الابعاد الاستراتيجيه والسياسيه
مرسل: الجمعة إبريل 12, 2013 5:05 pm
الأبعاد الإستراتيجية والسياسية للصراع العربي الإسرائيلي في المنطقة
2006-8-7 | -1-
إن الصراع العربي الإسرائيلي المتأجج في منطقة الشرق الأوسط يندرج بجميع أبعاده ضمن صراع تاريخي وحضاري كبير، تشهده المنطقة باعتبارها من أهم المراكز الإستراتيجية والاقتصادية في العالم، بحيث تعد منذ النصف الأول من القرن العشرين أكبر مصدر ومستودع للطاقة البترولية التي تعتمدها الدول المصنعة.
لقد تعددت بؤر الصراع ودوائره خلال القرن الفارط، بهدف تكسير العوائق التي تكبل إرادة الشعوب، وتحاصر تطلعاتها، من أجل الخروج من التخلف، وذلك بالسيطرة الكاملة على مواردها وإمكانياتها الحضارية، ولن يتأتى لها ذلك إلا إذا كان قرار صنع المستقبل بيدها، تساهم بكل ما لديها من جهد وقوة في ساحات الصراع المتعددة والمفتوحة على كل الآفاق، لتؤمن لها دورا فاعلا في هذا العالم الجبار الذي لا مكان فيه للضعفاء.
إن الصراع في منطقة الشرق الأوسط، هو صراع متعدد الوجوه والفصول، وهو صراع مرتبط بصورة وثيقة بالصراع الأوسع في العالم، ويخطئ من يعتقد أن لهيبه سينطفئ، حتى وإن تغير المتصارعون "دولا وعقائد ومذاهب وقادة".
إن كل ما تقوم به الدولة العبرية من طغيان وجبروت، إنما يمثل وجها أو فصلا من هذا الصراع المرير، الذي لن يهدأ بركانه، إلا إذا توصلت القوى المتشابكة إلى ميزان قوى يضع في اعتباره ضرورات التاريخ و الجغرافيا.
-2-
إن وجود فلسطين في قلب خريطة الصراع الجاري في منطقة الشرق الأوسط، ووجود إسرائيل كأحد العناصر الأساسية في هذه المواجهة المتعددة الوجوه والأبعاد، جعلت طبيعة الصراع يتحول من الإطار السياسي المحدد المعالم، إلى إطار حضاري شامل، وذلك على المدى المتوسط والبعيد: وهذه مسألة دقيقة، ولم تعد سرا من الأسرار، فقد كشفت عنها مراكز البحث و التخطيط "الإستراتيجية" الأمريكية، في مجال التنبؤ بالصراعات المستقبلية.
وتحدد الرؤية الإستراتيجية للحالة الراهنة في الشرق الأوسط، في أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى إعادة تشكيل الوضع الإقليمي، ورسم خريطة سياسية جديدة لنظام إقليمي شرق أوسطي، يخدم المصالح الحيوية الأمريكية، ويدعم مركزها كقوة عظمى وحيدة في العالم.
من هذا المنطلق شنت الحرب على أفغانستان والعراق ولبنان.. ويتم الإعداد لضرب دول أخرى في المنطقة وفق مخطط أمريكي معد من طرف الدوائر الإستراتيجية الأمريكية.
إن الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني وعلى لبنان تعتبر إحدى حلقات هذا المخطط الرامي إلى إعادة ترتيب وهيكلة البيت الشرق أوسطي، وإذا كان الهدف من استعمال الحرب طبقا لآراء أكبر فلاسفة الحرب "فون كلاوزفتز"، هو تحطيم قدرات وقوة الخصم وكسر شوكته وإرادته، وبالتالي إجباره على القبول بالشروط التي تفرض عليه صاغرا، فإن الحرب ليست سوى وسيلة لتحقيق أهداف سياسة محددة.
إن ما ترمي إليه الحرب الإسرائيلية هو تكريس السيطرة الإسرائيلية العسكرية والسياسية المطلقة على المنطقة العربية، وهناك تطابق كامل في هذا الصدد مع المخططات الأمريكية، ولعل التحالف الإستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، خير دليل على أن إسرائيل تمثل "العمق الغربي الأمريكي" في المنطقة، وعلى هذا الأساس يتم ضمان تفوقها العسكري والتكنولوجي، وكذلك تفوقها في المجال النووي، وتخصيصها بالرعاية الاقتصادية المتميزة... ومن نتائج هذا الوضع، بروز إسرائيل كقوة إقليمية بسبب تفوقها النوعي.
لم تكن إسرائيل رغم صغر عدد سكانها وحجم مساحتها لتصبح قوة مهيمنة متغطرسة، تهدد جيرانها باستعمال سلاحها النووي في حالة اختلال ميزان القوة القائم الذي يضمن لها التفوق المطلق على جميع جيرانها، لولا مساعدات الولايات المتحدة الاقتصادية والعسكرية لها.
وإذا كان النظام الدولي يشهد تغييرات متسارعة، تتطلب تغييرا في النظم الإقليمية القائمة في مناطق العالم المختلفة، وخاصة في المواقع الإستراتيجية، فإن إسرائيل تسعى إلى توظيف المتغيرات على الساحة الدولية لتثبيت رؤيتها الإستراتيجية وأهدافها السياسية.
وتتلخص المرتكزات الرئيسية الإستراتيجية والأمنية الإسرائيلية كالتالي:
1 -القدرة على الردع، وتوجيه الضربة الوقائية المسبقة، وأداة الردع الرئيسية هي القوة الجوية.
2-الحدود الآمنة عن طريق التوسع وضم الأراضي والمياه.
3-الأسلحة النووية، وكذلك الصواريخ البعيدة المدى التي يمكن التلويح بها لضرب العواصم العربية أو الإسلامية.
4- ضمان مؤازرة قوة عظمى يمكنها أن تسارع إلى نجدة إسرائيل.
لقد ترتب عن هذه الإستراتيجية عسكرة المجتمع الإسرائيلي وجعله يخضع للمؤسسة العسكرية، بصورة كلية، ذلك أن الجيش إلى جانب دوره في إقامة الدولة وفي تحقيق حلمها، أصبح مسئولا عن بقائها وعن أمنها باعتبارها "دولة" حدود مشتعلة في الاتجاهات الأربعة، على حد تعبير الجنرال "موشي ديان". وقد أدى هذا الوضع أيضا إلى الزج بالجيش في صميم العمل السياسي، وفرض هيمنة قادته على الحياة السياسية الإسرائيلية منذ قيام الدولة.
كما أن الارتباط العضوي بين إسرائيل والولايات المتحدة، ساهم في تعزيز وتوسيع دائرة نفوذ المؤسسة العسكرية التي يعود لها أمر التقرير في كل ما يتعلق بالسياسة العامة للدولة، وأيضا التمكين للمخططات الإستراتيجية التي من ضمن أولوياتها، جعل إسرائيل قوة إقليمية رئيسية في المنطقة.
للوصول إلى هذه الغاية، نشأ الطابع المميز للعلاقة الأمريكية الإسرائيلية التي تقوم على أساس المصالح والقيم المشتركة، وكذلك على الترابط والتطابق حول المبادئ الإستراتيجية.
لقد أدى سقوط النظام الدولي الثنائي إلى انهيار العديد من التوازنات والخيارات السياسية والاقتصادية والأمنية التي سادت لعقود من الزمن، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تتصرف وفق استراتيجيه محكمة ترمي إلى إعادة ترتيب الأوضاع العالمية، وخلق توازنات جديدة تحدد مستقبل العالم في العقود القادمة، بحيث يتم الإقرار بزعامتها كقوة عظمى تبسط سيطرتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية على العالم.
