منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#60659
الدولة ومرحلة جديدة فى علم السياسة
المصدر:السياسة الدولية

بقلم: د.هاله مصطفى





شاركت مع عدد من علماء السياسة فى المؤتمر السنوى للجماعة العلمية المعنية بمنطقة الشرق الأوسط بجامعة بوسطن الأمريكية والذى عقد فى واشنطن فى أول سبتمبر الماضى تحت عنوان ـ الدولة فى الشرق الأوسط ـ متزامنا مع اللقاء السنوى للجمعية الأمريكية للعلوم السياسية وبالتعاون معها ولاشك أن موضوع الدولة هو موضوع مهم، وتعتبر إثارته ومناقشته على هذا النحو مؤشرا على تحول ملفت فى مجالات اهتمام الجماعة الأكاديمية الأمريكية فلم تكن دراسة الدولة موضع اهتمام يذكر فى علم السياسة الأمريكية بوجه عام، حيث كان التركيز منصبا على دراسة النظام السياسة منذ أن بدأت الثورة السلوكية تجتاح هذا اعلم فى نهاية الأربعينيات، وتشكل مجمل اهتمام علم السياسة الأمريكية لفترة طويلة وقد انتشرت مناهج التحليل السلوكى فى علم السياسة فى العالم كله تقريبا على اعتبار أن الأمريكيين يمثلون نحو 80% من مجمل علماء السياسة على المستوى الدولى، كما أن المدرسة الأمريكية تعتبر هى المرجعية الأساسية فى هذا العلم الذى شهد أكبر تطور له على أيدى علمائها عقب الحرب العالمية الثانية ولذلك لم يكن غريبا أنه عندما اختارت جامعة بوسطن ـ الدولة فى الشرق الأوسط ـ موضوعا لاجتماعها السنوى أن جعلت عنوانها الفرعى هو ـ نزع الطابع الأمريكى لعلم السياسة ـ de ـ americanizing Political Science فى هذا السياق فإن طرح موضوع ـ الدولة ـ قد يكون بداية لتحول مهم يمكن أن يستمر ويتعمق فى اتجاه إعطاء هذا الموضوع الاهتمام الذى يستحقه ولم يحظ به حتى الآن فقد انشغل علم السياسة الحديث بدراسة النظام السياسى أكثر من الدولة، التى اقتصر الاهتمام بها على المدرسة القانونية التقليدية والمنهج المؤسسى Institutional Approach وانحصرت دراسة الدولة ـ فى هذا السياق ـ فى الإطار القانونى ودراسة المؤسسات من منظور وصفى، ولم يتسع هذا التطور لبحث دور الدولة كفاعل فى العملية السياسية ومن ناحية أخرى، فإن انتشار المناهج السلوكية فى علم السياسة، كان بذاته تكريسا للاهتمام بالنظام السياسى وتهميشا للدولة فقد عنيت هذه المناهج بتحليل الأنشطة التى تقوم بها الحكومة والبرلمان والأحزاب وجماعات المصالح، وبالبحث فى عملية صنع القرار كما اهتمت بالثقافة والتنشئة والمشاركة السياسية من منظور تحليلى، انطلاقا من مفهوم النظام السياسى وليس الدولة وفى المقابل أدى هذا التطور إلى تراجع أهمية النظرية السياسية التى كان يمكن أن تمثل مجالا ملائما لدراسة الدولة باعتبارها وثيقة الصلة بالفكر السياسى الذى يرتبط بدوره بالفلسفة التى كان لها الفضل فى طرح أول الأسئلة والقضايا الخاصة بالدولة منذ العصر الإغريقى فقد كانت الدولة موضع تأمل عميق من المدارس الفلسفية المختلفة التى تراوحت نظرتها إليها بين إضفاء قدسية عليها كما عند هيجل مثلا (الدولة تجسيد لأسمى فكرة أخلاقية) ، أو الحط من شأنها كما عند ماركس (مجرد أداة للاستغلال الطبقى) ولكن الثورة السلوكية فى علم السياسة أدت إلى تراجع النظرية السياسية، ونشر ديفيد ايستون David Easton عام 1951مقالته الشهيرة (تدهور النظرية السياسية الحديثة) ، حيث عمل السلوكيون على تحرير علم السياسة من كل ما يتعلق بالقيم سعيا إلى علم خال من القيم Valueless يبحث فى قواعد السلوك السياسى بعيدا عن العوامل المعيارية Normative ، بل وحتى التاريخية وكان هذا التطور فى علم السياسة معبرا