النظام الرأسمالي العالمي: التنمية بالدَيْن أم غائلة الجوع؟
مرسل: الخميس إبريل 25, 2013 11:04 am
قبل أيّام، في التعليق على افتتاح قمّة مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى في منتجع "سي آيلاند" الأمريكي، تجرّدت افتتاحية صحيفة الـ "غارديان" البريطانية من الوقار الأنغلو ـ ساكسوني الأثير، وذهبت إلى المقارنة الساخرة أو المفارقة السوداء كما يمكن القول: هذه الجزيرة الفخمة المنعزلة التي يهجع إليها عادة كبار مليارديرات أمريكا، وإليها تقاطر رؤساء ورؤساء حكومات الـ G8، يحدث أيضاً أنها المكان المصطفى لتكاثر نوع نادر من السلاحف البحرية ذات الرؤوس الضخمة، المحميّة بموجب القانون لأنها مهددة بالانقراض!
وكاتب افتتاحية الـ "غارديان" قالها دون كبير اكتراث بالفوارق بين رؤوس السلاحف البحرية ورؤوس البشر من قادة أغنى أغنياء العالم: دون إنجازات ملموسة، ومراجعة لشروط العضوية ــ مثل استبدال كندا بالصين ــ فإنّ السلاحف الضخمة قد لا تكون النوع الوحيد المهدّد بالانقراض في تلك الجزيرة! والمرء، بالطبع، لا يعدم الكثير من الأسباب التي تفسّر ذهاب الافتتاحية إلى تلك الاستعارة الطريفة التي لا تخلو مع ذلك من القسوة... قسوة الحقيقة البيّنة الساطعة على سبيل المثال.
صحيح، بادىء ذي بدء، أنّ هاجس العراق يركب مستضيف القمّة الرئيس الأمريكي جورج بوش، خصوصاً بعد تسجيل "انتصار" دبلوماسي ("تاريخي" كما سيقول لك المندوب الأمريكي جون نغروبونتي!)، في تصويت مجلس الأمن بالإجماع على المشروع الأمريكي ـ البريطاني حول مستقبل العراق. ولكن هل شطب ديون العراق الخارجية أهمّ من شطب ديون العالم الثالث بأسره، وتحديداً ديون أفقر فقراء الأرض، أو معالجة فوائد تلك الديون التي لا تثقل كاهل تلك الدول فحسب، بل تقعدها وتشلّ اقتصاداتها؟
وصحيح أننا في سنة انتخابية أمريكياً، وأنّ سيّد البيت الأبيض لا يفوّت تكتيكاً أو استراتيجية من أجل إعادة انتخابه، ولكن... هل تكفي حكومة إياد علاوي (الذي تقول عنه "نيويورك تايمز" اليوم ما كان لا يجهله أحد: أنه كان يترأس مجموعات مسلحة نفّذت عمليات تخريب ضدّ مؤسسات حكومية عراقية في عهد صدّام حسين، لا يمكن للمعايير الغربية إلا أن تصنّفها في خانة العمليات الإرهابية)، أو رئاسة جمهورية غازي الياور (الذي لا يتورّع عدنان الباجه جي اليوم عن وصفه هكذا: مجرّد بائع هواتف نقّالة في الأسواق السعودية!)، لكي نقول إنّ ديمقراطية العراق اكتملت، أو توشك على الاكتمال؟
وصحيح أيضاً أنّ نشر فيروس الديمقراطية في أرجاء الشرق الأوسط كان بين أبرز الاعتبارات الإيديولوجية التي ساقها البيت الأبيض و"المحافظون الجدد" في تبرير غزو العراق، ولكن... هل يكفي إطلاق "شركة للتقدّم ولمستقبل مشترك"، وهو الفأر الذي تمخّض عنه الجبل الأمريكي وقمّة "سي آيلاند" في آن معاً، لكي يتفاخر الرئيس الأمريكي/ المرشّح لولاية ثانية بأنّ الفيروس ينتشر... انتشار النار في الهشيم؟ ألا يبدو واضحاً لكلّ ذي بصيرة أنّ هذه الحصيلة ذاتها جرى إفراغها من أيّ مضمون، حين جرى السكوت عن دعم الكبار أنفسهم لأعتى أنظمة الاستبداد العربية من جهة، وحين تُرك لهذه الأنظمة ذاتها أمر تنفيذ إصلاحاتها بنفسها... تحت ذريعة حقّ لا يُراد بها إلا الباطل: التغيير لا يمكن أن يُفرض من الخارج!