-3-
وطبقا لهذا المنظور، يتم تحديد الخيارات الإستراتيجية الأمريكية للقرن الجديد:
إن منطقة الشرق الأوسط ومنطقة المحيط الهادي تمثل بؤرة الاهتمامات في السياسة الأمريكية لاعتبارات جغرافية سياسية وإستراتيجية، فالشريط الممتد من الصين واليابان مرورا بالهند وباكستان إلى مخازن النفط العالمي في الخليج وبحر قزوين، يشكل الخط الساخن الذي يتحكم في مستقبل الحرب والسلام والاقتصاد في العالم، الأمر الذي استوجب إعطاء الأولوية للتحكم في المواقع الحساسة الرئيسية والسيطرة على النفط من طرف القطب الأمريكي المهيمن، ورغم ذلك فإن عددا من الدول الإقليمية القوية في آسيا، ستكون قادرة على تحدي القوة الأمريكية ومنافستها خلال العقود القادمة.
إن التوجس من تصاعد القوى المناهضة للولايات المتحدة، دفع بالإدارة الأمريكية إلى الشروع في تطبيق مخططها الجغرافية الإستراتيجية، وبحكم وجود مصالح اقتصادية وإستراتيجية بالغة الأهمية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، فقد تم وضعها على رأس الخيارات الإستراتيجية التي ستحدد مستقبل العالم في القرن الحادي والعشرين.
وأهم هذه الخيارات، قيام نظام شرق أوسطي لأن التحولات الجارية في العالم، أدت إلى تغيير طبيعة المصالح الحيوية وأولويتها.
وكما أن الدور الأمريكي يتغير وفقا للمتغيرات على الساحة الدولية، فالنظام الشرق أوسطي الذي يتم الإعداد له يندرج ضمن إعادة ترتيب الأوضاع على الصعيد العالمي.
إن الولايات المتحدة تريد السيطرة على العالم كله، و بالتالي فهي توسع دائرة سيطرتها المباشرة وغير المباشرة، ولا يحق لأحد أن يتصرف بغير إذنها، لأنه لا يستطيع مواجهة العواقب بغير حمايتها!
إن المؤشرات التي تبلورت حول النظام الإقليمي الشرق أوسطي، تشير إلى أن الاتجاه حسم لصالح تثبيت نظام أمني وسياسي واقتصادي جديد في الشرق الأوسط يعزز السيطرة الأمريكية، ويضفي على إسرائيل دورا خاصا، في صياغة مشروع متكامل متعدد الجوانب: اقتصادية وتجارية ومالية وبيئية كما يشمل التربية والتعليم والأمن العسكري والسكان.
إن المحاولة الرامية إلى إضفاء هوية منفعية بين الأطراف الداخلية عن طريق إنشاء شبكة من المصالح المتبادلة، يتمخض عنها بالضرورة إيجاد نخب مصلحتها مرتبطة بالحفاظ على هذا النظام، والغرض من ذلك هو تحويل الوحدات المكونة للنظام أو المشاركة فيه إلى مجرد أطراف تابعة لمركز إقليمي تقوده إسرائيل، مرتبط بالنظام الدولي الجديد الذي تم التخطيط له من طرف مراكز البحث الأمريكي.
تعتمد الإستراتيجية الأمريكية على قاعدة أساسية، وهي أن من يملك القوة العسكرية يمكنه وحده أن يتحكم في القرار الاقتصادي والسياسي العالمي. والمنطق الجغرافي الإستراتيجي الذي دفع بصانع القرار الأمريكي إلى الانكباب على إنشاء نظام إقليمي في منطقة الشرق الأوسط الممتدة من شبه الجزيرة الهندية حتى المغرب الأقصى، هو بالدرجة الأولى لاعتبارات اقتصادية، وتأسيسا على ذلك أصبح من المطلوب قيام نظام أمني واقتصادي يستجيب لمتطلبات الإستراتيجية الأمريكية، ونظرا لكون التوازنات الإقليمية لا تميل لصالح إسرائيل فإن الولايات المتحدة تتدخل بكامل ثقلها لتغيير الخريطة الإقليمية و الجو سياسية في المنطقة لتمكين إسرائيل من أن تصبح القوة الرئيسية اقتصاديا و تجاريا و عسكريا.
-4-
إن إستراتيجية الهيمنة هذه، تعمل على قلب كل موازين القوى والتحالفات القائمة، ومن ثمة إعادة تشكيل المشهد الجغرافي السياسي لضمان تفوق إسرائيل الإقليمي لكي تقوم بدورها الوظيفي كما رسمته أجهزة التخطيط الإستراتيجي، باعتبارها تمثل عنصرا مركزيا في إستراتيجية الهيمنة الحضارية الغربية.
ومن وجهة نظر جغرافية إستراتيجية، فإن مشروع النظام الشرق أوسطي ما هو إلا شكل جديد من أشكال السيطرة السياسية والاقتصادية، تعكس طبيعة وتوجهات النظام العالمي الجديد، ومن الوهم الاعتقاد بأن مشروع السوق الشرق أوسطية الذي يروج له في هذا السياق، سيحقق ازدهارا ونموا اقتصاديا يعم دول المنطقة، لأن الحسابات الإستراتيجية لهذا المشروع تهدف بالأساس إلى تحقيق المصالح الأمريكية والإسرائيلية على حساب شعوب المنطقة.
كما أن ذريعة التسوية والسلام، إنما تصب في نفس الاتجاه الذي يسعى وبشكل محموم لوضع مجموعة من الترتيبات السياسية والاقتصادية التي تشكل اللبنات الأساسية لقيام نظام شرق أوسطي، يجعل من الكيان الصهيوني عضوا طبيعيا مكلف بتأمين المصالح الأمريكية والغربية بشكل عام.
ولا شك بأن غياب أي سياسة حقيقية إقليمية وافتقار النظم السائدة للرؤية الإستراتيجية الشاملة في جانبها الاقتصادي والأمني، هو الذي مهد الطريق أمام الولايات المتحدة لتتصرف وفق هذه المسلمات، لتحويل المنطقة إلى مشروع سوق ومنطقة نفوذ تابعة لها.
وإذا سلمنا بأن من أهم العوامل المؤثرة في أي عصر، والتي تسهم في تشكيل ملامحه وتحديد توجهاته:
- القوى النافذة فيه
- بؤر التوتر والصراعات، والتنافس الشامل الذي يهز أركانه.
أدركنا خطأ إستراتيجية السيطرة الأمريكية على العالم.
لقد عرف علم الإستراتيجية في العقود الأخيرة، وبمواكبة عملية الاندماج العالمي والتداخل بين المصالح والاعتماد المتبادل، والتوظيف الإعلامي والسياسي، طفرة خطيرة غيرت مفاهيم الحرب والهزائم والانتصار.
ومن نتائج هذه الطفرة الإستراتيجية الجديدة، أن الحرب لم تعد تحصل بين جيشين ولكن بين حضارتين وثقافتين، وأن ميدان المعركة لا يقتصر على ساحة المعركة العسكرية، ولكنه يتسع ليشمل الساحة السياسية والاقتصادية والإعلامية والعقائدية الشاملة.
ونتيجة لهذه العوامل المتحكمة في الصراعات الدولية، لم يعد ميزان القوى العسكري قادرا وحده على حسم الصراع..
فلا بد لأي إستراتيجية فعالة من أن تضع في اعتبارها التناقضات الكبرى التي تحرك الأطراف المختلفة، وتعبر عن مصالحهم المتباينة والعوامل التي يستند إليها كل طرف في تكوين الرهانات التكتيكية التي تقوم عليها حساباته، ومن دون إدراك ذلك، فإن الصراع سوف يتحول إلى دائرة الصدام العسكري المسدود الأفق.