عن نظرة غربية ملائمة للواقع السياسى فى البلاد الديمقراطية التى تزداد فيها أهمية النظام السياسى أكثر من الدولة فالدولة فى تلك البلاد لها حضور يختلف عما تتسم به فى مناطق أخرى من العالم، ومنها الشرق الأوسط، حيث تتميز الدولة فى هذه المناطق الأخيرة بحضور قوى يستلزم اهتماما حقيقيا من علم السياسة، غير أن ذلك لا يعنى أنه لم يكن هناك أى اهتمام بالدولة فى الفكر الغربى فقد عنى البعض بعملية بناء الدولة الحديثة مثل هنتجتون Huntington، ولكن ظل التركيز على أداء النظام السياسى وقدراته بالأساس، كما اهتم بعض العدديين الجدد New Pluralists بدور الدولة نسبيا مثل روبرت دال R Dahl كما برز اهتمام أكبر بالدولة فى إطار مفهوم الكوربوراتية ـ Corporatism ـ ، الذى ينطوى على أكثر من معنى أهمها أنها نمط معين للعلاقة بين الدولة وجماعات المصالح يقوم على الترابط والتداخل الذى قد يصل إلى حد الاندماج ويفترض هذا المفهوم دورا جوهريا للدولة تدور حوله القوى الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية سعيا إلى تفاهم عام على السياسات العامة، وخاصة تلك المتعلقة بالقضايا الاجتماعية وعلاقات العمل والأجور والأسعار منا كانت هناك مدارس أيديولوجية ـ يسارية فى الأساس ـ على هامش علم السياسة عنيت بموضوع الدولة مثل مدرسة التبعية التى طرحت فكرة الدولة التابعة وكما هو معروف فقد اختزلت هذه المدرسة الدولة فى أنها ظاهرة أنتجتها الرأسمالية الأوروبية، وأنها جزء عضوى من النظام الرأسمالى العالمى الذى ينقسم إلى مركز Center وأطراف Peripheries توجد بينهما منطقة وسطية أو شبه طرفية Semi ـ Periphery وفقا للنموذج الذى بلوره منظورها مثل إيمانويل والرشتاين Immanuel Wallerstein ، وجليرمو أودونيل ـ Guillermo O ـ donnel، ولكن رغم النزعة الأيديولوجية لهذه المدرسة ومبالغتها الشديدة فى تفسير علاقة التبعية بين الدول النامية والنظام العالمى، إلا أنها أظهرت فى الوقت نفسه الطابع البيروقراطى التسلطى لهذه الدولة وكان تحليلها فى هذا المجال أكثر واقعية من التحليل النظمى System Analysis لأنها أدركت الحضور القوى للدولة كفاعل رئيسى غير أن الدول النامية فى الجنوب، عرفت أشكالا أكثر تنوعا للدولة السلطوية، (أى الدولة التى تنزع إلى الاحتكار الفعال لمصادر السلطة والقوة عن طريق اختراق المجتمع وتحويل مؤسساته إلى تنظيمات تضامنية Corporatist تعمل كامتداد لأجهزة الدولة) أكثر مما عرفت ـ نظما سلطوية وقد تحقق هذا الحضور الفاعل للدولة من خلال علاقة وثيقة تصل أحيانا إلى وحدة عضوية بين النظام السياسى والمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والبيروقراطية والتكنوقراط، سواء كان النظام جمهوريا أم ملكيا، حديثا أم تقليديا، رأسماليا أم اشتراكيا والواقع يشير إلى رسوخ سلطة الدولة فى معظم البلاد النامية رغم عدم استقرار الأنظمة السياسية فى كثير منها وكانت كثرة الانقلابات العسكرية من الخمسينيات إلى السبعينيات مؤشرا على عدم استقرار النظم السياسية وقد أحصى أحد الباحثين (على كازانسيجيل Ali Kazancigil) ، حدوث 108 انقلابا من 1960 إلى 1981 ورغم ذلك ظلت الدولة قوية ومهيمنة، بل يصعب فى بعض الحالات فهم وتحليل النظام السياسى بدون معرفة طبيعة الدولة كما هو الحال مثلا فى الدول الريعية البترولية فى الشرق الأوسط ـ Petroluem Rentier State كذلك فإن تزايد الاهتمام بمفهوم المجتمع المدنى أسهم منذ الثمانينات فى استمرار التقليل من أهمية دور الدولة ورغم أن الاتجاه الغالب فى دراسات المجتمع