- الثلاثاء إبريل 23, 2013 4:47 am
#60826
السلام عليكم ورحمة الله
.إبراهيم البيومي غانم
مارس 2010
كنت قد وصفت وزير الخارجية التركية الجديد الدكتور أحمد داود أوغلو بأنه "كيسنجر السياسة التركية"، وشرحت هذا الوصف في محاضرة عامة ألقيتها عن "النموذج التركي" في 26 أغسطس 2008 بجامعة القاهرة ضمن محاضرات "برنامج الدراسات الحضارية وحوار الثقافات"، وتناقلت وسائل الإعلام هذا الوصف بسرعة لافتة.
وبعد بضعة أيام فقط من المحاضرة تلقيت اتصالا هاتفيا من أحد الأصدقاء في أنقرة استفسر مني فيها أولا عن معرفتي بالدكتور أحمد، وهل قرأت كتبه أو بعضا منها، ودهشت لهذه السرعة في المتابعة لما يقال عن تركيا ومسئوليها في الخارج، وخاصة في العالم العربي، وبصفة أكثر خصوصية في مصر، وعرفت من لهجة سائلي أنه ربما يكون عاتبا علي لأنني وصفت الدكتور أحمد بأنه مثل "كيسنجر"، وأن الأولى هو أن نصفه فقط باسمه وهو أنه "أحمد داود أوغلو"!.
شرحت لسائلي هدفي من وصفي للدكتور أحمد بأنه "كيسنجر" تركيا، وهو تقريبه من أذهان مستمعي في المحاضرة لا أكثر ولا أقل، وقلت له إنني أعرف الدكتور منذ سنة 1987 عندما تزاملنا مدة عام في الدراسات العليا بقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة؛ حيث حضر كـ"مستمع" للمحاضرات، وكي يطلع على أحوال مدرسة العلوم السياسية المصرية، ويجمع بعض عيون الكتب من سور الأزبكية الشهير بالقاهرة، وقد جمع منها قدرا معتبرا وعاد به إلى بلده.
تعمقت الصداقة بيننا، وقمت بترجمة كتابين من كتبه صدرا سنة 2006 عن مكتبة الشروق الدولية بالقاهرة، الأول بعنوان "الفلسفة والسياسة"، والثاني بعنوان "العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية"، وقبلهما ترجمت له دراسة مهمة بعنوان "انبعاث الفكر الإسلامي في تركيا: دراسة في عملية التحول من الفكر العلماني إلى الإسلام"، نشرتها صحيفة الشعب المصرية في عدديها الصادرين بتاريخ 26 يوليو و2 أغسطس 1988، ولكن كل ذلك لم يشفع لي في إزالة نبرة اللوم على تشبيهي له بكيسنجر.
أوغلو.. ونظريات "النهايات"
ولهذا انتهزت أول فرصة علقت فيها على التعديل الوزاري الأخير في برنامج قناة الجزيرة "ما وراء الخبر" -مساء يوم 3/5/2009- لأصحح هذا الوصف، وخاصة أن مقدمة البرنامج استخدمته، وأكدت على أن وصفنا للدكتور أحمد داود بأنه مثل كيسنجر فيه ظلم له ومحاباة لكيسنجر؛ لأن الدكتور أحمد داود صاحب رؤية إستراتجية أصيلة تنسب إليه وحده دون غيره، وأن الصحيح فعلا هو أن نصفه باسمه "أحمد داود أوغلو".
صحيح أن ثمة أوجه تشابه بين الرجلين، فكلاهما درس العلاقات الدولية وتخصص فيها، وكلاهما انخرط بشكل رسمي في الوساطات بين العرب والإسرائيليين ضمن جهود المفاوضات من أجل السلام، وكلاهما تولى منصبه وزيرا للخارجية وهو في الخمسين من عمره (كيسنجر سنة 1973 وهو من مواليد سنة 1923، وأحمد داود سنة 2009، وهو من مواليد سنة 1959)، لكن أوجه الشبه لا تبرر إلحاق أحدهما بالآخر، وجعل الأول (كيسنجر) هو المرجعية في التعرف على الثاني (أحمد داود)، ولدينا من الأدلة المعرفية والموضوعية ما يبرهن على خطأ تشبيهه بكيسنجر، مع إقرارنا بعبقرية كيسنجر، وأنه كان داهية من دواهي الزمن في تاريخ السياسة الخارجية والعلاقات الدولية في القرن العشرين الماضي.