ولعلّ بين أفضل طرائق تمحيص مجريات الأمور في قمم الأغنياء، أن يلجأ المرء إلى تمحيص موازٍ، ولكن في قمم الفقراء. ففي عام 1996، صبيحة افتتاح "القمّة العالمية للأغذية" في العاصمة الإيطالية روما، كانت الإحصائية التي تخيّم على أجواء المؤتمر وتجثم فوق صدور المؤتمرين هي التالية: ميزانية منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الـ "فاو") أقلّ ممّا تنفقه تسعة من البلدان المتقدّمة على غذاء القطط والكلاب لمدة ستة أيام (لاحظوا ذلك، رجاء: ستة أيّام فقط!)، وأقلّ من 5% مما ينفقه بلد متقدّم واحد على منتجات إنقاص الوزن (الناجمة، إجمالاً، عن الإفراط في تناول الأطعمة). تلك كانت المعلومة الوحيدة الجديرة بلقب الحقيقة، في غمرة كلّ الضجيج والعجيج الذي اكتنف قمّة روما، وكلّ العويل التراجيدي على الجياع، والذي بطبيعة الحال لم يكن يسمن ولا يغني من جوع.
وفي مثل هذه الأيام، ولكن قبل سنتين، اختُتمت القمّة العالمية الثانية في المكان ذاته، ولاح أنّ إحصائية 1996 ما تزال سارية المفعول في العام 2002، وأنّ الـ 800 مليون جائع ما يزالون جائعين بالشروط ذاتها وأسوأ ربما. كذلك كان واضحاً تماماً أنّ اهتمام الغرب ينصبّ اليوم على حرب أمريكا ضدّ الإرهاب، وعلى تفكيك الخلايا النائمة التابعة لمنظمة "القاعدة"، إلى جانب مكافحة الهجرة وإحكام الحدود وتشديد إجراءات الأمن في المطارات...
وكان الدكتور جاك ضيوف، المدير العام لمنظمة الـ "فاو"، أكثر الناس ابتهاجاً بما آلت إليه نتائج قمة 1996، رغم الدموع المدرارة التي سكبها في مديح الـ 800 مليون جائع على وجه البسيطة، ورغم القتامة التامة التي عكسها تقريره عن وضع الغذاء الكوني. إنه، في نهاية الأمر، كان وما يزال بين أبرز ممثّلي الجيل الشاب من النيو ـ بيروقراطيين العالمثالثيين، ممّن تولّوا مناصب رفيعة في الهيئات الدولية بفضيلتين متكاملتين لا فضيلة ثالثة لهما: أنهم ينحدرون من أصول عالمثالثية، وأنهم يكرهون خلط السياسة بالوظيفة ويُبْدون بسالة خرافية في الدفاع عن "الطهارة" البيروقراطية ضدّ "التلوّث" الناجم عن التسييس.
