سلاح أميركا ضدها!
مرسل: الثلاثاء إبريل 23, 2013 12:24 am
سعت الولايات المتحدة لفرض فلسفتها ونمط حياتها وطريقة عيشها وثقافتها على العالم، عندما أصبحت القوة العظمى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتقنيا وعمرانياً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وزعمت أنها تمثل ما أطلقت عليه "العالم الحر" بما فيه من قيم ليبرالية تمجّد من الحرية والفردانية والسوق.
"
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يعدّ تطوراً مهماً يقاس به تقدّم الأمم والشعوب والدول والجماعات البشرية، لا سيما مدى تمثل الحقوق والالتزام بها واحترامها
"
وإذا كانت قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان قد انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية وتكرّس بعضها في ميثاق الأمم المتحدة الذي صدر عن مؤتمر فرانسيسكو عام 1945 بتوقيع 51 دولة عليه، فإن الحوار والنقاش اكتسب بُعداً عالمياً امتد لنحو ثلاث سنوات بعد قيام الأمم المتحدة، تتوّج بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 1948، والذي يعدّ تطوراً مهماً يقاس به تقدّم الأمم والشعوب والدول والجماعات البشرية، لا سيما مدى تمثّل الحقوق والالتزام بها واحترامها.
واعتبر الإعلان الشجرة الوارفة التي تفرّعت عنها نحو 100 اتفاقية دولية، لاسيما بعد صدور العهدين الدوليين الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واللذين صدرا عام 1966 كاتفاقيتين دوليتين شارعتين دخلتا حيّز التنفيذ عام 1976 واعتبرتا أساسيتين للشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
وخلال فترة الحرب الباردة التي يمكن تأريخها بصيحة الزعيم البريطاني ونستون تشرشل بضرورة اتحاد العالم الحر لمواجهة "الخطر الشيوعي" عام 1947 واشتداد الصراع الأيدولوجي، كانت قضية حقوق الإنسان واحدة من القضايا التي ثار الصراع حولها.
وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ثمرة انتشار الأفكار الديمقراطية بعد القضاء على الفاشية والنازية، حيث وردت الإشارة إليه في ميثاق الأمم المتحدة سبع مرّات، فإن إبرامه كان بمبادرة من بعض دول أميركا اللاتينية وبكفاح دبلوماسي كان للعلامة اللبناني شارل مالك دوراً مهماً فيه وفي صياغته. أقول: على الرغم من ذلك فإن الإعلان لم يلق اهتماماً يُذكر من الولايات المتحدة أو من دول غرب أوروبا عموماً، كما تحفظت عليه الدول الاشتراكية.
غير أن الاهتمام اللاحق بقضية حقوق الإنسان من جانب الولايات المتحدة، كان أحد وسائل الصراع ضد المنظومة الاشتراكية، خصوصاً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث كانت واشنطن تبرز أهمية الحقوق الفردية في مواجهة تمسك الاتحاد السوفياتي بالحقوق الجماعية، وتقدّم الحقوق المدنية والسياسية على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو الأمر الذي كان حلبة صراع ممتدة على امتداد خريطة العالم.
وخلال عهد الرئيس كينيدي تعززت مجموعات ما يسمى تروست الأدمغة "مجمّع العقول" الذي يعبّر عن مصالح المجمّع الحربي المالي (الصناعي) لشن هجوم ضد الكتلة الاشتراكية، وفقاً لنظرية بناء الجسور التي قال عنها جونسون إنها جسور ستعبرها البضائع والسلع والأفكار ونمط الحياة لاختراق المعسكر الاشتراكي الذي كان يبدو منيعاً من الخارج، لكنه في واقع الأمر كان هشّاً من الداخل باستعادة فكرة جون بول سارتر.
