- الجمعة إبريل 26, 2013 11:46 am
#60957
أوتو إدوارد ليوبولد فون بسمارك(بالألمانية: Otto von Bismarck) (1 أبريل 1815 - 30 يوليو 1898) رجل دولة وسياسي بروسي - ألماني شغل منصب رئيس وزراء مملكة بروسيا بين عامي 1862 و1890، وأشرف على توحيد الولايات الألمانية وتأسيس الإمبراطورية الألمانية أو ما يسمى بـ "الرايخ الألماني الثاني", وأصبح أول مستشار لها بعد قيامها في عام 1871، حتى عزله فيلهلم الثاني عام 1890، ولدوره الهام خلال مستشاريته للرايخ الألماني أثرت أفكاره على السياسة الداخلية والخارجية لألمانيا في نهاية القرن التاسع عشر، لذا عرف بسمارك بلقب "المستشار الحديدي".
بعد وفاته، اتخذه القوميون الألمان بطلهم القومي، كما أشاد المؤرخون بدوره كرجل دولة ساهم في الوحدة الألمانية، واستخدم سياسة توازن القوى (en) للحفاظ على السلام في أوروبا في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر.
ولد بسمارك في شونهاوزن، وهي ضيعة تمتلكها عائلته الثرية غرب برلين في مقاطعة ساكسونيا. كان والده فيلهلم فرديناند فون بسمارك (1771- 1845) مالكا زراعيا, كان ضابطا سابقا في الجيش البروسي. وكانت والدته فيلهلمينه لويزه مينكن (1789- 1839) التي تزوجها والده في بوتسدام عام 1806 تنتمي إلى عائلة ساكسونية متوسطة. وكان لبسمارك أخ وأخت.
تلقي بسمارك تعليمه في مدرستي فريدريش فيلهلم وجراوس كلوستر الثانويتين. وحين بلغ سن السابعة عشرة التحق بجامعة جيورج أوْجوست في جوتنجن, حيث قضى عاما فقط انضم خلالها إلى فيلق هانوفيرا, تم انتقل إلى جامعة فريدريش فيلهلم في برلين. وعلى الرغم من أن بسمارك كان يطمح إلى أن يصبح دبلوماسيا, إلا أنه كان ليقنع بمناصب إدارية صغيرة في آخن وبوتسدام.
تزوج بسمارك من يوهانا فون بوتكامر (1824- 1894) والتي تنحدر من عائلة نبيلة في عام 1847. وكان الاثنان يعتنقان اللوثرية التقوية. وقد أثمر زواجهما عن طفلة هي ماري وولدين هما هربرت وفيلهلم, ماتوا جميعا في مقتبل العمر.
في العام الذي تزوج فيه بسمارك اختير ليكون نائبا في المجلس التشريعي الجديد "مجلس الشورى الموحد". وهناك اكتسب شهرة كمناصر للمكلية وكسياسي محنك. وكان يدافع في كل مناسبة عن فكرة أن الملك لديه الحق الإلهي في الوجود.
وحين اندلعت الثورة في بروسيا مارس 1848 (وكانت هذه الثورة إحدى الثورات الشعبية التي اجتاحت أوروبا في ذلك العام), وكادت الثورة أن تسقط الملك فريدريش فيلهلم الرابع. ورغم أنه رفض في البداية اللجوء إلى القوة العسكرية لقمع المتمردين وإخماد نيران الثورة, إلا أنه قرر في النهاية استخدامها لإنهاء الثورة قبل استفحالها. وبعد نجاحه في إخمادها وجه وعوده إلى الحركة الليبرالية بإقرار دستور يعترف بوحدة الشعب الألماني وحقه في إنشاء دولة متحدة, وعين أحد الليبراليين وهو لودولف كام، رئيسا لوزراء بروسيا, في محاولة منه لاكتساب بعض الشعبية. غير أن الحركة الليبرالية التي قادت الثورة ما لبثت أن ضعفت في أقل من عام بسبب تنافسهم الداخلي, فعاد المحافظون إلى الحكم مرة أخرى, حين نجحوا في اكتساب دعم الملك. ورغم أن الدستور أقر إلا أنه لم يفي بالمطالب الدنيا للثوريين.
وفي سنة 1849 انتخب بسمارك لعضوية مجلس الشورى, وهو أحد غرفتي المجلس التشريعي البروسي. وفي هذه المرحلة من حياته السياسية كان بسمارك يعارض الوحدة الألمانية بحجة ان بروسيا سوف تفقد استقلالها في ذلك الاتحاد. وقد قبل تعيينه كأحد النواب في برلمان إرفورت, وهو برلمان اجتمعت فيه عدة إمارات ألمانية لمناقشة مشروع الوحدة الألمانية, إلا ان البرلمان فشل في صياغة هذا المشروع لغياب دعم أهم مملكتين ألمانيتين وهما بروسيا والنمسا.
وفي سنة 1851 عينه فريدريش فيلهلم مبعوثا إلى مجلس الاتحاد الألماني في فرانكفورت. وقد تميزت فترة الثماني سنوات التي قضاها في فرانكفورت بتغيرات هامة في آرائه السياسية. فقد تخلص من تأثيره أصدقائه المحافظين, وأصبح أكثرا اعتدالا سياسيا. وأصبح يؤمن بأن بروسيا يجب أن تتحد مع الإمارات اللمانية الأخرى لمواجهة خط النفوذ النمساوي المتزايد, وهكذا ترسخ لديه الإيمان بأمة ألمانية متحدة.