في قمّة روما 1996 قرع ضيوف نواقيس الخطر، وذلك طيّ كلّ فقرة من فقرات خطاب طويل يحسده عليه القسّ المتشائم الأشهر توماس مالتوس والجمهرة العظمى من المالتوسيين الجدد. ولقد تحدّث عن سباق ضد عقارب الساعة لتدارك الإيقاع المتسارع للمجاعة الشاملة القادمة، وحسد قطط وكلاب العالم المتقدّم على ما تنعم به من تسامح حكومي وشعبي إزاء ميزانيات أغذيتها، وناح واشتكى وتباكى. ولكنه تأتأ طويلاً (إذْ لم يكن في وسعه أن يفعل غير ذلك في واقع الأمر) بصدد الاتهامات الصارخة المشروعة التي أشار إليها وسردها تقرير المؤتمر الموازي للمنظمات غير الحكومية، والذي انعقد على هيئة مؤتمر مضادّ، وطرح حزمة أسئلة هي وحدها الجديرة بالدراسة والتحليل والحلّ: هل تريد الدول المتقدمة تقديم حلول عملية واضحة لمشكلة الأمن الغذائي الدولي؟ وهل تستطيع تأمين هذا الأمن حتى إذا أرادت؟ بمعنى آخر: هل توجد صيغة عملية منظورة لمصالحة بنود اتفاقية مراكش للتجارة الدولية وتقاسم الأسواق، مع أية بنود هادفة إلى حلّ معضلات الجوع؟ وبلغة أكثر فصاحة: هل يتحمّل النظام الرأسمالي الدولي الراهن إمكانية المؤاخاة بين تخمة موضوعية يفرضها منطق السوق، وبين جوع موضوعي... يفرضه منطق السوق ذاته؟
في المؤتمر الثاني تابع جاك ضيوف قرع المزيد من نواقيس الخطر، وأعرب عن المزيد من الإحباط والخيبة والشكوى لأنّ الجوع المزمن لا يلقى سوى اللامبالاة ، ولأنّ قمّة 96 كانت قد تعهدت بخفض أعداد الجياع من 840 مليونا إلي النصف في العام 2015 كموعد أقصى، فلم ينخفض الرقم بعد ستّ سنوات إلا إلى 815؛ ولأنّ مساعدات الدول المتقدّمة والمؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وشقيقه صندوق النقد الدولي) انخفضت بمعدّل النصف بين أعوام 1990 و2000 في القطاع الزراعي تحديداً، وذلك رغم أنّ الزراعة تشكّل مصدر عيش 70% من فقراء العالم.
ثمة، إذاً، تنازع بنيوي شامل، لكي لا نتحدّث عن هوّة عضوية شاسعة واسعة، بين قمم الثراء وقمم الفاقة، ليس له من حلّ منظور ولا ملموس ما دامت أعراف النظام الرأسمالي العالمي تقتفي الدروب القديمة ذاتها، دون أن تنطوي الأحقاب على متغيّرات ذات جدوى. ومنذ 29 سنة، حين دعا الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان إلى أوّل قمّة تجمع الدول المصنّعة الأغنى، كان الهدف أقلّ طموحاً بكثير من سلسلة الأهداف المتشعبة التي باتت تُوضع على جدول أعمال زعماء العالم المصنّع. وفي واقع الأمر بات التشعّب ذاته هو الذي يحوّل هذه القمم إلى جعجعة بلا طحن، وإلى حوار بلا طائل داخل قلاع محصّنة، حيث الآذان صمّاء تماماً عمّا يدور في الشارع من صخب وعنف وتظاهرات واحتجاجات. أخلاقيات هذه القمم لم تتغيّر جوهرياً، أو هي لم تتغيّر إلا بما يناسب واقع الحال في الدول الصناعية ذاتها، وبين بعضها البعض، وليس بما يناسب مستجدات العالم الشاسع الواسع، الفقير والمدين والمتخلّف والمريض والجائع.
