منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#61000
منذ الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 وسياسة الولايات المتحدة تتمحور حول ثالوث مقدس، هو النفط وإسرائيل ومحاربة الشيوعية... وتتخذ حماية هذا الثالوث وسائل شتى منها المعونة الاقتصادية والثقافية والتعليم والتجسس والتخريب، وممارسة الأدوات الدبلوماسية واستعراض القوة العسكرية بشكل أو بآخر إن لزم الأمر، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي كما ذكرنا حل محل الضلع الثالث في هذا العالم الخطر العربي والإسلامي بدلا ً من الشيوعية, بالرغم من أن الكثير في العالم العربي كان ينظر للولايات المتحدة في الماضي البعيد نظرة أكثر محبة وقبولا من الإمبراطوريات الاستعمارية، مثل فرنسا وبريطانيا والدول الاستعمارية الأوروبية الأخرى، على اعتبار أن الولايات المتحدة لم تمارس استعمارا لدول المنطقة في السابق كما أن السياسة التقليدية للولايات المتحدة "مبدأ مونرو" كانت تقوم بالعزلة وتجنب أمريكا الخوض في الصراعات في البلدان الأخرى...
غير أن هذه السياسة كما يقول "ريموندهير" السفير السابق للولايات المتحدة في القاهرة "الخط الفاصل بين العلاقات الأمريكية مع الشرق الأوسط وبين قبولنا بعد الحرب للمسؤولية على قاعدة عالمية أو على قاعدة القوى العظمى
ولم يكن انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات من هذا القرن تفكك دولة بقدر ما كان سقوط مبدأ ونهايته دوليا ً وعالميا ً، وذلك أن الصراع الذي نشب بعد الحرب العالمية الثانية بين المعسكر الغربي بزعامة أمريكا, والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي, وهو الصراع الذي أطلق عليه (الحرب الباردة) لم يكن صراعاً دوليا ً بين معسكرين وحسب، و إنما كان الصراع بين مبدأين الرأسمالية والاشتراكية, ولم تقتصر ساحة هذا الصراع على أوروبا وحدها ، وإنما تجاوزتها إلى العالم بأسره وقد انتهى هذا الصراع بانهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه إلى دول, و بسقوط المبدأ الاشتراكي الماركسي كنظام وكطريقة للعيش بالنسبة لهذه الدول وشعوبها وانتهاء الاشتراكية الماركسية من الناحتين الدولية والعالمية، كان طبيعيا ً أن تعتبر أمريكا والمعسكر الغربي بوجه عام هذا الانهيار انتصار للمبدأ الرأسمالي، كنظام وكطريقة للعيش و أن يبالغ معتنقو الرأسمالية في وصف هذا الانتصار, لدرجة أن الفيلسوف الياباني فوكوياما اعتبره نهاية التاريخ, وكل الدول التي كان يربطها علاقات مع المعسكر الشرقي سوف تدفع الثمن.
فقد شهدت البيئة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تغيرات جذرية في أنظمة الحكم الشمولية في أوروبا
الشرقية والاتحاد السوفيتي, وتحول أغلبها إلى الديمقراطية الليبرالية على النمط الغربي.
وهذه الثورة الديمقراطية كما وصفها البعض أدت إلى تدعيم الاتجاه نحو التغيير والإصلاح لدى حكام النظم الشمولية في مختلف بلدان العالم الثالث، بما فيها العالم العربي مع اختلاف في الدرجة, وتدعيم هذا الاتجاه أيضاً لدى القوى والاتجاهات المعارضة التي تطالب بالحرية وبحقها في التنظيم والتعبير والمشاركة السياسية والمنافسة على كسب رضا الرأي العام والوصول إلى السلطة, وينطبق هذا بصورة واضحة وبدرجات مختلفة على كثير من بلدان العالم العربي
فعندما كانت النظم السياسية الحاكمة في دول المنظومة الاشتراكية تتساقط الواحدة تلو الأخرى, بدا واضحا ً أن النظام العالمي الذي قام على أنقاض الحرب العالمية الثانية في سبيله إلى الزوال، مفسحاً الطريق أمام مخاض لنظام عالمي جديد، ولم تقتصر معالم تأثيره في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية على تلك التغيرات المتعلقة بالتوازنات السياسية والعسكرية والاقتصادية، بين وحدات النظام بل امتد تأثيرها على جوهر النظام ذاته, وطبيعة الوحدات التي يتشكل منها والآليات التي تحكم حركتها الاقتصادية والاجتماعية
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي 1991 وإخراج العراق من الكويت في نفس العام، انفردت الولايات المتحدة بهيمنة شبه مطلقة على العالم وقد ظهرت النتائج التالية:
1) تفكك دول حلف وارسو وتأهيل العديد من أعضائه لدخول حاف الأطلسي والسوق المشتركة
2) تعزيز قدرات الاقتصاد الأمريكي بحيث أصبحت أمريكا تنتج 25% من حجم الناتج الإجمالي في العالم كله وتحتكر وحدها 20% من التجارة العالمية.