في عام 1858 أصيب الملك فريدريش فيلهلم بصدمة تسببت له بالشلل والعجز العقلي, فتولى أخوه الأمير فيلهلم الوصاية على العرش وتولي إدارة شؤون الحكم في مملكة بروسيا. وما لبث فيلهلم أن عينه سفيرا لبروسيا في الإمبراطورية الروسية. وكان تلك نقطة هامة في حياة بسمارك السياسية, حيث كانت روسيا أحد أهم جارتين سياسيتين لبروسيا (وكانت الأخرى هي النمسا). وقد عين الأمير فيلهلم الوصي على العرش, هيلموت فون مولتكه رئيسا جديدا للأركان في الجيش البروسي, وألبريشت فون رون وزيرا للحرب وأكل إليه مهمة إعادة تنظيم الجيش. وكان هؤلاء الثلاثة هم من ساهموا في تحول بروسيا في السنوات الاثني عشرة التالية.
بقي بسمارك في سانت بطرسبورج لأربع سنوات, ربطت الصداقة خلالها بينه وبين الأمير جورتشاكوف, الذي سيكون خصمه في المستقبل. وفي يونيو 1862 أرسل إلى باريس ليكون سفيرا لبروسيا في فرنسا. وبرغم بقاءه الطويل خارج ألمانيا إلا انه لم ينفصل تماما عن الشؤون الداخلية الألمانية, فقد ظل على اطلاع كامل بسبب صداقته مع رون وزير الحرب, وقد شكل الاثنان حلفا سياسيا قويا.
توج الأمير فيلهلم الوصي على العرش, ملكا على بروسيا ولقب ب "الملك فيلهلم الأول" بعد وفاة أخيه في عام 1861. وكان الملك الجديد في خلاف متزايد مع المجلس البروسي الليبرالي, وقد تفاقمت الأزمة في عام 1862 إثر رفض المجلس الموافقة على ميزانية إعادة تنظيم الجيش. لم يستطع وزراء الملك إقناع النواب بتمرير الميزانية, ولم يكن الملك على استعداد لإعطاء تنازلات. آمن فيلهلم بأن بسمارك هو الشخص الوحيد الذي يستطيع معالجة الأزمة. وحين أجمع مجلس النواب في سبتمبر 1862على رفض الميزانية المقدمة, قرر فيلهلم استدعاء بسمارك إلى بروسيا بناء على نصيحة من رون. وفي الثالث والعشرين من سبتمبر 1862 عين فيلهلم بسمارك رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية.
كان بسمارك عازما على المحافظة على هيبة الملك بإنهائه الخلاف حول الميزانية لصالح الملك, حتى لو اضطر إلى استخدام وسائل غير دستورية. وكانت وجهة نظره ان الدستور لم يفصل في حالة ما إذا فشل النواب في إقرار الميزانية, وعليه فإن ميزانية العام الماضي تظل سارية. وعليه فبناء على ميزانية عام 1861 فإن جمع الضرائب سيستمر لأربعة سنوات.
وتصعدت حدة الخلاف بين المجلس وبسمارك في السنوات التالية. ففي عام 1863 أصدر مجلس النواب قرارا يقولون فيه بعدم شرعية بقاء بسمارك في منصبه, وفي المقابل رد الملك بحل المجلس متهما إياه بمحاولة السيطرة الغير دستورية على الوزارة. ثم قرر بسمارك فرض الرقابة على الصحافة, وقد لقي هذا القرار معارضة علنية من ولي العهد الأمير فريدريش فيلهلم (الذي أصبح فيما بعد الملك فريدريش الثالث). وبرغم الانتقادات العديدة ظل بسمارك سياسيا عديم الشعبية. وقد سقط مؤيدوه في انتخابات أكتوبر 1863, التي فاز فيها الائتلاف الليبرالي (الذي يقوده حزب التقدم) بأكثر من ثلثي مقاعد المجلس. وقد طالب المجلس مرارا الملك فيلهلم الأول بإقالة بسمارك, إلا ان الملك ظل على تأييده له, خوفا منه بان يحل محل وزارة بسمارك وزارة ليبرالية.
ي عام 1871 منح بسمارك لقب "أمير فون بسمارك". وعين في نفس السنة مستشارا للإمبراطورية الألمانية الناشئة, بجانب احتفاظه بمناصبه في مملكة بروسيا كرئيس للوزراء ووزير للخارجية. وبذلك فقد كان بسمارك على درجة عالية من النفوذ والسيطرة على الشئون الداخلية والخارجية لألمانيا. وقد حدث في عام 1873 أن عزل بسمارك عن منصب رئيس الوزراء وعين مكانه ألبريشت فون رون, غير أن ذلك لم يدم طويلا فما لبث فون رون أن استقال لأسباب مرضية. وعاد بسمارك مرة أخرى ليكون رئيس للوزراء في بروسيا.
في السنوات التالية كانت أحد أهم أهداف بسمارك داخليا هو الحد من تأثير الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا. وربما كان ذلك بسبب خوف بسمارك من تأثير البابوات على المسحيين الكاثوليك الألمان واستخدامهم لفكرة عصمتهم في تحريك أتباعهم وجهة سياسية معينة, وخلق عدم استقرار عن طريق دق أسافين بين الكاثوليك والبروتستانت.
وقد حاول بسمارك دون نجاح أن يتوصل إلى تفاهم مع الحكومات الأوروبية الأخرى حين كانت هناك انتخابات بابوية جديدة في الفاتيكان. فالحكومات الأوروبية كانت ستوافق على مرشحين غير مناسبين, وسيدفعون كاردينالاتهم إلى اختيار بابا جديد غير مؤمن بفكرة التعايش بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا. وكانت بروسيا فيما عدا منطقة الراين أغلبيتها من البروتستانت, لكن كان هناك الكثير من الكاثوليك يسكنون في الولايات الجنوبية وخصوصا بافاريا. وبوجه عام فقد كان ثلث الألمان من الكاثوليك. وكان بسمارك يعتقد أن الكنيسة الكاثوليكية تحوز سلطة سياسية أكبر مما ينبغي, وكان قلقا أيضا من تكوين الحزب المركزي الكاثوليكي (وقد حدث هذا في سنة 1870).