والأمريكي إريك د. ك. ميلبي، الذي عمل في مكتب الأمن القومي الأمريكي وشارك في التحضير لقمم الدول الصناعية بين أعوام 1987 و1993، يقول اليوم (ولكن اليوم فقط!) إنّ هذه القمم بحاجة إلى "نفضة" شاملة كاملة، من نوع يجعلها أقلّ كلفة وتكلّفاً وأكثر فائدة وجدوى. سوى ذلك قد يصبح انعقاد هذه القمم غير مختلف عن زيارة طبيب الأسنان: تذهب إليه كارهاً مرغماً، مرّة بعد أخرى! ذلك لأنه لم يعد واضحاً ما إذا كان قادة الدول الصناعية يعرفون سبب اجتماعهم على وجه الدقة، باستثناء أنهم يجب أن يجتمعوا... أيّاً كان الثمن.
وقد يقول قائل: ولكن، ثمة جدول أعمال حافل بالبنود، مثل الديون والفقر والـ "إيدز" والصراع العربي - الإسرائيلي وديمقراطية العراق وإصلاح الشرق الأوسط وأقدار منظمة التجارة الدولية والدروع الصاروخية الأمريكية وبروتوكول كيوتو حول المناخ... صحيح، ولكن كانت النتائج عجفاء هزيلة قاصرة في ختام القمم كلها بلا استثناء. فأيّ فائدة من وضع جدول أعمال كهذا الذي بحثته قمّة "سي آيلاند" مثلاً، إذا كانت الولايات المتحدة ترفض التوقيع على برتوكول كيوتو، وترفض التراجع عن مشروع الدروع الصاروخية، وترفض التنازل قيد انملة عن الضوء الأخضر الدائم الذي تمنحه إلى مجرم حرب مثل أرييل شارون، وترفض منح العراق القادم (الحرّ! السيّد! المستقلّ!) أيّة سلطة على جيش الاحتلال الأمريكي، وترفض جدولة ديون العالم الثالث، وترفض، وترفض، وترفض؟
في وسعنا، هنا إذْ تقتضي المناسبة، استرجاع مقال حزين نشره جيفري ساكس منذ سنوات قليلة في أسبوعية الـ "إيكونوميست" البريطانية، تضمّن اعترافاً مدهشاً بأنّ اعتلال اقتصاديات الكون، مقترناً بالطابع الروتيني الذي أخذت ترتديه قمم الدول الصناعية، يفرض علينا إعادة قراءة معطيات ما بعد الحرب الباردة بأسرها. والرجل أستاذ التجارة الدولية في جامعة هارفارد ومدير معهد هارفارد للتنمية الدولية وأحد آخر أبرز الأدمغة الاقتصادية الليبرالية. وهو، للإيضاح، يتميّز عن السواد الأعظم من اقتصاديي الرأسمالية المعاصرة بذلك العداء الشديد الذي يكنّه لصندوق النقد الدولي، على قاعدة أن الأسواق لا تنشأ بالدَيْن، ولا سبيل إلى إطلاق سيرورة تنمية رأسمالية حرّة حقيقية في العالم غير المصنّع قبل إخراس الأصوات التي تدعو إلى منح المزيد من الديون وجني المزيد من الفوائد.
لكنه اليوم يقترح تثوير قمم الـ G8 القادمة بحيث تصبح قمة الـ G16. لماذا؟ لأنه "حان الوقت لإضافة ثماني دول من العالم النامي"، و"إدارة نقاش معمّق يسمح بتجديد الحوار النزيه حول ما يعانيه العالم من مشكلات اقتصادية عويصة". سبحان الله! كنّا نظنّ أن المعجزة وقعت وانتهى الأمر عند سقوط جدار برلين. وكنّا نظنّ أن إيمان الليبراليين الرأسماليين بالحتمية القَدَرية للسوق ليس أقلّ من إيمان الشيوعيين بقَدَرية دكتاتورية البروليتاريا؟ وكنّا نظنّ أن صندوق النقد الدولي هو "السمكري الوحيد الذي سوف يتولّى تسليك أنابيب التنمية في العالم النامي". كنّا نظنّ ذلك كلّه، حتى أدهشنا جيفري ساكس بعبارة لاذعة ضدّ هذه المظانّ كلها، وضدّ صندوق النقد الدولي تحديداً: "كما في الحكاية العتيقة، حين تحتاج إلى سمكري جيّد فإنك لن تجده"!
