صفحة 1 من 1

إعدام اتفاقية جنيف الثالثة!

مرسل: السبت إبريل 13, 2013 8:29 pm
بواسطة محمد التويجري1
محمود المبارك

انتهت قبل أيام حقبة الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي شغل الناس حياً وميتاً، وستنقضي حقب أخرى قبل أن يسدل الستار كلياً على شخصية الزعيم، الذي تأرجحت شهرته بين زعيم عربي ملهم... وخائن لأمته ووطنه.

فقد حظيت قضية محاكمة الرئيس العراقي السابق وإعدامه بكثير من الاهتمام من السياسيين والإعلاميين وعامة الناس على حد سواء. وواضح أن هذه القضية التي أثارت انتباه العالم أجمع دخلت التاريخ من كل أبوابه السياسية والقانونية والاجتماعية والدينية والإعلامية. ولعل خير شاهد على ذلك استمرار تصدّر أصداء إعدام الرئيس العراقي السابق نشرات الأخبار العربية والعالمية، على رغم مرور عشرة أيام على إعدامه. وعلى رغم كل ما كتب ونشر وقيل عن محاكمة وإعدام «الطاغية» الذي أصبح «شهيداً»، يبدو أن جانباً قانونياً دولياً صرفاً لم يحظ بالاهتمام ذاته، وهو ما يريد هذا المقال أن يشير إليه.

فمسألة قانونية اعتقال الرئيس العراقي السابق ومحاكمته من قوات الاحتلال الأميركي، كانت محل سؤال منذ أول لحظة دخلت فيها القوات الأميركية أرض العراق. فإصرار إدارة بوش على اعتقال رئيس شرعي لحكومة شرعية يعد خرقاً قانونياً دولياً، وصفحة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة القانوني الدولي. فصدام حسين كان رئيساً شرعياً وإن لم يكن منتخباً - شأنه شأن بقية الحكام العرب - باعتراف دول العالم أجمع. والعاصمة العراقية كانت تغص بسفارات العالم قبيل الغزو الأميركي - البريطاني، كما أن أعلام العراق كانت ترفرف في عواصم العالم المختلفة وفوق أسطح المنظمات الدولية، وكفى بهذا شاهداً على إثبات الشرعية الدولية لها. والولايات المتحدة، التي فشلت في استصدار قرار من مجلس الأمن يجيز لها استخدام القوة العسكرية ضد العراق، لم تكن تملك الوسيلة القانونية الدولية للقبض على الرئيس المخلوع، وبالتالي فإن القبض عليه جاء مخالفاً للقوانين والأعراف الدولية، وكما هو معلوم فإن القاعدة القانونية تنص على أن «كل مابني على باطل فهو باطل»،

وإضافةً إلى ذلك، فإن الطريقة التي تمت بها عملية القبض على الرئيس السابق، جاءت مخالفةً لاتفاقية جنيف الثالثة 1949، التي أعلنت الولايات المتحدة على لسان وزير دفاعها السابق دونالد رامسفيلد عزمها على معاملة الرئيس المخلوع معاملة «أسير حرب» تماشياً معها.

فقد بدا بُعد الفهم الأميركي عن اتفاقية جنيف المذكورة والقانون الدولي عموماً، حين قامت وسائل الإعلام الأميركية بنشر صور الرئيس العراقي السابق في أسوأ وأذل حالاته في تلفزيوناتها العالمية، وهو أمر مخالف للمادة 14 من الاتفاقية المشار إليها آنفاً. وطبقاً لهذه المادة فإنه «يجب الحفاظ على سمعة وشرف جميع أسرى الحرب وفي كل الحالات أثناء اعتقالهم من القوات المحتلة». كما أن المادة 13 نصت على أن «يعامل جميع الأسرى وفي كل الأوقات معاملة إنسانية كريمة، وألا يتعرضوا إلى أية إهانة من القوات المحتلة، وأن أية إهانة جسدية أو نفسية في حقهم تعتبر خرقاً جاداً لهذه الاتفاقية». وغني عن القول أن ما قامت به القوات الأميركية من إهانة نفسية وجسدية للرئيس المخلوع، الذي بدت عليه من خلال نشر صوره بُعيد اعتقاله آثار كدمات وضربات على وجهه، يعد أمراً مخالفاً لنص وروح هذه الاتفاقية الدولية. ولكن السؤال الأهم عن المصير الذي آل إليه صدام حسين بعد أن حكمت محكمة عراقية بإدانته في جرائم الدجيل التي وقعت عام 1991، فما مدى مسؤولية الولايات المتحدة القانونية عن هذا الإجراء؟

