منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#60909
عادة ما يتهم معارضو قرض صندوق النقد أنهم لا يطرحون بدائل حقيقية أو قابلة للتنفيذ وأن القرض هو دواء مر بالفعل ولكن لداء قاتل يواجه الاقتصاد المصرى، وهو تضاؤل الاحتياطيات وتفاقم وضع ميزان المدفوعات وعدم قدرة الجهاز المصرفى على سد العجز الضخم فى الموازنة العامة بالإضافة إلى فقدان المستثمرين الأجانب للثقة فى الاقتصاد المصرى. ويدفع بأن القرض ليس حلا وحده لهذه المشكلات لأن مبلغه صغير بالفعل (٤.٨ مليار دولار) ولكنه شهادة بتعافى الاقتصاد المصرى من ناحية، ومفتاح لمزيد من الاقتراض لسد العجز فى ميزان المدفوعات من ناحية أخرى. ويحاول هذا المقال الإجابة على السؤال العتيد: هل هناك بدائل عملية وحقيقية لقرض الصندوق؟

فلنبدأ بتشخيص الداء، إن الاقتصاد المصرى يعانى من أزمة مالية قبل كل شئ، فالاقتصاد الحقيقى من قطاعات إنتاجية سلعية أو خدمية كما هى، وبنيته الأساسية وموارده البشرية كما هى بعد سنتين من الاضطراب السياسى والاجتماعى الشديد، ولكن اقتصاده المالى ممثلا بالأساس فى الاحتياطى النقدى الأجنبى اللازم لتوفير الواردات الأساسية من غذاء ووقود ومدخلات إنتاج كذلك متضرر بشدة من جراء تراجع نشاط السياحة وجفاف التدفقات الرأسمالية الأجنبية رغم ثبات الصادرات وحصيلة قناة السويس وتضاعف تحويلات العاملين بالخارج. وبجانب مشكلة الاحتياطيات الأجنبية ثمة عجز فى الموازنة يتزايد نتيجة التوسع فى الأجور والإبقاء على دعم الوقود والغذاء مع تراجع الإيرادات الضريبية نتيجة التباطؤ الاقتصادى، وانخفاض معدلات النمو. والسبيل الوحيد لكسر هذه الحلقة طبقا للحكومة المصرية وأنصار القرض هو توفير تدفقات رأسمالية كبيرة على المدى القصير فى صورة قروض من صندوق النقد والمؤسسات المالية الأخرى لسد العجز ودعم الاحتياطيات على أمل أن يشجع هذا المستثمرىن المحليىن والأجانب على ضخ أموالهم، ومن ثم يعود الاقتصاد للنمو، ويعود لمراكمة الاحتياطيات الأجنبية من أنشطته التصديرية والسياحة ورؤوس الأموال الأجنبية.

إن ثمة فجوة منطقية فى هذا الطرح، مفهوم أن القرض وما يليه من قروض أخرى سيسد العجز ويحقق استقرارا مؤقتا فى الاحتياطيات، ولكن ما هو الضامن أن قرض الصندوق سيحقق الاستقرار السياسى والاجتماعى اللازم لتوليد نمو مرتفع للاقتصاد، كيف سيؤدى قرض الصندوق وحده لعودة السياحة؟ أو لتشجيع المستثمرين لضخ أموالهم للاستثمار المباشر فى مصر؟ فى مواجهة استمرار الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ كيف سيحدث الاستقرار المالى على المدى المتوسط مع عجز الحكومة عن اتخاذ أية إجراءات جدية لزيادة الإيرادات (رأينا الضرائب التى فرضت وتم التراجع عنها مرارا فى الشهور القليلة الماضية) أو لخفض النفقات (منظومة البوتاجاز التى لا تطبق أبدا والمخاوف الكبيرة من رفع أسعار السولار والبنزين)؟ هل يحل قرض الصندوق شلل النظام السياسى المصرى وعجزه عن اتخاذ إجراءات اقتصادية حاسمة، لأنها بالفعل تأتى على حساب القاعدة الشعبية الأوسع من الجمهور المصرى الذى سيرد على هذه الإجراءات بمعاقبة الحكومة بالاحتجاج تارة وبالتصويت ضد الحزب الحاكم تارة أخرى.