... فكيف إذا لم يكن لفقراء العالم من سمكري آخر غير ذاك المقيم في منتجع فخم منعزل بعيد المنال، وسط بيوض السلاحف البحرية ذات الرؤوس الكبيرة!
وكاتب افتتاحية الـ "غارديان" قالها دون كبير اكتراث بالفوارق بين رؤوس السلاحف البحرية ورؤوس البشر من قادة أغنى أغنياء العالم: دون إنجازات ملموسة، ومراجعة لشروط العضوية ــ مثل استبدال كندا بالصين ــ فإنّ السلاحف الضخمة قد لا تكون النوع الوحيد المهدّد بالانقراض في تلك الجزيرة! والمرء، بالطبع، لا يعدم الكثير من الأسباب التي تفسّر ذهاب الافتتاحية إلى تلك الاستعارة الطريفة التي لا تخلو مع ذلك من القسوة... قسوة الحقيقة البيّنة الساطعة على سبيل المثال.
صحيح، بادىء ذي بدء، أنّ هاجس العراق يركب مستضيف القمّة الرئيس الأمريكي جورج بوش، خصوصاً بعد تسجيل "انتصار" دبلوماسي ("تاريخي" كما سيقول لك المندوب الأمريكي جون نغروبونتي!)، في تصويت مجلس الأمن بالإجماع على المشروع الأمريكي ـ البريطاني حول مستقبل العراق. ولكن هل شطب ديون العراق الخارجية أهمّ من شطب ديون العالم الثالث بأسره، وتحديداً ديون أفقر فقراء الأرض، أو معالجة فوائد تلك الديون التي لا تثقل كاهل تلك الدول فحسب، بل تقعدها وتشلّ اقتصاداتها؟
وصحيح أننا في سنة انتخابية أمريكياً، وأنّ سيّد البيت الأبيض لا يفوّت تكتيكاً أو استراتيجية من أجل إعادة انتخابه، ولكن... هل تكفي حكومة إياد علاوي (الذي تقول عنه "نيويورك تايمز" اليوم ما كان لا يجهله أحد: أنه كان يترأس مجموعات مسلحة نفّذت عمليات تخريب ضدّ مؤسسات حكومية عراقية في عهد صدّام حسين، لا يمكن للمعايير الغربية إلا أن تصنّفها في خانة العمليات الإرهابية)، أو رئاسة جمهورية غازي الياور (الذي لا يتورّع عدنان الباجه جي اليوم عن وصفه هكذا: مجرّد بائع هواتف نقّالة في الأسواق السعودية!)، لكي نقول إنّ ديمقراطية العراق اكتملت، أو توشك على الاكتمال؟
وصحيح أيضاً أنّ نشر فيروس الديمقراطية في أرجاء الشرق الأوسط كان بين أبرز الاعتبارات الإيديولوجية التي ساقها البيت الأبيض و"المحافظون الجدد" في تبرير غزو العراق، ولكن... هل يكفي إطلاق "شركة للتقدّم ولمستقبل مشترك"، وهو الفأر الذي تمخّض عنه الجبل الأمريكي وقمّة "سي آيلاند" في آن معاً، لكي يتفاخر الرئيس الأمريكي/ المرشّح لولاية ثانية بأنّ الفيروس ينتشر... انتشار النار في الهشيم؟ ألا يبدو واضحاً لكلّ ذي بصيرة أنّ هذه الحصيلة ذاتها جرى إفراغها من أيّ مضمون، حين جرى السكوت عن دعم الكبار أنفسهم لأعتى أنظمة الاستبداد العربية من جهة، وحين تُرك لهذه الأنظمة ذاتها أمر تنفيذ إصلاحاتها بنفسها... تحت ذريعة حقّ لا يُراد بها إلا الباطل: التغيير لا يمكن أن يُفرض من الخارج!