وعلى هذا فقد بدأت حملة معادية للكاثوليكية معروفة باسم "الحرب الثقافية". فألغي القسم الكاثوليكي لوزارة الثقافة البروسية. وطرد اليسوعيون من ألمانيا في سنة 1872. وقام بسمارك بدعم اللوثرية والكنائس المعادية للكاثوليكية الرومانية القديمة. وسنت في سنة 1873 قوانين عديدة معادية للكاثوليكية الرومانية, فسمحت للحكومة الإشراف على تعليم رجال الدين الكاثوليك الرومان, وقللت من السلطات التأديبية للكنيسة. واشترطت مراسم مدنية لحفلات الزواج, التي تؤدى في الكنائس. لكن هذه الكنائس زادت من قوة الحزب المركزي الكاثوليكي, وتخلى بسمارك عن حملة "الحرب الثقافية" في عام 1878. ومات البابا بيوس في نفس العام وحل محله البابا ليو الثالث عشر الذي كان أكثر واقعية من سلفه.
وخرج بسمارك من هذه الحملة بكسب حليف جديد هو حزب الأحرار الوطني العلماني, الذي أصبح حليفا رئيسيا له في الرايخستاج. لكن في عام 1873 دخلت ألمانيا ومعظم دول أوروبا فترة "الكساد الطويل" حين انهارت سوق الأوراق المالية في فيينا, وعرفت هذه الأزمة بأزمة المؤسسين Gründerkrise. وهو الكساد الذي ضرب الاقتصاد الألماني للمرة الأولى منذ التنمية الصناعية الواسعة في الخمسينات بعد ثورة عام 1848.
ولمساعدة الصناعات المتعثرة أصدر بسمارك قرارات بإلغاء التجارة الحرة وفرض تعريفات وقائية, أضعفت الأحرار الوطنيين الذين كانوا ينادون بالتجارة الحرة والذين كان بسمارك يدعمهم منذ حملة "الحرب الثقافية". وهكذا انتهت الصلة بين بسمارك وبين الأحرار الوطنيين في سنة 1879 تقريبا. وعاد بسمارك لطلب الدعم وإنشاء الصلات مع القوى المحافظة ومن بينها الحزب المركزي الكاثوليكي.
وللحؤول دون وقوع مشاكل عنصرية بين الأقليات المختلفة مثل المجريين والنمساويين والفرنسيين, شرع بسمارك في محاولة "ألمنة" هؤلاء الذين كانوا يقطنون المناطق الحدودية الألمانية, مثل الدنماركيين في الشمال والفرنسيين في الإلزاس واللورين والبولنديين في الشرق.
ونهج بسمارك تجاه البولنديين سياسة عدائية مما ساعد ازدياد الإحساس بالتمييز القومي بين البولنديين والألمان, مما أدى إلى توتر العلاقة النفسية بينهم. وكانت فكرة بسمارك في هذا هو اعتقاده بأن الوجود البولندي في ألمانيا يمثل تهديدا للدولة الألمانية الوليدة.
وكانت من الأمور التي تثير قلق بسمارك هو ازدياد شعبية الحركة الاشتراكية في ألمانيا وانتشار أنصارها. فقرر في عام 1878 سن قوانين مناهضة الاشتراكيين. فمنعت التنظيمات والاجتماعات الاشتراكية, كما اعتقل الاشتراكيين وحوكموا في محاكم بوليسية. لكن على الرغم من ذلك فقد استمرت شعبية الاشتركيين بالتزايد, فنجحوا في الفوز بمقاعد لا بأس بها في الرايخستاج, حين رشحوا أنفسهم مرشحين مستقلين غير معلنين تبعيتهم لأي حزب, وهو ما كان يسمح به الدستور الألماني وقت ذاك.
فاتجه بسمارك إلى استخدام مبدأ "حارب عدوك بسلاحه", فشرع في التحول إلى الاشتراكية لمحاولة استرضاء الشعب وكسب تأييد الطبقة العاملة التي تمثل أغلبية الشعب الألماني. فشرع في سن قوانين تهدف إلى الإصلاح الاجتماعي, والتي تعتبر أولى القوانين الاشتراكية في أوروبا. ومن تلك القوانين التأمين الصحي على العمال في سنة 1883, التي تنص على أن يدفع العامل ثلثي مبلغ التأمين ورب العمل الثلث الباقي. ثم أضيفت قوانين التأمين ضد الحوادث في سنة 1884 ومعاشات التقاعد والتأمين ضد العجز الجسدي عن العمل في سنة 1889. كما حددت القوانين شروط عمل النساء والأطفال ونظمته إلى حد كبير. وبرغم هذه القوانين إلا أن الطبقة العاملة بقيت غير راضية عن حكومة بسمارك المحافظة.
في عام 1888 مات الإمبراطور الألماني فيلهلم الأول تاركا العرش لابنه فريدريش الثالث. لكن العاهل الجديد كان مصابا بالسرطان وقضى ثلاثة أشهر، وهي فترة حكمه، في صراع معه قبل أن يموت. فحل محله ابنه فيلهلم الثاني. وكان الإمبراطور الجديد معارضا لسياسة بسمارك الخارجية الحذرة والمترددة في التصرف., وكان يطمح نحو توسع سريع وقوي لحماية مكانة ألمانيا في العالم.
