مقالة عن العلاقات الدولية
مرسل: الاثنين إبريل 29, 2013 10:50 am
العلاقات الدولية:
الروابط بين النظرية والممارسة في السياسة الدولية.
ستيف سميث
ترجمة: عادل زقاغ وعبد الله راقدي.
أهدف من هذه المداخلة المفتوحة إلى طرح تساؤل واحد: ما هي طبيعة العلاقة القائمة بين دراسة العلاقات الدولية وممارستها؟ أود الإجابة عن هذا التساؤل عبر استعراض ومن ثم استبعاد سببين يحظيان بالرواج والإقناع والجاذبية، لكن قبل ذلك، سأقدم ثلاث ملاحظات حول السياق الذي يميز طرح مثل هذا التساؤل.
الملاحظة الأولى تتعلق بـ "التوقيت"، حيث تزامن طرح هذا السؤال مع حالة الحرب على العراق، تلك الحرب التي نأت فيها الأوساط الأكاديمية بنفسها بعيدا عنها، وكأن لا علاقة لهذه الحرب بما يتم دراسته في حقل العلاقات الدولية. وبالفعل، فعندما عقدت جمعية الدراسات الدولية ملتقى بـ بورتلاند في فيفري 2003، أي عشية اندلاع الحرب على العراق، لم يتم التعرض بأدنى إشارة لموضوع الحرب، عدا بعض المتظاهرين اللذين احتجوا بشجاعة ضد الحرب الوشيكة. ليجلبوا لأنفسهم انتقادات تتهمهم بالخلط بين قيمهم ونشاطهم المهني (ولأكون صريحا وصادقا، بحيث تكون قيمي معرضة للتمحيص، فقد انضممت إلى معسكر الرافضين جنبا إلى جنب مع جون فاسكواز الذي كان آنذاك رئيسا للجمعية". وحتى قبل الحرب كانت هناك حرب أفغانستان وأحداث 11 سبتمبر، وما تخلل كل هذه الفترة من المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. إن الطريقة التي تعاطى بها الأكاديميون مع الأحداث السابقة والتي اتسمت بالجمود في أغلب الأحيان، تجعل من الوقت الحاضر مناسبا للبحث في الروابط بين النظرية والممارسة.
الملاحظة الثانية تتعلق بـ "المجال الجغرافي"، فقد تم إلقاء هذه المحاضرة في بودابست بأوروبا الوسطى، وهي مكان ملائم جدا لطرح التساؤل بشأن العلاقة بين الدوائر الأكاديمية والعمل السياسي، وهذا بالنظر للسجل التاريخي للبحث الأكاديمي في هذه المنطقة خلال فترة الحكم الشيوعي، لاسيما التقليد البحثي الذي أملته الأيديولوجية المهيمنة المتنفذة. هذا التقليد البحثي ناجم عن تحديد الجمعيات الرسمية سلفا لماهية الحقيقة مما ترك هامشا ضيقا للنقاش، وساهم في إرساء شكل معين للعلاقة بين الأوساط الأكاديمية والعمل السياسي. وهكذا، فإنه حان الوقت لطرح التساؤل بخصوص الربط بين حقل العلاقات الدولية والمجتمع المدني والوفاء بالتزاماته تجاه هذا الأخير.
أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فتتعلق بـ "الثقافة"، إذ أن أحداث 11 سبتمبر نبهت الباحثين في العلاقات الدولية إلى وجود نظم عقدية متباينة وعوامل ذاتية، في السياسة الدولية. وقد جعل الكثير من الافتراضات الأساسية في علم الاجتماع الغربي محل استفهام، لاسيما تلك التي تعتقد بعقلانية الفعل الإنساني الاجتماعي. ترى هذه العقلانية أن العالم يتجه نحو مصير مشترك، يتسم بالديموقراطية الليبرالية واقتصاد السوق، وأن المجتمعات تتمايز بحسب موقعها في مسار عجلة التاريخ، التي تقود جميع المجتمعات نحو وضعية واحدة، حيث الأفراد ذرائعيون عقلانيون، يعملون على تعظيم القيمة وفق النمط الذي يطرحه علم الاجتماع الغربي. وحسب وجهة النظر هذه، فإن الذاتانيات المتميزة هي مجرد وجه للعولمة والتحديث "الحتميين". هذه النظرة للمجتمع تمنحنا إجابة دقيقة عن العلاقة بين النظرية والممارسة، تلك التي تلح على الفصل بين الاثنين، وهو ما يجعلني أطرح استفهاما بشأنه في هذه المداخلة.
من وجهة نظر شخصية، يعتبر السؤال الأكثر إلحاحا بالنسبة لهذا الحقل المعرفي، هو ما إذا كان الأكاديميون ملزمون بالتوجه نحو التمرس في الشؤون الدولية، أم أنه يتوجب عليهم الابتعاد عن ذلك طالما أن التوجه الأكاديمي يعني أن يلتزم المرء بالحياد، وأن يبتعد عن الاهتمامات الآنية للأجندة السياسية؟ دعوني أقدم لكم طريقتين للإجابة عن هذا التساؤل، واللتان أود استبعادهما في النهاية.
تقتضي الطريقة الأولى بضرورة أن ينأى الأكادميون بأنفسهم بعيدا عن النقاشات الدائرة حول قضايا العلاقات الدولية، لأنه يفترض فيهم أن يحافظوا على حيادهم القيمي إزاء الأحداث السياسية. ووفقا لهذه النظرة، فإن الاستقامة الأكاديمية تستوجب تفادي طرح أسئلة معيارية. ترتبط هذه النظرة بالتصورات ذات النزعة الإمبريقية في المعرفة مجازة في ذلك من طرف المنهج الوضعي، وتلقى رواجا كبيرا عند علماء الاجتماع الأمريكيين (ليس فقط في مجال العلاقات الدولية، بل أيضا في علم الاقتصاد، وعلم السياسة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع)، وهي تسلم بضروروة فصل العمل الأكاديمي عن العالم "الواقعي" للسياسة، والمجتمع، والاقتصاد، وترى أن هذا العمل يقتصر على نقل وقائع هذا العالم. وبناء على ذلك، فإن الاستقامة الأكاديمية تستوجب الحفاظ على مسافة فاصلة بين الباحث والعالم الواقعي الذي يستمد منه ملاحظاته، ويعتبر ذلك نتيجة لالتزام علماء الاجتماع الأمريكيين بالحياد القيمي في مسعاهم للبحث عن المعرفة، الحياد الذي يستوجب التمييز بين القيم والحقائق، بين الذات الملاحظة وموضوع الملاحظة، بين المحلل وموضوع التحليل، وبين عالم السياسة المتعفن، والبرج الأكاديمي الآمن والتأملي المحايد.
لا تكتفي وجهة النظر هذه فقط بأهمية الإبقاء على الفصل بين النظرية والممارسة، ولكنها أيضا تكيل انتقادات لاذعة لكل من لا يحترم هذا التمايز. لقد حدثت هناك العديد من النقلات النظمية في حقل العلاقات الدولية في اتجاه تكريس هذا التمايز، وينسحب ذلك على التفريق بين المثالية والواقعية وتجسد كذلك في النقاشات المحتدمة بين الاتجاه السلوكي والكلاسيكي، وهو متجسد حاليا في تهجم الباحثين ذوي النزعة العقلانية على الأعمال التأملية، وأعني تلك التي تدخل في نطاق ما بعد الحداثة، النسوية والجندر، والنظرية النقدية، والمقاربات الإثنية والثقافية في العلاقات الدولية. من المهم جدا من الناحية النقدية الإشارة إلى أن التهجم على أعمال التأمليين لا يعود إلى أنهم يرسمون صورا لعوالم أخرى غير عالم العلاقات الدولية، بل لأن هذه المقاربات لا تحظى بالشرعية الأكاديمية مع ما يعنيه ذلك على الصعيد المهني وعلى صعيد فرص النشر.
إن المشكلة مع هذه الرؤية للعلاقة بين الأوساط الأكاديمية وعالم السياسة، هي أنها تستند إلى نظرة محكومة بخصوصيات تاريخية معينة لطبيعة علم الاجتماع، وهي نظرة تبقى محل استفهام، ويمكن لأي تحليل من وجهة النظر هذه أن يكون مضبوطا إذا ما تم اللجوء إلى أسس ثابتة للطرح المعرفي. غير أن هذه النظرة تستدعي المزيد من التمحيص من حيث أنه لا يوجد فعليا أسس إبستمولوجية مضبوطة على المستوى الماوراء نظري والعبر-ثقافي. ومن وجهة نظري، فإن المشكلة ليست مطروحة مع ما يسمى "بالنسبيين"، ولكن بالأحرى هي مطروحة مع أولئك اللذين يرفضون الإقرار بالطابع النسبي لأعمالهم بسبب السياق العام والثقافة التي وجدت في ظلها هذه الأعمال. وبعبارة أخرى، فإن أولئك الذين يتهجمون على المقاربات باعتبارها نسبية، إنما يفعلون ذلك على أساس خلفيات معرفية تعتبر هي ذاتها متحيزة، وتشكلت عبر تفاعل اجتماعي تاريخي، وهم بذلك يعكسون قوى ودوافع سياسية واقتصادية، واجتماعية معينة. وهو ما أشار إليه كوكس Cox عام 1981 في عبارته الشهيرة:" النظرية هي دوما من أجل أحد ما، ولهدف معين".
أعتقد أنه لا توجد نظرة من لاشيء، ولا توجد نظرة مضبوطة صادرة عن ملاذ أكاديمي بمعزل عن تأثيرات القوة والسياق الاقتصادي والسياسي، والاجتماعي والثقافي وأن كل المعارف متحيزة، وبهذا فإنه لا توجد نظرة تتوافق مع الحقيقة، فالنظرية ليست مرآة للطبيعة، ونخلص من ذلك إلى أن كل الطروحات المعرفية هي نتاج سياق القوة الذي نشأت فيه. يؤثر هذا السياق على مستويين أساسيين: في طبيعية الأسئلة المطروحة(مثلا، التفكير في العلاقة بين حقل العلاقات الدولية في الثلاثينات من القرن العشرين ومصالح القوى المهيمنة، والمملكة المتحدة والولايات المتحدة؛ أو العلاقة بين المواضيع الأساسية للعلاقات الدولية منذ 1945 أجندة صياغة السياسة الأمريكية). أما المستوى الثاني من التأثير فيتعلق بالتأثيرات السياقية، والمتأثرة بدورها بطبيعة الفئات التي تنتمي إليها، تلك التي تتشكل فيها علومنا وعوالمنا الذاتية. وأحسن مثال على ذلك، هو الطريقة التي تم فيها التميز بين الداخل والخارج، بين السياسة والاقتصاد، بين "النحن" و"الهم"، بين "الموت" الناجم عن السياسة و"الموت" الناجم عن الاقتصاد.
وهكذا، فإن الإقرار بوجود مكان معزول ومؤمن حيث يتيسر للأكاديميين الحقيقيين ملاحظة العالم، يتوقف على تصور مسبق للعالم، لا يتم الإقرار به في العادة. مثلا، النظرة للعلوم الاجتماعية تقارب للعالم كمعطى مسبق تماما مثلما تقدم نفسها للمحللين كطرف خارجي ومنفصل، وهي بذلك لا تبحث في الطريقة التي تتشكل بها النظرية والعالم، لتعاود النظرية تشكيله ليقوم بعدها في الأخير، ومن ثمة، بإعادة تشكيل النظرية. بطبيعة الحال فإن نظرتي الخاصة في حد ذاتها متفتحة للنقد. والقضية الأساسية في هذا النقد تتركز حول احتمال أن أكون ساعيا إلى محاولة تمرير قيمي الخاصة في التحليل، بذريعة أن الكل يفعل ذلك، أو أنني أرتكب خطأ في تقديم طبيعة علم الاجتماع بحيث تسببت في تقويض دعائم البحث الأكاديمي المستقل. لقد تمت مناقشة هذه المواقف من طرف وولت (1998) Walt، كيوهان (1998) Keohane، وكاتزنشتاين وآخرون...، في تقديمهم لأعمال التأمليين، وبحسب هؤلاء الباحثين، فإن أي طرح لا يقبل بإمكانية الحياد القيمي يوجد خارج المسعى الاجتماعي العلمي، لذلك سيتعرض لمخاطر التهميش طالما أنه يتحاشى الإقرار بإمكانية استقلالية العمل الأكاديمي. وفي هذا الصدد يقول كاتزانشتاين وآخرون (1998:ص 618) بأن مجلة المنظمة الدوليةInternational Organization قامت بنشر القليل فقط من الأعمال التأملية:" طالما أن مجلة "المنظمة الدولية" التزمت بخط يقضي بأن ما بعد الحداثيين لا يقرون باستعمال الشواهد لإصدار حكم إزاء إدعاء الحقيقة. كما أنه وخلافا للبنائية الاتفاقية أو النقدية، فإن ما بعد الحداثة تقع خارج مسعى علم الاجتماع. وفي العلاقات الدولية، يخشى أن تؤدي بحقل العلاقات الدولية لأن يصبح ذاتي الاستشهاد وأن تفك ارتباطه بالعالم، ولا يهم إن وجدت ادعاءات تناقض هذا الطرح.