ولعلّ بين أفضل طرائق تمحيص مجريات الأمور في قمم الأغنياء، أن يلجأ المرء إلى تمحيص موازٍ، ولكن في قمم الفقراء. ففي عام 1996، صبيحة افتتاح "القمّة العالمية للأغذية" في العاصمة الإيطالية روما، كانت الإحصائية التي تخيّم على أجواء المؤتمر وتجثم فوق صدور المؤتمرين هي التالية: ميزانية منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الـ "فاو") أقلّ ممّا تنفقه تسعة من البلدان المتقدّمة على غذاء القطط والكلاب لمدة ستة أيام (لاحظوا ذلك، رجاء: ستة أيّام فقط!)، وأقلّ من 5% مما ينفقه بلد متقدّم واحد على منتجات إنقاص الوزن (الناجمة، إجمالاً، عن الإفراط في تناول الأطعمة). تلك كانت المعلومة الوحيدة الجديرة بلقب الحقيقة، في غمرة كلّ الضجيج والعجيج الذي اكتنف قمّة روما، وكلّ العويل التراجيدي على الجياع، والذي بطبيعة الحال لم يكن يسمن ولا يغني من جوع.
وفي مثل هذه الأيام، ولكن قبل سنتين، اختُتمت القمّة العالمية الثانية في المكان ذاته، ولاح أنّ إحصائية 1996 ما تزال سارية المفعول في العام 2002، وأنّ الـ 800 مليون جائع ما يزالون جائعين بالشروط ذاتها وأسوأ ربما. كذلك كان واضحاً تماماً أنّ اهتمام الغرب ينصبّ اليوم على حرب أمريكا ضدّ الإرهاب، وعلى تفكيك الخلايا النائمة التابعة لمنظمة "القاعدة"، إلى جانب مكافحة الهجرة وإحكام الحدود وتشديد إجراءات الأمن في المطارات...
وكان الدكتور جاك ضيوف، المدير العام لمنظمة الـ "فاو"، أكثر الناس ابتهاجاً بما آلت إليه نتائج قمة 1996، رغم الدموع المدرارة التي سكبها في مديح الـ 800 مليون جائع على وجه البسيطة، ورغم القتامة التامة التي عكسها تقريره عن وضع الغذاء الكوني. إنه، في نهاية الأمر، كان وما يزال بين أبرز ممثّلي الجيل الشاب من النيو ـ بيروقراطيين العالمثالثيين، ممّن تولّوا مناصب رفيعة في الهيئات الدولية بفضيلتين متكاملتين لا فضيلة ثالثة لهما: أنهم ينحدرون من أصول عالمثالثية، وأنهم يكرهون خلط السياسة بالوظيفة ويُبْدون بسالة خرافية في الدفاع عن "الطهارة" البيروقراطية ضدّ "التلوّث" الناجم عن التسييس.