إن القرض دواء لداء وهو الاختلال المالى والحاجة لإعادة الهيكلة، وإعادة الهيكلة منفصلة عن القرض فى حد ذاته لأنها مرتبطة بالإجراءات المقترحة أدناه للسنة المالية القادمة:

١ـ إعادة هيكلة دعم الوقود بما يكفل تخفيضه عن طريق تحرير أسعار الوقود للصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، ومستخدمى البنزين ٩٢ مع استهداف الدولة للممارسات الاحتكارية لرفع السعر من جانب صناعات الأسمنت والأسمدة والحديد والصلب والزجاج وغيرها حتى تتحمل هذه الصناعات ارتفاع التكلفة فى أرباحها المرتفعة أصلا مقارنة بالمعدلات العالمية، ومع ضمان الدولة لطرح عدد من السلع الأساسية الغذائية وغيرها بأسعار منخفضة لفقراء المدن والريف حتى لا ينتقل العبء إليهم. ومن المنتظر أن ينعكس خفض دعم الوقود كذلك على العجز فى الميزان التجارى وميزان المدفوعات لأن الوقود المستورد المدعوم بطبيعة الحال يبلغ حوالى خمس الواردات (١٠ مليارات دولار تقريبا).

٢ـ تثبيت بند الأجور فى الموازنة العامة للدولة وذلك عن طريق التفاوض مع النقابات المستقلة الممثلة لمطالب رفع الأجور فى جهاز الدولة وبالقطاع العام، ووضع جداول بزيادات الأجر على مدى السنوات الثلاث القادمة تلتزم بها الدولة من ناحية، وتوفر للدولة مساحة للتنفس من الضغوط المالية من ناحية أخرى.

٣ـ تحويل بعض المبالغ المتحققة من تخفيض دعم الوقود إلى الاستثمار العام فى البنية الأساسية وفى الموارد البشرية بما لهذا من أثر فى تنشيط الطلب الكلى فى وقت يعانى فيه الاقتصاد من الكساد، وبما يحقق عائدا على المدى المتوسط فى صورة معدلات نمو أعلى لعدد أوسع من المواطنين المستفيدين.

٤ـ إعادة هيكلة الإيرادات العامة بالتوسع فى فرض الضرائب التصاعدية على الدخل، وضرائب رأسمالية (كتلك التى حاولت الحكومة اتخاذها ثم تراجعت عنها كالعادة على توزيع الأرباح بالبورصة علاوة على الأرباح الصناعية والتجارية)، مع مراعاة القطاعات التى تعانى من الركود فى الوقت الحالى، وفرض ضرائب ملكية كالضرائب العقارية.

٥ـ أما بالنسبة للاحتياطيات فيكون الهدف هو ترشيد استهلاكها بقصرها على تمويل الواردات الأساسية فحسب من غذاء ووقود لحين تعافى الاقتصاد وخاصة قطاعى السياحة والاستثمار الأجنبى حتى يمكن البدء فى مراكمة احتياطيات جديدة فى خلال السنة المالية القادمة، ويستوجب هذا تخلى المركزى عن استخدام الاحتياطيات لدعم الجنيه فى مواجهة الدولار، والاستعاضة عن هذا بضمان الدولة لأسعار السلع الأساسية كما سبقت الإشارة باعتبار أن هذا كفيل بخفض معدلات التضخم للفئات الأشد حساسية فى الريف والمدينة، ويستوجب هذا كذلك إعادة جدولة سداد فوائد وأقساط الدين الخارجى لسنة أو أكثر بما يخفف من العبء على الاحتياطيات كذلك.

إن هذه الإجراءات مؤقتة لتخطى الأزمة المالية فى شقيها الماسين بالاحتياطى الأجنبى وبالعجز فى الموازنة وميزان المدفوعات، ولكن نجاحها على المدى المتوسط مرتهن تماما بالتوصل لاتفاقات سياسية تنجز قدرا من الاستقرار السياسى والاجتماعى باستيعاب الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات من ناحية، وبتمثيل المصالح السياسية المختلفة بشكل مؤسسى وديمقراطى وتعددى مرة أخرى، بدلا من الرهان على إعادة بناء أجهزة الدولة القمعية وتسخيرها لمشروع هيمنة سياسية لن ينجح أبدا لأنه يستند إلى الاستيلاء على دولة منهارة إداريا واقتصاديا ومفتقدة لأى شرعية سياسية من قطاعات مؤثرة فى المجتمع. وحده الاستقرار السياسى والاجتماعى سيعطى الاقتصاد المصرى شهادة بالتعافى تجذب الاستثمار المحلى والأجنبى وتعيد معدلات نمو مرتفعة تضمن مراكمة احتياطى نقدى أجنبى يفى بحاجات البلاد بدلا من التسول أو القبول بمنح صنع السياسات المالية والنقدية لجهات مالية عالمية.

--------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، 22/4/2013