وجهة النظر الثانية، بخصوص العلاقة بين النظرية والممارسة، تتمحور حول الواجب الملقى على عاتق الأكاديميين لمساعدة صانعي السياسة في بلدهم، وبذلك فإن دورهم يتمثل في تزويد السلطة بالحقيقة، وحسب والاس Wallace ، فإن على باحثي العلاقات الدولية أن يتجندوا لنقد بناء ومنفتح لتزويد السلطة بالحقيقة، وعدم إخفاء المعرفة في عبارات لغوية منمقة وغامضة، أو إدخال أنفسهم في متاهات الجدال اللغوي أو حتى تداول الحقيقة سرا بينهم. يحذر والاس من أن هذا الحقل المعرفي في حالة خطر، إذا ما ستمر في اللجوء إلى المزيد من التجريد وإلى المزيد من النظريات والنظريات الماورائية، والذي يرى أنه أسهل وأكثر متعة من العمل الشاق في تفاصيل دراسة الحالة. ويقترح والاس (والاس:317) على الباحثين أن يندمجوا في العالم الذي تمارس فيه السياسة بدلا من الانفصال المثير الذي تدعوا إليه ما بعد الحداثة بإدعاء منهم بأنهم يرغبون في تحويل العالم، بينما هم يتفادون الاحتكاك بأولئك اللذين يمارسون نفوذا معتبرا في العالم. ولقد تم اقتباس عبارات والاس مؤخرا من قبل كاتب الدولة البريطاني للتربية تشارلز كلارك؛ حيث رأى على أن التركيز على النظرية يؤدي إلى قطع التمويل على المعاهد الجامعية، قال:"لا يمكننا تبرير تخصصاتنا أساسا من منطلقات فلسفية أو جمالية... كما أنه لا يفترض أن نعمل على إنشاء نظام رهبنة. إذ يجب أن نبقي أبواب الجامعة مفتوحة... وهذا لنزود أولئك اللذين يتعين عليهم أن يتعاملوا مع مشاكل السلطة بالحكمة والخبرة" (والاس1996،ص ص. 320-321).
طرح شارلز كلارك في الأشهر الثلاثة الماضية نفس التحد أمام الجامعات في إنجلترا، عندما تساؤل عن مبرر وجودها، وقال أن مبرر ذلك هو اندماجها في المجتمعات التي وجدت فيها، وأن جامعة لا تأخذ ذلك بعين الاعتبار فإنها لن تحصل على التمويل الحكومي.
تطرح مثل هذه النظرة للعلاقة بين النظرية والممارسة العديد من المشاكل، سأعدد خمسة منها. أولا، أنها تركز على العملية الشكلية أو الرسمية بدلا من العمليات السياسية في تصورها الأوسع والذي تضم المجتمع المدني، وبالمثل، فإن المرجعية بالنسبة لهذه النظرة تتمثل في الدولة واهتماماتها وليس اهتمامات المجتمع المدني، وباختصار فهي نظرة ضيقة جدا للسياسة. ثانيا، تتبنى هذه النظرة الأجندة السياسية للدولة، وبذلك فهي تفترض علاقة وثيقة بين حقل العلاقات الدولية والسلطة، مما يعني أن الطلبة سيمزجون بين عالم السياسة والعالم الخاص بالسياسيين البارزين ويقبلون بذلك أجندتهم كما هي. ثالثا، تتجه نحو مواجهة الفكر طالما أنها تنفي إمكانية حصول تقييم ذاتي والقيام بالتفكير في مضامين المفاهيم التي تعمل في حدودها. رابعا، الإيعاز بتبليغ الحقيقة للسلطة يفترض أن أولئك اللذين هم في السلطة ينصتون. وفي الواقع فإنه ليس من الواضح إن كانت السلطة ترغب في سماع ما يقوله الأكاديميون إلا إذا كان ما يقولونه يتوافق مع رغباتهم. وليس من الواضح إطلاقا ما إذا كان السياسيون ينصتون إلى الأفكار الجديدة والتفسيرات الابتكارية، وبدلا من ذلك، فإنهم ينتقون الأفكار (تماما مثل ما يفعل المتسوق في المراكز التجارية) بالشكل الذي يتناسب مع خياراتهم السياسية القائمة. وأخيرا، فإن مثل هذه النظرة تجعل من حقل العلاقات الدولية نظرية لحل المشكل بدلا من أن تؤدي دور الإنعتاقية. ويعني ذلك أن الحقل المعرفي يأخذ الأجندة السياسية كما هي، بحيث أن العالم برمته يتم التعامل معه كما يتم التعامل مع حالات التجنس. سوف يصبح عسيرا حينذاك على البعض ربط علاقة بالسلطة إذا لم يقبلوا بأجندتها، وسيؤثر ذلك على علم العلاقات الدولية، إذ سيصبح الحديث بالكاد يكون ممكنا عن قضايا عديدة في علم السياسة، مثل المجاعة، الفقر، والجندر والعنصرية طالما أنها ليست محورية في أجندة السياسي.
تعتبر كلتا المقاربتين مثيرتين للجدل، كونهما تنطويان على افتراضين خاطئين، بالنسبة للأولى يتعلق الأمر بكونها تنظر للنظرية كأداة مفسرة، وبهذا فإنه يمكن فصلها عن السياسة والسلطة. ومن جهة أخرى، فإنها تفترض تبليغ الحقيقة لصانع القرار. وفي كلتا الحالتين، فإن هذين الافتراضين يقومان على أساس الفصل بين الأكاديميين والسلطة، بالنظر إلى التزام مسبق مسلم به للتصور الذي ينيط بالنظرية دورا تفسيريا. أما بالنسبة للثانية فيتعلق الأمر بنظرة المقاربتين اللتين تدعوان إلى الفصل بين النظرية والممارسة، إذا ما أراد المنظرون إبقاء قيمهم بعيدا عن التحليل. ومن جانب آخر، للمرافعين عن السياسة المتبعة، فإن مجالي النظرية والممارسة منفصلين إلا أنه يمكن الجمع بينهما بشكل معين يساعد على تبليغ الحقيقة للسلطة. باعتقادي فإن العلاقة بين النظرية والممارسة تتوقف على طرح الافتراضين السابقين وبدلا منهما التسليم بعلاقات مختلفة بين الاثنين. وهكذا، وردا على النظرية التي تنيط بالنظرية دورا تفسيريا أود القول أن النظرية تشكل الممارسة، وردا كذلك على الطرح القائل بضرورة الفصل بين النظرية والممارسة، أقول أن مجالي هذين النشاطين مرتبطين ببعضهما ارتباطا وثيقا بشكل لا يمكن تجنبه. أكرر القول أنه لا توجد نظرة من فراغ، ولذا فإن النظرية والممارسة تتجهان دوما للتشابك. لا يوجد باعتقادي تحليل سياسي محايد ولا حقيقة (مطلقة) يمكن تبليغها للسلطة. وبالمثل لا يوجد وسط أكاديمي غير متحيز ولا يوجد فضاء محمي بأسوار قلعة أصولية إبستيمولوجية. بل أن كل النشاطات الأكاديمية يتم تفعيلها في سياق سلطوي معين، في ثنائية السلطة/المعرفة. في اعتقادي، فإن كل نظرياتنا تعكس وتعزز قوى اجتماعية محددة، وكل منهما تتعامل مع جوانب المجمع كجوانب تحظى بالأولوية والحظوة بحسب السياق الذي نشأت فيه. هناك العديد من الأمثلة حول كيفية التعامل بشكل ملموس مع مثل هذه القضايا. وأود هنا أن أشير إلى أعمال كل من بوث Booth و كامبيل Campbell كنماذج لكيفية طرح هذه الاهتمامات بشكل يسمح بجعلها مؤهلة لإفادة صانعي القرار السياسي من جهة، ومتفتحة على اهتماماتهم من جهة أخرى.
وبذلك، فإن الخيارات المتاحة لباحثي العلاقات الدولية ليست أن ينأوا بأنفسهم بعيدا عن الممارسة، أو أن يدعوا فهما متميزا للعلاقات الدولية يتيح لهم معرفة الحقيقة والهمس بها لصانعي القرار، بل عليهم تقبل حقيقة أن الاعتبارات الأخلاقية لا يمكن فصلها عن البحث، ولا يمكن إدراك أهميتها إلا عندما تتم الدعوة إلى تغييبها أو الإلحاح على ذلك. وبهذا فإن الخطابات السياسية الأكثر بلاغة تأتي من أولئك الذين يرون في غيابها إحدى خصائص عملهم، ما يتيح لهم التركيز على "الحقائق" والخروج منها باعتبارات عملية ما يجعل العديد من تحركاتهم تبدوا أكثر "حصافة" من أخرى.
يعيدني ذلك للحديث عن العراق. بناء على ما سبق، فإن أية توصية عملية هي سياسية ومعيارية في جوهرها، وبالمثل فإن أي رفض للحقائق يركب الحرب يعكس قوى اجتماعية وسياسية، وتناسقا دقيقا لثنائية القوة/المعرفة. وباعتقادي فإن على العاملين في حقل العلاقات الدولية أن يدركوا بأنهم مندمجون في العمل السياسي والأخلاقي في آن واحد في كل مرة يقومون فيها بتدريس الممارسة السياسية، والبحث فيها، أو الدفاع عنها. التسليم بشيء من قبيل وجود نظرية بمعزل عن السلطة السياسية والقبول بعدم وجود مجال مستقل للممارسة السياسية لا تسنده نظرية، أو بوجود طروحات نظرية ومعرفية يمكن إبقاءها منفصلة عن بعضها البعض أو تركيبها ضمن توليفات شرعية، يعتبر من وجهة نظري الخطوة الأولى التي سيخطوها علم العلاقات الدولية، على حساب علوم اجتماعية تدعوا إلى التخلص من التأثيرات القيمية. وذلك ببساطة لأن الادعاء بإمكانية التمييز بين الحقائق والقيم ينطوي في حد ذاته على تحيز لمواقف معينة من السياسة والأخلاق. لقد تعرضت وجهة نظري للانتقاد من حيث أن ما أدعو إليه من حوار وتركيب يعتبر مستحيلا، كما أنه يستحيل إلى نسبية عدمية، ومثل هذه الانتقادات نجدها عند مورافسيك الذي يقول بهذا الشان: "إن البديل الذي يطرحه سميث، والذي يدعو من خلاله إلى تعدد نظري أشمل يعتبر تعسفا، وهو يعبر عن التماس المحافظين لتجميد هذا الحقل المعرفي... (إنه) لا يقترح بديلا عمليا بل يدعو إلى الإبقاء على الوضع القائم... وهو يتعامل مع التعدد كشيء أسمى من اللاتعدد- وهذا نوع من الجزم الذي يسمح بتمرير أي شيء من خلاله."
عوضا عن وجهة النظر الحالية المهيمنة في العلوم الاجتماعية، التي جمدت هذا الحقل المعرفي، توجد نظرة تقوم على موقف معين تجاه العلاقة بين النظرية والممارسة تنم عن خلفيات ثقافية محددة. لقد حان الوقت ليدرك الباحثون في هذا الحقل المعرفي بأننا جميعا انجذبنا إلى حلقات هيرمونيتقية وتركيب للذاتانيات. كون كل وجهات نظرنا مستمدة من خلفيات معينة. فلا يوجد شكل محدد للعالم، لأنه ليس بالشيء الذي يمكن الإمساك به وتحسسه، أو تحقيقه أو الولوج إليه، طالما أن كل الحقائق متحيزة. إن العمل الأكاديمي الناضج يحتاج إلى أن يعكس أكثر القوانين التي نتفاوض من خلالها، وليس بالإلحاح على الطرق التي يتم من خلالها تمييز وتركيب تلك التفسيرات المختلفة للحقيقة. الحقيقة ليست بشيء ما نجده، إنما هي شيء ننشه، سواء بوعي أو من دونه بدعم من بعض القوى الاجتماعية دون أخرى. ومن هنا فإن الاعتراف بأن تداخل القوة والمعرفة شيء لا مفر منه، هو المرحلة اللاحقة في تطوير حقل أكثر نضجا للعلاقات الدولية، إن هذا الإقرار يتطلب منا التحقق من القواعد التي نفاوض من خلالها عند الالتحاق بعالم العلاقات الدولية(عالم الممارسة).
تمت ترجمة المقال عن المصدر باللغة الإنجليزية: مجلة العلاقات الدولية والتنمية، سبتمبر 2003.
العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة.
ستيفن وولت،
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة شيكاغو،
الولايات المتحدة.
ترجمة: عادل زقاغ و زيدان زياني
لماذا يهتم صانعوا السياسة والممارسين لها بالدراسة الأكاديمية للشؤون الدولية؟
إن الذين يوجهون السياسة الخارجية عادة ما يصرفون النظر عن طروحات الأوساط النظرية (وهو ما يمكن تقبله في حالات كثيرة)، غير أن هناك علاقة لا يمكن تجاهلها بين العالم النظري المجرد والعالم الواقعي حيث تمارس السياسة، فنحن بحاجة للنظريات حتى نضفي معنى على الكم الهائل من المعلومات التي تغمرنا يوميا. وحتى صانعي السياسة الذين يتعالون على النظريات يتوجب عليهم في واقع الأمر أن يعتمدوا على أفكار خاصة بهم حول الكيفية التي تسير بها الشؤون الدولية (وفي العادة، لا يتم التصريح بها) في حال أرادوا اتخاذ قرار إزاء وضع معين، فالكل يستعمل نظريات - بإدراك أو يغيره - حيث أن التباين في وجهات النظر تجاه السياسة المتبعة يعود إلى الاختلافات الجوهرية حول القوى الأساسية التي تسهم في صياغة محصلات التفاعل الدولي.