ولم تتوان واشنطن في فرض رؤيتها الخاصة بحقوق الإنسان دبلوماسياً وعبر جهد دعائي وسياسي لسنوات طويلة، ففي مؤتمر للأمن والتعاون الأوروبي الذي حضرته 33 دولة أوروبية، إضافة إلى كندا والولايات المتحدة، حدد بيانه الختامي يوم 1 أغسطس/آب 1975 اعتبار مبادئ حقوق الإنسان مبادئ آمرة في القانون الدولي، أي ملزمة.
وجرى التأكيد على الحقوق الفردية والمدنية والسياسية، مع إشارات إلى الحقوق الجماعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الأمر الذي كان سيعني أن ما ورد في ميثاق الأمم المتحدة ارتقى سمة أعلى، من خلال القوى المتنفذة في العلاقات الدولية، بإنشاء قواعد علوية ذات صفة إلزامية، وكان ذلك بمثابة رأس الحربة في سياسة جيمي كارتر ومن بعده رونالد ريغان التي اتسمت بمكافحة الإرهاب الدولي.
"
بعض الحكومات تتجه إلى مقايضة قبول واشنطن عن أوضاعها الداخلية بما فيها السكوت عن حالة حقوق الإنسان، مقابل مصالح اقتصادية وقواعد عسكرية وشراء أسلحة وصفقات تفضيلية
"
وكانت واشنطن تتصرف باعتبارها حامية لحقوق الإنسان، فتستقبل المنشقين السوفيات وتقيم الدنيا ولا تقعدها في الاحتجاج لتقييد الحريات، ولا سيما حرية التعبير والحق في التنظيم والاعتقاد والمشاركة، باعتبارها حريات وحقوقا أساسية. ولم تتورع واشنطن عن استخدام جميع الوسائل لتحقيق أهدافها بما فيها توظيف مجلس الأمن والأمم المتحدة لصالحها، وخصوصاً بعد ضعف وانحلال الكتلة الاشتراكية.
وغالباً ما كانت واشنطن تلجأ إلى سلاح العقوبات بأشكالها المختلفة، ولعل بعضها كان "كلام حق يُراد به باطل" مثل التنكّر لحقوق "الأقليات"، والمقصود هنا التجاوز على التنوّع الثقافي، وعدم الاعتراف بحقوق المجموعات الدينية والثقافية والإثنية واللغوية والسلالية، وحجب حرية التعبير وحقوق المرأة وغيرها.
وكانت بعض الحكومات تتجه إلى مقايضة قبول واشنطن عن أوضاعها الداخلية بما فيها السكوت عن حالة حقوق الإنسان، مقابل مصالح اقتصادية وقواعد عسكرية وشراء أسلحة وصفقات تفضيلية، وغيرها من المزايا والامتيازات التي تمنحها للولايات المتحدة، مقابل غضّ النظر عن حالة حقوق الإنسان.
وكانت مهمة مفوضية حقوق الإنسان وفيما بعد المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، هي الضغط على البلدان التي تنتهك حقوق الإنسان، وإن كان في الأمر شيء إيجابي يتعلق بالضغط على الدول لاحترام حقوق الإنسان ومطالبتها بالالتزام بالمعايير الدولية، لكن واشنطن كانت تستغلّه لأغراض مصلحية وأنانية ضيقة، حيث تستثمر التقارير الدولية أحياناً لمصالحها الخاصة.
لكن التطور الدولي على هذا الصعيد قاد إلى أن تكون تلك التقارير "واجباً" على الدول اليوم تقدّمه سنوياً لتبين التقدّم الحاصل في حالة حقوق الإنسان في بلدانها، ولم يعد تقرير وزارة الخارجية الأميركية كافياً لتوجيه التهمة إلى الدول والحكومات، بل أصبحت حتى الولايات المتحدة تقدّم تقريره الخاص باحترام حقوق الإنسان، أسوة بالبلدان الأخرى.