وسرعان ما أفسدت الخلافات بين فيلهلم الثاني ومستشاره جو العلاقة بينهما. وقد اعتقد بسمارك ان بإمكانه السيطرة على فيلهلم, فأبدى احتراما قليلا لسياساته في أواخر العقد الثامن. وقد حدث الشرخ النهائي بعد أن حاول بمسارك تنفيذ قوانين مكافحة الاشتراكيين في بداية عام 1890. وكانت الأغلبية البرلمانية المكونة من حزب المحافظين والحزب الليبرالي القومي على استعداد لتمديد مدة العمل بالقانون.
ولكن الخلاف حدث بشأن سماح القانون لقوات الشرطة بنفي الاشتراكيين من بلداتهم, وهي سلطة كانت تستخدم لقمع الخصوم السياسيين. ورفض الحزب الليبرالي القومي الموافقة على هذا الجزء من القانون, في حين ساند المحافظون فقط القانون إذا تم تعديله, وهددوا بعدم الموافقة على القانون لأن بسمارك لم يمنح موافقته على تعديل القانون.
وحين استمر الجدل ازداد اهتمام فيلهلم بالقضايا الاشتراكية, وخاصة معاملة عمال المناجم الذين أعلنوا إضرابهم في عام 1889, واستمر في تنفيذ سياسته النشطة في الحكومة, وكان دائما ما يقاطع بسمارك في المجلس لكي يوضح سياسته الاشتراكية. عارض بسمارك بحدة سياسة فيلهلم وعمل على تجاهلها. ورغم أن فيلهلم دعم مكافحة الاشتراكيين المعدل, حاول بسمارك دفعه إلى عدم الموافقة على هذا التعديل كلية. ولكن حين لم تنجح حجج بسمارك في إقناع فيلهلم لم يستطع التحكم في أعصابه واندفع يفصح لفيلهلم رغبته في تأجيج الصراع مع الاشتراكيين, لكي يتخذ ذلك حجة للقضاء عليهم وتحطيمهم. فأجابه فيلهلم بأنه لا يريد بدء فترة حكمه بمعركة دموية ضد رعاياه. وحين أدرك بسمارك الحماقة التي ارتكبها حاول التوصل مع فيلهلم إلى حل وسط, فوافق على سياسته الاشتراكية تجاه عمال الصناعة, بل واقترح أيضا تكوين مجلس أوروبي لمناقشة ظروف العمل يرأسه الإمبراطور الألماني.
ورغم هذا فقد أدت سلسلة الأحداث إلى زيادة الهوة بين فيلهلم وبسمارك. وشعر بسمارك بكراهية الإمبراطور وعدم تقديره له وبمحاولة مستشارية تشويه صورته لديه, فرفض التوقيع مع فيلهلم على إعلان لحماية حقوق العمال, كما كان يشترط الدستور الألماني, وقد أظهر ذلك مدى استياء بسمارك من تدخل الإمبراطور المتزايد في سلطات بسمارك الغير محدودة. وقد عمل بسمارك من خلف الكواليس على تحطيم مجلس العمل العالمي الذي كان فيلهلم يعتز به أيما اعتزاز.
وكانت آخر فصول الخلاف حين حاول بسمارك تكوين أغلبية برلمانية جديدة, فصوتت كتلته بالموافقة على قانون الاشتراكيين. أما القوى الأخرى في الرايخستاج فكانت الحزب المركزي الكاثوليكي وحزب المحافظين. أراد بسمارك تشكيل تحالف جديد مع الحزب المركزي, ودعى لودفيج فيندهورست الزعيم البرلماني إلى مناقشة إمكانية التحالف بينهما. وكانت هذه آخر مناورات بسمارك السياسية. وغضب فيلهلم لدى سماعة خبر زيارة بسمارك لفيندهورست. في دولة برلمانية يمتلك رئيس الحكومة معتمدا على الثقة التي منحهته إياها الأغلبية البرلمانية في تكوين تحالفات سياسية لدعم قرارته. أما في ألمانيا فالمستشار كان معتمدا على ثقة الإمبراطور وحده, وكان فيلهلم يعتقد بأن لديه الحق في أن يتم إبلاغه بلقاء رئيس وزرائه قبل حدوثه. وهنا انفجر فيلهلم بالغضب بعد أن أدرك استهانة بسمارك به كإمبراطور.
وللمرة الأولى أجبر بسمارك على كتابة استقالته, شجب فيها تدخل فيلهلم في الشؤون الداخلية والخارجية, ولم تنشر هذه الاستقالة إلا بعد وفاة بسمارك. وهكذا سقط بسمارك ضحية لإمبراطور صنع هو إمبراطوريته بنفسه, وأدرك أن قرار العزل على وشك الصدور.
اضطر بسمارك إلى تقديم استقالته بعد إصرار فيلهلم الثاني في عام 1890, عن عمر يناهز الخامسة والسبعين, ليخلفه في مستشارية ألمانيا ورئاسة الوزراء في بروسيا ليو فون كابريفي. لقد طرح بسمارك مثل ورقة لعب, وأعطي لقبا جديدا وهو "دوق فون لاوْنبورج", وبدأ فترة تقاعده الهادئة في ضيعته في فارتسين (الواقعة حاليا في بولندا). وانتقل بعد شهر من وفاة زوجته في 27 نوفمبر 1894 إلى فريدريشسروهه بالقرب من هامبورج, منتظرا بلا جدوى خطاب استدعائه للخدمة مرة أخرى. وبمجرد خروجه من السلطة بدأ المواطنون في تمجيده, فجمعوا الأموال لبناء النصب التذكارية تخليدا له. وقد كان شهرته الواسعة في ألمانيا, فسميت العديد من المباني باسمه, وألفت الكتب عنه وحققت نجاحا كبيرا, ورسمه الكثير من الرسامين ومن بينهم فرانتس فون لينباخ وألرز.