لنأخذ على سبيل المثال، الحوار القائم حول كيفية التعامل مع الصين. إن صعود الصين من إحدى المنظورات، يعد إحدى النماذج الحديثة لتوجه القوى الصاعدة من أجل تغيير توازن القوى العالمي بأشكال يمكن أن تأخذ منحى خطيرا، خاصة وأن نفوذها المتعاظم يجعلها أكثر طموحا. ومن منظور آخر، فإن مفتاح التوجه المستقبلي للصين يتوقف على ما إذا كان سلوكها سيتغير بفعل اندماجها في الأسواق العالمية والانتشار (الذي لا يمكن تحاشيه؟) للمبادئ الديمقراطية. أما من وجهة نظر ثالثة، فإن العلاقات بين الصين وبقية العالم سوف تتشكل بتأثير عوامل الثقافة والهوية، وفقا للتساؤل التالي؛ هل ستنظر الصين لنفسها (وينظر الآخرون إليها) كعضو طبيعي في المجموعة الدولية أو كمجتمع متميز يستحق معاملة خاصة؟
بالطريقة ذاتها يمكن أن يأخذ النقاش حول حلف شمال الأطلسي أبعادا مختلفة بحسب النظرية التي تم توظيفها، فالمنظور الواقعي يعتبر أن توسيع الناتو يدخل ضمن مسعى توسيع النفوذ الغربي فيما وراء المجال التقليدي للمصالح الأمريكية الحيوية، وهذا في مرحلة تتميز بتراجع النفوذ الروسي، ولذا يحتمل أن يثير ذلك ردة فعل عنيفة من جانب موسكو. أما المنظور الليبرالي فيرى أن توسيع الناتو سيعزز الديمقراطيات الناشئة في أوربا الوسطى ويساهم في توسيع نطاق الآليات الأطلسية لإدارة النزاع إلى منطقة تبقى فيها الاضطرابات أمرا واردا. ومن منظور ثالث، يمكن التركيز على أهمية إدماج جمهورية التشيك والمجر وبولندا ضمن المجموعة الأمنية الغربية والتي يتقاسم أعضاؤها هوية مشتركة تجعل من الحرب أمرا جد مستعبد.
لا يمكن لأية مقاربة منفردة أن تستوعب التعقيد المميز للسياسة العالمية المعاصرة، ولذلك فنحن إزاء مجموعة كبيرة من الأفكار المتنافسة ولسنا إزاء تقليد نظري واحد. وهذا التنافس بين النظريات يساعد على معرفة مواطن القوة والضعف ويثير بذلك التحويرات اللازمة.
مـن أيـن أتـينا
انحصرت دراسة الشؤون الدولية في التنافس المستديم بين المنظورات الواقعية، والليبرالية والراديكالية. ففي حين يركز الواقعيون على الطابع التنازعي للعلاقات بين الدول، فإن الليبرالية تحدد طرقا متنوعة للتخفيف من حدة هذه التوجهات التنازعية، بينما يبين لنا المنظور الراديكالي كيفية تحويل نظام العلاقات الدولية برمته. الحدود بين هذه المنظورات ليست واضحة كما أن العديد من الأعمال المهمة في هذا المجال لا تتناسب وتصنيفها ضمن إحدى هذه الاتجاهات الثلاثة، غير أن النقاش بينها كان بمثابة ميزة أساسية لهذا الحقل المعرفي.
الـواقـعية
لقد هيمن المنظور الواقعي على حقل العلاقات الدولية خلال فترة الحرب الباردة، وتفترض الواقعية أن الشؤون الدولية عبارة عن صراع من أجل القوة بين دول تسعى لتعزيز مصالحها بشكل منفرد، وهي بذلك تحمل نظرة تشاؤمية حول آفاق تقليص النزاعات والحروب، غير أنها ساعدت على تزويدنا بتفسيرات بسيطة لكنها قوية للحروب، والتحالفات، والإمبريالية، وعقبات التعاون وغيرها من الظواهر الدولية. كما أن تركيزها على النزعة التنافسية كان متناسبا جدا مع جوهر الصراع الأمريكي-السوفييتي.
الواقعية ليست نظرية واحدة بطيعة الحال، كما أن الفكر الواقعي تبلور بالأساس خلال فترة الحرب الباردة. فالواقعيون الكلاسيكيون مثل هانس مورقينتو وراينهولد نايبور يعتقدون أن الدول مثلها مثل البشر تمتلك رغبة فطرية في السيطرة على الآخرين، وهو ما يقودها نحو التصادم والحروب، وقد أبرز مورقينتو فضائل نظام توازن القوى التقليدي المتعدد الأقطاب، ويرى أن نظام الثنائية القطبية الذي برزت فيه الو.م.أ. والاتحاد السوفييتي يحمل العديد من المخاطر.
وبالمقابل، فإن النظرية النيوواقعية التي يتزعمها كينيث وولتز تغفل الطبيعة البشرية وتركز على تأثير النظام الدولي، فبالنسبة لـ وولتز، فإن النظام الدولي يتشكل من مجموع القوى الكبرى، كل منها تسعى للحفاظ على وجودها. فهذا النظام فوضوي (بمعنى انتفاء سلطة مركزية تحمي كل دولة من أخرى) وفي ظله نجد أن كل دولة لا تهتم سوى بمصالحها، غير أن الدول الضعيفة تسعى لإيجاد نوع من التوازن بدلا من الدخول في صراع مع الخصوم الأقوياء. وأخيرا، وخلافا لـ مورقينتو فإن وولتز يعتقد أن النظام الثنائي القطبية أكثر استقرارا من النظام المتعدد الأقطاب.
إحدى الإضافات التنقيحية المهمة للواقعية تتمثل في ظهور التوجهين الهجومي-الدفاعي ويتزعمهما كل من روبرت جرفيس، وجورج كويستر، وستيفن فان إيفيرا. هؤلاء الباحثون يعتقدون بتزايد احتمالات الحرب بين الدول كلما كانت لدى بعضها القدرة على غزو دولة أخرى بسهولة. لكن عندما تكون القدرات الدفاعية أكثر تيسرا من القدرات الهجومية فإنه يسود الأمن وتزول حوافز النزعة التوسعية. وعندما تسود النزعة الدفاعية، ستتمكن الدول من التمييز بين الأسلحة الدفاعية والأسلحة ذات الطابع الهجومي، آنئذ يمكن للدول امتلاك الوسائل الكفيلة بالدفاع عن نفسها دون تهديد الآخرين، وهي بذلك تقلص من آثار الطابع الفوضوي للساحة الدولية.
أما الواقعيون ذوو النزعة الدفاعية، فيرون أن الدول تسعى فقط للحفاظ على وجودها، بينما تقدم القوى الكبرى ضمانات لصيانة أمنها عن طريق تشكيل تحالفات توازنية بانتقاء آليات دفاعية عسكرية (مثل القدرات النووية الانتقامية). وليس من المفاجئ أن نجد وولتز وغيره من النيوواقعيين الذين يرون أن الو.م.أ. كانت آمنة في أغلب فترات الحرب الباردة يتخوفون من إمكانية تبديد الو.م.أ. لهذا المكسب في حال تبنيها لسياسة خارجية عدائية. وهكذا، فإنه وبنهاية الحرب الباردة تحولت الواقعية التشاؤمية لـ مورقينتو والمستمدة من الطبيعة البشرية إلى تبني نبرة أكثر تفاؤلية.
اللـيبرالـية
التحدي الأساس للواقعية يأتي من عائلة النظريات الليبرالية، التي ترى إحدى اتجاهاتها أن الاعتماد المتبادل في الجانب الاقتصادي سوف يثني الدول عن استخدام القوة ضد بعضها البعض، لأن الحرب تهدد حالة الرفاه لكلا الطرفين.
اتجاه آخر منسوب للرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون، يرى أن انتشار الديمقراطية يعتبر مفتاحا للسلام العالمي، ويستند هذا الرأي إلى الدعوى القائلة بأن الدول الديمقراطية أكثر ميلا للسلام من الدول التسلطية. وهناك اتجاه ثالث، وهو الأحدث، يرى أن المؤسسات الدولية مثل وكالة الطاقة الذرية وصندوق النقد الدولي، يمكن أن تساعد للتغلب على النزعة الأنانية للدول عن طريق تشجيعها على ترك المصالح الآنية لصالح فوائد أكبر للتعاون الدائم. ورغم أن بعض الليبراليين احتفوا بالفكرة التي تعتبر أن الفاعلين عبر القوميين - خاصة الشركات المتعددة الجنسيات - استحوذوا تدريجيا على سلطات الدول فإن الليبرالية بصفة عامة ترى في الدول فاعلين مركزيين في الشؤون الدولية. وفي كل الحالات فإن جميع النظريات الليبرالية تطغى عليها النزعة التعاونية بشكل يتجاوز بكثير الاتجاه الدفاعي في النيوواقعية، على أن كلا منهما يقدم لنا توليفة مختلفة عن كيفية تعزيز هذا التعاون.
المقاربات الراديكالية
إلى غاية الثمانينيات كانت الماركسية بمثابة البديل الأساسي للاتجاهين المهيمنين على العلاقات الدولية (الواقعية والليبرالية) وقد تجاوزت الماركسية نظرة الواقعيين والليبراليين للنظام الدولي كمعطى مسبق، إلى تقديم تفسير مختلف للنزاعات الدولية، بل وأكثر من ذلك، فقد زودتنا بمسودة تتضمن تحويلا جوهريا للنظام الدولي.
فالنظرية الماركسية الأرثوذكسية ترى أن الرأسمالية هي السبب الأساس للنزاعات الدولية. فالدول الرأسمالية تحارب بعضها كنتيجة لصراعها الدائم من أجل الربح. كما أنها تحارب الدول الاشتراكية لأنها ترى فيها بذور فنائها. وبالمقابل، فإن النظرية النيوماركسية "التبعية" تركز على العلاقات بين القوى الرأسمالية الأكثر تطورا والدول الأقل تطورا، إذ ترى أن الأولى أصبحت أكثر غنى باستغلال مستعمراتها مدعومة في ذلك بتحالف غير مقدس مع الطبقات الحاكمة للدول السائرة في طريق النمو. وهكذا، فإن الحل في نظرها يكمن في الإطاحة بهذه النخب الطفيلية وتأسيس حكومات ثورية تلتزم بتنمية ذاتية.
في الواقع، لقد تم دحض افتراضات كلتا النظرتين (الماركسية والنيوماركسية) حتى قبل نهاية الحرب الباردة. أما بالنسبة للأولى، فإن تاريخ التعاون الاقتصادي والعسكري الوثيق بين القوى الصناعية المتقدمة، أظهر أن الرأسمالية لا تحتم الانقياد نحو التنازع، وبالمقابل، فإن الانشقاقات الكبيرة التي شهدها العالم الشيوعي مع نهاية الحرب الباردة، أظهرت أن الاشتراكية لا تقوم دوما بتعزيز الانسجام. نظرية التبعية بدورها قد عانت من شواهد إمبريقية لا تسير في اتجاه افتراضاتها، مع بروز حقيقة مفادها أن المشاركة الفاعلة في الاقتصاد العالمي كانت بمثابة الطريق الأمثل للازدهار، وذلك بخلاف نهج التنمية الذاتية بالمفهوم الاشتراكي، ومن جهة أخرى، فإن العديد من الدول السائرة في طريق النمو أثبتت أنها قادرة على المفاوضة بنجاح مع الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات الدولية الرأسمالية.
ومع استسلام الماركسية لاخفاقاتها المتعددة، اتجه منظروها لاستعارة مفاهيم وتصورات من أدبيات ما بعد الحداثة، خاصة من التيار النقدي في الأدب والعلوم الاجتماعية. هذه المقاربة التي تقوم على المنهج التفكيكي أبدت تشكيكها في مساعي الليبراليين والواقعيين لتعميم افتراضاتهم، إذ ركز رواد هذا الاتجاه الجديد على أهمية اللغة والخطاب في تشكيل المحصلات الاجتماعية، إلا أن اقتصارهم على نقد المنظورات السائدة دون تقديم بدائل إيجابية جعلهم مجرد أقلية منشقة طيلة الثمانينيات.
السياسة الوطنية
لم تكن جل الأبحاث في الشؤون الدولية خلال فترة الحرب الباردة تتناسب وتصنيفها ضمن إحدى المنظورات الثلاثة السائدة، وبالذات تلك التي تركز على خصائص الدول، والمنظمات الدولية، والقيادات. مثل هذه الأعمال تناسب التوجه الديمقراطي في النظرية الليبرالية، كما هو الأمر بالنسبة لمجهودات بعض الباحثين مثل قراهام أليسون وجون ستاينبرونر باستعمالهما لنظرية المنظمة والسياسة البيروقراطية لتفسير توجهات السياسة الخارجية، أو تلك الخاصة بجيرفيس إيرفينغ وآخرين ممن حاولوا تطبيق علم النفس الاجتماعي وعلم النفس المعرفي. لكن أغلب هذه الأعمال لا تسعى لتزويدنا بنظرية عامة حول السلوك الدولي، بل تحاول تحديد العوامل الأخرى التي يمكن أن تقود الدول للتصرف بشكل يخالف توقعات الواقعيين والليبراليين. فالجزء الأكبر من هذه الأدبيات يجب اعتباره مكملا للمنظورات الثلاثة - وليس منافسا لها - في تحليل النظام الدولي ككل.
تصدعات جديدة في منظورات قديمة
أصبحت الدراسة الأكاديمية للشؤون الدولية أكثر تنوعا منذ نهاية الحرب الباردة بحيث برزت الأصوات غير الأمريكية، كما حصل عدد كبير من المناهج والنظريات على الشرعية. بل وأكثر من ذلك، فقد أدرجت مواضيع جديدة في أجندة الباحثين على الصعيد العالمي، ومن بينها النزاعات الإثنية، والبيئة ومستقبل الدولة.
ومع ذلك، فإن الاتجاه نحو التجديد لم يكن في حقيقة الأمر سوى نسخة مكررة للقديم. وبدلا من حل الصراع القائم بين مختلف المقاربات النظرية المتنافسة، فإن نهاية الحرب الباردة لم يعقبها سوى إطلاق سلسلة جديدة من النقاشات، ثم إن اعتناق أغلب التجمعات لنفس القيم المتعلقة بالديمقراطية، السوق الحرة وحقوق الإنسان لم يؤد إلى نوع من الوفاق، بل أن الباحثين الذين عكفوا على دراسة هذه التطورات هم الآن أكثر انقساما من ذي قبل.
انحسار الواقعية
رغم أن نهاية الحرب الباردة قادت بعض الكتاب للتصريح بالإفلاس الأكاديمي للواقعية، إلا أن المتداول بشأن إخفاقها الكلي مبالغ فيه.