الدليل الأول: أن هنري كيسنجر انطلق في دوره الأساسي في الصراع العربي الإسرائيلي خلال السبعينيات من ثوابت السياسة الأمريكية المتحيزة بفجاجة للجانب الإسرائيلي على حساب الحقوق العربية، وانصب جهده على ترويض الجانب العربي من أجل الاندماج في فلك الإستراتيجية الأمريكية عبر سياسة "الخطوة.. خطوة" التي اشتهر بها.
أما أحمد داود أوغلو، فدوره في الصراع العربي الإسرائيلي ينطلق من ثوابت "الرؤية الحضارية" التي يؤكد من خلالها على نظريتين لديه:
الأولى يقول فيها إن "الثقة بالذات الحضارية" مصدر قوة إضافية للدولة في علاقاتها الخارجية، وخاصة إذا اقترنت بتجاوز عقدة النقص، وبالتغلب على الشعور بالدونية تجاه الطرف الآخر، وهذا هو ما فعله خلال وساطته بين السوريين والإسرائيليين، وبين الفلسطينيين والإسرائيليين أيضا خلال الأعوام الماضية، وصبت في هذا الاتجاه دعوته لوفد حماس عقب فوزها في الانتخابات مطلع سنة 2006 لزيارة تركيا، في الوقت الذي بدأت فيه القوى الدولية محاصرة حماس ومقاطعتها، هذا هو جهد أحمد داود، أما على الطرف الآخر فقد كان جل جهد كيسنجر منصبا على قطع الطريق على أية إمكانية لاسترداد الثقة بالذات لدى الأطراف العربية عقب انتصار أكتوبر المجيد سنة 1973، بل والسعي لإفقاد ما تبقى من ثقة لدى هذه الأطراف العربية التي جلبها إلى حلبة المفاوضات مع الإسرائيليين عقب تلك الحرب مباشرة.
النظرية الثانية لدى الدكتور أحمد داود مفادها هو أنه: كي تكون ناجحا في إدارة العلاقات الدولية يتعين عليك مراعاة "التوازن" الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، وأنه لا يجوز المغامرة بمواجهة قوة الأمر الواقع دون استعداد كاف، كما لا يجوز التفريط في قوة الحق الثابت الأصيل، وأنه يمكن إنجاز الكثير في المسافة القائمة بين "قوة الأمر الواقع"، و"قوة الحق الأصيل" في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود.
هذا هو لب تفكير أحمد داود أوغلو، أما كيسنجر فقد كان لب تفكيره، وجوهر رسائله للأطراف العربية هو أن التيئيس من إمكانية تغيير موازين القوى القائمة على أرض الواقع، والتهوين من قوة الحق الأصيل، إلى حد طمسه والتعفية على آثاره بغبار ما كان يسميه "الواقعية السياسية"، أو "البرجماتية"، وشتان بين هذا المنطق، ومنطق أحمد أوغلو.
الدليل الثاني: أن هنري كيسنجر يعتبر من الآباء المؤسسين لنظرية "صدام الحضارات" التي بلورها صمويل هنتينجتون، ونظرية "نهاية التاريخ" التي بلورها فرانسيس فوكوياما، ونظرية الفوضى الخلاقة والحروب الاستباقية التي تبنتها إدارة بوش الابن فعليًّا خلال السنوات الماضية وأذاقت العالم الأمرين من نتائجها، فيما أحمد داود يقف على النقيض من هذه النظريات.
لقد نبه كيسنجر قبل ثلاثين عاما؛ أي سنة 1979 إلى الفكرة الأساسية التي ارتكز عليها هنتينجتون في مقولته عن "صدام الحضارات"، وأكد أن الصراع في المستقبل سيكون بين الهويات الثقافية والدينية والحضارية، وليس بين الدول القومية بحدودها وسيادتها التي ارتسمت في العلاقات الدولية منذ معاهدة وستفاليا سنة 1648.