أنفق بسمارك سنواته الأخيرة في جمع مذكراته المعنونة "أفكار وذكريات". مات في 30 يوليو سنة 1898 عن عمر ناهز الثالثة والثمانين عاما في فريدريشسروهه, حيث دفن في ضريحه المسمى ضريح بسمارك. وقد نقش على شاهد قبره الرخامي "الخادم الألماني المخلص للقيصر فيلهلم الأول".
بعد وفاته، اتخذه القوميون الألمان بطلهم القومي، كما أشاد المؤرخون بدوره كرجل دولة ساهم في الوحدة الألمانية، واستخدم سياسة توازن القوى (en) للحفاظ على السلام في أوروبا في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر.
ولد بسمارك في شونهاوزن، وهي ضيعة تمتلكها عائلته الثرية غرب برلين في مقاطعة ساكسونيا. كان والده فيلهلم فرديناند فون بسمارك (1771- 1845) مالكا زراعيا, كان ضابطا سابقا في الجيش البروسي. وكانت والدته فيلهلمينه لويزه مينكن (1789- 1839) التي تزوجها والده في بوتسدام عام 1806 تنتمي إلى عائلة ساكسونية متوسطة. وكان لبسمارك أخ وأخت.
تلقي بسمارك تعليمه في مدرستي فريدريش فيلهلم وجراوس كلوستر الثانويتين. وحين بلغ سن السابعة عشرة التحق بجامعة جيورج أوْجوست في جوتنجن, حيث قضى عاما فقط انضم خلالها إلى فيلق هانوفيرا, تم انتقل إلى جامعة فريدريش فيلهلم في برلين. وعلى الرغم من أن بسمارك كان يطمح إلى أن يصبح دبلوماسيا, إلا أنه كان ليقنع بمناصب إدارية صغيرة في آخن وبوتسدام.
تزوج بسمارك من يوهانا فون بوتكامر (1824- 1894) والتي تنحدر من عائلة نبيلة في عام 1847. وكان الاثنان يعتنقان اللوثرية التقوية. وقد أثمر زواجهما عن طفلة هي ماري وولدين هما هربرت وفيلهلم, ماتوا جميعا في مقتبل العمر.
في العام الذي تزوج فيه بسمارك اختير ليكون نائبا في المجلس التشريعي الجديد "مجلس الشورى الموحد". وهناك اكتسب شهرة كمناصر للمكلية وكسياسي محنك. وكان يدافع في كل مناسبة عن فكرة أن الملك لديه الحق الإلهي في الوجود.
وحين اندلعت الثورة في بروسيا مارس 1848 (وكانت هذه الثورة إحدى الثورات الشعبية التي اجتاحت أوروبا في ذلك العام), وكادت الثورة أن تسقط الملك فريدريش فيلهلم الرابع. ورغم أنه رفض في البداية اللجوء إلى القوة العسكرية لقمع المتمردين وإخماد نيران الثورة, إلا أنه قرر في النهاية استخدامها لإنهاء الثورة قبل استفحالها. وبعد نجاحه في إخمادها وجه وعوده إلى الحركة الليبرالية بإقرار دستور يعترف بوحدة الشعب الألماني وحقه في إنشاء دولة متحدة, وعين أحد الليبراليين وهو لودولف كام، رئيسا لوزراء بروسيا, في محاولة منه لاكتساب بعض الشعبية. غير أن الحركة الليبرالية التي قادت الثورة ما لبثت أن ضعفت في أقل من عام بسبب تنافسهم الداخلي, فعاد المحافظون إلى الحكم مرة أخرى, حين نجحوا في اكتساب دعم الملك. ورغم أن الدستور أقر إلا أنه لم يفي بالمطالب الدنيا للثوريين.
وفي سنة 1849 انتخب بسمارك لعضوية مجلس الشورى, وهو أحد غرفتي المجلس التشريعي البروسي. وفي هذه المرحلة من حياته السياسية كان بسمارك يعارض الوحدة الألمانية بحجة ان بروسيا سوف تفقد استقلالها في ذلك الاتحاد. وقد قبل تعيينه كأحد النواب في برلمان إرفورت, وهو برلمان اجتمعت فيه عدة إمارات ألمانية لمناقشة مشروع الوحدة الألمانية, إلا ان البرلمان فشل في صياغة هذا المشروع لغياب دعم أهم مملكتين ألمانيتين وهما بروسيا والنمسا.
وفي سنة 1851 عينه فريدريش فيلهلم مبعوثا إلى مجلس الاتحاد الألماني في فرانكفورت. وقد تميزت فترة الثماني سنوات التي قضاها في فرانكفورت بتغيرات هامة في آرائه السياسية. فقد تخلص من تأثيره أصدقائه المحافظين, وأصبح أكثرا اعتدالا سياسيا. وأصبح يؤمن بأن بروسيا يجب أن تتحد مع الإمارات اللمانية الأخرى لمواجهة خط النفوذ النمساوي المتزايد, وهكذا ترسخ لديه الإيمان بأمة ألمانية متحدة.
في عام 1858 أصيب الملك فريدريش فيلهلم بصدمة تسببت له بالشلل والعجز العقلي, فتولى أخوه الأمير فيلهلم الوصاية على العرش وتولي إدارة شؤون الحكم في مملكة بروسيا. وما لبث فيلهلم أن عينه سفيرا لبروسيا في الإمبراطورية الروسية. وكان تلك نقطة هامة في حياة بسمارك السياسية, حيث كانت روسيا أحد أهم جارتين سياسيتين لبروسيا (وكانت الأخرى هي النمسا). وقد عين الأمير فيلهلم الوصي على العرش, هيلموت فون مولتكه رئيسا جديدا للأركان في الجيش البروسي, وألبريشت فون رون وزيرا للحرب وأكل إليه مهمة إعادة تنظيم الجيش. وكان هؤلاء الثلاثة هم من ساهموا في تحول بروسيا في السنوات الاثني عشرة التالية.