في قمّة روما 1996 قرع ضيوف نواقيس الخطر، وذلك طيّ كلّ فقرة من فقرات خطاب طويل يحسده عليه القسّ المتشائم الأشهر توماس مالتوس والجمهرة العظمى من المالتوسيين الجدد. ولقد تحدّث عن سباق ضد عقارب الساعة لتدارك الإيقاع المتسارع للمجاعة الشاملة القادمة، وحسد قطط وكلاب العالم المتقدّم على ما تنعم به من تسامح حكومي وشعبي إزاء ميزانيات أغذيتها، وناح واشتكى وتباكى. ولكنه تأتأ طويلاً (إذْ لم يكن في وسعه أن يفعل غير ذلك في واقع الأمر) بصدد الاتهامات الصارخة المشروعة التي أشار إليها وسردها تقرير المؤتمر الموازي للمنظمات غير الحكومية، والذي انعقد على هيئة مؤتمر مضادّ، وطرح حزمة أسئلة هي وحدها الجديرة بالدراسة والتحليل والحلّ: هل تريد الدول المتقدمة تقديم حلول عملية واضحة لمشكلة الأمن الغذائي الدولي؟ وهل تستطيع تأمين هذا الأمن حتى إذا أرادت؟ بمعنى آخر: هل توجد صيغة عملية منظورة لمصالحة بنود اتفاقية مراكش للتجارة الدولية وتقاسم الأسواق، مع أية بنود هادفة إلى حلّ معضلات الجوع؟ وبلغة أكثر فصاحة: هل يتحمّل النظام الرأسمالي الدولي الراهن إمكانية المؤاخاة بين تخمة موضوعية يفرضها منطق السوق، وبين جوع موضوعي... يفرضه منطق السوق ذاته؟
في المؤتمر الثاني تابع جاك ضيوف قرع المزيد من نواقيس الخطر، وأعرب عن المزيد من الإحباط والخيبة والشكوى لأنّ الجوع المزمن لا يلقى سوى اللامبالاة ، ولأنّ قمّة 96 كانت قد تعهدت بخفض أعداد الجياع من 840 مليونا إلي النصف في العام 2015 كموعد أقصى، فلم ينخفض الرقم بعد ستّ سنوات إلا إلى 815؛ ولأنّ مساعدات الدول المتقدّمة والمؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وشقيقه صندوق النقد الدولي) انخفضت بمعدّل النصف بين أعوام 1990 و2000 في القطاع الزراعي تحديداً، وذلك رغم أنّ الزراعة تشكّل مصدر عيش 70% من فقراء العالم.
ثمة، إذاً، تنازع بنيوي شامل، لكي لا نتحدّث عن هوّة عضوية شاسعة واسعة، بين قمم الثراء وقمم الفاقة، ليس له من حلّ منظور ولا ملموس ما دامت أعراف النظام الرأسمالي العالمي تقتفي الدروب القديمة ذاتها، دون أن تنطوي الأحقاب على متغيّرات ذات جدوى. ومنذ 29 سنة، حين دعا الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان إلى أوّل قمّة تجمع الدول المصنّعة الأغنى، كان الهدف أقلّ طموحاً بكثير من سلسلة الأهداف المتشعبة التي باتت تُوضع على جدول أعمال زعماء العالم المصنّع. وفي واقع الأمر بات التشعّب ذاته هو الذي يحوّل هذه القمم إلى جعجعة بلا طحن، وإلى حوار بلا طائل داخل قلاع محصّنة، حيث الآذان صمّاء تماماً عمّا يدور في الشارع من صخب وعنف وتظاهرات واحتجاجات. أخلاقيات هذه القمم لم تتغيّر جوهرياً، أو هي لم تتغيّر إلا بما يناسب واقع الحال في الدول الصناعية ذاتها، وبين بعضها البعض، وليس بما يناسب مستجدات العالم الشاسع الواسع، الفقير والمدين والمتخلّف والمريض والجائع.
والأمريكي إريك د. ك. ميلبي، الذي عمل في مكتب الأمن القومي الأمريكي وشارك في التحضير لقمم الدول الصناعية بين أعوام 1987 و1993، يقول اليوم (ولكن اليوم فقط!) إنّ هذه القمم بحاجة إلى "نفضة" شاملة كاملة، من نوع يجعلها أقلّ كلفة وتكلّفاً وأكثر فائدة وجدوى. سوى ذلك قد يصبح انعقاد هذه القمم غير مختلف عن زيارة طبيب الأسنان: تذهب إليه كارهاً مرغماً، مرّة بعد أخرى! ذلك لأنه لم يعد واضحاً ما إذا كان قادة الدول الصناعية يعرفون سبب اجتماعهم على وجه الدقة، باستثناء أنهم يجب أن يجتمعوا... أيّاً كان الثمن.
