الحرية عند السفسطائيين
مرسل: السبت إبريل 27, 2013 7:15 pm
مع السفسطائية بدأت الفلسفة اليونانية تدخل طوراً جديداً، هو طور الفلسفة الإنسانية. حيث كانت السفسطائية ثورة عنيفة على الفكر الطبيعي السابق عليها، وفي الوقت ذاته فلسفة إنسانية خالصة تهتم بدراسة الإنسان ليس بوصفه عقلاً جامداً، بل كإرادة فعالة حرة تسعى إلى تأكيد ذاتها واثبات نجاحها في كافة المجالات العملية.
جاءت السفسطائية تعبيراً قوياً إذن عن النزعة الفردية والتي كانت آخذة في الانتشار آنذاك، وتأكيداً قوياً على الحرية الإنسانية، التي يوظف فيها الإنسان كل قواه ومهاراته لتحقيق نجاحه في هذه الحياة. وامتد السفسطائيون بهذه الحرية إلى الدين والسياسة والفنون والأخلاق، وجعلوها حرية قائمة على العقل الإنساني. لقد تنبه الناس -كما يقول تسللر- إلى أن الضمير ليس كافياً بمفرده ولا نافعا حقا ما لم يكن مستحسناً بواسطة اقتناع الإنسان الذاتي، ومشبعا لمصلحته الفردية. لقد فقد الإنسان احترامه للشيء الحقيقي بوصفه كذلك، ولم يعد يقبل شيئاً على أنه حق وهو عاجز عن التأكد منه، ولن يشغل نفسه بشيء لا يستطيع أن يستبين المنفعة الشخصية العائدة عليه منه(1).
ركز السفسطائيون في برامجهم التربوية التي اضطلعوا بتعليمها على تثبيت هذا الشعور بالحرية، والاعتزاز بالنفس في نفوس الشباب اليوناني. لقد أمنوا بإمكانية تعلم الفضيلة والنجاح، وذلك إذا ما تعب الإنسان واجتهد في السعي إليهما. وجسد ذلك إيمان السفسطائية بحرية الإرادة الإنسانية، إذ لو كانوا قد أمنوا بأن الإنسان في كل أفعاله مجبر على قول وفعل أشياءً بعينها، لما كانوا قد رأوا أن هناك فرصة ممكنة لتغيير أفعاله وشخصيته واكتسابه الفضيلة بواسطة التعليم السفسطائي، ولما كانوا قد نظروا إلى الحياة على أنها سلسلة من الأفعال الحرة التي يتخذها الإنسان لتحسين وضعه وتحقيق ذاته في الحياة. ونجد جورجياس السفسطائي يعيش عمراً مديداً، وعندما يُسأل عن السبب يرد ذلك إلى أنه استطاع أن يقهر الضرورات الخارجية والنفسية، فكان طول عمره هذا راجعا إلى تمتعه بالحرية النفسية الكاملة في حياته، وأنه لم يغتم أو ينشرح لذم أو مديح الآخرين له، ولم يسمح لنفسه على الإطلاق بأن تُضلل بأي شيء يحد من هذه الحرية(2).
وإذا كان هيبياس السفسطائي قد نادي بأن مثله الأعلى الذي يعلمه للشباب في برنامجه التربوي هو مبدأ الاكتفاء الذاتي، والاستقلال التام عن الآخرين، فقد رأي أنطيفون السفسطائي بأن الإنسان لن يستطع بلوغ هذا المستوى الأعلى من الحرية والاستقلال الذاتي الذي يعده به هيبياس إلا عندما يسيطر على نفسه ويلتزم بفضيلة الاعتدال والتناغم النفسي، فلا يطلق العنان لشهواته الجسدية المهلكة، بل يلتزم بالحكمة والانضباط الذاتي، وراح أنطيفون يوصي تلاميذه بهذا، فلا شيء أعظم تهديداً للحرية من الكآبة والأمراض النفسية التي يسببها انهماك الإنسان في الملذات. وصرح بأن أعظم متعة من الممكن أن يحوزها الإنسان هي متعة الهدوء النفسي(3). ومن ثم يمكن القول بأن ما كان يسعى إليه السفسطائيون في برامجهم التربوية هو تحرير معاصريهم من رق العقول الذي كان مفروضاً عليهم من قبل. وبهذا أنزلوا الإنسانية محل الصدق المطلق الذي كان قبلهم، ونادى زعيمهم بروتاجوراس في شعاره (الإنسان مقياس الأشياء جميعاً) بأن العقل الإنساني الحر هو الحكم الأوحد في المعرفة والأخلاق والسياسة، ومن ثم نادى بنوع من الفلسفة الآنية التي تجعل الذات المدركة هي كل شيء على نحو ما سوف يفعل بركلي حديثاً(4).
