صفحة 1 من 1

وجوه علاقة المسيحية بالشرعية السياسية في الغْرب الوسيط

مرسل: السبت إبريل 27, 2013 6:41 pm
بواسطة سلطان هزازي
الكاتب / جين ألشتاين
إنّ الموضوعات التي يتضمُّنها هذا العنوان، جرى إنفاقُ ألوف الصفحات في بحثها. وسأُحاولُ أن أُوجزَ التاريخ الطويل لمسألة علاقة المسيحية بالسلطة وبشرعية النظام السياسي في العصور القديمة والوسيطة, وصولاً إلى التحديدات المتعلقة بما يجعل السلطة السياسية شرعية أو ضرورية، ومن هو الحاكم العادل والنظام الصالح؟ وماذا على المواطنين أن يفعلوا عندما تصبحُ السلطة غير ملائمة.
الفكر السياسي المسيحي: أوغسطين والقانون الأعلى: يعتبر القديس أوغسطين مؤسّساً للفكر السياسي المسيحي أو للتفكير المسيحي في شؤون الدولة. وقد كان يرى ضرورة الإفادة من "فضلأ الوثنيين", ومن "حكمة الماضي". وهذا يعني الإفادة من الأفلاطونية المُحْدثة وإقامة علاقةٍ بينها وبين اللاهوت المسيحي (وما كان أرسطوو تفكيره معروفاً له، ولا لآباء الكنيسة الأوائل). وقد كان أفلاطون يرى أنّ هناك حقائق خالدة لا ترتبط بالزمان والمكان والظروف، وهي تتحول إلى قوانين أو نواميس. وما كان أوغسطين مفكراً سياسياً بالدرجة الأولى، لكنه أراد من وراء بحوثه إظهار الجمال الإلهي، والحقيقة والرحمة الإلهية؛ وذلك بحيث تتقاربُ المملكتان: مملكة الله الأبدية، والأُخرى الأرضية التي نعيشُ فيها. فقد كان الرجل مطراناً، وكان معنياً بما يُزعج رعيته أو يفيدها في حياتها المديدة، ومن ضمن ذلك طبعاً الشأن السياسي الذي يؤثّر في الكنيسة الكاثوليكية الفتية. وهكذا فقد كان مهتماً بالحكم العادل، الذي ينظّم حياة الناس ويسعدهم فلا يكونون مثل الأسماك التي يأكل بعضُها بعضاً. وما كان الرجل حسن انطنّ بالأنظمة السائدة التي تحولت في نظره إلى عصاباتٍ تجلْب الضرر على الناس، بدلاً من منعه عنهم. وقد حدث في العصر الذي عاش فيه ذلك الامتزاج والتوتُّر بين القوانين الموروثة للدولة الرومانية، وأعراف القبائل الجرمانية، واللاهوت المسيحي الصاعد. ولننظر على سبيل الاختبار في قانون الإمبراطور جستنيان (المدوَّنة) والذي يمثّل مجموع ذلك الامتزاج، وأُنجز عام 534م. لقد اعتبر A. P. D'Entreues ذلك القانون المدوَّنة الأولى المهمّة للقانون الطبيعي، والتي اكتسبت سرياناً عالمياً. كانت هناك عناصر خاصة ببيزنطة طبعاً؛ لكنّ المدوّنين رأوا أنّ هناك مبادئ ذات صيغة إنسانية عامة وشاملة، وهي باعتبارها كذلك تعبّر عن إنسانية الإنسان، وعن الإرادة الإلهية، وعن مقتضيات الطبيعة؛ في الوقتِ نفسِه. ماذا تعني المساواة هنا؟ تعني أنّ البشر متساوون في أنهم من مخلوقات الله، وفي أنهم وقعوا منذ آدم وحواء في الخطيئة الأصلية، وأنهم منذ ذلك الحين صاروا عُرضةً للذنوب والأخطاء. ولذلك فهم يحتاجون للقانون أو بعبارةٍ أخرى يحتاجون للشريعة.
وكما كانت للقانون الطبيعي تطوراته في الإمبراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطة)، كذلك كانت هناك تطورات في الغرب. فمع تداعي الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية، ظهرت البابوية باعتبارها مرجعيةً للاستقرار وللنظام والسلام. وعبر القرون طوُّر الكهنة والرُهبان مزيجاً من القانون الطبيعي، والقانون الإلهي؛ مفترضين أنّ الأول لا يناقضُ الثاني بل يتساوقُّ معه ويهتدي به. فالكونُ من خَلْق الله، ونواميسه الأساسية موضوعةٌ من جانبه، ويسعْىَ الإنسان المؤمن للتلاؤم ضمن هذه الشريعة المزدوجة بل الواجدة من خلال العقل، وطاعة الكنيسة. وهكذا ذهب دنتريف D'Entreues إلى أنّ الرؤية السائدة في القرون الوسطى كانت أنّ الإمكانية مفتوحة للتلاؤم والتعقُّل عن الله بإشراف الكنيسة، بحيث يسودُ نظامٌ أخلاقي هدفُهُ الإنقاذُ والخلاصُ من الخطيئة الأصلية.