ويبيح مفهوم كيسنجر الجديد لسيادة الدولة أن تتدخل القوى الأكبر في شئون الدول الأضعف لإجبارها على تغيير مواقفها، أو حتى حكوماتها ولو باستخدام القوة العسكرية، في إطار ما عرفته إدارة المحافظين الجدد بزعامة جورج بوش الابن بـ"الحرب الاستباقية"، وتستند فلسفة الحرب الاستباقية على فكرة فوكوياما عن "نهاية التاريخ"، وتجد هذه الفكرة تأصيلها إلى نظرية "الواقعية" التي برع فيها كيسنجر، وأعاد من خلالها الاعتبار للمبدأ الروماني القديم الذي يقول "القوة تخلق الحق وتحميه"، ومن ثم أكد صاحب نظرية نهاية التاريخ على أن "استخدام القوة هو الحكم النهائي في العلاقة بين دول التاريخ، ودول ما بعد التاريخ؛ على الرغم من الدرجة المتزايدة من الاعتماد المتبادل في المجال الاقتصادي".
وإلى أفكار كيسنجر وكتاباته ترجع أيضا نظرية "الفوضى الخلاقة" التي تبناها المحافظون الجدد في عهد بوش، وكان كيسنجر قد تبنى نظرية "التفكيك وإعادة البناء" باستبدال بعض الدول أو الكيانات القائمة بدويلات أصغر تتحارب مع بعضها؛ بهدف تسهيل تحقيق أهداف الأمن القومي الأمريكي.
وفي ضوء هذه الأفكار المركزية التي أسهم في وضعها كيسنجر نفهم بوضوح كيف تبرر السياسة الأمريكية فرض العولمة على العالم، ولو بالقوة، لمنع أي بديل حضاري آخر يبدو منه تهديد للنظام الذي انتهى إليه التاريخ بحسب نظرية فوكوياما؛ هذه النظرية التي تجد جذورها لدى كيسنجر ذاته، وكتابات كيسنجر مثل: (مفهوم السياسة الخارجية الأمريكية، والدبلوماسية من القرن 7 إلى القرن 17، وهل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية: نحو دبلوماسية للقرن 21، ..إلخ) لا تزال مرجعا أساسيا لتلك الأفكار التي تجد طريقها للتطبيق في السياسة الأمريكية بين الحين والآخر، ولا يزال هو شخصيا يحظى باحترام بالغ في أوساط صناع السياسة الأمريكية ومراكز أبحاث الأمن القومي فيها، وقد حصل من أحدها، وهو معهد واشنطن لشئون الشرق الأدنى في السادس من أكتوبر 2008 على جائزة رجل دولة من الطراز الأول.
.إبراهيم البيومي غانم
مارس 2010
كنت قد وصفت وزير الخارجية التركية الجديد الدكتور أحمد داود أوغلو بأنه "كيسنجر السياسة التركية"، وشرحت هذا الوصف في محاضرة عامة ألقيتها عن "النموذج التركي" في 26 أغسطس 2008 بجامعة القاهرة ضمن محاضرات "برنامج الدراسات الحضارية وحوار الثقافات"، وتناقلت وسائل الإعلام هذا الوصف بسرعة لافتة.
وبعد بضعة أيام فقط من المحاضرة تلقيت اتصالا هاتفيا من أحد الأصدقاء في أنقرة استفسر مني فيها أولا عن معرفتي بالدكتور أحمد، وهل قرأت كتبه أو بعضا منها، ودهشت لهذه السرعة في المتابعة لما يقال عن تركيا ومسئوليها في الخارج، وخاصة في العالم العربي، وبصفة أكثر خصوصية في مصر، وعرفت من لهجة سائلي أنه ربما يكون عاتبا علي لأنني وصفت الدكتور أحمد بأنه مثل "كيسنجر"، وأن الأولى هو أن نصفه فقط باسمه وهو أنه "أحمد داود أوغلو"!.
شرحت لسائلي هدفي من وصفي للدكتور أحمد بأنه "كيسنجر" تركيا، وهو تقريبه من أذهان مستمعي في المحاضرة لا أكثر ولا أقل، وقلت له إنني أعرف الدكتور منذ سنة 1987 عندما تزاملنا مدة عام في الدراسات العليا بقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة؛ حيث حضر كـ"مستمع" للمحاضرات، وكي يطلع على أحوال مدرسة العلوم السياسية المصرية، ويجمع بعض عيون الكتب من سور الأزبكية الشهير بالقاهرة، وقد جمع منها قدرا معتبرا وعاد به إلى بلده.