وكم جسد كريتياس السفسطائي هذا الإيمان بالحرية الإنسانية عندما وضع الإرادة العقلية أو كما اسماها (الطبع) في المقام الأعلى في تصريف أمور البشر، إذ إليها يجب أن يخضع كل شيء في الحياة(5). وهي التي تضفي الوحدة على الإنسان وعلى سلوكه. الإنسان الذي يحسن استغلال إرادته العقلية في تحقيق سعادته يبلغ أقصى درجات الكمال في الحياة.
طالبت السفسطائية بتوفير الحرية لإرادة الذات الفردية من أجل إصلاح الحياة البشرية والقضاء على الظلم والجور وكل صور استغلال البشر القديمة الدينية والطبيعية والفكرية والسياسية. فمع الفردية تبرز العقلانية واضحة ناصعة، وفي بروز العقلانية تتحقق الحرية والاستقلال. لقد نادت السفسطائية بأن حياة الإنسان ملك خاص به يفعل بها ما يشاء. كما أن أفكاره ومعرفته ومعتقداته وأذواقه ورغباته كلها ملك له أيضا، وبإمكانه ألا يعترف بأي سلطة أخرى، ولا بمعيار أخر لسلوكه. والتمتع بهذه الأشياء المتاحة أمامنا هو الاستغلال الأمثل للحياة(6). فلا عجب إذن طالما أن السفسطائية قد جعلت الإنسان بإرادته الحرة الواعية معياراً للأشياء جميعا أن نجدها في دراساتها في فلسفة الحضارة والدين والقانون -ترد السفسطائية الحضارة والدين والقانون إلى ابتكار الذات الإنسانية الحرة. وهي بهذه الخطوة تعكس بلا شك إيمانها العميق في الحرية الإنسانية، وفي قدرات العقل البشري البالغة ليس على الصمود فحسب أمام الضغوط الخارجية، بل وعلى خلق الدين والقانون ذاته.
وجاءت مناداة السفسطائية إلى اتِّباع قانون الطبيعة ونبذ العرف والتقاليد المتوارثة تجسيدا قوياً لإيمانها بالحرية الإنسانية. ففي اتِّباع قانون الطبيعة حفظ للحرية الإنسانية مِمَّا يحيق بها من إجحاف مصطنع خارجي؛ لأنّ الطبيعة في نظرها هي التي تتيح للفرد أن يتصرف بطريقة حرة وصادقة، متبعاً البحث الحر عن المنفعة، ومستقلاً عن قيود القانون الوضعي التي تضر بهذه الحرية(7). وقادت هذه المناداة بإسقاط العرف السفسطائية إلى الدعوة إلى إسقاط كافة القيود المفروضة على البشر والمكبلة لحريتهم الطبيعية من قبل الأعراف، ومن ثم طالبوا بإلغاء قانون الرق، طالما أن الطبيعة قد خلقت الناس متساوين. فكانوا قادة للتنوير في المجتمع اليوناني المتزمت الذي كان يقدس الفروق الطبقية، بل من السفسطائيين من كان ينادي إلى الأخوة العالمية الشاملة، ونشر السلام والأمن بين سكان العالم أجمع. لذلك كانوا أول من انتصف للحرية في العالم القديم.