الموقف الأميركي هو أن الرئيس السابق سُلّم رسمياً إلى الحكومة العراقية، بعد أن تسلمت الأخيرة السلطة من قوات الاحتلال الأميركية في العراق في شهر حزيران (يونيو) 2004، وبالتالي فإن الولايات المتحدة تزعم أنها غير مسؤولة عن هذا الحدث لا من قريب ولا من بعيد، لا بطريق مباشر ولا بطريق غير مباشر. ولكن هذا أمر يكذّبه الواقع العملي. فالقوات الأميركية - على رغم تسليمها السلطة العراقية المسؤولية السياسية بشكل رمزي - إلا أنها لا تزال هي التي تسيطر على الأوضاع في العراق بوجه عام وخاص. ومحاكمة الرئيس المخلوع تمت في المنطقة الخضراء التي تقع تحت سيطرة القوات الأميركية المحتلة مباشرةً، كما أن حرس صدام في سجنه كانوا جنوداً أميركيين، وكانوا يصحبونه إلى باب المحكمة لحضور جلسات محاكمته، ومن ثم يعيدونه إلى زنزانته. وبالتالي، فإن الزعم الأميركي القائل بأن مسؤولية الولايات المتحدة عن الرئيس العراقي السابق انتهت بتسليمه رسمياً للحكومة العراقية هو محض افتراء.

فالعراق لا يزال يقبع تحت الاحتلال الأميركي - البريطاني بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1483(2003)، الذي نص على أن تتحمل القوات الأميركية والبريطانية مسؤوليتها القانونية كقوات احتلال للعراق.

وتأكيداً لهذه المسؤولية القانونية، تعهّد وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول في خطاب إلى رئيس مجلس الأمن في حزيران 2004، بأن «القوات التي تشكّل القوة المتعددة الجنسيات ملتزمة، وستبقى كذلك في كل الأوقات، بالعمل بما يتفق مع قانون الصراع المسلح، بما في ذلك اتفاقيات جنيف». كما تعهّدت لاحقاً سلفه وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في رسالة مماثلة في شهر تشرين الأول (أكتوبر)، بأن «القوات التي تشكّل القوة المتعددة الجنسيات ستبقى ملتزمة بالعمل وفق ما يمليه القانون الدولي، بما في ذلك قانون الصراع المسلح».

وتبعاً لذلك، فإن الولايات المتحدة مسؤولة مسؤولية مباشرة ليس فقط عن نتيجة الحكم الذي آل بالرئيس العراقي السابق إلى المشنقة، بل مسؤولةٌ أيضاً عن كامل المسرحية الهزليّة التي تمثلت في محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، التي شملت اغتيال ثلاثة من محامي الدفاع، وقبول شهادة شهود مجهولي الهوية، أدلوا بشهاداتهم ضد الرئيس السابق، وإقالة القاضي الأول لمجرد أنه لم تبدُ منه قسوة ضد الرئيس المخلوع، وغيرها من الأمور، بصفتها الراعية الفخرية لتلك المهزلة القانونية. وإن تنصّل الولايات المتحدة من مسؤوليتها القانونية الدولية اليوم حول إعدام الرئيس العراقي السابق، أمر غير مقبول قانوناً ولا عرفاً.

على أن هذا ليس الانتهاك الوحيد لإدارة الرئيس بوش في ما يتعلق باتفاقية جنيف الثالثة 1949. فقد استخدمت وزارة الدفاع الأميركية أصناف التعذيب المحرّمة في القوانين الداخلية والدولية، ضد الأسرى الذين قبضت عليهم في أفغانستان وأودعتهم معتقل غوانتانامو. حيث رفضت الإدارة الأميركية إعطاء المقبوض عليهم من المقاتلين حقوقهم القانونية الدولية بحسب ما نصت عليه اتفاقية جنيف الثالثة لأسرى الحرب عام 1949 (المواد 4-20)، بزعم أن هؤلاء الأسرى ليسوا مقاتلين في صفوف حكومة أفغانستان رسمياً، وبالتالي فإنه ليست لهم حقوق أسرى الحرب بموجب اتفاقية جنيف المذكورة.

