صفحة 1 من 1

اضطراب مفهوم الحاكمية عند الحركيين

مرسل: السبت إبريل 27, 2013 6:56 pm
بواسطة سلطان هزازي
داية لابد من التأكيد على أن هذا المقال لا ينحو نحو تأصيل حق الله سبحانه وتعالى في الحكم والتحاكم،والتشريع والتحليل والتحريم ،والسيادة المطلقة،فالله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر(ألا له الخلق والامر،تبارك الله رب العالمين)،فهذا القدر هو المحكم والقطعي والعقدي من مفهوم الحاكمية،وإنما حديثي يثير تسأولات حول معاني ومقومات ألحقت وألصقت بهذا القدر المحكم وهي ليست منه مما يستدعى من أهل التخصص والاجتهاد تحريرها وفرزها حتى يتمكن الفكر الحركي من ممارسة عمله ،وتسجيل حضوره ،ومزاولة نشاطه في مواقع كثيرة ظن البعض أنها من المجالات المحظورة نتيجة للأضطراب والإلتباس في مقومات وأبعاد مفهوم الحاكمية !!(1)
وعلى هذا الأساس لو أمعنا النظر في أسباب الإلتباس والاضطراب في مفهوم الحاكمية بين القدر العقدي والاجتهادي ،والمحكم والمتشابه،والقطعي والظني في الفكر الحركي ،لرأينا من الوهلة الأولى أن ثمة أسباب أساسية ساهمت بزوايا مختلفة في عملية الإلتباس والاضطراب تعود في مجملها إلى عدم وجود منهج فلسفي منطقي متكامل يتم من خلاله استيعاب عملية نقل الأفكار،واستعارة المصطلحات والاستفادة منها بالقدر المطلوب،ومع هذا الفقدان المنهجي والنظرية المتكاملة عادة ما تتم عمليات النقل والاستعارة من التاريخ البعيد أو القريب بمعزل عن اعتبارعوامل تغير البيئة الأساسية(الزمان،والمكان،والانسان)ما يجعل القطيعة فجة بين أصل المفهوم في الأصول والاجتهادات البشرية عبر تغير الزمان وتقلب الانسان ،وحدوث اللامطابقة بين التنظير والتطبيق ، وبين الماضي والحاضر ،بمعنى استحالة الانسجام بينهما مما يمهد لاستمرارية حالات الإرتباك على مستوى الفهم، والرؤى ، والوسائل ، والخيارات.(2)
وهاك مثالا يتضح به المقال، فالأستاذ أبو الأعلى المودودي يعتبر بدون منافس هو المنظر الأول لمفهوم الحاكمية في الفكر الإسلامي المعاصر،وقد عاش هذا العملاق في شبه القارة الهندية إبان الاستعمار الانجليزي لبلاده حينما كان طفلا،ثم لما بلغ سن الرشد كانت شبه القارة الهندية في حالة شد وجذب وتنازع حول تقاسم الأرض والسلطة تقاسما ملّيا بين الهندوس والإسلام، بين سلطة البشر الجاهلية وسلطة القرآن الإسلامية ،فلم يجد بدا من مشاركة أهله والانتماء إلى دينه والمطالبة بالانفصال على أسس دينية؛فكان الإنفصال بين الهند وباكستان على هذا الأساس .وفي هذه الأجواء كانت كتابات المودودي حول جاهلية السلطة الهندوسية،وجاهلية القوانين الاستعمارية،وجاهلية الدساتير البشرية،وجاهلية النظم العلمانية،وقد نّظر لهذه المفاهيم من خلال كتاباته التي كانت تدور في إطار الأصول الأساسية للدستور، والحكم الإسلامي،ونقد دساتير وقوانين البشر وسيادتها ووصمها بالكفر والجاهلية.يؤكد ذلك بقوله:( إن السيادة أو الحاكمية هي لله وحده بيده التشريع،وليس لأحد-وإن كان نبيا- أن يأمر وينهي دون دون أن يكون له سلطان من الله)ويقول ايضا:( إن التوحيد ينفي فكرة حاكمية البشر، ويريد القضاء عليها قضاء مبرما ،سواء أكانت هذه الحاكمية لفرد من الأفراد ،أو طبقة من الطبقات ،أو بيت من البيوت،أو أمة من الأمم ،أو لجميع من على ظهر الأرض من أبناء البشر .. الحاكمية لا يستحقها إلا الله وحده عز وجل ،فلا حاكم إلا الله ولا حكم إلا حكمه،ولا قانون إلا قانونه )(3)
ثم أردف الأستاذ المودودي هذا التنظير بممارسات عملية تجلت فيها مقاصده من مفهوم الحاكمية،فتحالف مع حزب الرابطة بقيادة(علي جناح) مؤسس دولة باكستان الحديثة،اسماعيلي العقيدة،علماني الفكر والتصور،ثم تحالف مع أخته(فاطمة جناح)في الكتلة البرلمانية المعارضة،ثم توالت تحالفات الجماعة الإسلامية إلى عهد نواز شريف وهلم جرا.وهكذا تكّون وتجلى مفهوم الحاكمية عند المودودي في جانبيه النظري والتطبيقي حيث اسهمت الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية الحرجة التي مرت بها دولة الباكستان في مرحلة تأسيسها في بلورة مفهوم الحاكمية وتطوره من مفهوم سكوني إلى مفهوم حركي.