المدنى لا تضعه فى تضاد أو تصادم مع الدولة، إلا أن بعض المبالغات التى صاحبت شيوع المفهوم وكثرة الإشادة به وبدوره، فى الوقت الذى توصف فيه الدولة بالتسلط بشكل مستمر، أعطى انطباعا بوجود تناقض بينهما وهو اتجاه شائع الآن بين كثير من المتخصصين والمحللين السياسيين الذين يكرسون هذه الصورة الأقرب إلى المقارنة بين ـ الأبيض و ـ الأسود ـ رغم السلبيات المختلفة التى اعترت أداء المجتمع المدنى خلال العقدين الأخيرين فقد عانت الكثير من منظمات هذا المجتمع من مظاهر اختلال للقيم الأساسية اللازمة لنموه وتطوره مثل التطوع والعطاء والشفافية والديمقراطية الداخلية فى مؤسساته وربما كان هذا أحد أهم العوامل التى أدت إلى استمرار قوة الدولة وإن كان بدرجات مختلفة واخيرا، يجدر بالذكر أيضا أن الدولة فى منطقة الشرق الأوسط ظاهرة حديثة نشأت فى فترة ما بين الحربين (تركيا ـ مصر ـ السعودية ـ العراق) أو بعد الحرب الثانية ولكن القليل من هذه الدول له جذور ضاربة فى أعماق التاريخ، وعلى رأسها مصر ويظهر هذا الفرق فى أوقات الأزمات والمحن الكبرى فعلى سبيل المثال كان تأثير الإرهاب الأصولى فى مصر أقل منه فى الجزائر والفارق الجوهرى هنا يتعلق بقوة الدولة أو هو الفرق بين دولة قديمة وأخرى حديثة لا تتمتع بنفس العمق التاريخى، فالدولة ذات الجذور القديمة أقوى وأكثر رسوخا إن هذه العوامل كلها يجب أن تؤخذ فى الاعتبار عند البحث فى مستقبل دور الدولة فى ضوء الإصلاحات الاقتصادية والخصخصة من ناحية والتطور الديمقراطى من ناحية ثانية وبسبب العولمة الاقتصادية والثقافية والإعلامية من ناحية ثالثه فمع الأخذ بسياسات الإصلاح الاقتصادى، ظهرت توقعات تعلى من احتمالات ضعف دور الدولة، وشاعت هذه التوقعات فى كتابات كثيرة منها على سبيل المثال عدد من المساهمات فى كتاب ـ Privatization and Liberalism in the Middle East ـ الذى حرره Yliya ـ Harik and Denis JSullivan,وقامت تلك التوقعات على أن الإصلاح الاقتصادى سيؤدى إلى انسحاب الدولة من بعض الأدوار والوظائف التى كانت تؤديها فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية مثل تشغيل خريجى الجامعات وتوفير الرعاية الاجتماعية وتدعيم خدمات التعليم والصحة وتم افتراض أن هذا الانسحاب لابد أن يترك فراغا يحتاج إلى من يملؤه لإشباع احتياجات الناس، وأن هذا سيؤدى إلى زيادة دور منظمات المجتمع المدنى وبعض القوى السياسية والاجتماعية على حساب دور الدولة ولكن يبدو الآن أن هذه التوقعات كانت فيها مبالغة، ربما لسببين أساسيين:ـ أولهما أن السياسات الاجتماعية للدولة فى المرحلة الاشتراكية لم تكن فعالة بشكل كامل فى إشباع الحاجات الحقيقية للفئات الوسطى والدنيا فى المجتمع فقد قامت هذه السياسات على أساس توسع كمى وليس كيفيا فى الخدمات، كما اهتمت بالشكل أكثر من المضمون وكانت السياسة الوحيدة الفعالة من بين هذه السياسات هى تشغيل خريجى الجامعات وقد تم التخفف منها تدريجيا وليس دفعة واحدة، مما أتاح إمكانية لتكيف المجتمع مع الوضع الجديد وثانيهما، أن توقع ضعف دور الدولة استند إلى نظرة استاتيكية لا تأخذ فى الاعتبار أن الأجيال الجديدة لم تعاصر مرحلة الاعتماد الكامل على الدولة، دون أن يعنى ذلك أى نظرة سلبية لها ففى إدراكهم لا ترتبط قوة الدولة بسياسات معينة، ولا بمدى اعتمادهم عليها وهذه الديناميكية الاجتماعية الناجمة عن اختلاف طبيعة الأجيال الجديدة أحبطت التوقعات بأن المواطنين سيبحثون عمن يملأ الفراغ الذى تتركه الدولة سواء لدى منظمات المجتمع المدنى أو