غزيرة، في أغلب كتب الفقه الإسلامي، من كل المذاهب الإسلامية، أذكر منها «المبسوط» للسرخسي، و«المغني» لابن قدامة، و«نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج» للرملي، و«البحر الرائق شرح كنز الدقائق» لابن نجيم، و«الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي، و«بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع» للكاساني، و«حاشية ابن عابدين»، و«حاشية الشلبي على شرح الزيعلي على كنز الدقائق». و«الشرح الكبير» لمحمد الدسوقي، و«التاج والإكليل لمختصر الشيخ خليل» لأبي عبد الله محمد الغرناطي، و«المهذب» للشيرازي، و«كشاف القناع» للبهوتي، و«شرح النيل» لمحمد بن يوسف اطفيش، وغيرهم.
ولكن هذه الموسوعات الفقهية لا يخلو أغلبها من عيوب وأخطاء في موضوع الحكم والإمامة فهي آراء فقهية ليست ملزمة لأي عصر ولا لأي مصر، ونذكر من هذه العيوب:
1 ـ أن يكون رئيس الدولة من قريش.
2 ـ عدم قابلية الخليفة للعزل إلاَّ إذا كفر أو أقر بالكفر أو ترك الصلاة.
3 ـ تنعقد البيعة بخمسة أو ستة أو أربعين.
4 ـ إقرار النظام الو راثي.
5 ـ إقرار حكم الوالي المتغلب.
وأمَّا المراجع الحديثة، التي تناولت موضوع الجريمة السياسية، فنذكر منها، «التشريع الجنائي الإسلامي» للدكتور عبد القادر عودة، وكتاب «الجريمة والعقوبة» للشيخ محمد أبو زهرة، ومجموعة كتب الدكتور فتحي بهنسي، و«الجرائم والعقوبات»، للدكتور توفيق علي وهبة، و«الإسلام وأصول الحكم» للدكتور محمد عمارة، و«الفقه الجنائي الإسلامي»، للدكتور بهجت عتيبة، و«عبقرية الإسلام في أصول الحكم» للدكتور منير العجلاني، و«القانون والعلاقات الدولية في الإسلام» للدكتور صبحي محمصاني، وغيرهم.
وأمَّا الكتب المتخصصة في موضوع الجريمة السياسية فهي في المشرق العربي كثيرة أذكر منها:
كتاب «الجرائم السياسية وأوامر الاعتقال» للدكتور عبد الحميد الشواربي، و«التمهيد لدراسة الجريمة السياسية» للدكتور محمد عطية راغب، و«الإجرام السياسي» للدكتور عبد الوهاب حومد، و«الجريمة السياسية وضوابطها» للدكتور محمد الفاضل، و«الجرائم السياسية» للدكتور جاك يوسف الحكيم، وكتاب «مبدأ عدم تسليم المجرمين في الجرائم السياسية» لإلهام محمد العاقل.
ومن الأطروحات الجامعية التي تناولت الجريمة السياسية بدراسة منهجية وأكاديمية نذكر منها:
1 ـ رسالة الدكتوراه سند نجاتي سيد أحمد، بعنوان «الجريمة السياسية دراسة مقارنة»، نوقشت بجامعة القاهرة كلية الحقوق سنة 1983 فقد تناولت هذه الرسالة الجريمة السياسية مقارنة مع التشريعات العقابية في جمهورية مصر.
2 ـ رسالة الدكتوراه لمنذر عرفات توفيق زيتون، تناولت «الجريمة السياسية في الفقه الإسلامي»، ونوقشت بكلية الدراسات العليا سنة 1998 في الفقه وأصوله، تعرض فيها الباحث إلى تعريف الجريمة السياسية وخصائصها وأنواعها في الفقه الإسلامي.
3 ـ رسالة دكتوراه لأحمد محمد عبد الوهاب «الجريمة السياسية دراسة مقارنة من نطاق التجريد القانوني إلى مجال التطبيق العملي»، نوقشت في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، بدون تاريخ، تعرض فيها الباحث إلى التطور التاريخي للإجرام السياسي، قبل الثورة الفرنسية وبعدها، ثم تطرق إلى نطاق التجريم السياسي، باستعراض نظريات تمييز الجريمة السياسية عن غيرها من الجرائم كما بحث أسباب الإجرام السياسي، وضمانات المتهم بالإجرام السياسي من التحقيق إلى المحاكمة.
4 ـ رسالة الماجستير، لهيثم سليمان سعيد العطروز، «الجريمة السياسية وتطبيقاتها في الأردن»، نوقشت بالجامعة الأردنية، كلية الدراسات العليا سنة 1998 وقد تضمنت تاريخ الجريمة السياسية، ثم تطرق الباحث إلى الجريمة السياسية في التشريع الأردني.
وسيرا مع منطق البحث وأهميته فقد قسَّمتُ الدراسة إلى فصل تمهيدي، وثلاثة أبواب على النحو التالي:
الفصل التمهيدي:
أوضحت فيه مبادئ أساسية اعتبرتها سببا للمعارضة العنيفة والإجرام السياسي وهي شرعية السلطة وحدود المعارضة السلمية، التي إن تحولت إلى العنف أصبحت جريمة سياسية وهي موضوع بحثنا.
الباب الأول:
خصَّصتُه لتعريف الجريمة السياسية وبيان أركانها في الفقه الإسلامي وفي القوانين الوضعية، وذلك في فصلين تحدثت في الأول على تعريف الجريمة السياسية، وشروطها وتمييزها عن غيرها من الجرائم المشابهة لها في الفقه الإسلامي.
أما الفصل الثاني فتناولت فيه تعريف الجريمة السياسية في الفقه والتشريع والقضاء، ثم أركان الجريمة السياسية وشروطها، في القوانين الوضعية.
الباب الثاني:
تناولت فيه أنواع الجرائم السياسية وتطورها في الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية، خصَّصت الفصل الأول منه لأنواع الجرائم السياسية في الفقه الإسلامي، بما فيها جرائم الرأي والجرائم الفعلية، وأنواعها في القوانين الوضعية بما فيها الجرائم السياسية البحتة والنسبية.
أمَّا الفصل الثاني فتتبعت فيه تطور الجريمة السياسية، عبر تاريخ البشرية منذ العصور البدائية، إلى اليوم، بما في ذلك تأثير الثورة الفرنسية، ومواقف المدارس الإسلامية من الإجرام السياسي.
الباب الثالث:
تحدثت فيه على أحكام الجرائم السياسية في الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية؛ خصَّصت الفصل الأول منه لأحكام البغي والبغاة في الفقه الإسلامي، بما في ذلك من يساعد البغاة.
وأمَّا الفصل الثاني فذكرت فيه باختصار أحكام الجريمة السياسية في القوانين الوضعية، بداية من المسؤولية السياسية، والجنائية والمدنية للمجرم السياسي، بما في ذلك التدابير والعفو، والإعدام، وتسليم المجرم السياسي.
وقد أنهيت كل باب بخلاصة لأهم نتائج المقارنة بين موقف الشريعة والقوانين المعاصرة من الجريمة السياسية.