يعتبر مفهوم المكاسب النسبية والمكاسب المطلقة إحدى الإسهامات الحديثة للواقعية. فردا على افتراض "الاتجاه المؤسساتي" الذي يعتبر أن المؤسسات الدولية ستًمكن الدول من ترك المزايا قصيرة المدى لصالح مكاسب أكثر للتعاون على المدى الطويل. بحيث يشير الواقعيون من أمثال جوزيف قريكو وستيفن كراسنر إلى أن الفوضى تدفع بالدول للقلق بشأن هذه المكاسب المطلقة من خلال التعاون، زيادة على الطريقة التي يتم وفقها توزيع هذه المكاسب بين المتعاونين، وتبرير ذلك هو أن الدول التي تستحوذ على مكاسب تفوق مكاسب شركائها ستصبح بالتدريج أقوى، بينما يصبح شركاءها أكثر هشاشة.
وفضلا عن ذلك، فقد كان الواقعيون سباقين أيضا إلى استكشاف مجموعة من القضايا المستجدة. فـ باري بوزان يقدم لنا تفسيرا واقعيا للنزاعات الإثنية، بالإشارة إلى أن تمزق الدول المتعددة الإثنيات يمكن أن يضع المجموعات الإثنية أمام وضع فوضوي. هذا الواقع الجديد، يثير مخاوف كل طرف تجاه الطرف الآخر، ويقود كليهما إلى محاولة استعمال القوة لتحسين وضعه النسبي، هذه الوضعية تتعقد أكثر عندما تكون في الإقليم، المأهول من طرف مجموعة معينة، جيوب تسكنها إثنيات أخرى، مثلما حدث فيما كان يعرف بيوغسلافيا. ذلك أن كل طرف يحاول تنفيذ تصفية إثنية (استباقية) لإنهاء وجود أية أقليات غريبة، ما يسمح بالتوسع لضم كل الأفراد المنتمين لمجموعتهم والمتواجدين خارج الحدود الحالية لإقليمهم. وبخصوص مسعى توسيع حلف شمال الأطلسي، فقد حذر الواقعيون من أن ذلك سوف يؤدي الى شل العلاقات مع روسيا في ظل غياب عدو واضح يبرر مسعى التوسيع.
وأخيرا، هناك بعض الباحثين من أمثال مايكل ماستاندونو الذين أشاروا إلى أن سياسة الو.م.أ. تتوافق مع المبادئ الواقعية، خاصة وأن مختلف تحركاتها مصممة أساسا للإبقاء على واقع الهيمنة الأمريكية، ولإقرار نظام ما بعد الحرب بشكل يعزز المصالح الأمريكية.
إن التطور الأكثر أهمية من الناحية التصورية يتمثل في الشرخ المتنامي بين الاتجاهين الدفاعي والهجومي. رواد الاتجاه الدفاعي (كينيث وولتز، فان إيفيرا، جاك سنايدر) يفترضون أنه ليس للدول مصالح كبيرة في الغزو العسكري، ويرون أن التكاليف المترتبة عن السياسات ذات النزعة العسكرية تفوق عادة الفوائد المرجوة منها. وتبعا لذلك فإنهم يرون أن الحروب التي تخوضها الدول الكبرى تحدث عموما نتيجة لشعور مبالغ فيه بالخطر والذي تغذيه مجموعات داخلية، كما تعود أيضا إلى الثقة المفرطة في فعالية العمل العسكري.
لقد تعرضت وجهة النظر هذه لموجة من الانتقادات مست مختلف الجوانب:
راندال سفيلر يشير إلى أن الافتراض النيوواقعي القاضي بأن الدول تسعى فقط للحفاظ على وجودها، ينطوي على تكريس الوضع القائم، ذلك أنها تحول دون التنبؤ بالخطر الذي تمثله الدول العدوانية مثل ألمانيا في عهد هتلر أو فرنسا في عهد نابليون بونابرت والتي لم تكن تعير اهتماما لموجوداتها بقدر اهتمامها بتلبية مطامعها، وهي مستعدة للمخاطرة بفنائها من أجل تحقيق أهدافها.
أما بيتر ليبرمان في كتابه: "ماذا يجني الغزاة؟" فيورد العديد من الشواهد التاريخية كالاحتلال النازي لأوربا الغربية والهيمنة السوفيتية على أوربا الشرقية, ليبين لنا أن فوائد الغزو تفوق تكاليفه، وهو بذلك يزيل الشك عن الادعاء القائل بأن التوسع العسكري لم يعد مربحا.
في حين أن الواقعيين الهجوميين (إيريك لابس، وجون ميرشايمر، وفريد زكريا) يرون أن الفوضى تدفع الدول للعمل على تعظيم قوتها النسبية طالما أن ظهورا مفاجئا لقوة تعيد النظر في الواقع القائم يبقى احتمالا واردا.
هذه الخلافات تساعدنا على تفسير السبب الذي يجعل الواقعيين يختلفون حول مجموعة من القضايا مثل مستقبل أوربا، فالواقعيون الدفاعيون مثل فان إيفيرا، يرون أن الحرب نادرا ما تكون ذات فائدة، وهي في العادة نتاج النزعة العسكرية والقومية المفرطة، إضافة إلى عوامل أخرى، ولأن فان إيفيرا لا يعتقد بتوفر هذه العوامل في أوربا ما بعد الحرب الباردة، فانه يخلص إلى أن المنطقة سيسودها السلام. وبالمقابل نجد ميرشايمر وغيره من الواقعيين الهجوميين يعتقدون أن الفوضى تدفع القوى الكبرى إلى التنافس بغض النظر عن خصائصها الداخلية، فهم يرون أن مناخ التنافس حول الأمن سوف يسود أوربا بمجرد انسحاب راعي السلام الأمريكي.
حياة جديدة لليبرالية
أثار انهزام الشيوعية نوعا من مشاعر الغبطة في الغرب، وقد تجلى ذلك في طروحات فوكوياما حول نهاية التاريخ، ورغم أن التاريخ لم يول اهتماما كبيرا لهذا الاعتزاز، إلا أن ذلك أعطى دفعة قوية للتيارات الثلاثة للفكر الليبرالي.
برز ذلك وبشكل واضح في النقاشات الدائرة حول "السلام الديمقراطي"، فرغم أن آخر حلقة من النقاش حول "السلام الديمقراطي"، كانت قد ابتدأت فعليا قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، غير أن هذا المفهوم أصبح أكثر إسنادا بزيادة عدد الدول الديمقراطية وتراكم مزيد من الشواهد الإمبريقية المؤكدة للارتباط القائم بين الديمقراطية والسلام.
فنظرية "السلام الديمقراطي" تعتبر تحويرا للطرح المبكر القاضي بأن الدول الديمقراطية نادرا ما تحارب بعضها البعض بالرغم من أنها قد تدخل في حروب ضد دول أخرى. وقد قدم لنا بعض الباحثين من أمثال مايكل دويل، وجيمس لي ري وبروس راسيت، عددا من التفسيرات في هذا الاتجاه، ومن أكثرها انتشارا تلك القائلة بأن الدول الديموقراطية تعتنق ضوابط التوفيق التي تمنع استعمال القوة بين أطراف تعتنق نفس المبادئ. إنه من الصعب تصور وجود تفسير أقوى حجة من "السلام الديمقراطي" لتبرير مساعي إدارة كلينتون الهادفة إلى توسيع مجال الحكم الديمقراطي.
أصبح "السلام الديمقراطي" بذلك قاعدة للسياسة الأمريكية، مما دفع إلى الشروع في مزيد من الأبحاث حول إسنادات هذه النظرية. أولا: أشار كل من سنايدر وإدوارد مانسفيلد إلى أن الدول قد تكون أكثر ميلا للحرب عندما تمر بمرحلة الانتقال نحو الديمقراطية، مما يعني أن المساعي الحالية لتصدير الديمقراطية قد تجعل الأمور أسوأ مما هي عليه.
ثانيا: أشارت انتقادات كل من دايفد سبيرو وجوان قوا إلى أن الغياب الظاهري للحروب بين الدول الديمقراطية يعود إلى الطريقة التي تمت بواسطتها تعريف الديمقراطية والعدد القليل نسبيا للدول الديمقراطية (خاصة قبل 1945). فضلا عن ذلك فإن كريستوفر لين يعتبر أن تمسك الدول الديمقراطية بخيار السلام عندما كانت احتمالات الحرب واردة لا يعود بالضرورة إلى تقاسم القيم الديمقراطية. ثالثا: إذا كانت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تقدم لنا الدليل الحاسم بعدم لجوء الدول الديمقراطية إلى خيار الحرب ضد بعضها البعض، فإن غياب حالات تنازعية في هذه الفترة يعود حسب قوا إلى وجود مصلحة مشتركة في احتواء الاتحاد السوفييتي أكثر منه تقاسم المبادئ الديمقراطية.
الليبيراليون المؤسساتيون بدورهم استمروا في تكييف نظرياتهم. ويعود ذلك من جهة، إلى أن الطرح الجوهري لهذه النظرية فقد الكثير من بريقه مع مرور الزمن، إذ أن المؤسسات أصبح ينظر إليها كعامل مسهل للتعاون طالما أن ذلك يتماشى مع مصلحة الدول، لكنه أصبح من الواضح الآن أن المؤسسات لا تستطيع فرض سلوكات معينة على الدول إذا كان يتنافى مع مصالحها الأنانية [للمزيد حول هذا الموضوع أنظر مقال روبرت كيوهان]. ومن جهة أخرى، فقد قام المؤسساتيون من أمثال جون بافيلد وروبرت ماكالا بتوضيح النظرية لتشمل مجالات متعددة. أبرزها دراسة منظمة حلف شمال الأطلسي، إذ يرى هؤلاء الباحثون أن خاصية المأسسة العالية للناتو تفسر سر بقائِه وتكيفِهِ مع التغيرات بالرغم من اختفاء خصمه التقليدي.
من جانبه لازال الاتجاه الاقتصادي للنظرية الليبرالية يحظى بنفوذ كبير، خاصة ما طرحه بعض الباحثين من أن عولمة الأسواق العالمية، وظهور الشبكات عبر الوطنية، والمنظمات غير الحكومية، والانتشار السريع لتكنولوجيا الاتصالات الكونية، كلها ساهمت في تقويض صلاحيات الدول وحولت الاهتمام من مسائل الأمن العسكري إلى قضايا الاقتصاد والرفاه الاجتماعي. وبالرغم من جدة هذه التحولات، إلا أن المنطق الذي تقوم عليه بسيط جدا، فطالما أن المجتمعات أصبحت مرتبطة ببعضها بشبكة من الارتباطات الاقتصادية والاجتماعية، فإن التكاليف المرتفعة لفك هذه الارتباطات سوف تردع التحركات الانفرادية للدول، وخاصة الاستعمال المنفرد للقوة.
هذا المنظور يتضمن حقيقة أن الحرب ستبقى احتمالا قائما بين الدول الأكثر تصنيعا، كما أنه يشير إلى أن دفع الصين وروسيا لتبنى الرأسمالية المتوحشة يعتبر الوسيلة المثلى لتعزيز الازدهار والسلام، خاصة إذا مكن ذلك من إيجاد طبقة متوسطة داخل هذه الدول وساهم في الضغط تجاه الدمقرطة. ولا شك أن جلب الازدهار وروح التنافس إلى هذه المجتمعات مهمة ذات طابع اقتصادي.
تعرضت هذه النظرة إلى الانتقاد من طرف باحثين يرون أن النطاق الحالي للعولمة لا يزال متواضعا، وبأن ما يتم من عمليات اقتصادية مختلفة لازالت تضبطها الدول. ومع ذلك، فإن الفكرة القائلة بتفوق قوى الاقتصاد على السياسة التقليدية للقوى الكبرى تحظى بانتشار واسع في أوساط الباحثين وصناع السياسة على حد سواء. ويبدو أن "دور الدولة" سيكون موضوعا مهما في الأبحاث الأكاديمية المستقبلية.
النظريات البنائية
في الوقت الذي تميل فيه كل من الواقعية والليبرالية إلى التركيز على العوامل المادية فإن المقاربات البنائية تركز على تأثير الأفكار، وبدلا من النظر إلى الدولة كمعطى مسبق والافتراض أنها تعمل من أجل بقائها، يرى البنائيون أن المصلحة والهوية تتفاعل عبر عمليات اجتماعية (تاريخية) كما يولون أهمية كبيرة للخطاب السائد في المجتمع، لأن الخطاب يعكس ويًشكلً في الوقت ذاته المعتقدات والمصالح، ويؤسس أيضا لسلوكات تحظى بالقبول. إذن، فالبنائية تهتم أساسا بمصدر التغير أو التحول. وهذه المقاربة حلت بشكل كبير محل الماركسية كمنظور راديكالي للشؤون الدولية.
ساهمت نهاية الحرب الباردة في إضفاء الشرعية على النظريات البنائية لأن الواقعية والليبرالية أخفقتا في استباق هذا الحدث كما أنهما وجدتا صعوبة كبيرة في تفسيره، بينما تمتلك البنائية تفسيرا له، خصوصا ما يتعلق بالثورة التي أحدثها ميخائيل غورباتشيف في السياسة الخارجية السوفيتية باعتناقه أفكارا جديدة "كالأمن المشترك".
زيادة على ذلك، وبالنظر إلى التحدي الذي تتعرض له الضوابط التقليدية بمجرد تحلل الحدود، وبروز القضايا المرتبطة بالهوية، فإنه ليس من المفاجئ أن نجد الباحثين قد التجؤوا إلى مقاربات تدفع بمثل هذه القضايا إلى الواجهة وتجعل منها محور الاهتمام.
ومن وجهة نظر بنائية، فإن القضية المحورية في عالم ما بعد الحرب الباردة هي كيفية إدراك المجموعات المختلفة لهوياتها ومصالحها. ورغم أن التحليل البنائي لا يستبعد متغير القوة، إلا أن البنائية ترتكز بالأساس على كيفية نشوء الأفكار والهويات، والكيفية التي تتفاعل بها مع بعضها البعض، لتشكل الطريقة التي تنظر بها الدول لمختلف المواقف، وتستجيب لها تبعا لذلك. ومن خلال ما سبق، يتضح أن معرفة ما إذا كان الأوروبيون ينظرون إلى أنفسهم بمنظور وطني أم بمنظور قاري، ينطوي على أهمية تحليلية كبيرة، وينسحب الأمر ذاته عما إذا كان الألمان واليابانيون سيعملون على إعادة النظر في ماضيهم، بحيث يتبنون أدوارا خارجية فاعلة، وعما إذا كانت الو.م.أ. ستعتنق أو سترفض هوية تقضي بأن يلعب الأمريكيون دور دركي العالم.