وبحكم وزن واشنطن وثقلها الدولي فإن تقارير وزارة الخارجية الأميركية كانت تؤثر على مجلس حقوق الإنسان، بل إن هناك تسرّباً أحياناً يأخذ طريقه بشكل أو بآخر إلى بعض المنظمات الدولية بما فيها ذات الصدقية العالية، كوسيلة للابتزاز والبازار السياسي، ولكن هذا السلاح أخذ يستخدم ضد واشنطن لاحقاً.
وأتذكر أن وزير داخلية دولة عربية في أواخر التسعينيات عاتبني إزاء الحملة ضد بلده، فما كان مني إلا أن أطلعته على التقرير السنوي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان والذي تضمّن تقاريراً عن 22 بلداً عربياً، فضلاً عن فصل خاص ضد سياسات ونهج الولايات المتحدة الممالئ "لإسرائيل" وممارساتها العنصرية في فلسطين واستمرار احتلالها للأراضي العربية المحتلة وتنكّرها لمنظومة حقوق الشعب الفلسطيني كاملة، ولا سيما حقه في تقرير المصير، ناهيكم عن الموقف إزاء مفهوم "الإرهاب الدولي" الذي يستخدم بطريقة انتقائية وازدواجية مثل موضوع الحصار الاقتصادي. كما أطلعته على كتاب زاد عدد صفحاته عن 200 صفحة كانت منظمة العفو الدولية قد أصدرته بلغات مختلفة منها العربية، عن انتهاكات واشنطن لحقوق الإنسان الأميركي في الولايات المتحدة.
اليوم تحاول روسيا تغيير قواعد اللعبة، فهي التي تقوم بكشف انتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، بل وتستخدم هذا السلاح بعدما احتكرته واشنطن لعقود من الزمان، وحتى لو كان استخدام هذا السلاح لاعتبارات مصلحية أو لظروف الصراع بين موسكو وواشنطن، فإن جانبه الأخلاقي يبقى مهماً، علماً بأن ظروف الصراع اليوم مختلفة عن الحرب الباردة والصراع الأيدولوجي السابق.
"
اليوم تحاول روسيا تغيير قواعد اللعبة، فهي التي تقوم بكشف انتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، بل وتستخدم هذا السلاح بعدما احتكرته واشنطن لعقود من الزمان
"
لقد اطلعت على تقرير صدر عن وزارة الخارجية الروسية بعنوان "حالة حقوق الإنسان في الولايات المتحدة"، حيث تم فيه رصد عدد من الانتهاكات في الولايات المتحدة خلال العام المنصرم، سواءً المتعلّقة بالحريات والحقوق والتمييز العنصري والعرقي، وقضايا التعذيب والقتل خارج القضاء (لاسيما خارج الولايات المتحدة) والمعاملة السيئة للسجناء وتنفيذ عقوبة الإعدام، ورفض واشنطن التصديق على العديد من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، مثل اتفاقية منع التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل والاتفاقيات الخاصة بالعمالة المهاجرة والمهاجرين.
وعلى صعيد الحريات رصد التقرير انتهاكات ضد 80 صحفياً تعرضوا للضرب من جانب الشرطة، وتتسع ظاهرة التخلي عن الإعلاميين بسبب آرائهم السياسية وانتقاداتهم للإدارة الأميركية. أما بخصوص الضمان الصحي فيذكر التقرير أن أكثر من 40% لا يتمتعون به، وأن ما يزيد على 46% من السكان لا يملكون منزلاً، وأن شبكة المياه والكهرباء لا تصل إلى نحو 20% من السكان، وأن هناك نحو 12.8 مليون عاطل عن العمل.
ولعل التقرير الذي اقتفى أثر تقارير وزارة الخارجية الأميركية، استند إلى العديد من المصادر وإلى بعض المنظمات الحقوقية والدولية، ومثل هذا الأمر سيكون مساهمة في إثارة النقاش والجدل حول أوضاع حقوق الإنسان في الولايات المتحدة بشكل خاص، والعالم بشكل عام، وهو وجه إيجابي للعولمة، حتى وإن كان القصد منه نفعياً، فموسكو المتهمة بالانتهاكات تحاول اتهام واشنطن بها، في جزء من الصراع في العلاقات الدولية بعد الحرب الباردة، حيث يصبح المتهِم متهَماً والمهاجم مدافعاً.