بقي بسمارك في سانت بطرسبورج لأربع سنوات, ربطت الصداقة خلالها بينه وبين الأمير جورتشاكوف, الذي سيكون خصمه في المستقبل. وفي يونيو 1862 أرسل إلى باريس ليكون سفيرا لبروسيا في فرنسا. وبرغم بقاءه الطويل خارج ألمانيا إلا انه لم ينفصل تماما عن الشؤون الداخلية الألمانية, فقد ظل على اطلاع كامل بسبب صداقته مع رون وزير الحرب, وقد شكل الاثنان حلفا سياسيا قويا.
توج الأمير فيلهلم الوصي على العرش, ملكا على بروسيا ولقب ب "الملك فيلهلم الأول" بعد وفاة أخيه في عام 1861. وكان الملك الجديد في خلاف متزايد مع المجلس البروسي الليبرالي, وقد تفاقمت الأزمة في عام 1862 إثر رفض المجلس الموافقة على ميزانية إعادة تنظيم الجيش. لم يستطع وزراء الملك إقناع النواب بتمرير الميزانية, ولم يكن الملك على استعداد لإعطاء تنازلات. آمن فيلهلم بأن بسمارك هو الشخص الوحيد الذي يستطيع معالجة الأزمة. وحين أجمع مجلس النواب في سبتمبر 1862على رفض الميزانية المقدمة, قرر فيلهلم استدعاء بسمارك إلى بروسيا بناء على نصيحة من رون. وفي الثالث والعشرين من سبتمبر 1862 عين فيلهلم بسمارك رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية.
كان بسمارك عازما على المحافظة على هيبة الملك بإنهائه الخلاف حول الميزانية لصالح الملك, حتى لو اضطر إلى استخدام وسائل غير دستورية. وكانت وجهة نظره ان الدستور لم يفصل في حالة ما إذا فشل النواب في إقرار الميزانية, وعليه فإن ميزانية العام الماضي تظل سارية. وعليه فبناء على ميزانية عام 1861 فإن جمع الضرائب سيستمر لأربعة سنوات.
وتصعدت حدة الخلاف بين المجلس وبسمارك في السنوات التالية. ففي عام 1863 أصدر مجلس النواب قرارا يقولون فيه بعدم شرعية بقاء بسمارك في منصبه, وفي المقابل رد الملك بحل المجلس متهما إياه بمحاولة السيطرة الغير دستورية على الوزارة. ثم قرر بسمارك فرض الرقابة على الصحافة, وقد لقي هذا القرار معارضة علنية من ولي العهد الأمير فريدريش فيلهلم (الذي أصبح فيما بعد الملك فريدريش الثالث). وبرغم الانتقادات العديدة ظل بسمارك سياسيا عديم الشعبية. وقد سقط مؤيدوه في انتخابات أكتوبر 1863, التي فاز فيها الائتلاف الليبرالي (الذي يقوده حزب التقدم) بأكثر من ثلثي مقاعد المجلس. وقد طالب المجلس مرارا الملك فيلهلم الأول بإقالة بسمارك, إلا ان الملك ظل على تأييده له, خوفا منه بان يحل محل وزارة بسمارك وزارة ليبرالية.
ي عام 1871 منح بسمارك لقب "أمير فون بسمارك". وعين في نفس السنة مستشارا للإمبراطورية الألمانية الناشئة, بجانب احتفاظه بمناصبه في مملكة بروسيا كرئيس للوزراء ووزير للخارجية. وبذلك فقد كان بسمارك على درجة عالية من النفوذ والسيطرة على الشئون الداخلية والخارجية لألمانيا. وقد حدث في عام 1873 أن عزل بسمارك عن منصب رئيس الوزراء وعين مكانه ألبريشت فون رون, غير أن ذلك لم يدم طويلا فما لبث فون رون أن استقال لأسباب مرضية. وعاد بسمارك مرة أخرى ليكون رئيس للوزراء في بروسيا.
في السنوات التالية كانت أحد أهم أهداف بسمارك داخليا هو الحد من تأثير الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا. وربما كان ذلك بسبب خوف بسمارك من تأثير البابوات على المسحيين الكاثوليك الألمان واستخدامهم لفكرة عصمتهم في تحريك أتباعهم وجهة سياسية معينة, وخلق عدم استقرار عن طريق دق أسافين بين الكاثوليك والبروتستانت.
وقد حاول بسمارك دون نجاح أن يتوصل إلى تفاهم مع الحكومات الأوروبية الأخرى حين كانت هناك انتخابات بابوية جديدة في الفاتيكان. فالحكومات الأوروبية كانت ستوافق على مرشحين غير مناسبين, وسيدفعون كاردينالاتهم إلى اختيار بابا جديد غير مؤمن بفكرة التعايش بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا. وكانت بروسيا فيما عدا منطقة الراين أغلبيتها من البروتستانت, لكن كان هناك الكثير من الكاثوليك يسكنون في الولايات الجنوبية وخصوصا بافاريا. وبوجه عام فقد كان ثلث الألمان من الكاثوليك. وكان بسمارك يعتقد أن الكنيسة الكاثوليكية تحوز سلطة سياسية أكبر مما ينبغي, وكان قلقا أيضا من تكوين الحزب المركزي الكاثوليكي (وقد حدث هذا في سنة 1870).