النظريات البنائية متعددة، وهي لا تقدم لنا تصورا موحدا لتوقعاتها حول أي من القضايا المطروحة على المستوى التصوري الصرف، إذ يرى ألكسندر ووندت أن التصور الواقعي للفوضى لا يقدم لنا تفسيرا مناسبا لأسباب حدوث النزاعات الدولية، فالقضية الجديرة بالنقاش هي كيف يتم فهم هذه الفوضى؟ وبحسب ووندت، فإن الفوضى هي ما صنعته الدول [وليست معطى مسبق]. هناك اتجاه آخر للبنائية يركز على مستقبل الدولة، ويعتبر أن الاتصالات عبر الوطنية وتقاسم القيم المدنية أدت إلى تقويض دعائم الولاءات الوطنية التقليدية، وإيجاد أشكال جديدة من الجمعيات السياسية. كما أن بعض البنائيين يركزون على دور الضوابط ويرون أن القانون الدولي وغيره من المبادئ الآمرة أدت إلى نخر المفاهيم التقليدية البدائية للسيادة، مثلما استطاعت تصوير الأغراض المشروعة التي تمارس الدول سلطاتها استنادا إليها. ومهما يكن، فإن الموضوع المشترك بين كل هذه الاتجاهات يتمثل في قدرة الخطاب على صياغة الكيفية التي يحدد بها الفاعلون هويتهم ومصالحهم وبالنتيجة يقومون بتعديل سلوكاتهم.
إعادة النظر في السياسة الوطنية
مثلما كان عليه الأمر في فترة الحرب الباردة، استمر الباحثون في استكشاف تأثير السياسة الوطنية على السلوك الخارجي للدولة، فالسياسة الوطنية تعتبر متغيرا حاسما في النقاش حول مفهوم "السلام الديمقراطي". وقد قام بعض الباحثين من أمثال "سنايدر، وجيفري فريدن وهيلين ميلنر" بفحص كيفية تأثير مجموعات المصالح في خيارات الدولة بحيث تقودها إلى سلوكات خارجية غير متوقعة. وكذلك فقد قام جورج داونس ودايفيد روك بتبيان الدور الذي تلعبه المؤسسات الوطنية في المساعدة على التعامل مع الغموض الذي يكتنف الشؤون الدولية. بينما قام بعض باحثي علم النفس بتطبيق النظرية الاستشفافية جنبا إلى جنب مع أدوات تحليلية أخرى لتفسير سبب إخفاق صناع القرار في التصرف بشكل عقلاني [لمعلومات أكثر حول صناعة القرار في السياسة الخارجية، أنظر مقال مارقاريت هيرمان، وجو هاقان.
شهدت العشرية الأخيرة من القرن العشرين تزايد الإهتمام بتصور الثقافة، وقد تزامن ذلك مع بروز الاتجاه البنائي الذي يركز على أهمية الأفكار والضوابط. فقد استعمل كل من توماس بيرقر وبيتر كاتزنشتاين المتغيرات الثقافية لتفسير نزوع ألمانيا واليابان بعيدا عن السياسات العسكرية التي تعتمد على الذات. كما قدمت إليزابيث كير تفسيرات ثقافية للعقائد العسكرية التي سادت بريطانيا وفرنسا، في فترة ما بين الحربين. أما لين جونستون فقد قامت بتقصي حالات الاستمرارية في السياسة الخارجية الصينية فيما تعتبره "واقعية ثقافية" متجذرة. في حين تعتبر التحذيرات الجريئة التي أطلقها صامويل هنتنغتون حول "صدام الحضارات" إحدى أعراض هذا الاتجاه التفكيري، حيث يستند طرحه على القول بأن الانتماءات الثقافية الواسعة أصبحت الآن تحل محل الولاءات القومية. لكن وبالرغم من أن هذه الأعمال وغيرها تقارب للثقافة في مفهومها الواسع، غير أنها أبعد من أن تقدم لنا فهما كاملا حول كيفية تفعيلها، والمدى الذي يمكن أن تأخذه آثارها، إلا أن المقاربات ثقافية-التوجه أصبحت جد شائعة في الخمس سنوات الأخيرة. يعتبر هذا الإتجاه وجها من أوجه الاهتمام الواسع بالقضايا الثقافية في الأوساط الأكاديمية (وضمن النقاش العام على حد سواء). كما أنه وفي جانب منه يعتبر ردة فعل على تصاعد حدة النزاعات الإثنية والوطنية والثقافية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
لوحة المفاتيح التصورية
تعكس هذه النقاشات تنوع الدراسات الأكاديمية المعاصرة حول الشؤون الدولية، كما وتظهر علامات واضحة حول التقاطع المنهجي. فأغلب الواقعيين يعترفون بأهمية القومية والنزعة العسكرية والإثنية وغيرها من العوامل الوطنية، كما يقر الليبراليون بدورهم بأن القوة تعتبر عاملا محوريا في السلوك الدولي، تماما مثلما يقبل البنائيون بالرأي القائل بأن الأفكار تكتسي أهمية أكبر عندما تسندها دول قوية ويتم تعزيزها بموارد قوة مادية. لقد أصبحت الحدود بين مختلف المنظورات مائعة على نحو ما، وهناك فرصة كبيرة للتحكيم العقلية.
لكن أي من هذه المنظورات تلقي الضوء أكثر على الشؤون الدولية المعاصرة؟ وأي منها يتوجب على صانعي السياسة أخذها بين الاعتبار عندما يكون بصدد تحديد مصائرنا في القرن المقبل؟ تعتبر الواقعية الإطار العام الأكثر إلزاما لفهم العلاقات الدولية، بالرغم من أن الكثير من الأكاديميين والعديد من صناع السياسة يحجمون عن الإقرار بذلك. فالدول مستمرة في إيلاء أهمية كبيرة لتوازن القوى وللقلق بشأن احتمال حدوث نزاع شامل.
إن هذا الاهتمام الكبير بالقوة والأمن يفسر لنا السبب الذي جعل الآسيويين والأوربيين يصرون على الحفاظ وربما توسيع التواجد العسكري الأمريكي في مناطقهم، حيث حذر الرئيس التشيكي فتشلاف هافل من أنه إذا فشل الناتو في التوسع شرقا فإننا قد ننقاد إلى كارثة عالمية جديدة قد تفوق تبعاتها تبعات الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهذه ليست كلمات رجل يعتقد بأن صراع القوى الكبرى قد ولى من غير رجعة.
أظهرت العشرية الأخيرة مدى رغبة الو.م.أ. في أن تكون الرقم واحد عالميا، ومدى تصميمها على البقاء في وضع المهيمن. لقد استغلت الولايات المتحدة تفوقها الحالي لفرض خياراتها حيث أمكن ذلك حتى وصل بها الأمر إلى حد استفزاز حلفائها القدامى بالرغم من المخاطر التي ينطوي عليها ذلك. إذ فرضت سلسلة من الاتفاقات أحادية الجانب لمراقبة التسلح ضد روسيا، كما هيمنت على مساعي السلام في البوسنة، واتخذت خطوات لتوسيع الناتو تجاه الحدود الروسية، وأصبحت منشغلة بشكل متزايد للقوة المتعاضمة للصين، ودعت مرارا إلى الوثوق في المساعي المتعددة الأطراف وبدور أوسع للمؤسسات الدولية، ومع ذلك، فقد تعاملت مع الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية بعدم اكتراث كلما تعارضت توجهاتها مع مصالح الولايات المتحدة. وقد رفض الأمركيون الإنضمام إلى المجموعة الدولية لحظر الألغام الأرضية المضادة للأفراد. تماما مثلما رفضوا التعاون في قمة الأرض بـ كيوتو. وطالما تفنن القادة الأمريكان في التستر وراء النظام الدولي لتمرير مصالحهم الأنانية. وهكذا، فإن نهاية الحرب الباردة لم تنه سياسة القوة، فالواقعية يبدو أنها ستبقى الأداة الأكثر نفعا في لوحة مفاتيحنا الفكرية.
ومع ذلك، فإن الواقعية لا تفسر كل شيء، وأي قائد متبصر يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الإستبصارات التي تمدها بها المنظورات الأخرى. فالنظريات الليبرالية تحدد الوسائل التي يمكن للدول استعمالها لتحقيق مصالح مشتركة، كما تحدد أهم القوى الاقتصادية التي تساعدنا على فهم سبب اختلاف الدول في خياراتها الأساسية. وفضلا عن ذلك، فإن الحماية الأمريكية ستقلص من مخاطر الصراعات الإقليمية وستعزز السلام الليبرالي الذي ظهر بعد 1945، لذا فإن الوصفة الليبرالية تصبح أكثر أهمية طالما أن الولايات المتحدة ستستمر في توفير الأمن والاستقرار للعديد من أجزاء العالم.
وفي غضون ذلك، فإن النظريات البنائية تعد الأكثر ملاءمة في تحليل كيفية تغير الهويات والمصالح بمرور الزمن، بحيث تنتج عنها تغيرات حادة في سلوك الدول، وفي حالات معينة، تفجر تحولات غير متوقعة في الشؤون الدولية. وفي هذا الإطار، يعتبر من المهم جدا معرفة ما إذا كانت الهوية في أوربا ستستمر في التحول من الدولة-الأمة إلى نطاق محلي أضيق أو إلى نطاق أوسع، إلى الهوية الأوروبانية. تماما مثلما يهم معرفة ما إذا كانت النزعة القومية سيحل محلها بالتدريج نوع من الانتماء الحضاري بحسب مفهوم هنتنغتون. ليس للواقعية الشيء الكثير لتقدمه لنا في هذا الخصوص، وصناع القرار قد يشوب نظرتهم الغموض إذا أهملوا مثل هذه الاحتمالات بشكل كلي.
باختصار، فإن كلا من هذه المنظورات المتنافسة ترصد جوانبا مهمة في السياسة العالمية. وفهمنا يعوزه القصور إذا ما نحصر تفكيرنا على إحدى هذه المنظورات، وفي المستقبل، فإن الدبلوماسي المثالي يجب أن يبقى يقظا بخصوص التركيز الواقعي على الدور الذي لا يمكن تجاهله لعامل القوة، كما أنه يجب أن يكون واعيا بدور القوى الوطنية وأن يفكر أحيانا من خلال المنظور البنائي للتغير.
الاتحادية والسلام:
منظور ليبرالي-بنيوي
آندري مورافسيك.
ترجمة: عادل زقاغ.
في مقالة مثيرة للأستاذ تشمبيل Ernst-Otto Czempiel، طرحت فرضيتان استقاهما الكاتب من فكر إيمانويل كانط Immanuel Kant. تتعلق الأولى بالشروط الداخلية الضرورية لـ "السلام الديمقراطي". وبقراءة تأويلية لكتابات كانط، حاول تشمبيل أن يثبت بأن هذه الشروط تتضمن وجود سند داخلي للسلام؛ والرقابة المجتمعية على أعمال الحكومة؛ وتمثيل غير متحيز لمصالح خاصة وتحمل متكافئ للأعباء في تنفيذ السياسات. لكن تشمبيل يقول أن هذه الشروط لا تتأتى حتى بين الديمقراطيات الليبرالية ما يؤدي إلى اندلاع الحروب بشكل حتمي. هذا الطرح مقنع ويربط بين عمله ومختلف الاتجاهات الليبرالية.
ما يهمني هنا هو فرضية تشمبيل الثانية، حيث يواصل قراءته لـ كانط، والتي تقضي بأن إزالة المشاكل الأمنية التي قد تطرأ بين الجمهوريات يتطلب إنشاء منظمات دولية قوية. هذا الإدعاء الذي تقدم به تشمبيل لتفسير السلام والحرب يعتبر متجرأ، فمن الثابت أن المؤسسات الدولية ليست بأقل أهمية nicht weniger wichtig من الدمقرطة الوطنية والاعتماد المتبادل، ولذا يجب على منظري العلاقات الدولية أن يأخذوا بمحمل الجد مقترحات كانط بخصوص فدرالية دولية Foedus Pacifium.
غير أن تشمبيل يؤكد أن إقرار السلام بين الدول الأوربية بعد الحرب كان بفعل إنشاء المنظمات الدولية مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، والناتو، والمجموعة الأوربية للفحم والصلب، والمجموعة الاقتصادية الأوربية، وأكثر من ذلك فهو يرى أن تأثير إنشاء هذه المؤسسات في ضمان السلام كان بنفس أهمية تأثير الدمقرطة والاعتماد المتبادل، كما يضيف أن السلام لن يكون كاملا قبل إتمام اتحاد العالم الغربي. ويبدو أن تحقيق هذا الهدف بنظر تشمبيل يقتضي إنشاء فدرالية بالمفهوم العصري، عبر إتمام الاتحاد النقدي والاقتصادي، والذهاب إلى أبعد مما حرزته منظمات مثل OECD عن طريق رسم حدود للسيادات الوطنية، وذلك بواسطة إقرار الاقتراع بالأغلبية والتشريع الديمقراطي المباشر.
أولئك الذين يحتفون بـ "السلام الديمقراطي" و"نهاية التاريخ" يستبقون الأوان، فإلى حين بروز "فدرالية كانط" يبقى السلام بين الدول الديمقراطية غير مستقر حسب تشمبيل. ومع ذلك، سأستعرض في هذه الورقة ثلاثة انتقادات تطال الأصالة المعرفية لهذه الفرضية، وانسجامها المنظوراتي، وصدقيتها الإمبريقية. موقفي الأساسي يتمثل في أن فرضية تشمبيل الأولى "الليبرالية البنيوية" مختلفة تماما وأكثر إسنادا من الفرضية الثانية "المؤسساتية"، كما أن الأولى تفسر الكثير من المتغيرات التي يعزوها تشمبيل خطأ للثانية. إن الإدعاء بتأثير المؤسسات الدولية على السلام بين الديمقراطيات في أحسن الأحوال طرح غير مؤسس وفي أسوها خاطئ.