لكن دعوة السفسطائية إلى الحرية لم تكن تعني دعوة إلى الفوضى والعبثية؛ لأنّ الإنسان الذي يتبع وحي الطبيعة يعرف حق المعرفة كيف يتحكم في شهواته، ويقهر نوازعة، ويغلب نفسه الطماعة. فلا يمكن أن تكون الحرية لديهم تعني الأنانية الأخلاقية أبدا(8). إن اعتراف البشر جميعا بالوحدة المتناغمة للطبيعة يقودهم لا محالة إلى التنظيم الاجتماعي المتوائم، وإلي أن يعترفوا جميعا بالصورة المثالية للإنسانية المتحابة. فالجميع متساوون في الحقوق والواجبات، وأحرار في الأفعال، ولكن شريطة ألا يضروا بحريات الآخرين، حتى لا يضر هؤلاء الآخرون بحريتهم هم أنفسهم. فكان إيمان السفسطائية بالحرية والمساواة ثورة فكرية انتصفت للنزعة الإنسانية في عصر كان اليونان جميعا ينظرون إلى الشعوب الأخرى غيرهم على أنها بربرية، ولم يتخل فلاسفة اليونان العظام -سقراط وأفلاطون وأرسطو- عن هذه الدعوى على الإطلاق، فأمن سقراط بها، واعتاد دائما أن يشكر ربه كل يوم على أنه لم يولد بربرياً.
لكن الحرية التي نادى بها السفسطائيون لم تكن حرية مطلقة بل كانت حرية مسئولة. فإذا كانوا قد اعتبروا الإنسان الحر هو الإنسان الذي يسلك وفقا لطبيعته الإنسانية الخاصة، وغير الحر هو ذلك الذي يخضع لأشكال من الجبر الخارجي: سواء من الأعراف المصطنعة أو من الأوهام والخرافات التي تصور له وجود آلهة وعقاب بعد الموت، فلم تكن هذه الحرية تساوى عندهم الفوضى، بل حرية مقيدة بالمسئولية الكاملة عن الأفعال. وقد جسد بروتاجوراس في شعاره (الإنسان معيار) واقعة حرية الإرادة الإنسانية تجسيداً صريحاً. فهو يؤكد على مسؤولية الإنسان الكاملة عن أفعاله طالما أختارها بمحض إرادته الحرة. ولو لم يكن الإنسان مسؤولاً عن فعله الذي يفعله بناءً على قرار إرادته الحرة لما كان لأشكال العقاب والتأنيب -كما يقول بروتاجوراس- أي معنى، ولا أحقية أصلاً، فلا أحد سوف ينبري ليعلم أو يؤنب أو يعاقب من ترجع جرائمه إلى قوى أخرى غير إرادته الحرة. فمن الحمق أن يعاقب إنسان الضعفاء والمذنبين وهو يعلم أن هذا النوع من الخطأ من عمل الطبيعة(9). ولم تنظر السفسطائية إلى العقوبات التي توقعها القوانين على أنها انتقام من المجرم، بل اعتبرتها وسيلة لتربية هذا المجرم وتقويم سلوكه، وكذلك ردع الآخرين عن الإقدام على هذا الفعل الإجرامي بدورهم في المستقبل.
ولقد نظرت السفسطائية -نتيجة لإيمانها بالحرية الإنسانية- إلى الشخصية الإنسانية على أنها من تشييد الإنسان وحده، وأنها مكتسبة من خلال اختياراته الحرة المستقيمة. فنحن الذين نبني شخصيتنا بأنفسنا، والقدر لا وجود له أصلا -كما قال كريتياس السفسطائي- إنه لخرافة قالها عقل أخرق، وكل أفعالنا نابعة من دواتنا الحرة، والشخص الذي يضحي نبيلاً قوي الشخصية يكون أفضل من القانون نفسه(10).