وعلى هذا فقد بدأت حملة معادية للكاثوليكية معروفة باسم "الحرب الثقافية". فألغي القسم الكاثوليكي لوزارة الثقافة البروسية. وطرد اليسوعيون من ألمانيا في سنة 1872. وقام بسمارك بدعم اللوثرية والكنائس المعادية للكاثوليكية الرومانية القديمة. وسنت في سنة 1873 قوانين عديدة معادية للكاثوليكية الرومانية, فسمحت للحكومة الإشراف على تعليم رجال الدين الكاثوليك الرومان, وقللت من السلطات التأديبية للكنيسة. واشترطت مراسم مدنية لحفلات الزواج, التي تؤدى في الكنائس. لكن هذه الكنائس زادت من قوة الحزب المركزي الكاثوليكي, وتخلى بسمارك عن حملة "الحرب الثقافية" في عام 1878. ومات البابا بيوس في نفس العام وحل محله البابا ليو الثالث عشر الذي كان أكثر واقعية من سلفه.
وخرج بسمارك من هذه الحملة بكسب حليف جديد هو حزب الأحرار الوطني العلماني, الذي أصبح حليفا رئيسيا له في الرايخستاج. لكن في عام 1873 دخلت ألمانيا ومعظم دول أوروبا فترة "الكساد الطويل" حين انهارت سوق الأوراق المالية في فيينا, وعرفت هذه الأزمة بأزمة المؤسسين Gründerkrise. وهو الكساد الذي ضرب الاقتصاد الألماني للمرة الأولى منذ التنمية الصناعية الواسعة في الخمسينات بعد ثورة عام 1848.
ولمساعدة الصناعات المتعثرة أصدر بسمارك قرارات بإلغاء التجارة الحرة وفرض تعريفات وقائية, أضعفت الأحرار الوطنيين الذين كانوا ينادون بالتجارة الحرة والذين كان بسمارك يدعمهم منذ حملة "الحرب الثقافية". وهكذا انتهت الصلة بين بسمارك وبين الأحرار الوطنيين في سنة 1879 تقريبا. وعاد بسمارك لطلب الدعم وإنشاء الصلات مع القوى المحافظة ومن بينها الحزب المركزي الكاثوليكي.
وللحؤول دون وقوع مشاكل عنصرية بين الأقليات المختلفة مثل المجريين والنمساويين والفرنسيين, شرع بسمارك في محاولة "ألمنة" هؤلاء الذين كانوا يقطنون المناطق الحدودية الألمانية, مثل الدنماركيين في الشمال والفرنسيين في الإلزاس واللورين والبولنديين في الشرق.
ونهج بسمارك تجاه البولنديين سياسة عدائية مما ساعد ازدياد الإحساس بالتمييز القومي بين البولنديين والألمان, مما أدى إلى توتر العلاقة النفسية بينهم. وكانت فكرة بسمارك في هذا هو اعتقاده بأن الوجود البولندي في ألمانيا يمثل تهديدا للدولة الألمانية الوليدة.
وكانت من الأمور التي تثير قلق بسمارك هو ازدياد شعبية الحركة الاشتراكية في ألمانيا وانتشار أنصارها. فقرر في عام 1878 سن قوانين مناهضة الاشتراكيين. فمنعت التنظيمات والاجتماعات الاشتراكية, كما اعتقل الاشتراكيين وحوكموا في محاكم بوليسية. لكن على الرغم من ذلك فقد استمرت شعبية الاشتركيين بالتزايد, فنجحوا في الفوز بمقاعد لا بأس بها في الرايخستاج, حين رشحوا أنفسهم مرشحين مستقلين غير معلنين تبعيتهم لأي حزب, وهو ما كان يسمح به الدستور الألماني وقت ذاك.
فاتجه بسمارك إلى استخدام مبدأ "حارب عدوك بسلاحه", فشرع في التحول إلى الاشتراكية لمحاولة استرضاء الشعب وكسب تأييد الطبقة العاملة التي تمثل أغلبية الشعب الألماني. فشرع في سن قوانين تهدف إلى الإصلاح الاجتماعي, والتي تعتبر أولى القوانين الاشتراكية في أوروبا. ومن تلك القوانين التأمين الصحي على العمال في سنة 1883, التي تنص على أن يدفع العامل ثلثي مبلغ التأمين ورب العمل الثلث الباقي. ثم أضيفت قوانين التأمين ضد الحوادث في سنة 1884 ومعاشات التقاعد والتأمين ضد العجز الجسدي عن العمل في سنة 1889. كما حددت القوانين شروط عمل النساء والأطفال ونظمته إلى حد كبير. وبرغم هذه القوانين إلا أن الطبقة العاملة بقيت غير راضية عن حكومة بسمارك المحافظة.
في عام 1888 مات الإمبراطور الألماني فيلهلم الأول تاركا العرش لابنه فريدريش الثالث. لكن العاهل الجديد كان مصابا بالسرطان وقضى ثلاثة أشهر، وهي فترة حكمه، في صراع معه قبل أن يموت. فحل محله ابنه فيلهلم الثاني. وكان الإمبراطور الجديد معارضا لسياسة بسمارك الخارجية الحذرة والمترددة في التصرف., وكان يطمح نحو توسع سريع وقوي لحماية مكانة ألمانيا في العالم.
وسرعان ما أفسدت الخلافات بين فيلهلم الثاني ومستشاره جو العلاقة بينهما. وقد اعتقد بسمارك ان بإمكانه السيطرة على فيلهلم, فأبدى احتراما قليلا لسياساته في أواخر العقد الثامن. وقد حدث الشرخ النهائي بعد أن حاول بمسارك تنفيذ قوانين مكافحة الاشتراكيين في بداية عام 1890. وكانت الأغلبية البرلمانية المكونة من حزب المحافظين والحزب الليبرالي القومي على استعداد لتمديد مدة العمل بالقانون.