الخلفية الفكرية: هل كان كانط مع مؤسسات دولية قوية؟
من الواضح أن موقف كانط (1795) كان لصالح مؤسسات دولية تتمتع بصلاحيات محدودة. كما أنه كان متخوفا من حكومة عالمية قد تصبح دكتاتورية وتعمل على اضطهاد التعدد في التصورات الدينية، واللغوية، والوطنية للحق السياسي. ولذا فقد كان دوما يبحث عن التمييز بين "فدرالية للدول الحرة" وأي تصور لـ "دولة عالمية"، على النحو الذي كان يدعو إليه فقهاء القانون الدولي البارزين في عصره مثل: قروشيوس، وبافندورف، وفاتل. ولا يستند في طرحه إلى أهمية الحفاظ على تميز التقاليد الوطنية لكل دولة فحسب، بل أنه يعتقد بالمبدأ القائل بأن القوانين تفقد فاعليتها بتوسع النطاق الجغرافي لعمل الحكومة. ومن هنا فإن أية حكومة عالمية ستؤول إلى "استبداد بلا روح بعد اندثار بذور الخير ... وفي النهاية فإن الأمر كله سيؤول إلى فوضى". يتضمن هذا الاعتقاد نتيجة بديهية، فطالما أن كانط يؤمن بأن تاريخ العالم كله تحركه ديناميكية التنافس اللامركزي بين الأفكار والأمم، فإن ذلك سيتهدد بوجود حكومة عالمية مركزية وقوية. طروحات جون ستيوارت ميل بدورها كانت حذرة بمعارضته لفكرة وضع قيود أخلاقية
-وليس قيود قانونية- على عمل الحكومات الوطنية، وهذا هو الطرح الذي يتداوله الكثير من المفكرين ذوي الاتجاه الليبرالي.
صحيح أن المنظمات الدولية في نظرية كانط أكبر من مجرد اتفاقيات محدودة، لكنه من غير الواضح إذا كانت هذه النظرية تتضمن أي دعم للسير خطوات باتجاه تحقيق الفدرالية. وهذا حتى بإسقاطها على واقع النصف الأخير من القرن العشرين. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن أيا من المقالات الثلاثة التي استند إليها تشمبيل (1996) حول مشروع كانط للسلام الدائم (وهي تحريم: المعاهدات السرية، وتأهب الجيوش، والحروب الممولة بالاستدانة) أي منها لا يمكن تنفيذها عبر عمل منفرد ومنسق على نطاق واسع.
وقد أوضح كانط أن الفدرالية ستنبثق عن الإملاءات الأخلاقية للحكم الجمهوري، ولكنها ليست بأي حال فدرالية قوية، فطالما أن كل دولة تولي أهمية أكبر لحقوقها السيادية فإنها لن تقبل بالفدرالية بمعناها الحديث، والذي يعني التعدي على العلاقة الفريدة القائمة بين الحاكم والشعب، ليجعلها تحت رحمة سلطة أعلى. وبالخصوص، لأن مثل هذه القيود الخارجية لا يمكن أن تكتسب قوة قانونية، إذ أن كانط يعتقد بأن القانون يجب أن يكون نافذا. إن فدرالية كهذه، حسب كانط لن تسعى للحصول على صلاحيات مماثلة لصلاحيات الدولة، بل ستعمل فقط على حماية وتأمين حرية كل دولة لذاتها. وباختصار، فإن فدرالية كانط تعتبر معاهدة شاملة وليست نسق دوليا.
وهكذا، فإنه لا يوجد من منظور كانط ميزة واضحة ولا خطر معتبر للأنساق الدولية الملزمة يكون الاقتراع فيها بالأغلبية وتتمتع بإدارة مركزية وغيرها من العناصر التسلسلية الهرمية. إذن لا تقدم مقترحات كانط دعما قويا للطرح القائل بأن السلام العالمي سيتعزز أكثر إذا أصبحت منظمات مثل منظمة الأمن والتعاون في أوربا، والاتحاد الأوربي أكثر قوة وأكثر ديمقراطية، بل إنه ومن منظور كانط يوجد مبرر قوي للاعتقاد - على الأقل من الناحية التجريدية - بأن مثل هذه التطورات ستكون مضرة من الناحية السياسية ومتناقضة من الناحية الفلسفية.
نظرية العلاقات الدولية: هل النظريات القائمة على الخيارات والمؤسسات مقبولة؟
يوجد تناقض بين فرضيتي تشمبيل النظرية "الليبرالية البنيوية" و"المؤسساتية". فبينما يرى بعض المفكرين بمن فيهم كانط أن هذه الافتراضات تندرج ضمن برنامج سياسي واحد، إلا أنه ليس من الواضح إن كانتا تتقاسمان الأسس الابستيمولوجية ذاتها. العلاقة الدقيقة بين الفرضيتين مهمة، لأنه وبينما تشمبيل (1996) يقدمها على أساس أنهما بذات الوزن، أصر على أن ذلك ليس صحيحا. إذ توجد أسباب ملزمة للتعامل مع فرضية "السلام الديمقراطي" - وهي فرضية مستقاة من المنظور "الليبرالي البنيوي" - على أنها أكثر تأسيسا نظريا مقارنة بالفرضيات المستقاة من المنظور المؤسساتي(الذي يفترض بأن المؤسسات الدولية تتمتع بخاصية تقليص نسبة اللايقينية التي تكتنف السلوكيات الدولية).
يركز المنظور "الليبرالي البنيوي" (الذي تمثل اقتراحات كانط حول العلاقة بين نظام الحكم الوطني وسياسة الدولة إحدى اتجاهاته النظرية) على العلاقة بين الدولة والمجتمع وأثرهما على السياسة العالمية (مورافسيك 1992)، وهو يقوم على ثلاثة افتراضات:
- الأفراد والجماعات في المجتمع المدني الوطني وعبر-الدولي يشكلون الفاعلين الأساسيين في السياسة الدولية.
- كل المؤسسات السياسية - بما فيها الدولة-الأمة تمثل مصالح بعض وليس بالضرورة كل أطراف المجتمع الذي يخضع لحكمها.
- سلوك الدولة الذي يعتبر محددا لمستويات النزاع والتعاون الدولي، يعكس طبيعة وشكل مقاصد الدولة وخياراتها.
استنادا إلى الافتراضات الثلاثة السابقة، يمكن اشتقاق ثلاثة اتجاهات نظرية لتفسير الصراعات والتعاون على المستوى الدولي، إذ أن كلا منها يشدد على عنصر مختلف للعلاقة بين الدولة-المجتمع على المستوى الوطني وعبر-الدولي. الاتجاه الأول، يركز على طبيعة الاعتماد المتبادل السوسيو-اقتصادي (الليبرالية التجارية)، والاتجاه الثاني يركز على التمثيل السيئ للمصالح الوطنية (الليبرالية النيابية)، أما الاتجاه الثالث والأخير، فيركز على مدى التطابق من عدمه في القيم الوطنية (الليبرالية المثالية).
يظهر المنظور "الليبرالي البنيوي" ما يبدو وأنه تناقض في النقاش النظري الحالي في العلاقات الدولية، فهناك في واقع الأمر تماثل مثير بين النظريات الواقعية والمؤسساتية في العلاقات الدولية، رغم ما سبق من اعتبار النظريتين متقابلتين منذ النقاش الواقعي-المثالي في فترة ما بين الحربين العالميتين، إلا أن هذه النظريات تتقاسم عددا كبيرا من الافتراضات المشتركة، خاصة عند مقارنتها بالليبرالية البنيوية.
نظرية النسق الوظيفي عند روبرت كيوهان Keohane 1984 وأغلب الاتجاهات المؤسساتية (أعمال ستيفن كراسنر 1983، دونكان سنيدال 1986) يشتركون مع الواقعية (وولتز 1979) في الافتراضات القاضية بأن الدولة فاعل موحد وعقلاني لها خيارات ثابتة، وبأنها، أي الدول، تعتبر فاعلا أساسيا في السياسة الدولية، وبأن المكاسب الدولية تتجه نحو التعاظم نتيجة لبعض أنماط التفاعل الاستراتيجي؛ وبأن المحددات الأساسية للتغير في سلوك الدولة هو التغير الثابت في بنية النظام الدولي. النيوواقعية عند وولتز ونظرية الأنساق عند كيوهان مرتبطتان بشكل كبير لتركيزهما على أهمية اللايقينية والمعلومات، ولو أن وولتز يستقي الوضعية المعلوماتية الدولية من القوة وكيوهان من الصفقات transactions والمؤسسات.
ولا شك أن الواقعية والمؤسساتية تختلفان كثيرا في العناصر التي يتم التركيز عليها: المؤسساتيين يركزون على المباريات ذات المحصلة الإيجابية، ويشددون على أهمية المعلومات كوعاء لبنية النظام الدولي، بينما يركز الواقعيون على المباريات ذات المحصلة الثابتة ويشددون على أهمية الموارد (قريكو 1988). ولو أن كلتا النظريتين تتشاركان لافتراض نقدي واحد والقاضي بأن الخيارات المتبعة (وهذا مقابل الاستراتيجيات المتبناة) من طرف الدولة تخضع للقيود التي تفرضها عليها بنية النظام الدولي لدرجة أنه يمكن اعتبار هذه الخيارات ثابتة، وبذلك يمكن إدراج النظريتين معا ضمن إطاري نظرية المباريات أو تحليل التفاوض (بأول 1994، وسيبنيوس 1991). وبالنظر إلى هذه التماثلات التحليلية المثيرة بين الواقعية ونظرية الأنساق
والاختلافات المماثلة بين "الليبرالية البنيوية" و"المؤسساتية"، وبالخصوص التشديد على العلاقات بين الدولة-المجتمع والتغير في الخيارات، إنه من التضليل توظيف مصطلح ّالنيوليبرالية المؤسساتيةّ" لوصف نظريات تكاليف الصفقات للأنساق، إذ يستخدم كيوهان 1986 مصطلحا أدق يتمثل في "الواقعية البنيوية المعدلة".
باختصار، كل من الواقعية والمؤسساتية تركزان على تعزيز التعاون الدولي، الإشكالية تطرح على مستوى الوسائل بالنسبة لـ "الواقعيين" و"المؤسساتيين" على حد سواء، أما بالنسبة لـ "الليبراليين البنيويين" فإن ما يهم أكثر هو الغايات.
وبخصوص النقاش الدائر حول التأصيل المنظوراتي لكل من "الليبرالية البنيوية" المرتكزة على الخيارات و"المؤسساتية"، فإن فرضية "السلام الديمقراطي" التي تعود إلى الليبرالية البنيوية هي الأكثر إسنادا. فمن المستحيل إيجاد، من بين نماذج التفاعل الاستراتيجي، سواء النماذج الواقعية للمساومة أو نماذج المؤسساتية للعمل الجماعي، نموذجا واحدا لا يتضمن افتراضات واضحة ومسبقة حول "الخيارات".
يجب أن يخضع أي تفسير شامل للصراع والتعاون الدوليين للتقييم والتفسير قبل الشروع في تقييم استراتيجي في حال كانت خيارات الدولة متباينة. وقد كان ذلك مقبولا عند كانط وويلسون وآخرين، والذين يوضحون بالخصوص أن الجمهوريات وحدها كانت أعضاء في الفدراليات ومنظمات الأمن التعاوني.
وأخيرا، تجدر الإشارة إلى الطرح الذي يذهب إلى ما وراء المسألة المتعلقة بالسلام الديمقراطي والذي يقضي بأن جميع الافتراضات الليبرالية البنيوية تعتبر من الناحية التحليلية أسبق على الافتراضات الواقعية والمؤسساتية. وهذه تقلب رأسا على عقب توصية وولتز التي تحظى بقبول واسع رغم تناقضها والقاضية بفحص النظريات البنيوية أولا على أنه يمكن استخدام النظريات الجزئية لتفسير التغيرات الظرفية. وبالنتيجة، فإن التعامل مع الاثنتين بنفس الأهمية يبقى محل تساؤل، فطالما أن الليبرالية البنيوية تعالج الظاهرة ذاتها فإنها تمنح الأولوية.
المطابقة النظرية والمعاينة الإمبريقية: هل تقوم المؤسسات الدولية فعلا بتعزيز السلام والتعاون الدوليين؟
مهما كانت العلاقة بين الفرضية الثانية تشمبيل ومقاصد كانط والمنظورات المتضمنة في نظريات العلاقات الدولية فإن إسناداتها تتوقف على مدى مطابقتها النظرية وصدقيته الإمبريقية. السؤال المحوري هو فيما إذا كانت العوامل المتضمنة في "الليبرالية البنيوية": الديمقراطية، والاعتماد المتبادل، والقيم المتقاربة، بالأهمية الكافية بحيث تجعل من الممأسسة الدولية دون تأثير يذكر. الإدعاء بأن المؤسسات الدولية تعزز السلام تبقى، ومنذ الوهلة الأولى تأملية، طالما أن هذه النقطة من ورقة تشمبيل (1996) لا تتمتع بأي سند إمبريقي فقوة طرحة تم تقويضه لدى قبوله بفكرة أن الديمقراطية والاعتماد المتبادل والقيم المشتركة تطورت في كنف أوربا الغربية بحيث أنه وحتى وإن آلت حركة الاتحاد الأوربي إلى الركود فإن السلام لن يتعرض لأي تهديد. ومن هنا نبدو وكأننا نتحدث عن احتمالات الحرب بين ديمقراطيات أمريكا واليابان والديمقراطيات الصاعدة في آسيا الشرقية وأمريكا الجنوبية وأربا الشرقية، وهي الأطراف التي لا تبدوا هناك أية احتمالات لقيم صراعات حادة بينها. توجد ثلاثة أسباب نظرية وإمبريقية عميقة للتشكيك في هذه الفرضية.