وهناك خطأ جسيم يقع فيه خبراء التخطيط الإستراتيجي ومهندسو النظام العالمي الجديد، لابد من الإشارة إليه لارتباطه بالسياق الذي نتناوله، وهو أننا ندخل عصرا جديدا، منطق الأشياء فيه يستند إلى قوة التكنولوجيا المتطورة التي تسقط من حساباتها ضرورات الجغرافية وحقائق التاريخ، في حين أن ضرورات المجال باقية رغم اختزال المسافات وإلغاء الحدود، كما أن الحقائق متصلة لأنها تعبير إنساني عن أحوال الأمم والمجتمعات وثقافاتها وقدراتها..
ولعل مكمن الخطأ في هذا التصور، راجع إلى الاجتهادات التي ترى أن عالمية الوسائل التكنولوجية المتطورة حولت العالم إلى قرية كونية واحدة، تلاشت فيها المسافات واختفت الحقائق و الخصوصيات...
ولو تحقق ذلك فعلا، لأصبحنا عالما من "الربوات" هو أقرب إلى خصائص البرمجة الآلية من عالم الإنسان، الذي يفقد معناه إذا خرج عن دائرة صناعة الجغرافيا والتاريخ. وبالتالي فإن جوهر التطور يكمن في تلك العلاقة الحية والجدلية التي يجب أن تكون بين الثابت والمتغير.
ومن الوهم اختزالها في الوسائل المادية مهما بلغت من ذكاء وإتقان، ومع ذلك لابد من الإقرار أننا في عصر بالغ الخطورة يشهد متغيرات هائلة وأحداث متسارعة على الصعيد الدولي.
الأمر الذي يتطلب قيام نظم إقليمية في المواقع الإستراتيجية، للتمهيد لقيام نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، إلا أنه لابد من التأكيد بأن النظام الإقليمي إنما هو واقع تحدده التوازنات والحاجات الموضوعية وتفرضه الوقائع التاريخية والاجتماعية، وليس مجرد حلف أو سوق ترتبط فيه النخبة الحاكمة بقوى الهيمنة العالمية ومؤسساتها المالية والسياسية والعسكرية.
إن المفهوم الإقليمي في العلاقات الدولية يقوم على أساس التعاون والتكامل، والتفاعل الحضاري، والبحث عن الحلول للمشاكل المشتركة، ويجب أن تكون الأطراف الأساسية في النظام الإقليمي فاعلة في رسم مستقبل المنطقة، كما يجب أن ينفتح على جميع الثقافات والحضارات والأسواق وأن يتبادل المصالح والمنافع معها.
إن النظام الإقليمي في الشرق الأوسط يجب أن يقوم على هذه الأسس، كما يجب أن يتبنى إستراتيجية الدوائر المتعددة والمتقاطعة، بحيث يتسع إطاره ليضم المجموعة الأسيوية والإفريقية والأوروبية، وهذا وحده هو الذي سيمكنه من أن يكون له دور فاعل في بلورة أسس وآليات نظام الدولي الجديد.
-5-
إلا أن الولايات المتحدة تريد من خلال سيطرتها على مصادر البترول في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى أن تضع صرح نظام بترولي جديد، يمكنها من التحكم في الإنتاج والأسواق والأسعار... الأمر الذي يكشف عن أبعاد المخطط الأمريكي لإعادة توزيع القوة في القرن الحادي والعشرين طبقا للرؤية الإمبريالية الجديدة للسيطرة على العالم.. وهذا هو الذي يفسر التوجه أو النزعة الإمبراطورية للولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة على الساحة الدولية تمسك بالأوراق المهمة والمؤثرة في السياسة العالمية .. ومن هذا المنطلق انشغل العديد من الاستراتجيين والمفكرين بالنزعة الإمبراطورية للولايات المتحدة، وخلص "جورج قورم" في دراسته حول (عالم القطب الأوحد واتجاهاته) بأن الولايات المتحدة ليست القطب الأوحد في النظام الدولي إلا من الناحية العسكرية، وانتهى إلى أن الهيمنة العسكرية والسياسية ستعيق معدلات النمو الاقتصادي في العالم ..
ويرى الأستاذ "جوزيف ناي" (joseph naye) صاحب كتاب تناقض القوة الأمريكية، بأن توزيع القوة في العالم هو توزيع ثلاثي الأبعاد:
- عالم أحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة على أساس القوة العسكرية.
- عالم متعدد الأقطاب على أساس القوة الاقتصادية، إذ تمثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان ثلثي الإنتاج العالمي، وأصبحت الصين بفضل نموها المتسارع أحد أركانها الأساسية.
- ثم هناك لاعبون غير حكوميين، مثل مدراء البنوك والشركات العملاقة التي تملك من الأموال ما يفوق ميزانيات العديد من الدول..
الخلاصة التي ينتهي إليها الأستاذ "جوزيف ناي" أن استخدام القوة بالنسبة للدول الصناعية أصبح مقبولا في أضيق الحدود، بسبب ما يترتب عنه من تهديد لأهدافها الاقتصادية..وبأن القوة الأمريكية مهما بلغت من تفوق، فإنها ستبقى عاجزة عن حل مشكلات مثل الانتشار النووي..
-6-
ولا ريب أن الرؤية الاستشرافية في المجال الإستراتيجي تسمح بالفهم العميق للمتغيرات الدولية وتمكن من تحديد آثارها على التخطيط ورسم صورة المستقبل الكوني ..
وفي هذا الصدد، أوضح الباحث الأمريكي "جون أيكنزي" استاذ الجغرافية السياسية بجامعة "جورج تاون"، بأن الطموح الإمبراطوري الأمريكي كشف عن التوجهات السياسية الأمريكية في مجال العلاقات الدولية، بحيث نجد أنفسنا أمام انقلاب حقيقي أقدمت عليه الإمبراطورية بحكم قوتها العسكرية الفائقة وتقدمها التكنولوجي وإمكانياتها الاقتصادية الجبارة.. وبالتالي فإن هذا الوضع يسمح لها أن تملي شروطها المجحفة والظالمة على بقية شعوب العالم.
وتهدف الإدارة الأمريكية من خلال الإستراتيجية العليا إلى إعادة صياغة النظام العالمي الراهن، باستخدام القوة المفرطة سواء في صورة ضربات استباقية وإجهاضية أو حتى وقائية بمفردها أو بالتحالف مع الدول التي تدور في فلكها..
ويؤكد على أن هذه الرؤية الأمريكية تجعل من الولايات المتحدة إمبراطورية جديدة تضع المعايير الدولية وتحدد ضروب التهديد وطرق استخدام القوة، بحيث تسقط سيادة الدول واستقلالها، إذا ما تحدت المعايير الأمريكية ورفضت الخضوع للإرادة الأمريكية، ونتيجة لسيطرة هذه القوة الأمريكية الأحادية، فقد انزلق النظام الدولي شيئا فشيئا إلى فوضى شاملة وحروب مدمرة وإرهاب أعمى تتسع دائرته لتعم جميع أرجاء العالم..
إن صقور المحافظين في الإدارة الأمريكية هم الذين وضعوا سيناريوهات النظام العالمي الجديد، ودعوا إلى إيديولوجية الأصولية الرأسمالية التي تؤمن بأن القوة والحرب هما الوسيلة الأفضل لمراكمة رأس المال، باعتباره الهدف الأول لأي نشاط اقتصادي أو سياسي..
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وكذلك زلزال الحادي عشر من سبتمبر 21، سوف تسيطر النزعة الإمبراطورية على السلوك السياسي للولايات المتحدة، ومن ثم تستخدم القوة الصلبة لتحقيق أهدافها السياسية ومصالحا الحيوية، دون أي اعتبار لقواعد القانون الدولي، الأمر الذي يحول الدولة إلى آلة حرب.. و لحقيقة أن استعمال القوة الخارجة على القانون يمهد للفوضى والتوحش.. كما أن غرور القوة ينتج عنه الإفراط في استعمال القوة ثم إلى تآكل القوة واستنزافها وتقهقرها.. ولابد من تحقيق توازن القوى لتحقيق توازن المصالح..