وما نود أن نؤكد عليه أخيراً هو أن السفسطائيين في إيمانهم بالحرية الإنسانية كانوا الرواد الأول لأفلاطون وأرسطو والمدارس التالية، إذ بعد إثارتهم لهذه الإشكالية لم يعد ممكنا للفكر اليوناني بعدهم أن يتجاهلها ويعود إلى الانكباب على دراسة الطبيعة كما كان ويهمل الإنسان. بل كان لابد أن يواصل السير خلف السفسطائية في نفس الطريق.
جاءت السفسطائية تعبيراً قوياً إذن عن النزعة الفردية والتي كانت آخذة في الانتشار آنذاك، وتأكيداً قوياً على الحرية الإنسانية، التي يوظف فيها الإنسان كل قواه ومهاراته لتحقيق نجاحه في هذه الحياة. وامتد السفسطائيون بهذه الحرية إلى الدين والسياسة والفنون والأخلاق، وجعلوها حرية قائمة على العقل الإنساني. لقد تنبه الناس -كما يقول تسللر- إلى أن الضمير ليس كافياً بمفرده ولا نافعا حقا ما لم يكن مستحسناً بواسطة اقتناع الإنسان الذاتي، ومشبعا لمصلحته الفردية. لقد فقد الإنسان احترامه للشيء الحقيقي بوصفه كذلك، ولم يعد يقبل شيئاً على أنه حق وهو عاجز عن التأكد منه، ولن يشغل نفسه بشيء لا يستطيع أن يستبين المنفعة الشخصية العائدة عليه منه(1).
ركز السفسطائيون في برامجهم التربوية التي اضطلعوا بتعليمها على تثبيت هذا الشعور بالحرية، والاعتزاز بالنفس في نفوس الشباب اليوناني. لقد أمنوا بإمكانية تعلم الفضيلة والنجاح، وذلك إذا ما تعب الإنسان واجتهد في السعي إليهما. وجسد ذلك إيمان السفسطائية بحرية الإرادة الإنسانية، إذ لو كانوا قد أمنوا بأن الإنسان في كل أفعاله مجبر على قول وفعل أشياءً بعينها، لما كانوا قد رأوا أن هناك فرصة ممكنة لتغيير أفعاله وشخصيته واكتسابه الفضيلة بواسطة التعليم السفسطائي، ولما كانوا قد نظروا إلى الحياة على أنها سلسلة من الأفعال الحرة التي يتخذها الإنسان لتحسين وضعه وتحقيق ذاته في الحياة. ونجد جورجياس السفسطائي يعيش عمراً مديداً، وعندما يُسأل عن السبب يرد ذلك إلى أنه استطاع أن يقهر الضرورات الخارجية والنفسية، فكان طول عمره هذا راجعا إلى تمتعه بالحرية النفسية الكاملة في حياته، وأنه لم يغتم أو ينشرح لذم أو مديح الآخرين له، ولم يسمح لنفسه على الإطلاق بأن تُضلل بأي شيء يحد من هذه الحرية(2).
وإذا كان هيبياس السفسطائي قد نادي بأن مثله الأعلى الذي يعلمه للشباب في برنامجه التربوي هو مبدأ الاكتفاء الذاتي، والاستقلال التام عن الآخرين، فقد رأي أنطيفون السفسطائي بأن الإنسان لن يستطع بلوغ هذا المستوى الأعلى من الحرية والاستقلال الذاتي الذي يعده به هيبياس إلا عندما يسيطر على نفسه ويلتزم بفضيلة الاعتدال والتناغم النفسي، فلا يطلق العنان لشهواته الجسدية المهلكة، بل يلتزم بالحكمة والانضباط الذاتي، وراح أنطيفون يوصي تلاميذه بهذا، فلا شيء أعظم تهديداً للحرية من الكآبة والأمراض النفسية التي يسببها انهماك الإنسان في الملذات. وصرح بأن أعظم متعة من الممكن أن يحوزها الإنسان هي متعة الهدوء النفسي(3). ومن ثم يمكن القول بأن ما كان يسعى إليه السفسطائيون في برامجهم التربوية هو تحرير معاصريهم من رق العقول الذي كان مفروضاً عليهم من قبل. وبهذا أنزلوا الإنسانية محل الصدق المطلق الذي كان قبلهم، ونادى زعيمهم بروتاجوراس في شعاره (الإنسان مقياس الأشياء جميعاً) بأن العقل الإنساني الحر هو الحكم الأوحد في المعرفة والأخلاق والسياسة، ومن ثم نادى بنوع من الفلسفة الآنية التي تجعل الذات المدركة هي كل شيء على نحو ما سوف يفعل بركلي حديثاً(4).