"
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يعدّ تطوراً مهماً يقاس به تقدّم الأمم والشعوب والدول والجماعات البشرية، لا سيما مدى تمثل الحقوق والالتزام بها واحترامها
"
وإذا كانت قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان قد انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية وتكرّس بعضها في ميثاق الأمم المتحدة الذي صدر عن مؤتمر فرانسيسكو عام 1945 بتوقيع 51 دولة عليه، فإن الحوار والنقاش اكتسب بُعداً عالمياً امتد لنحو ثلاث سنوات بعد قيام الأمم المتحدة، تتوّج بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 1948، والذي يعدّ تطوراً مهماً يقاس به تقدّم الأمم والشعوب والدول والجماعات البشرية، لا سيما مدى تمثّل الحقوق والالتزام بها واحترامها.
واعتبر الإعلان الشجرة الوارفة التي تفرّعت عنها نحو 100 اتفاقية دولية، لاسيما بعد صدور العهدين الدوليين الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واللذين صدرا عام 1966 كاتفاقيتين دوليتين شارعتين دخلتا حيّز التنفيذ عام 1976 واعتبرتا أساسيتين للشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
وخلال فترة الحرب الباردة التي يمكن تأريخها بصيحة الزعيم البريطاني ونستون تشرشل بضرورة اتحاد العالم الحر لمواجهة "الخطر الشيوعي" عام 1947 واشتداد الصراع الأيدولوجي، كانت قضية حقوق الإنسان واحدة من القضايا التي ثار الصراع حولها.
وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ثمرة انتشار الأفكار الديمقراطية بعد القضاء على الفاشية والنازية، حيث وردت الإشارة إليه في ميثاق الأمم المتحدة سبع مرّات، فإن إبرامه كان بمبادرة من بعض دول أميركا اللاتينية وبكفاح دبلوماسي كان للعلامة اللبناني شارل مالك دوراً مهماً فيه وفي صياغته. أقول: على الرغم من ذلك فإن الإعلان لم يلق اهتماماً يُذكر من الولايات المتحدة أو من دول غرب أوروبا عموماً، كما تحفظت عليه الدول الاشتراكية.
غير أن الاهتمام اللاحق بقضية حقوق الإنسان من جانب الولايات المتحدة، كان أحد وسائل الصراع ضد المنظومة الاشتراكية، خصوصاً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث كانت واشنطن تبرز أهمية الحقوق الفردية في مواجهة تمسك الاتحاد السوفياتي بالحقوق الجماعية، وتقدّم الحقوق المدنية والسياسية على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو الأمر الذي كان حلبة صراع ممتدة على امتداد خريطة العالم.
وخلال عهد الرئيس كينيدي تعززت مجموعات ما يسمى تروست الأدمغة "مجمّع العقول" الذي يعبّر عن مصالح المجمّع الحربي المالي (الصناعي) لشن هجوم ضد الكتلة الاشتراكية، وفقاً لنظرية بناء الجسور التي قال عنها جونسون إنها جسور ستعبرها البضائع والسلع والأفكار ونمط الحياة لاختراق المعسكر الاشتراكي الذي كان يبدو منيعاً من الخارج، لكنه في واقع الأمر كان هشّاً من الداخل باستعادة فكرة جون بول سارتر.
ولم تتوان واشنطن في فرض رؤيتها الخاصة بحقوق الإنسان دبلوماسياً وعبر جهد دعائي وسياسي لسنوات طويلة، ففي مؤتمر للأمن والتعاون الأوروبي الذي حضرته 33 دولة أوروبية، إضافة إلى كندا والولايات المتحدة، حدد بيانه الختامي يوم 1 أغسطس/آب 1975 اعتبار مبادئ حقوق الإنسان مبادئ آمرة في القانون الدولي، أي ملزمة.