-7-
في غياب التوازن الإستراتيجي الدولي، فإن هناك توجها إستراتيجيا صينيا يسعى إلى صياغة عالم متعدد الأقطاب في مواجهة القطب الأحادي الأمريكي.. ومن هذا المنظور، فإن الهدف الإستراتيجي للقوى المتصارعة على المسرح الدولي في العقود القادمة هو إعادة صياغة الخريطة السياسة العالمية وفقا للمتغيرات الإستراتيجية الجديدة.. ذلك أن الإستراتيجية، كما يراها الجنرال "أندري بوفر" صاحب كتاب (مدخل إلى الإستراتيجية)، بأنها نمط من التفكير يجب، رغم تعقيده، أن يكون المرشد العملي لتحقيق غايات سياسية على خير وجه.. باعتبارها فن استخدام المعارك ووضع الخطط العامة للحرب من أجل تحقيق أهداف سياسية.. في إطار حوار القوى والإيرادات التي تستخدم القوة لحل خلافاتها..
ويميز العسكريون في هذا الإطار بين التكتيك واللوجوستيك: التكتيك هو فن استخدام الأسلحة في المعركة للحصول على أكبر قدر من الفعالية .. أما اللوجيستيك فهو فن التحركات ونقل المعدات والأسلحة إلى ميدان المعركة، ومن ثم تكون الإستراتيجية هي علم التنسيق بين هذين النوعين لتحقيق أهداف الدولة. ويستخدم التعبير أيضا للدلالة عن كيفية إدارة الصراع واستغلال كل طرف لعناصر قوته ولعناصر ضعف خصمه لتحقيق النصر..
ويعرف علماء الاجتماع الإستراتيجية، بأنها النشاط المرتبط بتحقيق أهداف وغايات مرسومة، أي أنه قد تحددت بوضوح..ويتحدث الخبراء في هذا المجال عن عدة مستويات في التخطيط الإستراتيجي، لعل أهمها عند الباحثين في الدراسات الإستراتيجية:
- الإستراتيجية القومية
- الإستراتيجية الشاملة
- الإستراتيجية العامة
- الإستراتيجية الكبرى
-8-
إن الخلاصة التي يخرج بها كل دارس وباحث للصراع المحتدم والملتهب في الشرق الأوسط، أن هناك مخططا إستراتيجيا متكاملا يرمي إلى صنع منطقة شرق أوسطية جديدة، تقوم على أنقاض النظام العربي، بما ينزع عنها طابعها العربي الإسلامي التاريخي، ويحولها إلى منطقة متعددة الكيانات والعرقيات، متعارضة التوجهات هشة، تابعة سياسيا وإستراتيجيا للولايات المتحدة..
والذي يهم أمريكا من وراء هذا كله هو فرض السيطرة والهيمنة على العالم، ولو تطلب ذلك خوض حرب دائمة وشاملة بما يضمن تامين مصالحها وإملاء إرادتها..
ويشكل النفط وإسرائيل، الأولوية في الإستراتيجية الأمريكية، باعتبارهما عنصران من عناصر الأمن القومي الأمريكي، ومن هنا يتضح الإصرار على جعل الدولة العبرية أكبر قوة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط كله، باعتبار أن الذي يتحكم في التفوق العسكري يتحكم في الحرب وبتوقيتها ونتيجتها.. وبما قد يترتب عنها من أهداف سياسية .. هذا هو التصور الأمريكي في استخدام القوة و شن الحروب..
وبناء على ذلك، فإن إسرائيل بالإضافة لتفوقها العسكري، لديها ترسانة نووية تفوق 25 رأسا نوويا في مفاعل ديمونا.
أما بخصوص الدعم المطلق للولايات المتحدة لإسرائيل، فقد كشفت عنه دراسة حديثة تم نشرها عبر جامعة هارفرد الأمريكية في منتصف مارس 26... وقد تحدث الباحثان في هذه الدراسة عن أن إسرائيل أصبحت تشكل عبئا إستراتيجيا على الولايات المتحدة الأمريكية، وتحدثا عن تأثير اللوبي الإسرائيلي ومناصريه داخل الولايات المتحدة الأمريكية على مراكز صنع القرار وعلى سياسية أمريكا الخارجية، وكذلك دوره في الحرب على العراق والضغوط الأمريكية على سوريا وإيران.
وفي نفس السياق، لا بد أن نذكر أن مؤسسة "راند" الشهيرة، وهي من أهم مراكز الدراسات في الولايات المتحدة، أشرفت على دراسة أعدها الباحث "لورانت موراويك" قدمها إلى المجلس الاستشاري للسياسات الدفاعية، يوصي فيها بتفتيت وحدة دول المنطقة..
هذا الفكر السياسي الأصولي هو الذي يتبنى النظرية الاستئصالية، وينادي بالتفوق العسكري وبالضربة الوقائية لتدمير الخصم في مكان وجوده ويدافع عن قيم اللبرالية الأمريكية، كما أن هذا الفكر يدعو إلى تغيير النظم السائدة في المنطقة وإعادة صوغ الدول لتكون مؤهلة لخدمة المصالح الأمريكية ..
هذه خلاصة موجزة لبعض أطروحات المحافظين الجدد الذين يعتبرون الأكثر تأثيرا في صناعة القرار الأمريكي..
وقد انتقد "فرانسيس فوكاياما" فكرهم المبني على التحريض على الحرب و الهيمنة على العالم في مقال له نشرته جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 27 فبراير 26 بعنوان (وهمان أمريكيان صياغة العالم بالقوة والانفراد بقيادته)، فقال بأن المحافظين الجدد جعلوا من السلطة "شيئا صنميا"، فأخفقوا في إدراك كيف أنه في فترة بين نهاية الحرب الباردة حتى بداية الحرب على العراق، خلق عدم التوازن في توزيع القوة في مختلف أنحاء العالم، استياء هائلا وأساسا هشا لنزعة معاداة أمريكا، فيما أخفق الداعمون المحافظون الجدد لحرب العراق ببساطة في توقع إلى أي حد سلبي سيكون رد فعل بقية العالم على استخدام القوة الأمريكية في حرب وقائية مثل هذه.
وقال أيضا بأنه بعد الحادي عشر من سبتمبر، حين طلب منه المساهمة في دراسة رعتها وزارة الدفاع الأمريكي حول إستراتيجية بعيدة المدى في "الحرب" على الإرهاب، فكر في التهديد الأساسي ونمط الإستراتجيات الضرورية لمعالجة ذلك، قرر أن تحدي الإرهاب في نهاية المطاف هو صراع سياسي لا يمكن حله بالوسائل العسكرية.. وأن هذا الصراع سيستمر بمستوى بطيء نسبيا من النشاط مع حالات تصاعد في الحدة ولكن لن تكون له نهاية واضحة.
ثم يختم مقاله بهذا الحكم القاطع: إن فكرة أن أمريكا يمكن أن تستخدم وببساطة قوتها المهيمنة لصياغة العالم بصورة كاملة هي وهم.
هذه شهادة أحد أقطاب ورموز المؤسسة الفكرية الأمريكية، وقد لا تحتاج إلى تعليق، إلا أنه من الضروري أن نربط النتيجة بأسبابها، ومن ثم جاز لنا أن نقول بأن المبالغة في الاعتقاد بأن الولايات المتحدة يمكن أن تفرض على العالم ما تريد، هو الذي أبان عن تناقض القوة الأمريكية وكشف عن سلوكها الانفرادي والعدواني الذي أصبح يهدد مستقبل النظام العالمي..وهذا بالتأكيد ما جعل الباحث الفرنسي" إمانويل تود" صاحب كتاب ما بعد الإمبراطورية، يصف الإستراتيجية الأمريكية بأنها انتحارية!