ولكن الخلاف حدث بشأن سماح القانون لقوات الشرطة بنفي الاشتراكيين من بلداتهم, وهي سلطة كانت تستخدم لقمع الخصوم السياسيين. ورفض الحزب الليبرالي القومي الموافقة على هذا الجزء من القانون, في حين ساند المحافظون فقط القانون إذا تم تعديله, وهددوا بعدم الموافقة على القانون لأن بسمارك لم يمنح موافقته على تعديل القانون.
وحين استمر الجدل ازداد اهتمام فيلهلم بالقضايا الاشتراكية, وخاصة معاملة عمال المناجم الذين أعلنوا إضرابهم في عام 1889, واستمر في تنفيذ سياسته النشطة في الحكومة, وكان دائما ما يقاطع بسمارك في المجلس لكي يوضح سياسته الاشتراكية. عارض بسمارك بحدة سياسة فيلهلم وعمل على تجاهلها. ورغم أن فيلهلم دعم مكافحة الاشتراكيين المعدل, حاول بسمارك دفعه إلى عدم الموافقة على هذا التعديل كلية. ولكن حين لم تنجح حجج بسمارك في إقناع فيلهلم لم يستطع التحكم في أعصابه واندفع يفصح لفيلهلم رغبته في تأجيج الصراع مع الاشتراكيين, لكي يتخذ ذلك حجة للقضاء عليهم وتحطيمهم. فأجابه فيلهلم بأنه لا يريد بدء فترة حكمه بمعركة دموية ضد رعاياه. وحين أدرك بسمارك الحماقة التي ارتكبها حاول التوصل مع فيلهلم إلى حل وسط, فوافق على سياسته الاشتراكية تجاه عمال الصناعة, بل واقترح أيضا تكوين مجلس أوروبي لمناقشة ظروف العمل يرأسه الإمبراطور الألماني.
ورغم هذا فقد أدت سلسلة الأحداث إلى زيادة الهوة بين فيلهلم وبسمارك. وشعر بسمارك بكراهية الإمبراطور وعدم تقديره له وبمحاولة مستشارية تشويه صورته لديه, فرفض التوقيع مع فيلهلم على إعلان لحماية حقوق العمال, كما كان يشترط الدستور الألماني, وقد أظهر ذلك مدى استياء بسمارك من تدخل الإمبراطور المتزايد في سلطات بسمارك الغير محدودة. وقد عمل بسمارك من خلف الكواليس على تحطيم مجلس العمل العالمي الذي كان فيلهلم يعتز به أيما اعتزاز.
وكانت آخر فصول الخلاف حين حاول بسمارك تكوين أغلبية برلمانية جديدة, فصوتت كتلته بالموافقة على قانون الاشتراكيين. أما القوى الأخرى في الرايخستاج فكانت الحزب المركزي الكاثوليكي وحزب المحافظين. أراد بسمارك تشكيل تحالف جديد مع الحزب المركزي, ودعى لودفيج فيندهورست الزعيم البرلماني إلى مناقشة إمكانية التحالف بينهما. وكانت هذه آخر مناورات بسمارك السياسية. وغضب فيلهلم لدى سماعة خبر زيارة بسمارك لفيندهورست. في دولة برلمانية يمتلك رئيس الحكومة معتمدا على الثقة التي منحهته إياها الأغلبية البرلمانية في تكوين تحالفات سياسية لدعم قرارته. أما في ألمانيا فالمستشار كان معتمدا على ثقة الإمبراطور وحده, وكان فيلهلم يعتقد بأن لديه الحق في أن يتم إبلاغه بلقاء رئيس وزرائه قبل حدوثه. وهنا انفجر فيلهلم بالغضب بعد أن أدرك استهانة بسمارك به كإمبراطور.
وللمرة الأولى أجبر بسمارك على كتابة استقالته, شجب فيها تدخل فيلهلم في الشؤون الداخلية والخارجية, ولم تنشر هذه الاستقالة إلا بعد وفاة بسمارك. وهكذا سقط بسمارك ضحية لإمبراطور صنع هو إمبراطوريته بنفسه, وأدرك أن قرار العزل على وشك الصدور.
اضطر بسمارك إلى تقديم استقالته بعد إصرار فيلهلم الثاني في عام 1890, عن عمر يناهز الخامسة والسبعين, ليخلفه في مستشارية ألمانيا ورئاسة الوزراء في بروسيا ليو فون كابريفي. لقد طرح بسمارك مثل ورقة لعب, وأعطي لقبا جديدا وهو "دوق فون لاوْنبورج", وبدأ فترة تقاعده الهادئة في ضيعته في فارتسين (الواقعة حاليا في بولندا). وانتقل بعد شهر من وفاة زوجته في 27 نوفمبر 1894 إلى فريدريشسروهه بالقرب من هامبورج, منتظرا بلا جدوى خطاب استدعائه للخدمة مرة أخرى. وبمجرد خروجه من السلطة بدأ المواطنون في تمجيده, فجمعوا الأموال لبناء النصب التذكارية تخليدا له. وقد كان شهرته الواسعة في ألمانيا, فسميت العديد من المباني باسمه, وألفت الكتب عنه وحققت نجاحا كبيرا, ورسمه الكثير من الرسامين ومن بينهم فرانتس فون لينباخ وألرز.
أنفق بسمارك سنواته الأخيرة في جمع مذكراته المعنونة "أفكار وذكريات". مات في 30 يوليو سنة 1898 عن عمر ناهز الثالثة والثمانين عاما في فريدريشسروهه, حيث دفن في ضريحه المسمى ضريح بسمارك. وقد نقش على شاهد قبره الرخامي "الخادم الألماني المخلص للقيصر فيلهلم الأول".