وقد استطاعت أن تقيم تكتلات اقتصادية متعددة مثل منظمة النافتا وتشمل كندا والولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك ... وقد طورت العمل لكي تصبح القارة الأمريكية شمالها وجنوبها منطقة تجارية واحدة في عام 2005 بالإضافة إلى تكتل المحيط الهادي.
3) فرضت موقفها على منظمة التجارة العالمية وألزمت الدول المنتمية لها، بفتح الأسواق للتجارة الحرّة وعقوبات للدول التي لا تفتح أسواقها ،ممكّنة اقتصاديات الدول الصناعية السبع على التحكم باقتصادات الدول النامية في العالم بطريقة غير عادلة.
4) تطويع المنظمات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لخدمة مصالحها وفرض الشروط على الدول المستفيدة من هذه المؤسسات بطريقة تحكمية .
5) السيطرة على مجلس الأمن واستغلاله لفرض القرارات التي تريدها كما حصل في القرارات التي صدرت على العراق، واستخدمت القوة المسلحة والحصار لتنفيذها في حين لم تقم ضد إسرائيل بأي فعل يلومها لتنفيذ القرارات الدولية بل استخدمت الفيتو لصالح إسرائيل وأظهرت ازدواجية المعايير.
6) أدخلت مفاهيمها في مسألة حقوق الإنسان والديمقراطية والإرهاب والمسائل الإنسانية، لتفرض على الدول التي لا تنسجم مع مصالحها عقوبات زجرية مثل فرض الحصار على ليبيا في أزمة لوكريي – استخدام القانون الدولي الإنساني للتدخل في الصومال ... واستغلت موضوع الإرهاب لمعاقبة السودان وتوجيه ضربة عسكرية له ولأفغانستان ووضع إيران وسورية وكوريا الديمقراطية وكوبا على لائحة الإرهاب.
7) اتخاذ قرارات بالحرب خارج ميثاق الأمم المتحدة، مثل قرار حلف الأطلسي بضرب يوغسلافيا في مسألة كوسوفو والصراعات العرقية في البلقان...
8) تعاظم الإنفاق العسكري الأمريكي والتلويح بإنفاق جديد في إقامة منظومة أمريكية مضادة للصواريخ , وتعزيز الانتشار الأمريكي العسكري حول العالم.
9) إقامة اتفاقيات مثل الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان... والاتفاقية الجنائية الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، وفرض معاييرها الخاصة على العالم وربط الديمقراطية وحقوق الإنسان وقضايا أخرى وفق معاييرها على العالم.
10) فرض سيطرتها الثقافية والإعلامية ونمط الحياة الاستهلاكية لديها على العالم، تمهيدا ً لما يطلق عليه عولمة الاقتصاد والثقافة, وفرض الهيمنة على العالم
11) إفساح المجال أمم المنظومة الليبرالية لتلعب الدور الوحيد في التنمية السياسية والاقتصادية واعتبارها المثل الأوحد الذي يتوجب الإقتداء به، وأنها بلا منافس، النظام الأمثل الذي يتوجب على جميع النظم السياسية التي ترغب في النمو والتقدم والخروج من أزمتها أن تقتدي به.
12) فك الارتباط بين الأحزاب الاشتراكية في العالم، وبين الاتحاد السوفيتي حيث بدأت هذه الأحزاب في إعادة تكييف لعملها وعقيدتها، تبعا ً للظروف الاجتماعية ولتجاربها الخاصة في إطار بيئتها الداخلية والإقليمية والدولية، ومحاولتها التكيف مع هذه التغيرات الجديدة
هذا وقد اختل التوازن الاستراتيجي في العالم, وتحولت أمريكا إلى القوة المقررة وأصبحت البلاد العربية أكثر قابلية للأبتزاز، في الالتزام بالتوجهات الأمريكية "الإسرائيلية" وقد حددت إدارة (بوش) رؤيتها للإستراتيجية الأمريكية في المنطقة على الأسس الآتية:
أ‌- الالتزام بالحفاظ على تفوق "إسرائيل" النوعي
ب‌- تعزيز تطوير المنطقة "باتجاه الديمقراطية"
ت‌- تعزيز اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية.