2006-8-7 | -1-
إن الصراع العربي الإسرائيلي المتأجج في منطقة الشرق الأوسط يندرج بجميع أبعاده ضمن صراع تاريخي وحضاري كبير، تشهده المنطقة باعتبارها من أهم المراكز الإستراتيجية والاقتصادية في العالم، بحيث تعد منذ النصف الأول من القرن العشرين أكبر مصدر ومستودع للطاقة البترولية التي تعتمدها الدول المصنعة.
لقد تعددت بؤر الصراع ودوائره خلال القرن الفارط، بهدف تكسير العوائق التي تكبل إرادة الشعوب، وتحاصر تطلعاتها، من أجل الخروج من التخلف، وذلك بالسيطرة الكاملة على مواردها وإمكانياتها الحضارية، ولن يتأتى لها ذلك إلا إذا كان قرار صنع المستقبل بيدها، تساهم بكل ما لديها من جهد وقوة في ساحات الصراع المتعددة والمفتوحة على كل الآفاق، لتؤمن لها دورا فاعلا في هذا العالم الجبار الذي لا مكان فيه للضعفاء.
إن الصراع في منطقة الشرق الأوسط، هو صراع متعدد الوجوه والفصول، وهو صراع مرتبط بصورة وثيقة بالصراع الأوسع في العالم، ويخطئ من يعتقد أن لهيبه سينطفئ، حتى وإن تغير المتصارعون "دولا وعقائد ومذاهب وقادة".
إن كل ما تقوم به الدولة العبرية من طغيان وجبروت، إنما يمثل وجها أو فصلا من هذا الصراع المرير، الذي لن يهدأ بركانه، إلا إذا توصلت القوى المتشابكة إلى ميزان قوى يضع في اعتباره ضرورات التاريخ و الجغرافيا.
-2-
إن وجود فلسطين في قلب خريطة الصراع الجاري في منطقة الشرق الأوسط، ووجود إسرائيل كأحد العناصر الأساسية في هذه المواجهة المتعددة الوجوه والأبعاد، جعلت طبيعة الصراع يتحول من الإطار السياسي المحدد المعالم، إلى إطار حضاري شامل، وذلك على المدى المتوسط والبعيد: وهذه مسألة دقيقة، ولم تعد سرا من الأسرار، فقد كشفت عنها مراكز البحث و التخطيط "الإستراتيجية" الأمريكية، في مجال التنبؤ بالصراعات المستقبلية.
وتحدد الرؤية الإستراتيجية للحالة الراهنة في الشرق الأوسط، في أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى إعادة تشكيل الوضع الإقليمي، ورسم خريطة سياسية جديدة لنظام إقليمي شرق أوسطي، يخدم المصالح الحيوية الأمريكية، ويدعم مركزها كقوة عظمى وحيدة في العالم.
من هذا المنطلق شنت الحرب على أفغانستان والعراق ولبنان.. ويتم الإعداد لضرب دول أخرى في المنطقة وفق مخطط أمريكي معد من طرف الدوائر الإستراتيجية الأمريكية.
إن الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني وعلى لبنان تعتبر إحدى حلقات هذا المخطط الرامي إلى إعادة ترتيب وهيكلة البيت الشرق أوسطي، وإذا كان الهدف من استعمال الحرب طبقا لآراء أكبر فلاسفة الحرب "فون كلاوزفتز"، هو تحطيم قدرات وقوة الخصم وكسر شوكته وإرادته، وبالتالي إجباره على القبول بالشروط التي تفرض عليه صاغرا، فإن الحرب ليست سوى وسيلة لتحقيق أهداف سياسة محددة.
إن ما ترمي إليه الحرب الإسرائيلية هو تكريس السيطرة الإسرائيلية العسكرية والسياسية المطلقة على المنطقة العربية، وهناك تطابق كامل في هذا الصدد مع المخططات الأمريكية، ولعل التحالف الإستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، خير دليل على أن إسرائيل تمثل "العمق الغربي الأمريكي" في المنطقة، وعلى هذا الأساس يتم ضمان تفوقها العسكري والتكنولوجي، وكذلك تفوقها في المجال النووي، وتخصيصها بالرعاية الاقتصادية المتميزة... ومن نتائج هذا الوضع، بروز إسرائيل كقوة إقليمية بسبب تفوقها النوعي.
لم تكن إسرائيل رغم صغر عدد سكانها وحجم مساحتها لتصبح قوة مهيمنة متغطرسة، تهدد جيرانها باستعمال سلاحها النووي في حالة اختلال ميزان القوة القائم الذي يضمن لها التفوق المطلق على جميع جيرانها، لولا مساعدات الولايات المتحدة الاقتصادية والعسكرية لها.
وإذا كان النظام الدولي يشهد تغييرات متسارعة، تتطلب تغييرا في النظم الإقليمية القائمة في مناطق العالم المختلفة، وخاصة في المواقع الإستراتيجية، فإن إسرائيل تسعى إلى توظيف المتغيرات على الساحة الدولية لتثبيت رؤيتها الإستراتيجية وأهدافها السياسية.
وتتلخص المرتكزات الرئيسية الإستراتيجية والأمنية الإسرائيلية كالتالي:
1 -القدرة على الردع، وتوجيه الضربة الوقائية المسبقة، وأداة الردع الرئيسية هي القوة الجوية.
2-الحدود الآمنة عن طريق التوسع وضم الأراضي والمياه.
3-الأسلحة النووية، وكذلك الصواريخ البعيدة المدى التي يمكن التلويح بها لضرب العواصم العربية أو الإسلامية.
4- ضمان مؤازرة قوة عظمى يمكنها أن تسارع إلى نجدة إسرائيل.
لقد ترتب عن هذه الإستراتيجية عسكرة المجتمع الإسرائيلي وجعله يخضع للمؤسسة العسكرية، بصورة كلية، ذلك أن الجيش إلى جانب دوره في إقامة الدولة وفي تحقيق حلمها، أصبح مسئولا عن بقائها وعن أمنها باعتبارها "دولة" حدود مشتعلة في الاتجاهات الأربعة، على حد تعبير الجنرال "موشي ديان". وقد أدى هذا الوضع أيضا إلى الزج بالجيش في صميم العمل السياسي، وفرض هيمنة قادته على الحياة السياسية الإسرائيلية منذ قيام الدولة.
كما أن الارتباط العضوي بين إسرائيل والولايات المتحدة، ساهم في تعزيز وتوسيع دائرة نفوذ المؤسسة العسكرية التي يعود لها أمر التقرير في كل ما يتعلق بالسياسة العامة للدولة، وأيضا التمكين للمخططات الإستراتيجية التي من ضمن أولوياتها، جعل إسرائيل قوة إقليمية رئيسية في المنطقة.
للوصول إلى هذه الغاية، نشأ الطابع المميز للعلاقة الأمريكية الإسرائيلية التي تقوم على أساس المصالح والقيم المشتركة، وكذلك على الترابط والتطابق حول المبادئ الإستراتيجية.
لقد أدى سقوط النظام الدولي الثنائي إلى انهيار العديد من التوازنات والخيارات السياسية والاقتصادية والأمنية التي سادت لعقود من الزمن، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تتصرف وفق استراتيجيه محكمة ترمي إلى إعادة ترتيب الأوضاع العالمية، وخلق توازنات جديدة تحدد مستقبل العالم في العقود القادمة، بحيث يتم الإقرار بزعامتها كقوة عظمى تبسط سيطرتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية على العالم.