وجرى التأكيد على الحقوق الفردية والمدنية والسياسية، مع إشارات إلى الحقوق الجماعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الأمر الذي كان سيعني أن ما ورد في ميثاق الأمم المتحدة ارتقى سمة أعلى، من خلال القوى المتنفذة في العلاقات الدولية، بإنشاء قواعد علوية ذات صفة إلزامية، وكان ذلك بمثابة رأس الحربة في سياسة جيمي كارتر ومن بعده رونالد ريغان التي اتسمت بمكافحة الإرهاب الدولي.
"
بعض الحكومات تتجه إلى مقايضة قبول واشنطن عن أوضاعها الداخلية بما فيها السكوت عن حالة حقوق الإنسان، مقابل مصالح اقتصادية وقواعد عسكرية وشراء أسلحة وصفقات تفضيلية
"
وكانت واشنطن تتصرف باعتبارها حامية لحقوق الإنسان، فتستقبل المنشقين السوفيات وتقيم الدنيا ولا تقعدها في الاحتجاج لتقييد الحريات، ولا سيما حرية التعبير والحق في التنظيم والاعتقاد والمشاركة، باعتبارها حريات وحقوقا أساسية. ولم تتورع واشنطن عن استخدام جميع الوسائل لتحقيق أهدافها بما فيها توظيف مجلس الأمن والأمم المتحدة لصالحها، وخصوصاً بعد ضعف وانحلال الكتلة الاشتراكية.
وغالباً ما كانت واشنطن تلجأ إلى سلاح العقوبات بأشكالها المختلفة، ولعل بعضها كان "كلام حق يُراد به باطل" مثل التنكّر لحقوق "الأقليات"، والمقصود هنا التجاوز على التنوّع الثقافي، وعدم الاعتراف بحقوق المجموعات الدينية والثقافية والإثنية واللغوية والسلالية، وحجب حرية التعبير وحقوق المرأة وغيرها.
وكانت بعض الحكومات تتجه إلى مقايضة قبول واشنطن عن أوضاعها الداخلية بما فيها السكوت عن حالة حقوق الإنسان، مقابل مصالح اقتصادية وقواعد عسكرية وشراء أسلحة وصفقات تفضيلية، وغيرها من المزايا والامتيازات التي تمنحها للولايات المتحدة، مقابل غضّ النظر عن حالة حقوق الإنسان.
وكانت مهمة مفوضية حقوق الإنسان وفيما بعد المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، هي الضغط على البلدان التي تنتهك حقوق الإنسان، وإن كان في الأمر شيء إيجابي يتعلق بالضغط على الدول لاحترام حقوق الإنسان ومطالبتها بالالتزام بالمعايير الدولية، لكن واشنطن كانت تستغلّه لأغراض مصلحية وأنانية ضيقة، حيث تستثمر التقارير الدولية أحياناً لمصالحها الخاصة.
لكن التطور الدولي على هذا الصعيد قاد إلى أن تكون تلك التقارير "واجباً" على الدول اليوم تقدّمه سنوياً لتبين التقدّم الحاصل في حالة حقوق الإنسان في بلدانها، ولم يعد تقرير وزارة الخارجية الأميركية كافياً لتوجيه التهمة إلى الدول والحكومات، بل أصبحت حتى الولايات المتحدة تقدّم تقريره الخاص باحترام حقوق الإنسان، أسوة بالبلدان الأخرى.
وبحكم وزن واشنطن وثقلها الدولي فإن تقارير وزارة الخارجية الأميركية كانت تؤثر على مجلس حقوق الإنسان، بل إن هناك تسرّباً أحياناً يأخذ طريقه بشكل أو بآخر إلى بعض المنظمات الدولية بما فيها ذات الصدقية العالية، كوسيلة للابتزاز والبازار السياسي، ولكن هذا السلاح أخذ يستخدم ضد واشنطن لاحقاً.