حركات الإسلام السياسى، وزادت هذه التوقعات بالنسبة للأخيرة، واستندت فى ذلك إلى اهتمام تلك الحركات وخاصة الأخوان المسلمين بالأنشطة الاجتماعية كمدخل لجذب مزيد من الأنصار والمتعاطفين وربما بدا لبعض الوقت أن هذه الوسيلة قد حققت نجاحا وهو ما جعل كثيرا من الباحثين يبنون رؤيتهم إلى هذه الحركات على هذا الأساس، ومن ذلك مثلا المقال الذى كتبته Carrie Rasefsty Wiekham فى عد سبتمبر 1999 من مجلة Political Science and Politics حيث أشارت إلى أن حركة الإخوان المسلمين طورت شبكة موازية من المؤسسات تشمل مساجد خاصة ومستشفيات ومدارس وبنوك وشركات استثمارية، وقدمت خدمات واسعة النطاق لأعضاء النقابات المهنية التى فازت بأغلبية فى مجالس إدارتها بل إنها قارنت بين هذه الشبكة الموازية وبين ما أطلق عليه Parallel Society أو ـ Parallel Polisالذى طرح بديلا للنظم الشمولية عشية سقوطها فى بلاد شرق ووسط أوروبا ولم تكن هذه المقارنة صائبة فلم يتصاعد نفوذ الحركات السياسية الإسلامية بل تراجع فى الشرق الأوسط عموما من مصر إلى الجزائر إلى اليمن، مرورا بالأردن بل وحتى السودان أخيرا ويقود ذلك إلى قضية جوهرية أخرى تتعلق بالعلاقة بين الدولة والديمقراطية اللتين يضعهما البعض موضع المقابلة ذلك أن استمرار قوة الدولة لا ينطوى بالضرورة على عنصر سلبى بشأن التطور الديمقراطى ومستقبله فليست هناك علاقة ضرورية بين الديمقراطية وضعف الدولة، ولا بين التسلطية Authoritarianism وقوة الدولة فالتطور الديمقراطى الناجح يحتاج إلى مجتمع قوى ناضج حديث، ولا يتعارض على هذا النحو مع دولة قوية بل على العكس يحتاج نجاح التطور الديمقراطى إلى دولة قوية ولكنها منفتحة وحديثة فبعض عمليات التحول الديمقراطى والمراحل الانتقالية فيها قد تحمل أحيانا فى البلاد ذات المجتمعات التعددية مخاطر الانقسام والنزاعات الأهلية فضعف الدولة يمكن أن يؤدى إلى تدعيم الانتماءات الأولية العائلية والعشائرية والدينية، أى الانتماءات الأدنى من الانتماء للدولة ولا شك أن شيوع هذه الانتماءات يقلص احتمالات التطور الديمقراطى لأنها ترتبط بثقافة غير ديمقراطية، تقوم على التعصب وليس على التسامح، والانغلاق لا الانفتاح، والجمود بدلا من المرونة وهكذا كما أن نفس هذا العامل (أى ضعف الدولة) قد يغرى بعض القوى غير الديمقراطية لاستخدام الوسائل التى تتيحها الديمقراطية كتكتيك للوصول إلى السلطة ثم الانقلاب على الديمقراطية ذاتها قبل أن يتعمق الالتزام بها ويعنى ذلك أن ضعف الدولة يرتبط غالبا بانتشار ثقافة غير ديمقراطية، فضلا عما يمكن أن يؤدى إليه من خلخلة النظام العام وبالتالى إشاعة الفوضى أو عدم الاستقرار فى المجتمع، الأمر الذى يقف حائلا أمام التطور الديمقراطى وبالتالى فإن قوة الدولة ضرورة لهذه التطور وليس العكس والدولة القوية فى النهاية ليست مرادفة للدولة التسلطية ـ Authoritarion ـ وإذا كان هناك بطئ فى التطور الديمقراطى فى بلاد تتسم فيها الدولة بالقوة، فهذا لا يرجع إلى قوة الدولة وإنما إلى تعقيدات هذا التطور لأسباب متعددة أولها ضعف الثقافة الديمقراطية فى المجتمع عموما، وفى المجتمع المدنى أيضا ويظهر ذلك فى ضعف الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى نفسه فعلى سبيل المثال لم تنتقل الرئاسة فى بعض أو معظم أحزاب المعارضة فى مصر منذ تأسيسها فى أواخر السبعينات حتى الآن إلا بموت رئيسها وفى النقابات المهنية أدى حصول الإسلاميين على أغلبية المقاعد فى مجالس إدارتها إلى احتكارهم السلطة فيها، وتوجيهها سياسيا بشكل