وقد يقول قائل: ولكن، ثمة جدول أعمال حافل بالبنود، مثل الديون والفقر والـ "إيدز" والصراع العربي - الإسرائيلي وديمقراطية العراق وإصلاح الشرق الأوسط وأقدار منظمة التجارة الدولية والدروع الصاروخية الأمريكية وبروتوكول كيوتو حول المناخ... صحيح، ولكن كانت النتائج عجفاء هزيلة قاصرة في ختام القمم كلها بلا استثناء. فأيّ فائدة من وضع جدول أعمال كهذا الذي بحثته قمّة "سي آيلاند" مثلاً، إذا كانت الولايات المتحدة ترفض التوقيع على برتوكول كيوتو، وترفض التراجع عن مشروع الدروع الصاروخية، وترفض التنازل قيد انملة عن الضوء الأخضر الدائم الذي تمنحه إلى مجرم حرب مثل أرييل شارون، وترفض منح العراق القادم (الحرّ! السيّد! المستقلّ!) أيّة سلطة على جيش الاحتلال الأمريكي، وترفض جدولة ديون العالم الثالث، وترفض، وترفض، وترفض؟
في وسعنا، هنا إذْ تقتضي المناسبة، استرجاع مقال حزين نشره جيفري ساكس منذ سنوات قليلة في أسبوعية الـ "إيكونوميست" البريطانية، تضمّن اعترافاً مدهشاً بأنّ اعتلال اقتصاديات الكون، مقترناً بالطابع الروتيني الذي أخذت ترتديه قمم الدول الصناعية، يفرض علينا إعادة قراءة معطيات ما بعد الحرب الباردة بأسرها. والرجل أستاذ التجارة الدولية في جامعة هارفارد ومدير معهد هارفارد للتنمية الدولية وأحد آخر أبرز الأدمغة الاقتصادية الليبرالية. وهو، للإيضاح، يتميّز عن السواد الأعظم من اقتصاديي الرأسمالية المعاصرة بذلك العداء الشديد الذي يكنّه لصندوق النقد الدولي، على قاعدة أن الأسواق لا تنشأ بالدَيْن، ولا سبيل إلى إطلاق سيرورة تنمية رأسمالية حرّة حقيقية في العالم غير المصنّع قبل إخراس الأصوات التي تدعو إلى منح المزيد من الديون وجني المزيد من الفوائد.
لكنه اليوم يقترح تثوير قمم الـ G8 القادمة بحيث تصبح قمة الـ G16. لماذا؟ لأنه "حان الوقت لإضافة ثماني دول من العالم النامي"، و"إدارة نقاش معمّق يسمح بتجديد الحوار النزيه حول ما يعانيه العالم من مشكلات اقتصادية عويصة". سبحان الله! كنّا نظنّ أن المعجزة وقعت وانتهى الأمر عند سقوط جدار برلين. وكنّا نظنّ أن إيمان الليبراليين الرأسماليين بالحتمية القَدَرية للسوق ليس أقلّ من إيمان الشيوعيين بقَدَرية دكتاتورية البروليتاريا؟ وكنّا نظنّ أن صندوق النقد الدولي هو "السمكري الوحيد الذي سوف يتولّى تسليك أنابيب التنمية في العالم النامي". كنّا نظنّ ذلك كلّه، حتى أدهشنا جيفري ساكس بعبارة لاذعة ضدّ هذه المظانّ كلها، وضدّ صندوق النقد الدولي تحديداً: "كما في الحكاية العتيقة، حين تحتاج إلى سمكري جيّد فإنك لن تجده"!
... فكيف إذا لم يكن لفقراء العالم من سمكري آخر غير ذاك المقيم في منتجع فخم منعزل بعيد المنال، وسط بيوض السلاحف البحرية ذات الرؤوس الكبيرة!