الملوك الدينويون وواجباتهم: الطاعة والعصيان: اعتمدتُ في عرض هذه المسألة المهمة على كتاب Fritg Kern: Kingship and Law in the Middle Ages. فهم الأوسطيون القانون باعتباره ذلك المزيج من التقاليد الجرمانية والفرنكية، والمبادئ المسيحية. وواجب الملك الإصغاء في الوقت نفسِه لتلك الأعراف، وللروح المسيحية في الوقتِ نفسه، باعتبار ذلك مُعطيات لا تخضع لإرادة الملك أو رغباته، وتحدّ بذلك بعضَ الشيء من سُلْطاته الشخصية. وقد كان حقُّ الرعايا وواجب الكنيسة التدخل لمنع اختراق الأعراف (القانون الطبيعي) والمبادئ المسيحية. وهكذا فقد كان التأكيد – ليس مثل اليوم – على الواجب (المشترك)، وليس على الحقّ. والواجب المشترك في الحفاظ على نظام الحياة والمملكة يضمُّ الرعايا والملك والكنيسة معاً. فكان من واجب الرعية إذن أن تتصدى للملك إن جرى الإخلالُ بالقانون السائد. والتصدي لا يعني المواجهة المباشرة؛ بل يشمل الصبر والترقُّب وتحمُّل المعاناة إلى أن يخرج الأمر ممن حدود الاحتمال، ويصير الحاكمُ طاغية، فتجوزُ الثورةُ، وتنحية الملك. وكما يقرر Kern فإنّ الَملَكية كانت تتضمن الشرعية أو المشروعية، وتتخلخلُ تلك الشرعيةُ بالخروج عن القانون . وهذا الفهم كان موجودُ في التقاليد السابقة على المسحية، وقد أكّدتها المسحيةُِ الأوروبيةُ الأولى؛ وبذلك في تسبق "نداء السماء" الذي تحدث عنه جون لوك . ويذهب كرى إلى أنّ هذه الفكرة تكمن وراء نوعي أو صيغتي السلطة الملكية: المطلقة والدستورية . أنما أصل نظرية السلطة المطلقة روماني، وأصل السلطة المقيدة جرماني . الأولى تتحدث عن الحقّ الألهي للملوك، فتضع السلطة الدينية تحت سيطرة السلطة الملكية. والثانية الجرمانية تفصلُ بين السلطتين الدينية والملكية، وتضعُهُا معاً تحت سيطرة القانون الطبيعي والألهي معاً . وفي ظروف الأزمات تعلو السلطة الدينية على السلطة الملكية، وتستطيع الكنسيةُ التدخٌل لحماية القانون الإلهي أو الأعلى .
توما الأكويني والنظرية الكلاسيكية للقانون الأعلى: توماس إكويناس هو الذي سيطر لا هوتُهُُ في الكنيسة الكاثوليكيةُ قروناً متطاولة، وهو مفكرٌ لا هوَيٌّ بالدرجة الأولى مثل أوغسطين؛ لكنه فيً مجموعته ضدَّ الوثنية أورد فصلاً عن "المُلّك أوسلطة الحكّام". عرف توما الإكوني الفكر الأرسطى بمر الترجمات العربية، ولذلك فقد كانت ثقافته أوسع من ثقافة أوغسطين. ولذلك فقد ذهب إلى أن الإنسان بطبعه مدنيٌّ وسياسيٌّ. لكنه لا يستطيع قضاء كلّ حاجاته أو ضرورياته منفرداً، بل يحتاج للعيش في جماعةٍ بشرية. وفي الجماعة يرتبط الأفراد من خلال المصالح المشتركة. ويأتي الحاكم الذي يكونُ من واجبه حتونُ تلك المصالح، فإن لم يفعل يصبح طاغية . فالطاغية هو من لا يراعي المصالح العامة ومقتضيات العادلة. ومثل أرسطو يعتبر توما الأكويني أن هناك عدة أشكال للحكم؛ إنما الشكل الأفضل هو الملك الذي يعتبر نفسه خادما لرعيته. وأفضل أشكال الخدمة الخضوع للقانون الطبيعة الجالب للسلام والراحة للناس. والفرق بين الملك الصالح والطاغية أو غير العادل، يكمن في الإصغاء لمصالح الرغبة، أو لرغباته الخاصة. وتوصل الأكويني لذلك للحديث عن "شرور الطغيال". كيف يسلك المسيحي تجاه الطغاة الأشرار؟ الأكويني ينصَح بالصبر على الطاغية إذا كان ظلمه محتَمَلاًُ، لأنّ التمرد قد يجلبُ شروراً أكبر. إذ لو فشل الثوار؛ فإنْ الطاغية سيصبح أكثر سوءًا. أما إذا اشتد الطغيان؛ فإنّ الأكويني يذكر أنّ بعض المفكّرين (يقصد جوب أوف سالسبوري من الذي الثاني عشر في رسالته بوليكراتيكوس) يرى ضرورة الثورة على الطاغية وقتْله وتحديد الرعية. بين أنّ الأكويني لا يقولُ بذلك؛ بل يطلب من"السلطة العامة" أن تتدخل وتُنحّي الملك. وهو لا يحّددُ تلك السلطة، ويتحدث عن الاعتصام بالله، ويشرعِنُ بذلك ما صار معروفاً من بعد باسم "الحق في الثورة". إنما ما هو معنى القانون، الذي يكونُ على الملك أن يرعاه، ويصبح طاغيةً بالخروج عليه؛ الأكويني يسميه "الصالح العامّ"، وهو مسؤوليةُ الشعب كلّه، أو مَنْ يمثّل الشعب ومصالحه. وهو ثلاثة أنواع: القانون الأبدي، والقانون الطبيعي، والقانون الإنساني. ثم يجعل الأمر أكثر تعقيداً عندما يتحدث عن القانون الإلهي، لأنّ القوانين الثلاثة الأخرى التي يتوصل إليها العقل، ليست كافيةً، وتحتاج إلى تدخل إلهي. وينسى الأكويني القانون الأبدي بعض الشئ في ماسه لإيضاح فضائل القانون الطبيعي الذي يصنعْهُ العقل الجمعي أو العام. وهو يستطر فيؤكد أنه ليس من حق أحد استخدام القوة للإرنمام على الإيمان. لكنْ لو أنّ مؤمناً ارتكب برعةًً أو تزنرق؛ فإنّ من حقّ الكنيسة أن ثقافيه بإصدار حَرْمٍ عليه. ويتعب أنه ليس مرهق الكنيسة أن تأخذ أطفالاً من أُشروثنية "أويهودية" وتُعّمدهم. بل لا بد من الصبر إلى أن يبلغوا ويصبر بوسعهم استخدامُ ممتعلهم.
إنّ هذه الكأملات للقانون وجوانبه من جانب ترك تأثيرات عميقة غي الغرب على مدى قرون. وهو لم يؤثّر في جون لوك لأنه لم يكن كاثوليكياً أولأنه كان محادياً للكنيسة. من أنّ الآباءُ المؤسسين بالولايات المتحدة تأثروا بتوما الأكويني، كما تأثروا بلُِوك.
ماذا حدث بعد الأكويني؟ الإصلاحيوِن الكبار بعد الأكويني، انقسموا إلى فريقين: فريق وقف ضد تفكيره مثل لوثر، وفريقٌ بنى عليه وطوَّره مثل كالعٌن. بيد أنّ أحداً من هؤلاء ما قال يفصل القانون عن الأخلاق. القانون الطبيعي بمفهومه القديم والوسيط أثّر في تفكير لوك، بينما وقف ضدّه توماس هو بنى أنكر هوبز وجود القانون الطبيعي الموضوعي المتساوي، ولذلك ما كان هناك في تفكيره أيُّ قيدٍ على سلطة الملوك أو تصرفاتهم، وما أعطى أحداً حقَّ الثورة على الطفاة. فالقانون هو الأم الذي يُصدرُهُ الملك أوأنه إرادته. وعندما أراد التخفيف من هذا المفهوم (أي مفهوم أنّ القانون هو القوة أو السلطة)، ذهب إلى أنّ القانون هو إدارةُ ممثّلي الأكثرية. وقد ذكر أستاذ قانونٍ معروف في جامعة هارفرد عند تعيين القاضي كلارنس توماس في المحكمة العليا، أنّ توماس لا يصحُّ تعينيُه لأنه يقول بالقانون الطبيعي، وهو الأمر الذي يناقضُ التقاليد الأميكية! وفي زمن ما بعد الحداثة جرى التنكر للقانون الطبيعي تماماً، وما بقي من حراس هذا التقليد مميز الكنيسة الكاثوليكية. أما الكنائس البروتستانتية فقد هجرته غالباً من أجل مفاهيم مسيَّسة لحقوق الإنسان.