تعمقت الصداقة بيننا، وقمت بترجمة كتابين من كتبه صدرا سنة 2006 عن مكتبة الشروق الدولية بالقاهرة، الأول بعنوان "الفلسفة والسياسة"، والثاني بعنوان "العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية"، وقبلهما ترجمت له دراسة مهمة بعنوان "انبعاث الفكر الإسلامي في تركيا: دراسة في عملية التحول من الفكر العلماني إلى الإسلام"، نشرتها صحيفة الشعب المصرية في عدديها الصادرين بتاريخ 26 يوليو و2 أغسطس 1988، ولكن كل ذلك لم يشفع لي في إزالة نبرة اللوم على تشبيهي له بكيسنجر.
أوغلو.. ونظريات "النهايات"
ولهذا انتهزت أول فرصة علقت فيها على التعديل الوزاري الأخير في برنامج قناة الجزيرة "ما وراء الخبر" -مساء يوم 3/5/2009- لأصحح هذا الوصف، وخاصة أن مقدمة البرنامج استخدمته، وأكدت على أن وصفنا للدكتور أحمد داود بأنه مثل كيسنجر فيه ظلم له ومحاباة لكيسنجر؛ لأن الدكتور أحمد داود صاحب رؤية إستراتجية أصيلة تنسب إليه وحده دون غيره، وأن الصحيح فعلا هو أن نصفه باسمه "أحمد داود أوغلو".
صحيح أن ثمة أوجه تشابه بين الرجلين، فكلاهما درس العلاقات الدولية وتخصص فيها، وكلاهما انخرط بشكل رسمي في الوساطات بين العرب والإسرائيليين ضمن جهود المفاوضات من أجل السلام، وكلاهما تولى منصبه وزيرا للخارجية وهو في الخمسين من عمره (كيسنجر سنة 1973 وهو من مواليد سنة 1923، وأحمد داود سنة 2009، وهو من مواليد سنة 1959)، لكن أوجه الشبه لا تبرر إلحاق أحدهما بالآخر، وجعل الأول (كيسنجر) هو المرجعية في التعرف على الثاني (أحمد داود)، ولدينا من الأدلة المعرفية والموضوعية ما يبرهن على خطأ تشبيهه بكيسنجر، مع إقرارنا بعبقرية كيسنجر، وأنه كان داهية من دواهي الزمن في تاريخ السياسة الخارجية والعلاقات الدولية في القرن العشرين الماضي.
الدليل الأول: أن هنري كيسنجر انطلق في دوره الأساسي في الصراع العربي الإسرائيلي خلال السبعينيات من ثوابت السياسة الأمريكية المتحيزة بفجاجة للجانب الإسرائيلي على حساب الحقوق العربية، وانصب جهده على ترويض الجانب العربي من أجل الاندماج في فلك الإستراتيجية الأمريكية عبر سياسة "الخطوة.. خطوة" التي اشتهر بها.
أما أحمد داود أوغلو، فدوره في الصراع العربي الإسرائيلي ينطلق من ثوابت "الرؤية الحضارية" التي يؤكد من خلالها على نظريتين لديه:
الأولى يقول فيها إن "الثقة بالذات الحضارية" مصدر قوة إضافية للدولة في علاقاتها الخارجية، وخاصة إذا اقترنت بتجاوز عقدة النقص، وبالتغلب على الشعور بالدونية تجاه الطرف الآخر، وهذا هو ما فعله خلال وساطته بين السوريين والإسرائيليين، وبين الفلسطينيين والإسرائيليين أيضا خلال الأعوام الماضية، وصبت في هذا الاتجاه دعوته لوفد حماس عقب فوزها في الانتخابات مطلع سنة 2006 لزيارة تركيا، في الوقت الذي بدأت فيه القوى الدولية محاصرة حماس ومقاطعتها، هذا هو جهد أحمد داود، أما على الطرف الآخر فقد كان جل جهد كيسنجر منصبا على قطع الطريق على أية إمكانية لاسترداد الثقة بالذات لدى الأطراف العربية عقب انتصار أكتوبر المجيد سنة 1973، بل والسعي لإفقاد ما تبقى من ثقة لدى هذه الأطراف العربية التي جلبها إلى حلبة المفاوضات مع الإسرائيليين عقب تلك الحرب مباشرة.
النظرية الثانية لدى الدكتور أحمد داود مفادها هو أنه: كي تكون ناجحا في إدارة العلاقات الدولية يتعين عليك مراعاة "التوازن" الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، وأنه لا يجوز المغامرة بمواجهة قوة الأمر الواقع دون استعداد كاف، كما لا يجوز التفريط في قوة الحق الثابت الأصيل، وأنه يمكن إنجاز الكثير في المسافة القائمة بين "قوة الأمر الواقع"، و"قوة الحق الأصيل" في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود.