ث‌- ترويج " إسرائيل" للنظام الشرق أوسطي من خلال مستويين فكري ورسمي.
ج‌- اشتداد هجمة المبادرات على المنطقة؛ دون أن يكون للعرب والمسلمين دور في صياغتها.
ح‌- تجاهله المتعمد لجوهر المشكلة ومنبع التفجيرات في المنطقة, وهي القضية الفلسطينية
خ‌- عدم استشارة أهل الشرق "الشرق الأوسط الكبير" حكاماً ومحكومين, ولم يؤخذ بالحسبان تاريخ الشعوب وثقافتها وتقاليدها وواقعها وتنوعها الحضاري والسياسي والديمغرافي والاقتصادي, بل نصبوا أنفسهم "رعاة" يسوقون الناس بالعصي و(الصواريخ إن لزم الأمر) إلى "جنات الديمقراطية" الموعودة
وأيضاً قد أثر انهيار الاتحاد السوفيتي على الحركات المؤيدة لها، وعدت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم، في إستراتيجيتها برنامج لقيادة العالم والهيمنة على مقدرات الشعوب عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، و وبذلك بدأت شوكة الدول العربية الداعمة للتوجه والأيديولوجية الاشتراكية وخصوصا سوريا, تضعف شيئاً فشيئاً بعد أن فقدت الدعم والمساندة التي كانت تتلقاها من المعسكر الشرقي.
فقد ترك الاتحاد السوفيتي حلفاءه يعانون من التعري الأمني والسياسي والاستراتيجي, علماً بأنه كان قادراً على فرض نوع من الحماية والأمن والتعاون الاستراتيجي في ظل الممانعة الأوروبية ولو بحدود الكثير من السياسات الأمريكية، ولعل الصراع في مجلس الأمن حول الحرب على العراق أحد الأمثلة على ذلك، وبدت روسيا للبعض في موقف المتخلي عن كل شيء, وبشكل خاص عن واجباتها, وبالتالي فرض على حلفاء الإتحاد السوفيتي السابق إعادة تقييم لدورهم وسياساتهم داخلياً وخارجياً, ولم تعد روسيا في موقع البديل للولايات المتحدة, بل أصبحت حليفاً وليس منافساً.
إذاً غياب التوازن الدولي أدى في الحقيقة إلى التخبط وسط تسارع الأحداث ومفرزاتها, وأدركت دول الجنوب خطورة غياب هذا التوازن, فتبنت موقعاً يعزز من مواقفها في مجابهة الخطر الكامن في طيات النظام العالمي الجديد, أقلها تعطيل مبررات الاستهداف في وجه الذرائعية الأمريكية, فنجد أن معظم دول الخليج سمحت للولايات المتحدة باستباحة أرضها ومائها وسمائها.
ومصر و السعودية والأردن تعتبر من الدول الصديقة والحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، ونجد كلمة أصدقائنا العرب في الخطاب السياسي الأمريكي تستعمل للإشارة إلى هذه الدول, وقامت الجماهيرية العربية الليبية طوعا ً, بتقديم برامجها العسكرية للولايات المتحدة (لدرء شرها) وبقيت سورية من الدول التي رفضت الهيمنة الأمريكية وعدم الانصياع للأوامر والتعليمات والخطط الرامية لتمزيق الأمة العربية، وهضم الحقوق السورية في إعادة هضبة الجولان, وعدم تقديم الدعم الكافي للولايات المتحدة في المستنقع العراقي, هذا بالإضافة لوقوفها الصامد مع القضية الفلسطينية وحزب الله في صده لإسرائيل, وحركة حماس من خلال مكاتبها في دمشق (وهنا بيت القصيد) فإذن لم تقم بتعطيل مبررات استهدافها في وجه الذرائعية الأمريكية
وما نشهده من ضغوط أمريكية متواصلة على سورية هو نتيجة لهذا الموقف السوري الصلب.

أيضاً لقد أثر انهيار الاتحاد السوفيتي نتيجة وجود ارتباط إيديولوجي بين نظام الحزب الواحد الحاكم في سورية, وبين نظام الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية على الأوضاع السياسية داخل سورية، فبمجرد انهيار الأحزاب الحاكمة في الدول المعنية شكل هذا الانهيار ضربة لنظام الحزب الواحد في سورية من حيث أسانيده الأيديولوجية وصدقيته السياسية.