وهذه بالطبع مغالطة قانونية تعكس مكان القانون الدولي في عقلية الإدارة الأميركية الحالية. إذ إن هؤلاء المقبوض عليهم كانوا محاربين متطوعين مع الحكومة الأفغانية، وينطبق عليهم ما ينطبق على أسرى الحرب، كما أبانت ذلك المادة (24) من اتفاقية جنيف السابقة الذكر.

وبالتالي فإن الادعاء الأميركي لا يعفي الولايات المتحدة من مسؤوليتها القانونية الدولية، حين اقتادت هؤلاء المعتقلين من بلادهم وأذاقتهم أنواع التعذيب بحسب شهادات المسؤولين الأميركيين أنفسهم. وقد شمل التعذيب في غوانتانامو - بحسب الشهادات الموثوقة - تجريد المعتقلين من جميع ملابسهم، وتقييد أيديهم وأقدامهم بمسامير مثبتة في الأرض، وإجبارهم على التعرض لأضواء مبهرة وموسيقى صاخبة، وفي الوقت نفسه تشغل مكيفات الهواء على أعلى مستوياتها لفترات تصل إلى أربع عشرة ساعة، إضافةً إلى تعرض المعتقلين بشكل منتظم لمعاملة سيئة، وانتهاكات جنسية.


وقد تضافرت شهادات من أُفرج عنهم ومن أدلى باعترافات من الجنود الذين شاركوا في تعذيب المعتقلين في غوانتانامو، على وحشيتها وعدم إنسانيتها، حيث شبّهت منظمة العفو الدولية معتقلات غوانتانامو بمعسكرات الأشغال الشاقة السوفياتية، ووصف مسؤول دولي وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد بأنه «مهندس تعذيب من طراز عال»، كما وصف محقق من وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية أعمال التعذيب بأنها «جرائم حرب».

ومع ذلك، فقد تعاملت الإدارة الأميركية الحالية مع ذلك كله بشيء من عدم الاكتراث، حيث استمر هذا التعذيب، وليس هناك دليل اليوم على أنه قد توقّف.

يأتي كل ذلك انتهاكاً واضحاً لاتفاقية جنيف الثالثة 1949، التي نصت في المادة 130 على أن التعذيب والمعاملة غير الإنسانية بحق أشخاص تحميهم الاتفاقيات الخاصة «انتهاكات فظيعة لهذه الاتفاقيات». كما تحظر المادة العامة 3 ضمن أمور عدة «التعذيب بشتى صوره: بَدَنِيَّاً كان أم عقلياً، في أي زمان ومكان، سواء ارتكبها معتمدون مدنيون أم عسكريون».

من أجل ذلك، جاءت مطالبات متعددة بإغلاق هذا المعتقل من شخصيات أميركية وغير أميركية. فقد طالب الرئيسان السابقان جيمي كارتر وبيل كلينتون بإغلاقه فوراً، كما طالبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والأمين العام السابق للأمم المتحدة، ولجنة العفو الدولية، وطالب تقرير لخبراء حقوق الإنسان، بإغلاقه أيضاً. كما شملت قائمة المطالبين بإغلاق المعتقل عدداً من أعضاء الكونغرس الأميركي بشقيه مجلس النواب ومجلس الشيوخ، ومن كلا الحزبين، إلا أن إدارة بوش لا تزال ترى بقاء هذا المعتقل على رغم مخالفاته الصارخة لمعاهدة جنيف الثالثة 1949.

ويبدو واضحاً اليوم أن إدارة الرئيس الأميركي بوش - كما فعلت مع كثير من قواعد القانون الدولي - قد حكمت بالإعدام على معاهدة جنيف الثالثة المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب أثناء تعاملها مع سجناء غوانتانامو، وصادقت على ذلك الحكم يوم إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين