صفحة 1 من 1

ابن تيمية...والتنظير السياسي

مرسل: السبت إبريل 27, 2013 7:06 pm
بواسطة سلطان هزازي
- النشأة والظرفية التاريخية السياسية :
ثمة تقليد سارت عليه الكتابات الأصولية السياسية القديمة ، التي تكتفي بتحليل بنية علم الأصول أو الفكر السياسي(=الأحكام السلطانية) ولا تعير اهتماما لتاريخيته ولتطوره ، خلافا لما حاول القيام به ابن خلدون في مقدمته . ولو توجهنا بنظرنا شطر الفكر السياسي الإسلامي كله ، منذ عرف نشأته الأولى في القرن الأول الهجري والسابع للميلاد ، وهو فكر يظل بلا ريب ، مستغلقا على الفهم إذا لم نأخذ بعين الاعتبار أبعاده السياسية ومواقفه الفكرية الطامحة ، بالأصل أو بالتبعية ، إلى تحقيق بديل أو بدائل سياسية . ولم يكن ممكنا إدراك السياسة كمجال وفضاء محيط بمختلف أصناف واتجاهات الفكر الإسلامي ، لولا أن هذا الفكر قد ترعرع في مناخ فكري احتلت السياسة فيه المقام الأول ، ولعب الحوار والجدل والصراع السياسي الدور البارز في حركاته الاجتماعية ؛ الشي الذي يجعلنا نقرن المقولة اليونانية(الانسان حيوان اجتماعي)وهو لذلك(كائن سياسي)بأختها الإسلامية التي جاءت على لسان الشهرستاني في قوله:(وأعظم خلاف بين الأمة ، خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة في كل زمان ).وما كان بالإمكان أن نسل السيوف من أجل هذه الإمامة(السلطة السياسية) لولا اعتقاد راسخ بضرورة السلطة في التعبير الاجتماعي ، ولولا تجربة سياسية وإعداد سياسي سابق عاشهما حاملو تلك السيوف ، منذ أن أصبحوا ينتمون لمجتمع واحد(=الأمة)موحد، تحددت هويتها تجاه المجتمعات والأنظمة السياسية الأخرى المجاورة ، كنقيض وبديل لها على المستوى العقائدي والممارسة الأخلاقية والسلطوية أيضا .
ما نود التأكيد عليه في هذه المقدمة ، كون علم الكلام الذي ساهم رجاله في تطوير نظرية الأصول والتقعيد للتشريع ؛ أن ذلك العلم لم يكن إلا وليدا شرعيا للمجتمع الإسلامي.هذا الأخير الذي كان يسير سيرا حثيثا نحو الاختلاف والاصطدام. وإذا كان المسلمون قد ألفوا من القرآن والسنة توجيه الاهتمام بإنشاء المجتمع الجديد ، والحفاظ على وحدة الصف والتحذير من الفرقة والتخاذل .. فإن الاختلافات السياسية ، سواء على منصب الحكم أو توزيع الأموال ، اضطرتهم إلى ذلك الطريق ، طريق المواجهة الفكرية والاختلاف.ومعلوم أن هذا الاختلاف لم يشمل العقائد ودقيق الكلام إلا في مرحلة متأخرة نسبيا بعد أن ظل المشكل السياسي يشكل بؤرة الصراع وأساس الافتراق الذي سلت بسببه السيوف،ويبدو لنا أن هذا هو ما لم يرد أن يفهمه بعض الفقهاء والمؤرخين ، ممن عارضوا قيام علم الكلام في الإسلام وطعنوا في شرعيته حين اعتبروه ظاهرة غير سوية ، ما دام الجدل في العقائد كان منعدما في صدر الإسلام وزمن النبوة وفترة الخلافة الراشدة ، وبالتالي فهو علم فاقد للشرعية ولا مبرر لقيامه .متناسين بأحكامهم هذه ، أن الاختلاف في العقائد النظرية نشأ داخل علم الكلام بكيفية عرضية نتيجة الاختلاف في الأمور السياسية وفي مشاكلها العملية .
والظن الغالب أن هذا الخلط بين الكلام في السياسة والكلام في العقائد ، علاوة على كونه يعكس افتقادا لوعي تاريخي وغفلة عما مارسه رجل السلطة من تشويه مقصود بترويجه أن المتكلمين يتكلمون في العقائد والدين ، إن ذلك الخلط حجب عن العديد من الفقهاء الأبعاد الحقيقية لإصطدام بعض أوائل المتكلمين مع السلطة السياسية ، وهو الذي أدى بالتالي إلى سكوت أغلب أولئك الفقهاء عن إدانة العنف الذي قابل به الولاة السياسيون المواقف السياسية لأولئك المتكلمين ، ويرجع هذا السكوت من جانب الفقهاء إلى غفلتهم عن الأبعاد السياسية الواضحة التي أطرت تلك المواقف الكلامية وأعطتها معانيها الأولى . وسوف يستغل رجل السلطة السياسية هذه الغفلة من جانب الفقهاء ليجهز على خصومه بحجة حفظ الدين والعقائد من زيغ أصحاب(الأهواء والملل والنحل)!!
- جدلية الديني والسياسي:
لقد كان لحضور حاملي(العلم والكلام) إبان العهود الأولى للإسلام ، في أهم الثورات ضد السلطة السياسية ، أثره الواضح في تنبيه هذه الأخيرة ، عبر العصور ، إلى ما قد يشكله (المعرفي)من سلطة مؤثرة ، وما قد ينطوي عليه من(سلاح)من نوع آخر،أولى تجلياته ذلك النفوذ الذي قد يكسبه رجل العلم حينما تنتشر(معرفته) بين جماهير الأمة ، ولعل ذاكرة السلطة السياسية لا تنسى أبعاد ثورة القراء(ابن الزبير، وابن الجبير، وابن الأشعث،وابن المسيب)، ولعل معركة الجماجم ! أيام الحجاج والتي راح ضحيتها كم هائل من كبار التابعين والعلماء ؛ لم تغيب عن الذاكرة.
والجدير بالذكر أن ثورة القراء تمثل تصميم حاملي المعرفي(=العلم والكلام) على مواجهة صاحب السيف ، وإرغامه على الخضوع للمعرفي ، باعتباره مصدرا للشرعية وللسلطة . وإن في سلسلة الخروج على السلطة السياسية ، تلك السلسلة التي ابتدأت خاصة بخروج الحسين بن علي ، ما يؤكد حضور نموذج الخلافة العادلة لدى جل متزعمي ذلك الخروج ، وإدانتهم لافتقاد الشرعية في السلطة السياسية القائمة . وغني عن التوضيح أن هؤلاء الطاعنين في شرعية السلطتين الأموية والعباسية كانوا يلتمسون سلاح(علمهم) في تلك المواجهة من نفس المفاهيم والمصطلحات التي أصلها الإسلام منذ نشأته .
هكذا إذن شعر أولئك المهزومون سياسيا وعسكريا بضرورة إعادة إنشاء بديلهم السياسي ؛ ولكن هذه المرة يتجه القصد إلى إنشائه على المستوى النظري والمعرفي ! وذلك عن طريق تدارس العلم وتنظيم حلقاته ، وتصنيف مصنفاته . والمقابلة بين السيف والقلم إنما تعكس المقابلة بين السياسة والمعرفة ؛ بين حكم الواقع وما ينبغي أن يكون . إنها مقابلة تطرح أيضا مفهوما للسياسة قد عبرت عنه القاعدة الأموية(إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)!! مما يعني تشجيع السلاطين والخلفاء على ضرورة اللجوء إلى العنف ولتخويف،كسبا للاستقرار الاجتماعي، والسياسي ، وجمعا للكلمة ، وحفاظا على الوحدة... وهي غايات ضرورية تبرر ضرورة اللجوء إلى وسائل محظورة أو مستهجنة غالبا عند رجل القلم ذي المعرفي الحر ؛ كالعصبية والسيف والسوط !! كما أصل لها قال أبو الريحان البيروني(440)،(ولكن أهل الدنيا ليسوا بفلاسفة كلهم ، وإنما أكثرهم جهال ضلال ، لا يقومهم غير السيف والسوط ، فبغيرهما لا تتم السياسة)!!
وإن شيوع مثل هذه المقولة في وقت مبكر من تاريخ الإسلام يعكس التراجع المبكر لقيم منهج النبوة والخلافة الراشدة ، وسيطرة قيم الملك العاضى والجبر في ظل ما يسمى بدولة الخلافة القيصرية أو الكسروية، والتي تنامى فيها نفوذ العصبية والسيف والقوة ، وهي ذات المعاني المتضمنة في مفهوم(السلطان)المستأثر بمثل هذه الأسلحة من التأثير السياسي والنفوذ الاجتماعي .
وليس غريبا أن نرى التوجهات السياسية الرائجة داخل قصور الخلفاء والسلاطين كانت تتخذ من كتاب الدواوين التي تسير على درب ملوك الأعجام خاصة الساسان نموذجا لها ، ككتاب(نصائح الملوك)،و(رسالة الصحابة)لابن مقفع ، وربما الخليفة معاوية أيام ولايته العامة على الشام أول من حاول في الإسلام تبرير الاستلهام والاقتباس من النماذج سياسة الأعاجم . ولعل السبب الفاعل في شيوع النموذج السياسي الساساني الفارسي في تدبير السلطة راجع قبل كل شيء إلى رغبة (إيدلوجية) تتمثل في التطور الفعلي الذي سارت إليه الخلافة نفسها منذ العصر الأموي .
ولعل أبرز الكتاب في التنظير السياسي كان عبدالله بن المقفع الذي كان يضمر حنينا إلى ذلك التراث السياسي الفارسي ، باعتباره نموذجا يستحق أن يحتذى به . ويدل على ذلك كثرة ما نقله من ذلك التراث ، من قبيل(خدا ينامه) أو سير ملوك الفرس ، الذي كان كتابا واسع الانتشار في بلاد فارس قبل الإسلام ، وكذا كتاب (آيين نامة) حول مراسيم وتقاليد بلاط ملوك آل ساسان ، وكتاب(التاج)في سيرة الملك أنو شروان . وقد انتبه ابن خلدون إلى مدى ما بلغته سيطرة هؤلاء الكتاب الذين كانوا المصدر الأساس الذي يمول دولة الخلافة بطبقة الوزراء حتى استبدوا بالأمر (فعظمت آثارهم وبعد صيتهم وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء ، من ولدهم وصنائعهم ، واحتازوها عمن سواهم ، من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم ).
نود أن نخلص إلى القول ، مما سبق ، أن كتاب الدواوين الذين ارتقى عدد منهم إلى مستوى الوزارة والاستبداد بسلطتي القلم والسيف –كالفضل بن سهل- قد نجحوا في الترويج ، داخل بلاط الخلفاء والسلاطين ، لذلك النموذج السياسي الكسروي ، واضطروا في سبيل ذلك إلى ممارسة عمليات من التأويل