أولا، يبدو مقبولا نظريا بان الكثير من المؤسسات الدولية من الناحية السببية مجرد ظاهرة عرضية. الطرح المؤسساتي القاضي بأهمية المؤسسات يقوم على افتراض أن تكاليف الصفقات المرتبطة بإنشاء المؤسسات الدولية مرتفعة، ومن هنا فإنها تظل صامدة حتى بتغير المصالح التي أدت إلى إنشاءها. ولكن إذا كانت تكاليف الصفقات متدنية، فإنه يمكن إنشاء المؤسسات و تغييرها بحسب الإرادة. ويمكن حينها أن نتوقع تزويدنا بمؤسسات دولية بحسب الطلب. وفي الحالة الأخيرة، فإن المؤسسات تبدوا آليات سببية وليست بأسباب أساسية بحد ذاتها؛ وبالتالي فهي لا تساهم في حد ذاتها في التعاون بمعزل عن العوامل البنيوية المتضمنة. توجد بعض الإثباتات الإمبريقية المستقاة من دراسات الحالة التي ترى أن هذه النظرية الوظيفية الضيقة النطاق تعتبر صحيحة.
ثانيا، ليس واضحا، نظريا، من عمل تشمبيل عبر أي من الميكانيزمات السببية تساهم المنظمات الدولية في حل المشاكل ذات الطابع ألمعلوماتي. لا شك أن منطق المأزق الأمني كما هو وارد عند وولتز (1979) وروبرت جرفيس (1978) وجيمس فيرن (1995) وآخرون يثيرون حقيقة نقص المعلومات. الحكومات يجب أن تحضر نفسها للأسوأ لأنها ليست متأكدة من نوايا وإمكانيات الخصوم. تدعي النظرية المؤسساتية أن المؤسسات تستطيع حل هذا المشكل، لأنها تزودنا بمعلومات موثوقة عن الخيارات الوطنية وحول القوة (كيوهان 1984). ولكن الديمقراطيات التي تتسم بنوع من الشفافية وتمتلك سجلا جيدا في النزوع نحو السلم (Cowhey 1990). وأكثر من ذلك، فهي تستطيع، وبشكل منفرد تقديم التزامات موثوقة (Martin 1992). لا يوجد سند نظري كبير للاعتقاد بأن تعزيز الشفافية ضروري. وتبين لنا دراسات التعاون في التسلح أن الحكومات الديمقراطية تقيم بدقة الأوضاع الداخلية لبعضها البعض حتى في غياب آليات مؤسساتية واضحة للقيام بذلك (موفسيك 1993). باختصار، الأنساق ليست ضرورية لتغذية المحتوى ألمعلوماتي للتفاعل بين الديمقراطيات.
ثالثا، لا توجد إسنادات إمبريقية كافية تؤيد وجود رباط وثيق بين المؤسسات الدولية والسلام. الدراسات الكمية لمحددات الحرب لا تظهر أي تأييد كاف للدور المستقل للمؤسسات عند مقارنتها بالعوامل "الليبرالية البنيوية" في أوربا لما بعد الحرب وهي الفترة التي ركز عيها تشمبيل. يصعب إجراء فحص إمبريقي لأن كل أعضاء الاتحاد الأوربي دول ديمقراطية. فنحن لا نجد أثرا لأية إثباتات حول صراع جيوسياسي كبير بين أعضاء الاتحاد الأوربي أو بين الأعضاء الحاليين غير الأعضاء (مثلا دول EFTA ، وأعضاء OECD ، والمنظمات التي يتشكك حولها تشمبيل) ولا بين أعضاء الناتو والدول المحايدة. السجل التاريخي لا يبين سوى بعض من التهديدات من قبيل تلك التي أطلقها ماكميلان في الستينات بإقدامه على سحب القوات البريطانية من التراب الألماني كوسيلة ضغط للانضمام إلى الإتحاد الأوربي. ولكن ذلك كان مجرد خدعة. وكذلك، لم تكن سويسرا أو السويد أو إسبانيا تبدي أية ميول حربية رغم أنها لم تندمج في المؤسسات الدولية الغربية. في حين أن الولايات المتحدة وكندا أظهرت سلوكا يميل كثر إلى التنازع رغم دخولهما سوية في مسار تكاملي إقليمي. كما أنه لا توجد حقائق كبيرة تثبت أن الاندماج الأوربي كان له تأثير إيجابي على السلام. القضايا الجيوسياسية الأساسية المتبقية مثل سياسة الاستقلالية الاقتصادية والعسكرية إلى تتبعها ألمانيا، الناتو، الإصلاح، استئصال النازية، الأسلحة النووية، وهي قضايا تم حلها كلها قبل، وليس بعد التوقيع على معاهدة روما. وهل يستطيع أي مؤرخ التأكيد بأنه لولا المجموعة الأوروبية للفحم والصلب -والتي اتضح الآن بأنها كانت نسبيا منظمة غير فعالة- لاتجهت فرنسا وألمانيا نحو الحرب؟
في كل الحالات، يبدو قلب هذه العلاقة السببية أكثر تقبلا: استبعاد احتمالات الحرب كان بفضل الدمقرطة وتغير القيم، وبفضلها أيضا توجه الاتحاد الأوربي نحو الاندماج الاقتصادي. الصلة الظاهرة بين العضوية في المؤسسات الدولية/والسلام مغلطة. لكن إذا ما ركزنا على تأثير العوامل "الليبرالية البنيوية" فإننا سنحصل على تفسير للحالتين. لا شك أن الاعتقاد بأن الاندماج الأوربي ونمو والعلاقة الفرنسية-الألمانية كان لها تأثير إيجابي على السلام يبقى إحدى الحقائق السياسية الأساسية في التاريخ الأوربي بعد الحرب، يمكن أن يكون ذلك موردا رئيسيا لإضفاء الشرعية على الاتحاد الأوربي، غير أن ذلك يبقى بدوره يبقى محل جدل. باختصار، بينما يبقى من الممكن نظريا، مثلما يشير إليه تشمبيل، استمرار المآزق الأمنية بين الديمقراطيات إلا أنه لا تجد سوى قرائن قليلة على ذلك.
خـلاصة
إذا كان التحليل السابق صحيحا، فإن فحصا متزامنا للاعتبارات المتعلقة بالخلفية الفكرية، والجوانب المنظوراتية والإمبريقية، تزيل الشك بشأن الفرضية القائلة بأن المؤسسة الدولية لها تأثير إيجابي كبير على السلام بين الحكومات والديمقراطية. وأهم حجة على ذلك هو تقويض فرضية تشمبيل الأولى (الليبرالية البنيوية)على الفرضية الثانية (المؤسساتية). "الليبرالية البنيوية" بلا شك أكثر تأصيلا منظوراتيا، وأكثر قبولا نظريا، ولها إسنادات قوية إمبريقيا.
ومن المهم جدا الإارة إلى أن الالتزام بـ "الليبرالية البنيوية" لا يتضمن عدم إيلاء أهمية للمؤسسات الدولية كآليات سببية، ولا أنها لا تمتلك أي تأثير على السياسة الدولية، فهناك طرق أخرى للمضي قدما باستعمال النظرية "الليبرالية البنيوية" لـ "الأنساق الدولية". حسب الطرح "الليبرالي البنيوي" فإن ما يربط بين الفدرالية الدولية وسوك يحترم القانون ليس المؤسسات الدولية بذاتها، ولكنه التقارب في السلوكيات المحترمة للقانون. إن روح المنظمة الدولية هو بعدها الأفقي وليس العمودي. وهو الاعتراف المتبادل بأفعال الرسميين، والقضاة، والسياسيين والعموم الذين يشغلون مناصب متماثلة في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية والذين يسهرون على الحفاظ على السلام والتعاون. وفي هذا الاتجاه فإن الاندماج القانوني في المجموعة الأوربية إضافة إلى الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان هي أنظمة لم تظهر إلى الوجود عن طريق فرضها بشكل فوقي، ولكن عن طريق الاختيار الجماعي، الاقتناع والتقارب عبر ألحكوماتي للقضاة الوطنيين، والمشرعين والجماهير. هذا ليس مجرد تفسير مقبول للقانون الدولي المعاصر والمؤسسات، ولكنه ترجمة تأويلية لمقاصد كانط، أحاول من خلاله إعطاء معنى لمعاداته لـ "الحكومة العالمية"، بناء على شرطه القاضي بأن جميع الأعضاء يجب أن يكونوا جمهوريات، إضافة إلى اعتقاده بأن تاريخ العالم تحركه ديناميكية التنافس المركزي بين الأفكار والأمم. وبناء على ما سبق، فإنه طالما أن المؤسسات الدولية تؤدي دور تعزيز الديمقراطية والاعتماد المتبادل والأفكار المناسبة فإنها بذلك تساعد على تعزيز السلام والتعاون، ولو أنها ليست المسبب الأول له.
ا
الروابط بين النظرية والممارسة في السياسة الدولية.
ستيف سميث
ترجمة: عادل زقاغ وعبد الله راقدي.
أهدف من هذه المداخلة المفتوحة إلى طرح تساؤل واحد: ما هي طبيعة العلاقة القائمة بين دراسة العلاقات الدولية وممارستها؟ أود الإجابة عن هذا التساؤل عبر استعراض ومن ثم استبعاد سببين يحظيان بالرواج والإقناع والجاذبية، لكن قبل ذلك، سأقدم ثلاث ملاحظات حول السياق الذي يميز طرح مثل هذا التساؤل.
الملاحظة الأولى تتعلق بـ "التوقيت"، حيث تزامن طرح هذا السؤال مع حالة الحرب على العراق، تلك الحرب التي نأت فيها الأوساط الأكاديمية بنفسها بعيدا عنها، وكأن لا علاقة لهذه الحرب بما يتم دراسته في حقل العلاقات الدولية. وبالفعل، فعندما عقدت جمعية الدراسات الدولية ملتقى بـ بورتلاند في فيفري 2003، أي عشية اندلاع الحرب على العراق، لم يتم التعرض بأدنى إشارة لموضوع الحرب، عدا بعض المتظاهرين اللذين احتجوا بشجاعة ضد الحرب الوشيكة. ليجلبوا لأنفسهم انتقادات تتهمهم بالخلط بين قيمهم ونشاطهم المهني (ولأكون صريحا وصادقا، بحيث تكون قيمي معرضة للتمحيص، فقد انضممت إلى معسكر الرافضين جنبا إلى جنب مع جون فاسكواز الذي كان آنذاك رئيسا للجمعية". وحتى قبل الحرب كانت هناك حرب أفغانستان وأحداث 11 سبتمبر، وما تخلل كل هذه الفترة من المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. إن الطريقة التي تعاطى بها الأكاديميون مع الأحداث السابقة والتي اتسمت بالجمود في أغلب الأحيان، تجعل من الوقت الحاضر مناسبا للبحث في الروابط بين النظرية والممارسة.
الملاحظة الثانية تتعلق بـ "المجال الجغرافي"، فقد تم إلقاء هذه المحاضرة في بودابست بأوروبا الوسطى، وهي مكان ملائم جدا لطرح التساؤل بشأن العلاقة بين الدوائر الأكاديمية والعمل السياسي، وهذا بالنظر للسجل التاريخي للبحث الأكاديمي في هذه المنطقة خلال فترة الحكم الشيوعي، لاسيما التقليد البحثي الذي أملته الأيديولوجية المهيمنة المتنفذة. هذا التقليد البحثي ناجم عن تحديد الجمعيات الرسمية سلفا لماهية الحقيقة مما ترك هامشا ضيقا للنقاش، وساهم في إرساء شكل معين للعلاقة بين الأوساط الأكاديمية والعمل السياسي. وهكذا، فإنه حان الوقت لطرح التساؤل بخصوص الربط بين حقل العلاقات الدولية والمجتمع المدني والوفاء بالتزاماته تجاه هذا الأخير.
أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فتتعلق بـ "الثقافة"، إذ أن أحداث 11 سبتمبر نبهت الباحثين في العلاقات الدولية إلى وجود نظم عقدية متباينة وعوامل ذاتية، في السياسة الدولية. وقد جعل الكثير من الافتراضات الأساسية في علم الاجتماع الغربي محل استفهام، لاسيما تلك التي تعتقد بعقلانية الفعل الإنساني الاجتماعي. ترى هذه العقلانية أن العالم يتجه نحو مصير مشترك، يتسم بالديموقراطية الليبرالية واقتصاد السوق، وأن المجتمعات تتمايز بحسب موقعها في مسار عجلة التاريخ، التي تقود جميع المجتمعات نحو وضعية واحدة، حيث الأفراد ذرائعيون عقلانيون، يعملون على تعظيم القيمة وفق النمط الذي يطرحه علم الاجتماع الغربي. وحسب وجهة النظر هذه، فإن الذاتانيات المتميزة هي مجرد وجه للعولمة والتحديث "الحتميين". هذه النظرة للمجتمع تمنحنا إجابة دقيقة عن العلاقة بين النظرية والممارسة، تلك التي تلح على الفصل بين الاثنين، وهو ما يجعلني أطرح استفهاما بشأنه في هذه المداخلة.
من وجهة نظر شخصية، يعتبر السؤال الأكثر إلحاحا بالنسبة لهذا الحقل المعرفي، هو ما إذا كان الأكاديميون ملزمون بالتوجه نحو التمرس في الشؤون الدولية، أم أنه يتوجب عليهم الابتعاد عن ذلك طالما أن التوجه الأكاديمي يعني أن يلتزم المرء بالحياد، وأن يبتعد عن الاهتمامات الآنية للأجندة السياسية؟ دعوني أقدم لكم طريقتين للإجابة عن هذا التساؤل، واللتان أود استبعادهما في النهاية.