-3-
وطبقا لهذا المنظور، يتم تحديد الخيارات الإستراتيجية الأمريكية للقرن الجديد:
إن منطقة الشرق الأوسط ومنطقة المحيط الهادي تمثل بؤرة الاهتمامات في السياسة الأمريكية لاعتبارات جغرافية سياسية وإستراتيجية، فالشريط الممتد من الصين واليابان مرورا بالهند وباكستان إلى مخازن النفط العالمي في الخليج وبحر قزوين، يشكل الخط الساخن الذي يتحكم في مستقبل الحرب والسلام والاقتصاد في العالم، الأمر الذي استوجب إعطاء الأولوية للتحكم في المواقع الحساسة الرئيسية والسيطرة على النفط من طرف القطب الأمريكي المهيمن، ورغم ذلك فإن عددا من الدول الإقليمية القوية في آسيا، ستكون قادرة على تحدي القوة الأمريكية ومنافستها خلال العقود القادمة.
إن التوجس من تصاعد القوى المناهضة للولايات المتحدة، دفع بالإدارة الأمريكية إلى الشروع في تطبيق مخططها الجغرافية الإستراتيجية، وبحكم وجود مصالح اقتصادية وإستراتيجية بالغة الأهمية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، فقد تم وضعها على رأس الخيارات الإستراتيجية التي ستحدد مستقبل العالم في القرن الحادي والعشرين.
وأهم هذه الخيارات، قيام نظام شرق أوسطي لأن التحولات الجارية في العالم، أدت إلى تغيير طبيعة المصالح الحيوية وأولويتها.
وكما أن الدور الأمريكي يتغير وفقا للمتغيرات على الساحة الدولية، فالنظام الشرق أوسطي الذي يتم الإعداد له يندرج ضمن إعادة ترتيب الأوضاع على الصعيد العالمي.
إن الولايات المتحدة تريد السيطرة على العالم كله، و بالتالي فهي توسع دائرة سيطرتها المباشرة وغير المباشرة، ولا يحق لأحد أن يتصرف بغير إذنها، لأنه لا يستطيع مواجهة العواقب بغير حمايتها!
إن المؤشرات التي تبلورت حول النظام الإقليمي الشرق أوسطي، تشير إلى أن الاتجاه حسم لصالح تثبيت نظام أمني وسياسي واقتصادي جديد في الشرق الأوسط يعزز السيطرة الأمريكية، ويضفي على إسرائيل دورا خاصا، في صياغة مشروع متكامل متعدد الجوانب: اقتصادية وتجارية ومالية وبيئية كما يشمل التربية والتعليم والأمن العسكري والسكان.
إن المحاولة الرامية إلى إضفاء هوية منفعية بين الأطراف الداخلية عن طريق إنشاء شبكة من المصالح المتبادلة، يتمخض عنها بالضرورة إيجاد نخب مصلحتها مرتبطة بالحفاظ على هذا النظام، والغرض من ذلك هو تحويل الوحدات المكونة للنظام أو المشاركة فيه إلى مجرد أطراف تابعة لمركز إقليمي تقوده إسرائيل، مرتبط بالنظام الدولي الجديد الذي تم التخطيط له من طرف مراكز البحث الأمريكي.
تعتمد الإستراتيجية الأمريكية على قاعدة أساسية، وهي أن من يملك القوة العسكرية يمكنه وحده أن يتحكم في القرار الاقتصادي والسياسي العالمي. والمنطق الجغرافي الإستراتيجي الذي دفع بصانع القرار الأمريكي إلى الانكباب على إنشاء نظام إقليمي في منطقة الشرق الأوسط الممتدة من شبه الجزيرة الهندية حتى المغرب الأقصى، هو بالدرجة الأولى لاعتبارات اقتصادية، وتأسيسا على ذلك أصبح من المطلوب قيام نظام أمني واقتصادي يستجيب لمتطلبات الإستراتيجية الأمريكية، ونظرا لكون التوازنات الإقليمية لا تميل لصالح إسرائيل فإن الولايات المتحدة تتدخل بكامل ثقلها لتغيير الخريطة الإقليمية و الجو سياسية في المنطقة لتمكين إسرائيل من أن تصبح القوة الرئيسية اقتصاديا و تجاريا و عسكريا.
-4-
إن إستراتيجية الهيمنة هذه، تعمل على قلب كل موازين القوى والتحالفات القائمة، ومن ثمة إعادة تشكيل المشهد الجغرافي السياسي لضمان تفوق إسرائيل الإقليمي لكي تقوم بدورها الوظيفي كما رسمته أجهزة التخطيط الإستراتيجي، باعتبارها تمثل عنصرا مركزيا في إستراتيجية الهيمنة الحضارية الغربية.
ومن وجهة نظر جغرافية إستراتيجية، فإن مشروع النظام الشرق أوسطي ما هو إلا شكل جديد من أشكال السيطرة السياسية والاقتصادية، تعكس طبيعة وتوجهات النظام العالمي الجديد، ومن الوهم الاعتقاد بأن مشروع السوق الشرق أوسطية الذي يروج له في هذا السياق، سيحقق ازدهارا ونموا اقتصاديا يعم دول المنطقة، لأن الحسابات الإستراتيجية لهذا المشروع تهدف بالأساس إلى تحقيق المصالح الأمريكية والإسرائيلية على حساب شعوب المنطقة.
كما أن ذريعة التسوية والسلام، إنما تصب في نفس الاتجاه الذي يسعى وبشكل محموم لوضع مجموعة من الترتيبات السياسية والاقتصادية التي تشكل اللبنات الأساسية لقيام نظام شرق أوسطي، يجعل من الكيان الصهيوني عضوا طبيعيا مكلف بتأمين المصالح الأمريكية والغربية بشكل عام.
ولا شك بأن غياب أي سياسة حقيقية إقليمية وافتقار النظم السائدة للرؤية الإستراتيجية الشاملة في جانبها الاقتصادي والأمني، هو الذي مهد الطريق أمام الولايات المتحدة لتتصرف وفق هذه المسلمات، لتحويل المنطقة إلى مشروع سوق ومنطقة نفوذ تابعة لها.
وإذا سلمنا بأن من أهم العوامل المؤثرة في أي عصر، والتي تسهم في تشكيل ملامحه وتحديد توجهاته:
- القوى النافذة فيه
- بؤر التوتر والصراعات، والتنافس الشامل الذي يهز أركانه.
أدركنا خطأ إستراتيجية السيطرة الأمريكية على العالم.
لقد عرف علم الإستراتيجية في العقود الأخيرة، وبمواكبة عملية الاندماج العالمي والتداخل بين المصالح والاعتماد المتبادل، والتوظيف الإعلامي والسياسي، طفرة خطيرة غيرت مفاهيم الحرب والهزائم والانتصار.
ومن نتائج هذه الطفرة الإستراتيجية الجديدة، أن الحرب لم تعد تحصل بين جيشين ولكن بين حضارتين وثقافتين، وأن ميدان المعركة لا يقتصر على ساحة المعركة العسكرية، ولكنه يتسع ليشمل الساحة السياسية والاقتصادية والإعلامية والعقائدية الشاملة.
ونتيجة لهذه العوامل المتحكمة في الصراعات الدولية، لم يعد ميزان القوى العسكري قادرا وحده على حسم الصراع..
فلا بد لأي إستراتيجية فعالة من أن تضع في اعتبارها التناقضات الكبرى التي تحرك الأطراف المختلفة، وتعبر عن مصالحهم المتباينة والعوامل التي يستند إليها كل طرف في تكوين الرهانات التكتيكية التي تقوم عليها حساباته، ومن دون إدراك ذلك، فإن الصراع سوف يتحول إلى دائرة الصدام العسكري المسدود الأفق.