وإذا ما انتقلنا إلى المنطقة العربية،وعلى وجه الخصوص أرض الكنانة مصر التي كانت تموج حينذاك بالمعارك السياسية والحزبية ،وكانت الحركة الإسلامية بقيادة الأستاذ البنا تخوض العمل الحزبي وتتبنى ذات القضايا التي تتبناها الأحزاب السياسية المصرية الوطنية داخل مجلس الشعب،فلم يكن لتجربة المودودي في القارة الهندية أي تأثير يذكر في مسارات الحركة حينئذاك.ولكن عندما وقعت الفتنة بين الحركة ورجال الثورة الناصرية ،وتوسعت دائرة الاعتقالات الوحشية في التعامل مع قيادات الفكر والاجتهاد الحركي من قبل رجالات النظام الناصري،فكانت تلك الفترة هي بداية عملية التنظير لمفهوم الحاكمية من داخل السجن الحربي، فقام الاستاذ سيد قطب بما أوتى من صفاء ذهني وبيان قلمي ينظر في مفهوم الحاكمية من خلال تجربة المودودي في شبه القارة الهندية فوجده مصطلحا مفاهيميا تتولد منه مقومات وأبعاد شتى مكانية استعماله واستخدامه لإدارة الصراع بين الحركة وخصومها ،وتثوير المجتمع وتجييشه خلف شعارات الحركة لحسم الصراع لصالح الطرح الإسلامي ضد الطرح الناصري القومي العلماني المتغول.
وبالفعل تمكن الاستاذ سيد من تطوير مفهوم الحاكمية حتى صار منهجا عقديا ،وشعارا سياسية،وخيارا انقلابيا،ضد الأنظمة العربية،ومشاريع الدولة الوطنية ، والفكر الناصري،وفي هذه الأجواء استطاع سيد أن يصبغ مفهوم الحاكمية بجميع معانيه ومقوماته بصبغة عقدية جعلته مترادفا لكلمة التوحيد وأصل الإيمان ،فالتسليم بكل معانى الحاكمية إيمان وعدم قبولها كفر وجاهلية.وهو بهذه الرؤية للمفهوم تمكن من جعل الجزء مرادفا للكل حتى أصبح فهوم الحاكمية بمقوماته المتعددة ؛العقدية والقانونية والسياسية والفقهية دال على معنى واحد ،هو الحاكمية العليا ،والسلطان المطلق ،فقال رحمه الله :(إن طبيعة الدين هي التي قضت بهذا،فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة،وكل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الاصل الكبير ).،ويقول في موضع آخر:( فالإسلام منهج للحياة البشرية،وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية متمثلة في الحاكمية).
وبناء على هذا كانت دعوته للحركيين بعبارات واضحة إلى ضرورة منازلة المغتصبين لمفهوم الحاكمية بمقوماته وأبعاده الجديدة -كما رأها- من حكام العرب والعجم بالقوة،والثورة على هؤلاء،والتمرد على قوانينهم،وعدم الانخراط في صفوفهم وتكثير سوادهم في السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية،وتوعد المنخرطين في مسالك ومسارب هذه الأنظمة بالوعيد الشديد ووصمهم بالجاهلية والكفر،فها هو يقول:( والمسألة على هذا الوضع هي مسألة الألوهية وخصائصها ،وهي مسألة الدين ومفهومه،وهي مسألة الإيمان وحدوده،فلينظر المسلمون في أنحاء الأرض أين هم من هذا الأمر؟ أين هم من هذه الدين ؟وأين هم من الإسلام؟ وإن كانوا ما يزالون يصرون على أدعائهم للإسلام )!!
وبذلك يتحول مفهوم الحاكمية بكل مقوماته وأبعاده في فكر سيد إلى قرين التوحيد بل هو التوحيد بذاته،ويتم إسقاط وإيقاع دلالات ذلك على سائر من في المنطقة،نظم وأنظمة،أحزاب وتنظيمات،أفراد ومجتمعات ،ومن المفارقات أن المودودي ـ الذي كان يصفه سيد بالمسلم العظيم وصاحب نظرية الحاكمية ـ لم يتوان في خوض الانتخابات والعمل الحزبي وفق أدبيات الديمقراطية الغربية، والمشاركة في الحياة السياسية بكل تجلياتها .. و يقتحم كافة دهاليزها ومساربها، ناهيك عن الإنخراط في حل هموم المجتمع وتبنيها فضلا عن تكفيره أو تفسيقه
ولايخفى أن مفهوم الحاكمية بهذه الصبغة العقدية لكل مفرداته كما قدمه الأستاذ سيد أسست للالتباس بين المحكم والمتشابه،والخلط بين العقدي والاجتهادي ،وعدم التمييز بين مواطن الإعتقاد ومكامن الاجتهاد . حيث انصبغت جل ممارسات الفكر الحركي في مرحلة منتصف الستينات فما فوقها بصبعة الإرتباك والحيرة والاضطراب في الرؤى والاستراتيجيات،والأساليب والخيارات،والمشاركة والانفعالات(4)،مما ضيع على الفكر الحركي الفرص السانحة للتأثير في الواقع والمواقع على كافة المستويات الإقليمية والدولية !!
فلا أدري هل عملية الخلط بين القيم والذات ،والشارع والشارح ،والإلتباس بين العقدي والاجتهادي ،والقطعي والظني ،والنص والتاريخ،هي بمثابة ضربة لازب على العقل والفكر الحركي المعاصر لا سبيل إلى الإنفكاك عنها ولا مناص من الإنعتاق منها ، أم ثمة سبل لإعادة ترتيب العقل ، والمنهج ،والفكر ، والسلوك ؟!