وأتذكر أن وزير داخلية دولة عربية في أواخر التسعينيات عاتبني إزاء الحملة ضد بلده، فما كان مني إلا أن أطلعته على التقرير السنوي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان والذي تضمّن تقاريراً عن 22 بلداً عربياً، فضلاً عن فصل خاص ضد سياسات ونهج الولايات المتحدة الممالئ "لإسرائيل" وممارساتها العنصرية في فلسطين واستمرار احتلالها للأراضي العربية المحتلة وتنكّرها لمنظومة حقوق الشعب الفلسطيني كاملة، ولا سيما حقه في تقرير المصير، ناهيكم عن الموقف إزاء مفهوم "الإرهاب الدولي" الذي يستخدم بطريقة انتقائية وازدواجية مثل موضوع الحصار الاقتصادي. كما أطلعته على كتاب زاد عدد صفحاته عن 200 صفحة كانت منظمة العفو الدولية قد أصدرته بلغات مختلفة منها العربية، عن انتهاكات واشنطن لحقوق الإنسان الأميركي في الولايات المتحدة.
اليوم تحاول روسيا تغيير قواعد اللعبة، فهي التي تقوم بكشف انتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، بل وتستخدم هذا السلاح بعدما احتكرته واشنطن لعقود من الزمان، وحتى لو كان استخدام هذا السلاح لاعتبارات مصلحية أو لظروف الصراع بين موسكو وواشنطن، فإن جانبه الأخلاقي يبقى مهماً، علماً بأن ظروف الصراع اليوم مختلفة عن الحرب الباردة والصراع الأيدولوجي السابق.
"
اليوم تحاول روسيا تغيير قواعد اللعبة، فهي التي تقوم بكشف انتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، بل وتستخدم هذا السلاح بعدما احتكرته واشنطن لعقود من الزمان
"
لقد اطلعت على تقرير صدر عن وزارة الخارجية الروسية بعنوان "حالة حقوق الإنسان في الولايات المتحدة"، حيث تم فيه رصد عدد من الانتهاكات في الولايات المتحدة خلال العام المنصرم، سواءً المتعلّقة بالحريات والحقوق والتمييز العنصري والعرقي، وقضايا التعذيب والقتل خارج القضاء (لاسيما خارج الولايات المتحدة) والمعاملة السيئة للسجناء وتنفيذ عقوبة الإعدام، ورفض واشنطن التصديق على العديد من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، مثل اتفاقية منع التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل والاتفاقيات الخاصة بالعمالة المهاجرة والمهاجرين.
وعلى صعيد الحريات رصد التقرير انتهاكات ضد 80 صحفياً تعرضوا للضرب من جانب الشرطة، وتتسع ظاهرة التخلي عن الإعلاميين بسبب آرائهم السياسية وانتقاداتهم للإدارة الأميركية. أما بخصوص الضمان الصحي فيذكر التقرير أن أكثر من 40% لا يتمتعون به، وأن ما يزيد على 46% من السكان لا يملكون منزلاً، وأن شبكة المياه والكهرباء لا تصل إلى نحو 20% من السكان، وأن هناك نحو 12.8 مليون عاطل عن العمل.
ولعل التقرير الذي اقتفى أثر تقارير وزارة الخارجية الأميركية، استند إلى العديد من المصادر وإلى بعض المنظمات الحقوقية والدولية، ومثل هذا الأمر سيكون مساهمة في إثارة النقاش والجدل حول أوضاع حقوق الإنسان في الولايات المتحدة بشكل خاص، والعالم بشكل عام، وهو وجه إيجابي للعولمة، حتى وإن كان القصد منه نفعياً، فموسكو المتهمة بالانتهاكات تحاول اتهام واشنطن بها، في جزء من الصراع في العلاقات الدولية بعد الحرب الباردة، حيث يصبح المتهِم متهَماً والمهاجم مدافعاً.