وهناك خطأ جسيم يقع فيه خبراء التخطيط الإستراتيجي ومهندسو النظام العالمي الجديد، لابد من الإشارة إليه لارتباطه بالسياق الذي نتناوله، وهو أننا ندخل عصرا جديدا، منطق الأشياء فيه يستند إلى قوة التكنولوجيا المتطورة التي تسقط من حساباتها ضرورات الجغرافية وحقائق التاريخ، في حين أن ضرورات المجال باقية رغم اختزال المسافات وإلغاء الحدود، كما أن الحقائق متصلة لأنها تعبير إنساني عن أحوال الأمم والمجتمعات وثقافاتها وقدراتها..
ولعل مكمن الخطأ في هذا التصور، راجع إلى الاجتهادات التي ترى أن عالمية الوسائل التكنولوجية المتطورة حولت العالم إلى قرية كونية واحدة، تلاشت فيها المسافات واختفت الحقائق و الخصوصيات...
ولو تحقق ذلك فعلا، لأصبحنا عالما من "الربوات" هو أقرب إلى خصائص البرمجة الآلية من عالم الإنسان، الذي يفقد معناه إذا خرج عن دائرة صناعة الجغرافيا والتاريخ. وبالتالي فإن جوهر التطور يكمن في تلك العلاقة الحية والجدلية التي يجب أن تكون بين الثابت والمتغير.
ومن الوهم اختزالها في الوسائل المادية مهما بلغت من ذكاء وإتقان، ومع ذلك لابد من الإقرار أننا في عصر بالغ الخطورة يشهد متغيرات هائلة وأحداث متسارعة على الصعيد الدولي.
الأمر الذي يتطلب قيام نظم إقليمية في المواقع الإستراتيجية، للتمهيد لقيام نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، إلا أنه لابد من التأكيد بأن النظام الإقليمي إنما هو واقع تحدده التوازنات والحاجات الموضوعية وتفرضه الوقائع التاريخية والاجتماعية، وليس مجرد حلف أو سوق ترتبط فيه النخبة الحاكمة بقوى الهيمنة العالمية ومؤسساتها المالية والسياسية والعسكرية.
إن المفهوم الإقليمي في العلاقات الدولية يقوم على أساس التعاون والتكامل، والتفاعل الحضاري، والبحث عن الحلول للمشاكل المشتركة، ويجب أن تكون الأطراف الأساسية في النظام الإقليمي فاعلة في رسم مستقبل المنطقة، كما يجب أن ينفتح على جميع الثقافات والحضارات والأسواق وأن يتبادل المصالح والمنافع معها.
إن النظام الإقليمي في الشرق الأوسط يجب أن يقوم على هذه الأسس، كما يجب أن يتبنى إستراتيجية الدوائر المتعددة والمتقاطعة، بحيث يتسع إطاره ليضم المجموعة الأسيوية والإفريقية والأوروبية، وهذا وحده هو الذي سيمكنه من أن يكون له دور فاعل في بلورة أسس وآليات نظام الدولي الجديد.
-5-
إلا أن الولايات المتحدة تريد من خلال سيطرتها على مصادر البترول في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى أن تضع صرح نظام بترولي جديد، يمكنها من التحكم في الإنتاج والأسواق والأسعار... الأمر الذي يكشف عن أبعاد المخطط الأمريكي لإعادة توزيع القوة في القرن الحادي والعشرين طبقا للرؤية الإمبريالية الجديدة للسيطرة على العالم.. وهذا هو الذي يفسر التوجه أو النزعة الإمبراطورية للولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة على الساحة الدولية تمسك بالأوراق المهمة والمؤثرة في السياسة العالمية .. ومن هذا المنطلق انشغل العديد من الاستراتجيين والمفكرين بالنزعة الإمبراطورية للولايات المتحدة، وخلص "جورج قورم" في دراسته حول (عالم القطب الأوحد واتجاهاته) بأن الولايات المتحدة ليست القطب الأوحد في النظام الدولي إلا من الناحية العسكرية، وانتهى إلى أن الهيمنة العسكرية والسياسية ستعيق معدلات النمو الاقتصادي في العالم ..
ويرى الأستاذ "جوزيف ناي" (joseph naye) صاحب كتاب تناقض القوة الأمريكية، بأن توزيع القوة في العالم هو توزيع ثلاثي الأبعاد:
- عالم أحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة على أساس القوة العسكرية.
- عالم متعدد الأقطاب على أساس القوة الاقتصادية، إذ تمثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان ثلثي الإنتاج العالمي، وأصبحت الصين بفضل نموها المتسارع أحد أركانها الأساسية.
- ثم هناك لاعبون غير حكوميين، مثل مدراء البنوك والشركات العملاقة التي تملك من الأموال ما يفوق ميزانيات العديد من الدول..
الخلاصة التي ينتهي إليها الأستاذ "جوزيف ناي" أن استخدام القوة بالنسبة للدول الصناعية أصبح مقبولا في أضيق الحدود، بسبب ما يترتب عنه من تهديد لأهدافها الاقتصادية..وبأن القوة الأمريكية مهما بلغت من تفوق، فإنها ستبقى عاجزة عن حل مشكلات مثل الانتشار النووي..
-6-
ولا ريب أن الرؤية الاستشرافية في المجال الإستراتيجي تسمح بالفهم العميق للمتغيرات الدولية وتمكن من تحديد آثارها على التخطيط ورسم صورة المستقبل الكوني ..
وفي هذا الصدد، أوضح الباحث الأمريكي "جون أيكنزي" استاذ الجغرافية السياسية بجامعة "جورج تاون"، بأن الطموح الإمبراطوري الأمريكي كشف عن التوجهات السياسية الأمريكية في مجال العلاقات الدولية، بحيث نجد أنفسنا أمام انقلاب حقيقي أقدمت عليه الإمبراطورية بحكم قوتها العسكرية الفائقة وتقدمها التكنولوجي وإمكانياتها الاقتصادية الجبارة.. وبالتالي فإن هذا الوضع يسمح لها أن تملي شروطها المجحفة والظالمة على بقية شعوب العالم.
وتهدف الإدارة الأمريكية من خلال الإستراتيجية العليا إلى إعادة صياغة النظام العالمي الراهن، باستخدام القوة المفرطة سواء في صورة ضربات استباقية وإجهاضية أو حتى وقائية بمفردها أو بالتحالف مع الدول التي تدور في فلكها..
ويؤكد على أن هذه الرؤية الأمريكية تجعل من الولايات المتحدة إمبراطورية جديدة تضع المعايير الدولية وتحدد ضروب التهديد وطرق استخدام القوة، بحيث تسقط سيادة الدول واستقلالها، إذا ما تحدت المعايير الأمريكية ورفضت الخضوع للإرادة الأمريكية، ونتيجة لسيطرة هذه القوة الأمريكية الأحادية، فقد انزلق النظام الدولي شيئا فشيئا إلى فوضى شاملة وحروب مدمرة وإرهاب أعمى تتسع دائرته لتعم جميع أرجاء العالم..
إن صقور المحافظين في الإدارة الأمريكية هم الذين وضعوا سيناريوهات النظام العالمي الجديد، ودعوا إلى إيديولوجية الأصولية الرأسمالية التي تؤمن بأن القوة والحرب هما الوسيلة الأفضل لمراكمة رأس المال، باعتباره الهدف الأول لأي نشاط اقتصادي أو سياسي..
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وكذلك زلزال الحادي عشر من سبتمبر 21، سوف تسيطر النزعة الإمبراطورية على السلوك السياسي للولايات المتحدة، ومن ثم تستخدم القوة الصلبة لتحقيق أهدافها السياسية ومصالحا الحيوية، دون أي اعتبار لقواعد القانون الدولي، الأمر الذي يحول الدولة إلى آلة حرب.. و لحقيقة أن استعمال القوة الخارجة على القانون يمهد للفوضى والتوحش.. كما أن غرور القوة ينتج عنه الإفراط في استعمال القوة ثم إلى تآكل القوة واستنزافها وتقهقرها.. ولابد من تحقيق توازن القوى لتحقيق توازن المصالح..