وكم جسد كريتياس السفسطائي هذا الإيمان بالحرية الإنسانية عندما وضع الإرادة العقلية أو كما اسماها (الطبع) في المقام الأعلى في تصريف أمور البشر، إذ إليها يجب أن يخضع كل شيء في الحياة(5). وهي التي تضفي الوحدة على الإنسان وعلى سلوكه. الإنسان الذي يحسن استغلال إرادته العقلية في تحقيق سعادته يبلغ أقصى درجات الكمال في الحياة.
طالبت السفسطائية بتوفير الحرية لإرادة الذات الفردية من أجل إصلاح الحياة البشرية والقضاء على الظلم والجور وكل صور استغلال البشر القديمة الدينية والطبيعية والفكرية والسياسية. فمع الفردية تبرز العقلانية واضحة ناصعة، وفي بروز العقلانية تتحقق الحرية والاستقلال. لقد نادت السفسطائية بأن حياة الإنسان ملك خاص به يفعل بها ما يشاء. كما أن أفكاره ومعرفته ومعتقداته وأذواقه ورغباته كلها ملك له أيضا، وبإمكانه ألا يعترف بأي سلطة أخرى، ولا بمعيار أخر لسلوكه. والتمتع بهذه الأشياء المتاحة أمامنا هو الاستغلال الأمثل للحياة(6). فلا عجب إذن طالما أن السفسطائية قد جعلت الإنسان بإرادته الحرة الواعية معياراً للأشياء جميعا أن نجدها في دراساتها في فلسفة الحضارة والدين والقانون -ترد السفسطائية الحضارة والدين والقانون إلى ابتكار الذات الإنسانية الحرة. وهي بهذه الخطوة تعكس بلا شك إيمانها العميق في الحرية الإنسانية، وفي قدرات العقل البشري البالغة ليس على الصمود فحسب أمام الضغوط الخارجية، بل وعلى خلق الدين والقانون ذاته.
وجاءت مناداة السفسطائية إلى اتِّباع قانون الطبيعة ونبذ العرف والتقاليد المتوارثة تجسيدا قوياً لإيمانها بالحرية الإنسانية. ففي اتِّباع قانون الطبيعة حفظ للحرية الإنسانية مِمَّا يحيق بها من إجحاف مصطنع خارجي؛ لأنّ الطبيعة في نظرها هي التي تتيح للفرد أن يتصرف بطريقة حرة وصادقة، متبعاً البحث الحر عن المنفعة، ومستقلاً عن قيود القانون الوضعي التي تضر بهذه الحرية(7). وقادت هذه المناداة بإسقاط العرف السفسطائية إلى الدعوة إلى إسقاط كافة القيود المفروضة على البشر والمكبلة لحريتهم الطبيعية من قبل الأعراف، ومن ثم طالبوا بإلغاء قانون الرق، طالما أن الطبيعة قد خلقت الناس متساوين. فكانوا قادة للتنوير في المجتمع اليوناني المتزمت الذي كان يقدس الفروق الطبقية، بل من السفسطائيين من كان ينادي إلى الأخوة العالمية الشاملة، ونشر السلام والأمن بين سكان العالم أجمع. لذلك كانوا أول من انتصف للحرية في العالم القديم.