كما أدى تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار منظومته الفكرية إلى جعل المسألة تتحرر من عائقين كانا يحولان دون طرحها بشكل جذري في أغلب هذه الدول.
الأول : انهيار الاتحاد السوفيتي نفسه, وفشل تجربته في تحقيق التنمية السريعة والمتكاملة لصالح أوسع عدد من الجماهير الشعبية, مع هذا الفشل انهارت كل الآمال التي كانت متعلقة على نجاح التجربة الأم، أو هو ما أدى من جهة أخرى إلى انهيار الطروحات التي كانت تستبعد أو تؤجل الديمقراطية السياسية باسم الديمقراطية الاجتماعية أو باسم التنمية الشاملة، بل على العكس أصبح ينظر للديمقراطية على أنها الإطار الصحيح للتنمية.
و إذا كانت هذه السمات مشتركة لدى معظم دول العالم الثالث, فإن سوريا حملت معها سمة إضافية تمثلت في بروز الفكر القومي, فالخطاب السياسي السوري عموماً حمل في طياته الطابع القومي, فقد كان من أولويات هذا الخطاب التركيز على إقامة الدولة العربية الواحدة ومن ثم اختيار نظام الحكم المناسب لها, وبالتالي فإن المطلب الديمقراطي في المنطقة العربية تأخر مرّة باسم الاستقلال ومرّة باسم التنمية وأخرى باسم الوحدة
الثاني: وهو ناتج عن فشل النموذج السوفييتي وانسحابه كمنظومة سياسية وعسكرية وفكرية من ساحة العمل الدولي كقطب منافس للنموذج الغربي, وهو ما أفسح المجال في النهاية أمام النموذج الأخير للعمل على إثبات صحة مقولاته وإعادة صياغتها بما يجعلها تتلافى عيوبها.

ومن هنا ظهرت بعض الدراسات التي تفرق بين الرأسمالية بطابعها المتوحش وبين الليبرالية كنموذج للتنمية، مع التأكيد على إمكانية تجاوز الليبرالية لسلبياتها من خلال انتقالها إلى عدد من الأشكال والمراحل من الكلاسيكية إلى الرفاه إلى دولة إعادة التوزيع
ومن ناحية أخرى فقد أدى تفكك الاتحاد السوفيتي إلى تضاؤل هامش المناورة السياسية الذي كانت تتمتع به سورية أثناء حقبة القطبية الثنائية, فلم تعد روسيا تشكل بديلاً أمام سورية سواء للدعم السياسي أو المعونة الاقتصادية والعسكرية
كما أن عملية انهيار الاتحاد السوفيتي أسهمت في عملية التطور الديمقراطي في الوطن العربي بشكل غير مباشر، من خلال تحرير السياسة الأمريكية من أحد ثوابتها خلال الحرب الباردة, والمتمثل في دعم ومساندة أي نظام سياسي معاد للاتحاد السوفيتي, بغض النظر عن طبيعته, ما جعلها في كثير من الأحيان تدعم نظماً تسلطية استبدادية لتحقيق المصالح على المبادئ والشعارات
و من أهم التحولات الفكرية العالمية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي, بزوغ معايير عالمية جديدة واسعة من القيم وأهمها قيم الديمقراطية والحكم الجيد وحقوق الإنسان, وفي ضوء هذه المعايير تصنف الدول في كل لحظة ويتحرك ترتيبها صعوداً أو هبوطاً على سلم التكيف والقبول العالمي ويتقرر طبقاً لذلك مدى حاجتها إلى الإصلاح والتجديد , ولا بد من الإشارة هنا, أن هذا الإصلاح ليس من الضرورة أن يأتي من خارج حدود الدولة, فمجيء الإصلاح على يد قوى من داخل المؤسسات والأحزاب الحاكمة ظاهرة عامة, وربما كان من ابرز مظاهرها المعاصرة ، عمليات الإصلاح والتغيير الشامل التي عرفتها دول الكتلة الشرقية نفسها , في تحولاتها تجاه الديمقراطية بما فيها ( روسية الاتحادية ) فقد جرى الإصلاح الليبرالي على يد قيادات وعناصر كانت هي نفسها أعضاء وكوادر في الحزب الشيوعي مما يؤكد أن سورية قادرة على السير قدماً في تحقيق عملية الإصلاح السياسي وحدها إذا سمحت لها الظروف, فهي ليست بحاجة إلى إصلاح يفرض عليها من الخارج، وفي سورية قناعة كبيرة أن الولايات المتحدة لا تهمها مطلقاً حياة أو موت أي مواطن عربي لكن في المقابل تهمها مصالحها ومصالح ربيبتها إسرائيل.

والمفارقة تبدو في أن سورية كانت دائماً من دعاة التغير والتطوير, وتعودنا على عدّ أمريكا عقبة أمام ذلك التغيير بسبب دعمها المستمر للأوضاع القائمة، فإذا بالأيام تنقلب علينا حتى بتنا نرى أمريكا تسعى لتغير أحوالنا بدءاً من هوية حكامنا وحتى مضمون مناهجنا الدراسية
فأمريكا عودتنا أن مصالحها تجعل (صديق اليوم عدو الغد) فما أن انهار الاتحاد السوفيتي حتى غيرت الولايات المتحدة سياستها تجاه سورية والمنطقة العربية بشكل عام, حيث وجدت الفرصة سانحة للتدخل في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمنطقة العربية, وقد تشكل مبادرة السلام الأمريكية بعد حرب الخليج الثانية, ومؤتمر مدريد أكبر الآثار على المنطقة فقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة جورج بوش الأب ووزير الخارجية جيمس بيكر أن يجمع أطراف الصراع العربي الإسرائيلي في مدريد تحت مبدأ الأرض مقابل السلام وتطبيق القرارات الدولية 242 – 338
وبالرغم من إعلان الولايات المتحدة عن رعايتها لهذا المؤتمر وتعهدها بإيصال المنطقة إلى سلام دائم وشامل.... إلا أن هذه العملية قد تمت في فترة ضعف الأمة العربية وتمزقها بعد حرب الخليج ، وفي ظل انهيار الاتحاد السوفيتي الراعي الثاني لعملية السلام، والحليف الاستراتيجي للعرب وضمن شروط فرضتها إسرائيل على الولايات المتحدة من خلال نفوذ اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة وقد نجم عن هذا المؤتمر:
1)توقيع أتفاق وادي عربة وإضافة دولة أخرى من دول المواجهة تقيم علاقات كاملة مع إسرائيل.
2)فشل المفاوضات على المسارين السوري واللبناني
3)إقامة اللجان متعددة الأطراف برعاية أمريكا للوصول إلى اعتراف الدول العربية بإسرائيل وإقامة علاقات اقتصادية معها، قبل تحقيق السلام نتج عنه اختراق إسرائيلي تجلى بإقامة عدد من الدول العربية مكاتب تجارية مع إسرائيل.
4)التمهيد لفكرة الشرق أوسطية التي طرحها بيريز ودعمته أمريكا لإقامة الشرق أوسطية بتكريس هيمنة إسرائيل العسكرية والسياسية والثقافية والتكنولوجية على المنطقة
5)-زيادة الضغط على سورية.
لقد كان لسورية علاقات مميزة جداً مع الاتحاد السوفيتي السابق, وقد ظهرت قوة العلاقة أثناء الحرب الباردة, حيث قدم الاتحاد السوفيتي كل الدعم العسكري والسياسي لسورية في مواجهة إسرائيل ومخططات الولايات المتحدة تجاه المنطقة, وما زال الشعب السوري يذكر قوة الخطاب السياسي السوري قبل انهيار الاتحاد السوفيتي, لدرجة أن الرئيس الراحل حافظ الأسد كان يتكلم عن توازن استراتيجي مع الكيان الصهيوني, نتيجة للمكانة والقوة التي كان يتمتع بها الاتحاد السوفيتي على الساحة الدولية, وقد كان للاتحاد السوفيتي السابق دور كبير في إنعاش الاقتصاد السوري فقد كان يشتري المواد الزراعية والصناعية السورية مقابل المعدات العسكرية والتكنولوجية التي يبيعها لسورية.
لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تبدل كل شيء ووجدت سورية نفسها مهددة أمنياً واقتصاديا وإقليمياً وعالمياً, فقد ذهب الغطاء الذي كان يحميها في أروقة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية, وأطماع الولايات المتحدة, وقد ساعد ذلك غياب غطاء عربي متين يستطيع أن يسد الفراغ الحاصل بعد غياب الاتحاد السوفيتي
وقد خلف انهيار الاتحاد السوفيتي مجموعة من الآثار:
أولاً : سياسيا ً:
1)سعي الولايات المتحدة وإسرائيل على تهميش وعزل سورية إقليمياً ودولياً , وحصارها سياسياً و كيل التهم عليها, لإظهارها بمظهر الدولة التي لا تحترم مطالب المجتمع الدولي
2) تعميم السلام الإسرائيلي في أي مباحثات مقبلة والعمل على نزع الجولان المحتل وضمه لإسرائيل, أو السيطرة على مياهه على أقل تقدير
3) العمل على تصدع العلاقة مع لبنان ومحاصرة حزب الله, عن طريق أعوان أمريكية في لبنان
4) التهديد بالتدخل العسكري وغزو الأراضي السورية إذا لم تستجب سورية للمطالب الأمريكية
5) الضغط على سورية من خلال تمكين إسرائيل إقامة أحلاف وعلاقات مع دول الجوار السوري, ومحاولة تطويقها لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة في مباحثات السلام (كعلاقة إسرائيل مع تركيا)
6) العمل على فرض مزيد من الضغوطات والعقوبات على سورية كالقرار 1559 الخاص بانسحاب سورية من لبنان وتسليم سلاح حزب الله , وفرض عقوبات أمريكية مباشرة على سورية من خلال قانون محاسبة سورية, وإقامة محكمة دولية إثر اغتيال (الحريري) هدفها توريط سورية
7) العمل على ضم سورية الى مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تقوده أمريكيا و إسرائيل
8) العمل على عزل سورية عربياً من خلال أعوان وأصدقاء الولايات المتحدة من الحكام العرب
ثانياً : أمنياً:
لقد أصبحت سورية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بلداً مكشوفا ً أمنياً, وعرضه للاختراق والتجسس, وكان أكبر خطر واجهته سورية على الصعيد الأمني والعسكري بعد انهيار الاتحاد السوفيتي, هو الكشف عن أسلحتها والميزات الفنية والتعبوية والإستراتيجية للأسلحة الموجودة ومدى تطورها والكميات المتوفرة سواء السلاح الجوي اوالبري أو البحري, نتيجة انهيار المنظومة المخابراتية السوفيتية, حيث سافر إلى إسرائيل عدد كبير جداً من العلماء العسكريين الذين كانوا يعملون في ظل الاتحاد السوفيتي السابق وقد أخذت المخابرات الإسرائيلية كل تفصيل متاح حول ما تملكه سورية من أسلحة( نوع – كمية – قوة – تأثير – مدى) هذا بالإضافة إلى الطلب المباشر الذي قدمته الولايات المتحدة لروسيا بعدم مد سورية بالأسلحة المتطورة , مما
أدى إلى تراجع مستوى القوة العسكرية السورية وخصوصا ً أجهزة التنصت والرادارات والسلاح الجوي
هذا بالإضافة إلى انقطاع العلاقة مع أقوى أجهزة المخابرات العالمية مما أفقد سورية رديفاً قويا يمدها بالمعلومات والنوايا الأمريكية والإسرائيلية العسكرية تجاه سوريا
ثالثاً: اقتصادياً:
1) أخذت سورية في ظل المتغيرات الجديدة تتقبل التنازل عن جزء من سيادتها الاقتصادية لصالح السيادة الكوكبية وخلال خمسين سنة رفضت التنازل عن جزء من سيادتها الاقتصادية القطرية لصالح السيادة القومية
2) ضرورة التخلي عن الدور الأكبر للقطاع العام والاتجاه نحو الخصخصة, ويجري ذلك قسراً بحجة الإصلاح الاقتصادي تحت هيمنة المؤسسات الدولية المتمثلة بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي, والتي أصبحت منفذاً للتدخل الاقتصادي والسياسي
3) تعميق العولمة وتداخل الأطماع الأمريكية مع الأوروبية وكثرة بنود الأجندة الأمريكية والأوروبية تجاه سورية مع اختلاف في الرؤية حول عملية الإصلاح الاقتصادي داخل سورية
4) انتشار مقولة (اقتصاد السوق الحرّ) بين الطبقات السياسية والاقتصادية السورية كحل جيد لما يعانيه الاقتصاد السوري من ترد
5) صدور القانون رقم (10) الخاص بالاستثمار والذي يشجع ويعزز دور القطاع الخاص داخل سورية، وحمل راية التطوير والتحديث حيث كان الحديث عن دور كبير للقطاع الخاص داخل سورية قبل انهيار الاتحاد السوفيتي شبه معدوم