-7-
في غياب التوازن الإستراتيجي الدولي، فإن هناك توجها إستراتيجيا صينيا يسعى إلى صياغة عالم متعدد الأقطاب في مواجهة القطب الأحادي الأمريكي.. ومن هذا المنظور، فإن الهدف الإستراتيجي للقوى المتصارعة على المسرح الدولي في العقود القادمة هو إعادة صياغة الخريطة السياسة العالمية وفقا للمتغيرات الإستراتيجية الجديدة.. ذلك أن الإستراتيجية، كما يراها الجنرال "أندري بوفر" صاحب كتاب (مدخل إلى الإستراتيجية)، بأنها نمط من التفكير يجب، رغم تعقيده، أن يكون المرشد العملي لتحقيق غايات سياسية على خير وجه.. باعتبارها فن استخدام المعارك ووضع الخطط العامة للحرب من أجل تحقيق أهداف سياسية.. في إطار حوار القوى والإيرادات التي تستخدم القوة لحل خلافاتها..
ويميز العسكريون في هذا الإطار بين التكتيك واللوجوستيك: التكتيك هو فن استخدام الأسلحة في المعركة للحصول على أكبر قدر من الفعالية .. أما اللوجيستيك فهو فن التحركات ونقل المعدات والأسلحة إلى ميدان المعركة، ومن ثم تكون الإستراتيجية هي علم التنسيق بين هذين النوعين لتحقيق أهداف الدولة. ويستخدم التعبير أيضا للدلالة عن كيفية إدارة الصراع واستغلال كل طرف لعناصر قوته ولعناصر ضعف خصمه لتحقيق النصر..
ويعرف علماء الاجتماع الإستراتيجية، بأنها النشاط المرتبط بتحقيق أهداف وغايات مرسومة، أي أنه قد تحددت بوضوح..ويتحدث الخبراء في هذا المجال عن عدة مستويات في التخطيط الإستراتيجي، لعل أهمها عند الباحثين في الدراسات الإستراتيجية:
- الإستراتيجية القومية
- الإستراتيجية الشاملة
- الإستراتيجية العامة
- الإستراتيجية الكبرى
-8-
إن الخلاصة التي يخرج بها كل دارس وباحث للصراع المحتدم والملتهب في الشرق الأوسط، أن هناك مخططا إستراتيجيا متكاملا يرمي إلى صنع منطقة شرق أوسطية جديدة، تقوم على أنقاض النظام العربي، بما ينزع عنها طابعها العربي الإسلامي التاريخي، ويحولها إلى منطقة متعددة الكيانات والعرقيات، متعارضة التوجهات هشة، تابعة سياسيا وإستراتيجيا للولايات المتحدة..
والذي يهم أمريكا من وراء هذا كله هو فرض السيطرة والهيمنة على العالم، ولو تطلب ذلك خوض حرب دائمة وشاملة بما يضمن تامين مصالحها وإملاء إرادتها..
ويشكل النفط وإسرائيل، الأولوية في الإستراتيجية الأمريكية، باعتبارهما عنصران من عناصر الأمن القومي الأمريكي، ومن هنا يتضح الإصرار على جعل الدولة العبرية أكبر قوة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط كله، باعتبار أن الذي يتحكم في التفوق العسكري يتحكم في الحرب وبتوقيتها ونتيجتها.. وبما قد يترتب عنها من أهداف سياسية .. هذا هو التصور الأمريكي في استخدام القوة و شن الحروب..
وبناء على ذلك، فإن إسرائيل بالإضافة لتفوقها العسكري، لديها ترسانة نووية تفوق 25 رأسا نوويا في مفاعل ديمونا.
أما بخصوص الدعم المطلق للولايات المتحدة لإسرائيل، فقد كشفت عنه دراسة حديثة تم نشرها عبر جامعة هارفرد الأمريكية في منتصف مارس 26... وقد تحدث الباحثان في هذه الدراسة عن أن إسرائيل أصبحت تشكل عبئا إستراتيجيا على الولايات المتحدة الأمريكية، وتحدثا عن تأثير اللوبي الإسرائيلي ومناصريه داخل الولايات المتحدة الأمريكية على مراكز صنع القرار وعلى سياسية أمريكا الخارجية، وكذلك دوره في الحرب على العراق والضغوط الأمريكية على سوريا وإيران.
وفي نفس السياق، لا بد أن نذكر أن مؤسسة "راند" الشهيرة، وهي من أهم مراكز الدراسات في الولايات المتحدة، أشرفت على دراسة أعدها الباحث "لورانت موراويك" قدمها إلى المجلس الاستشاري للسياسات الدفاعية، يوصي فيها بتفتيت وحدة دول المنطقة..
هذا الفكر السياسي الأصولي هو الذي يتبنى النظرية الاستئصالية، وينادي بالتفوق العسكري وبالضربة الوقائية لتدمير الخصم في مكان وجوده ويدافع عن قيم اللبرالية الأمريكية، كما أن هذا الفكر يدعو إلى تغيير النظم السائدة في المنطقة وإعادة صوغ الدول لتكون مؤهلة لخدمة المصالح الأمريكية ..
هذه خلاصة موجزة لبعض أطروحات المحافظين الجدد الذين يعتبرون الأكثر تأثيرا في صناعة القرار الأمريكي..
وقد انتقد "فرانسيس فوكاياما" فكرهم المبني على التحريض على الحرب و الهيمنة على العالم في مقال له نشرته جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 27 فبراير 26 بعنوان (وهمان أمريكيان صياغة العالم بالقوة والانفراد بقيادته)، فقال بأن المحافظين الجدد جعلوا من السلطة "شيئا صنميا"، فأخفقوا في إدراك كيف أنه في فترة بين نهاية الحرب الباردة حتى بداية الحرب على العراق، خلق عدم التوازن في توزيع القوة في مختلف أنحاء العالم، استياء هائلا وأساسا هشا لنزعة معاداة أمريكا، فيما أخفق الداعمون المحافظون الجدد لحرب العراق ببساطة في توقع إلى أي حد سلبي سيكون رد فعل بقية العالم على استخدام القوة الأمريكية في حرب وقائية مثل هذه.
وقال أيضا بأنه بعد الحادي عشر من سبتمبر، حين طلب منه المساهمة في دراسة رعتها وزارة الدفاع الأمريكي حول إستراتيجية بعيدة المدى في "الحرب" على الإرهاب، فكر في التهديد الأساسي ونمط الإستراتجيات الضرورية لمعالجة ذلك، قرر أن تحدي الإرهاب في نهاية المطاف هو صراع سياسي لا يمكن حله بالوسائل العسكرية.. وأن هذا الصراع سيستمر بمستوى بطيء نسبيا من النشاط مع حالات تصاعد في الحدة ولكن لن تكون له نهاية واضحة.
ثم يختم مقاله بهذا الحكم القاطع: إن فكرة أن أمريكا يمكن أن تستخدم وببساطة قوتها المهيمنة لصياغة العالم بصورة كاملة هي وهم.
هذه شهادة أحد أقطاب ورموز المؤسسة الفكرية الأمريكية، وقد لا تحتاج إلى تعليق، إلا أنه من الضروري أن نربط النتيجة بأسبابها، ومن ثم جاز لنا أن نقول بأن المبالغة في الاعتقاد بأن الولايات المتحدة يمكن أن تفرض على العالم ما تريد، هو الذي أبان عن تناقض القوة الأمريكية وكشف عن سلوكها الانفرادي والعدواني الذي أصبح يهدد مستقبل النظام العالمي..وهذا بالتأكيد ما جعل الباحث الفرنسي" إمانويل تود" صاحب كتاب ما بعد الإمبراطورية، يصف الإستراتيجية الأمريكية بأنها انتحارية!