هذا هو لب تفكير أحمد داود أوغلو، أما كيسنجر فقد كان لب تفكيره، وجوهر رسائله للأطراف العربية هو أن التيئيس من إمكانية تغيير موازين القوى القائمة على أرض الواقع، والتهوين من قوة الحق الأصيل، إلى حد طمسه والتعفية على آثاره بغبار ما كان يسميه "الواقعية السياسية"، أو "البرجماتية"، وشتان بين هذا المنطق، ومنطق أحمد أوغلو.
الدليل الثاني: أن هنري كيسنجر يعتبر من الآباء المؤسسين لنظرية "صدام الحضارات" التي بلورها صمويل هنتينجتون، ونظرية "نهاية التاريخ" التي بلورها فرانسيس فوكوياما، ونظرية الفوضى الخلاقة والحروب الاستباقية التي تبنتها إدارة بوش الابن فعليًّا خلال السنوات الماضية وأذاقت العالم الأمرين من نتائجها، فيما أحمد داود يقف على النقيض من هذه النظريات.
لقد نبه كيسنجر قبل ثلاثين عاما؛ أي سنة 1979 إلى الفكرة الأساسية التي ارتكز عليها هنتينجتون في مقولته عن "صدام الحضارات"، وأكد أن الصراع في المستقبل سيكون بين الهويات الثقافية والدينية والحضارية، وليس بين الدول القومية بحدودها وسيادتها التي ارتسمت في العلاقات الدولية منذ معاهدة وستفاليا سنة 1648.
ويبيح مفهوم كيسنجر الجديد لسيادة الدولة أن تتدخل القوى الأكبر في شئون الدول الأضعف لإجبارها على تغيير مواقفها، أو حتى حكوماتها ولو باستخدام القوة العسكرية، في إطار ما عرفته إدارة المحافظين الجدد بزعامة جورج بوش الابن بـ"الحرب الاستباقية"، وتستند فلسفة الحرب الاستباقية على فكرة فوكوياما عن "نهاية التاريخ"، وتجد هذه الفكرة تأصيلها إلى نظرية "الواقعية" التي برع فيها كيسنجر، وأعاد من خلالها الاعتبار للمبدأ الروماني القديم الذي يقول "القوة تخلق الحق وتحميه"، ومن ثم أكد صاحب نظرية نهاية التاريخ على أن "استخدام القوة هو الحكم النهائي في العلاقة بين دول التاريخ، ودول ما بعد التاريخ؛ على الرغم من الدرجة المتزايدة من الاعتماد المتبادل في المجال الاقتصادي".
وإلى أفكار كيسنجر وكتاباته ترجع أيضا نظرية "الفوضى الخلاقة" التي تبناها المحافظون الجدد في عهد بوش، وكان كيسنجر قد تبنى نظرية "التفكيك وإعادة البناء" باستبدال بعض الدول أو الكيانات القائمة بدويلات أصغر تتحارب مع بعضها؛ بهدف تسهيل تحقيق أهداف الأمن القومي الأمريكي.
وفي ضوء هذه الأفكار المركزية التي أسهم في وضعها كيسنجر نفهم بوضوح كيف تبرر السياسة الأمريكية فرض العولمة على العالم، ولو بالقوة، لمنع أي بديل حضاري آخر يبدو منه تهديد للنظام الذي انتهى إليه التاريخ بحسب نظرية فوكوياما؛ هذه النظرية التي تجد جذورها لدى كيسنجر ذاته، وكتابات كيسنجر مثل: (مفهوم السياسة الخارجية الأمريكية، والدبلوماسية من القرن 7 إلى القرن 17، وهل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية: نحو دبلوماسية للقرن 21، ..إلخ) لا تزال مرجعا أساسيا لتلك الأفكار التي تجد طريقها للتطبيق في السياسة الأمريكية بين الحين والآخر، ولا يزال هو شخصيا يحظى باحترام بالغ في أوساط صناع السياسة الأمريكية ومراكز أبحاث الأمن القومي فيها، وقد حصل من أحدها، وهو معهد واشنطن لشئون الشرق الأدنى في السادس من أكتوبر 2008 على جائزة رجل دولة من الطراز الأول.