لكن دعوة السفسطائية إلى الحرية لم تكن تعني دعوة إلى الفوضى والعبثية؛ لأنّ الإنسان الذي يتبع وحي الطبيعة يعرف حق المعرفة كيف يتحكم في شهواته، ويقهر نوازعة، ويغلب نفسه الطماعة. فلا يمكن أن تكون الحرية لديهم تعني الأنانية الأخلاقية أبدا(8). إن اعتراف البشر جميعا بالوحدة المتناغمة للطبيعة يقودهم لا محالة إلى التنظيم الاجتماعي المتوائم، وإلي أن يعترفوا جميعا بالصورة المثالية للإنسانية المتحابة. فالجميع متساوون في الحقوق والواجبات، وأحرار في الأفعال، ولكن شريطة ألا يضروا بحريات الآخرين، حتى لا يضر هؤلاء الآخرون بحريتهم هم أنفسهم. فكان إيمان السفسطائية بالحرية والمساواة ثورة فكرية انتصفت للنزعة الإنسانية في عصر كان اليونان جميعا ينظرون إلى الشعوب الأخرى غيرهم على أنها بربرية، ولم يتخل فلاسفة اليونان العظام -سقراط وأفلاطون وأرسطو- عن هذه الدعوى على الإطلاق، فأمن سقراط بها، واعتاد دائما أن يشكر ربه كل يوم على أنه لم يولد بربرياً.
لكن الحرية التي نادى بها السفسطائيون لم تكن حرية مطلقة بل كانت حرية مسئولة. فإذا كانوا قد اعتبروا الإنسان الحر هو الإنسان الذي يسلك وفقا لطبيعته الإنسانية الخاصة، وغير الحر هو ذلك الذي يخضع لأشكال من الجبر الخارجي: سواء من الأعراف المصطنعة أو من الأوهام والخرافات التي تصور له وجود آلهة وعقاب بعد الموت، فلم تكن هذه الحرية تساوى عندهم الفوضى، بل حرية مقيدة بالمسئولية الكاملة عن الأفعال. وقد جسد بروتاجوراس في شعاره (الإنسان معيار) واقعة حرية الإرادة الإنسانية تجسيداً صريحاً. فهو يؤكد على مسؤولية الإنسان الكاملة عن أفعاله طالما أختارها بمحض إرادته الحرة. ولو لم يكن الإنسان مسؤولاً عن فعله الذي يفعله بناءً على قرار إرادته الحرة لما كان لأشكال العقاب والتأنيب -كما يقول بروتاجوراس- أي معنى، ولا أحقية أصلاً، فلا أحد سوف ينبري ليعلم أو يؤنب أو يعاقب من ترجع جرائمه إلى قوى أخرى غير إرادته الحرة. فمن الحمق أن يعاقب إنسان الضعفاء والمذنبين وهو يعلم أن هذا النوع من الخطأ من عمل الطبيعة(9). ولم تنظر السفسطائية إلى العقوبات التي توقعها القوانين على أنها انتقام من المجرم، بل اعتبرتها وسيلة لتربية هذا المجرم وتقويم سلوكه، وكذلك ردع الآخرين عن الإقدام على هذا الفعل الإجرامي بدورهم في المستقبل.
ولقد نظرت السفسطائية -نتيجة لإيمانها بالحرية الإنسانية- إلى الشخصية الإنسانية على أنها من تشييد الإنسان وحده، وأنها مكتسبة من خلال اختياراته الحرة المستقيمة. فنحن الذين نبني شخصيتنا بأنفسنا، والقدر لا وجود له أصلا -كما قال كريتياس السفسطائي- إنه لخرافة قالها عقل أخرق، وكل أفعالنا نابعة من دواتنا الحرة، والشخص الذي يضحي نبيلاً قوي الشخصية يكون أفضل من القانون نفسه(10).
وما نود أن نؤكد عليه أخيراً هو أن السفسطائيين في إيمانهم بالحرية الإنسانية كانوا الرواد الأول لأفلاطون وأرسطو والمدارس التالية، إذ بعد إثارتهم لهذه الإشكالية لم يعد ممكنا للفكر اليوناني بعدهم أن يتجاهلها ويعود إلى الانكباب على دراسة الطبيعة كما كان ويهمل الإنسان. بل كان لابد أن يواصل السير خلف السفسطائية في نفس الطريق.