يكاد يكون كاملا أما السبب الثانى فهو وجود مخاوف متبادلة قائمة بين الأحزاب والقوى السياسية، فكل منها يخشى احتكار الآخر للسلطة إذا وصل إليها ويظهر ذلك فى الخطاب السياسى اليسارى والليبرالى والإسلامى وفضلا عن هذين السببين هناك ضرورات التنمية الاقتصادية فارتفاع مستوى المعيشة ضرورى لزيادة المشاركة السياسية ولا يعنى ذلك أولوية الاقتصاد على السياسة أو قبول النظرية القائلة بأن الكثير من معدلات النمو الاقتصادى خلال العقود الأخيرة تحققت فى ظل حكومات غير ديمقراطية ولكن التجارب توضح أن المشاركة السياسية تزداد كلما تحسن الأداء الاقتصادى واتسع حجم الطبقة المتوسطة وارتفع مستوى التعليم وبالتالى الوعى العام ومن هنا أهمية النمو المتوازن للديمقراطية والاقتصاد وصولا إلى النموذج الأفضل الذى يجمع بين الحرية السياسية والاقتصادية، فهذا النموذج يتحقق من خلال التطور الذاتى السياسى والاقتصادى وفقا لظروف كل بلد ولذلك يصعب تحويله إلى عنوان عام أو مجرد شعار يعبر عن عصر معين مثل عصر العولمة، حتى إذا كانت مفاهيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدنى منتشرة فى هذا العصر بسبب ثورة الاتصالات فلاشك أن انتشار وسائل الاتصال الحديثة أمر حيوى وهام ولكن التطور الديمقراطى عملية تحدث فى الواقع وتتعلق بتغيير فى أنماط القيم وفى نوع الهياكل السياسية والاجتماعية وهذه عملية تتسم بأنها أقل سرعة من انتشار المفاهيم التى نتحدث عنها فى ظل العولمة فهذا الانتشار لا يغنى عن تطور المجتمعات والثقافات والقيم وأخيرا يثير موضوع العولمة جدلا واسعا حول تأثيرها على الدولة، وهل ستؤدى إلى إضعافها؟ أى الدولة، وإلى أى مدى تؤثر على الشعور بالانتماء الوطنى؟ وفى مصر كما فى بلاد أخرى فى الشرق الأوسط هناك اتجاهات مختلفة فى النظر إلى تأثير العولمة على مستقبل دور الدولة فهناك اتجاه مناهض لها يميل إلى تعظيم مخاطرها، ويرى أنها تهدد الدولة القومية Nation State وهناك اتجاه على الطرف الآخر يميل إلى تعظيم منافعها وتقليص مخاطرها، ولا يزعجه إذا أدت إلى إضعاف الدولةوربما يغالى هذا الاتجاه بدوره فى أهمية المجتمع المدنى ويتصور علاقته بالدولة على أساس من الصراع أكثر من التعاون كما سبقت الإشارة، ومن هنا لابد من وجود موقف أكثر توازنا فالدولة ستظل الوحدة الأساسية فى النظام العالمى والعلاقات الدولية على الأقل فى المستقبل المنظور رغم ما شاع عن احتمالات تخليها عن جزء من سيادتها للتكتلات الإقليمية والشركات الكبرى والمنظمات غير الحكومية ولكنها فى كل الأحوال ستحتفظ بالجزء الأكبر من سيادتها لفترة طويلة فالانتماء للدولة واضح محدد له أساس واقعى، بعكس الانتماء العالمى الغامض الذى يفتقر إلى أساس محدد ولذلك فإن ما يحدث عندما تضعف الدولة وتتهاوى هو تنامى الانتماءات الأولية الضيقة سواء الإثنية أو القبلية أو العشائرية وغيرها، بما تحمله من مخاطر حروب أهلية شهدنا بعضا من مآسيها ومخاطرها فى قلب أوروبا نفسها (البلقان) وليس فقط فى أفريقيا وآسيا ولا ننسى أن الشعور بالانتماء هو أحد الاحتياجات النفسية الأساسية وطالما بقى هذا الاحتياج، لن يكون الاختيار بين الدولة والعولمة، وإنما بين الدولة والجماعات الأولية الضيقة، مثلما لا يمكن أن يكون الاختيار بين الدولة والديمقراطية ففى كل الأحوال تتأكد أهمية دراسة الدولة مثلما تتأكد ضرورة دورها ومن هنا يكتسب التطور الجديد الذى نشهد بداياته فى علم السياسة الآن أهمية لأنه يسد نقصا عانى منه هذا العلم الذى لم يعط الدولة حقها المناسب من الاهتمام