تقتضي الطريقة الأولى بضرورة أن ينأى الأكادميون بأنفسهم بعيدا عن النقاشات الدائرة حول قضايا العلاقات الدولية، لأنه يفترض فيهم أن يحافظوا على حيادهم القيمي إزاء الأحداث السياسية. ووفقا لهذه النظرة، فإن الاستقامة الأكاديمية تستوجب تفادي طرح أسئلة معيارية. ترتبط هذه النظرة بالتصورات ذات النزعة الإمبريقية في المعرفة مجازة في ذلك من طرف المنهج الوضعي، وتلقى رواجا كبيرا عند علماء الاجتماع الأمريكيين (ليس فقط في مجال العلاقات الدولية، بل أيضا في علم الاقتصاد، وعلم السياسة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع)، وهي تسلم بضروروة فصل العمل الأكاديمي عن العالم "الواقعي" للسياسة، والمجتمع، والاقتصاد، وترى أن هذا العمل يقتصر على نقل وقائع هذا العالم. وبناء على ذلك، فإن الاستقامة الأكاديمية تستوجب الحفاظ على مسافة فاصلة بين الباحث والعالم الواقعي الذي يستمد منه ملاحظاته، ويعتبر ذلك نتيجة لالتزام علماء الاجتماع الأمريكيين بالحياد القيمي في مسعاهم للبحث عن المعرفة، الحياد الذي يستوجب التمييز بين القيم والحقائق، بين الذات الملاحظة وموضوع الملاحظة، بين المحلل وموضوع التحليل، وبين عالم السياسة المتعفن، والبرج الأكاديمي الآمن والتأملي المحايد.
لا تكتفي وجهة النظر هذه فقط بأهمية الإبقاء على الفصل بين النظرية والممارسة، ولكنها أيضا تكيل انتقادات لاذعة لكل من لا يحترم هذا التمايز. لقد حدثت هناك العديد من النقلات النظمية في حقل العلاقات الدولية في اتجاه تكريس هذا التمايز، وينسحب ذلك على التفريق بين المثالية والواقعية وتجسد كذلك في النقاشات المحتدمة بين الاتجاه السلوكي والكلاسيكي، وهو متجسد حاليا في تهجم الباحثين ذوي النزعة العقلانية على الأعمال التأملية، وأعني تلك التي تدخل في نطاق ما بعد الحداثة، النسوية والجندر، والنظرية النقدية، والمقاربات الإثنية والثقافية في العلاقات الدولية. من المهم جدا من الناحية النقدية الإشارة إلى أن التهجم على أعمال التأمليين لا يعود إلى أنهم يرسمون صورا لعوالم أخرى غير عالم العلاقات الدولية، بل لأن هذه المقاربات لا تحظى بالشرعية الأكاديمية مع ما يعنيه ذلك على الصعيد المهني وعلى صعيد فرص النشر.
إن المشكلة مع هذه الرؤية للعلاقة بين الأوساط الأكاديمية وعالم السياسة، هي أنها تستند إلى نظرة محكومة بخصوصيات تاريخية معينة لطبيعة علم الاجتماع، وهي نظرة تبقى محل استفهام، ويمكن لأي تحليل من وجهة النظر هذه أن يكون مضبوطا إذا ما تم اللجوء إلى أسس ثابتة للطرح المعرفي. غير أن هذه النظرة تستدعي المزيد من التمحيص من حيث أنه لا يوجد فعليا أسس إبستمولوجية مضبوطة على المستوى الماوراء نظري والعبر-ثقافي. ومن وجهة نظري، فإن المشكلة ليست مطروحة مع ما يسمى "بالنسبيين"، ولكن بالأحرى هي مطروحة مع أولئك اللذين يرفضون الإقرار بالطابع النسبي لأعمالهم بسبب السياق العام والثقافة التي وجدت في ظلها هذه الأعمال. وبعبارة أخرى، فإن أولئك الذين يتهجمون على المقاربات باعتبارها نسبية، إنما يفعلون ذلك على أساس خلفيات معرفية تعتبر هي ذاتها متحيزة، وتشكلت عبر تفاعل اجتماعي تاريخي، وهم بذلك يعكسون قوى ودوافع سياسية واقتصادية، واجتماعية معينة. وهو ما أشار إليه كوكس Cox عام 1981 في عبارته الشهيرة:" النظرية هي دوما من أجل أحد ما، ولهدف معين".
أعتقد أنه لا توجد نظرة من لاشيء، ولا توجد نظرة مضبوطة صادرة عن ملاذ أكاديمي بمعزل عن تأثيرات القوة والسياق الاقتصادي والسياسي، والاجتماعي والثقافي وأن كل المعارف متحيزة، وبهذا فإنه لا توجد نظرة تتوافق مع الحقيقة، فالنظرية ليست مرآة للطبيعة، ونخلص من ذلك إلى أن كل الطروحات المعرفية هي نتاج سياق القوة الذي نشأت فيه. يؤثر هذا السياق على مستويين أساسيين: في طبيعية الأسئلة المطروحة(مثلا، التفكير في العلاقة بين حقل العلاقات الدولية في الثلاثينات من القرن العشرين ومصالح القوى المهيمنة، والمملكة المتحدة والولايات المتحدة؛ أو العلاقة بين المواضيع الأساسية للعلاقات الدولية منذ 1945 أجندة صياغة السياسة الأمريكية). أما المستوى الثاني من التأثير فيتعلق بالتأثيرات السياقية، والمتأثرة بدورها بطبيعة الفئات التي تنتمي إليها، تلك التي تتشكل فيها علومنا وعوالمنا الذاتية. وأحسن مثال على ذلك، هو الطريقة التي تم فيها التميز بين الداخل والخارج، بين السياسة والاقتصاد، بين "النحن" و"الهم"، بين "الموت" الناجم عن السياسة و"الموت" الناجم عن الاقتصاد.
وهكذا، فإن الإقرار بوجود مكان معزول ومؤمن حيث يتيسر للأكاديميين الحقيقيين ملاحظة العالم، يتوقف على تصور مسبق للعالم، لا يتم الإقرار به في العادة. مثلا، النظرة للعلوم الاجتماعية تقارب للعالم كمعطى مسبق تماما مثلما تقدم نفسها للمحللين كطرف خارجي ومنفصل، وهي بذلك لا تبحث في الطريقة التي تتشكل بها النظرية والعالم، لتعاود النظرية تشكيله ليقوم بعدها في الأخير، ومن ثمة، بإعادة تشكيل النظرية. بطبيعة الحال فإن نظرتي الخاصة في حد ذاتها متفتحة للنقد. والقضية الأساسية في هذا النقد تتركز حول احتمال أن أكون ساعيا إلى محاولة تمرير قيمي الخاصة في التحليل، بذريعة أن الكل يفعل ذلك، أو أنني أرتكب خطأ في تقديم طبيعة علم الاجتماع بحيث تسببت في تقويض دعائم البحث الأكاديمي المستقل. لقد تمت مناقشة هذه المواقف من طرف وولت (1998) Walt، كيوهان (1998) Keohane، وكاتزنشتاين وآخرون...، في تقديمهم لأعمال التأمليين، وبحسب هؤلاء الباحثين، فإن أي طرح لا يقبل بإمكانية الحياد القيمي يوجد خارج المسعى الاجتماعي العلمي، لذلك سيتعرض لمخاطر التهميش طالما أنه يتحاشى الإقرار بإمكانية استقلالية العمل الأكاديمي. وفي هذا الصدد يقول كاتزانشتاين وآخرون (1998:ص 618) بأن مجلة المنظمة الدوليةInternational Organization قامت بنشر القليل فقط من الأعمال التأملية:" طالما أن مجلة "المنظمة الدولية" التزمت بخط يقضي بأن ما بعد الحداثيين لا يقرون باستعمال الشواهد لإصدار حكم إزاء إدعاء الحقيقة. كما أنه وخلافا للبنائية الاتفاقية أو النقدية، فإن ما بعد الحداثة تقع خارج مسعى علم الاجتماع. وفي العلاقات الدولية، يخشى أن تؤدي بحقل العلاقات الدولية لأن يصبح ذاتي الاستشهاد وأن تفك ارتباطه بالعالم، ولا يهم إن وجدت ادعاءات تناقض هذا الطرح.
وجهة النظر الثانية، بخصوص العلاقة بين النظرية والممارسة، تتمحور حول الواجب الملقى على عاتق الأكاديميين لمساعدة صانعي السياسة في بلدهم، وبذلك فإن دورهم يتمثل في تزويد السلطة بالحقيقة، وحسب والاس Wallace ، فإن على باحثي العلاقات الدولية أن يتجندوا لنقد بناء ومنفتح لتزويد السلطة بالحقيقة، وعدم إخفاء المعرفة في عبارات لغوية منمقة وغامضة، أو إدخال أنفسهم في متاهات الجدال اللغوي أو حتى تداول الحقيقة سرا بينهم. يحذر والاس من أن هذا الحقل المعرفي في حالة خطر، إذا ما ستمر في اللجوء إلى المزيد من التجريد وإلى المزيد من النظريات والنظريات الماورائية، والذي يرى أنه أسهل وأكثر متعة من العمل الشاق في تفاصيل دراسة الحالة. ويقترح والاس (والاس:317) على الباحثين أن يندمجوا في العالم الذي تمارس فيه السياسة بدلا من الانفصال المثير الذي تدعوا إليه ما بعد الحداثة بإدعاء منهم بأنهم يرغبون في تحويل العالم، بينما هم يتفادون الاحتكاك بأولئك اللذين يمارسون نفوذا معتبرا في العالم. ولقد تم اقتباس عبارات والاس مؤخرا من قبل كاتب الدولة البريطاني للتربية تشارلز كلارك؛ حيث رأى على أن التركيز على النظرية يؤدي إلى قطع التمويل على المعاهد الجامعية، قال:"لا يمكننا تبرير تخصصاتنا أساسا من منطلقات فلسفية أو جمالية... كما أنه لا يفترض أن نعمل على إنشاء نظام رهبنة. إذ يجب أن نبقي أبواب الجامعة مفتوحة... وهذا لنزود أولئك اللذين يتعين عليهم أن يتعاملوا مع مشاكل السلطة بالحكمة والخبرة" (والاس1996،ص ص. 320-321).
طرح شارلز كلارك في الأشهر الثلاثة الماضية نفس التحد أمام الجامعات في إنجلترا، عندما تساؤل عن مبرر وجودها، وقال أن مبرر ذلك هو اندماجها في المجتمعات التي وجدت فيها، وأن جامعة لا تأخذ ذلك بعين الاعتبار فإنها لن تحصل على التمويل الحكومي.
تطرح مثل هذه النظرة للعلاقة بين النظرية والممارسة العديد من المشاكل، سأعدد خمسة منها. أولا، أنها تركز على العملية الشكلية أو الرسمية بدلا من العمليات السياسية في تصورها الأوسع والذي تضم المجتمع المدني، وبالمثل، فإن المرجعية بالنسبة لهذه النظرة تتمثل في الدولة واهتماماتها وليس اهتمامات المجتمع المدني، وباختصار فهي نظرة ضيقة جدا للسياسة. ثانيا، تتبنى هذه النظرة الأجندة السياسية للدولة، وبذلك فهي تفترض علاقة وثيقة بين حقل العلاقات الدولية والسلطة، مما يعني أن الطلبة سيمزجون بين عالم السياسة والعالم الخاص بالسياسيين البارزين ويقبلون بذلك أجندتهم كما هي. ثالثا، تتجه نحو مواجهة الفكر طالما أنها تنفي إمكانية حصول تقييم ذاتي والقيام بالتفكير في مضامين المفاهيم التي تعمل في حدودها. رابعا، الإيعاز بتبليغ الحقيقة للسلطة يفترض أن أولئك اللذين هم في السلطة ينصتون. وفي الواقع فإنه ليس من الواضح إن كانت السلطة ترغب في سماع ما يقوله الأكاديميون إلا إذا كان ما يقولونه يتوافق مع رغباتهم. وليس من الواضح إطلاقا ما إذا كان السياسيون ينصتون إلى الأفكار الجديدة والتفسيرات الابتكارية، وبدلا من ذلك، فإنهم ينتقون الأفكار (تماما مثل ما يفعل المتسوق في المراكز التجارية) بالشكل الذي يتناسب مع خياراتهم السياسية القائمة. وأخيرا، فإن مثل هذه النظرة تجعل من حقل العلاقات الدولية نظرية لحل المشكل بدلا من أن تؤدي دور الإنعتاقية. ويعني ذلك أن الحقل المعرفي يأخذ الأجندة السياسية كما هي، بحيث أن العالم برمته يتم التعامل معه كما يتم التعامل مع حالات التجنس. سوف يصبح عسيرا حينذاك على البعض ربط علاقة بالسلطة إذا لم يقبلوا بأجندتها، وسيؤثر ذلك على علم العلاقات الدولية، إذ سيصبح الحديث بالكاد يكون ممكنا عن قضايا عديدة في علم السياسة، مثل المجاعة، الفقر، والجندر والعنصرية طالما أنها ليست محورية في أجندة السياسي.
تعتبر كلتا المقاربتين مثيرتين للجدل، كونهما تنطويان على افتراضين خاطئين، بالنسبة للأولى يتعلق الأمر بكونها تنظر للنظرية كأداة مفسرة، وبهذا فإنه يمكن فصلها عن السياسة والسلطة. ومن جهة أخرى، فإنها تفترض تبليغ الحقيقة لصانع القرار. وفي كلتا الحالتين، فإن هذين الافتراضين يقومان على أساس الفصل بين الأكاديميين والسلطة، بالنظر إلى التزام مسبق مسلم به للتصور الذي ينيط بالنظرية دورا تفسيريا. أما بالنسبة للثانية فيتعلق الأمر بنظرة المقاربتين اللتين تدعوان إلى الفصل بين النظرية والممارسة، إذا ما أراد المنظرون إبقاء قيمهم بعيدا عن التحليل. ومن جانب آخر، للمرافعين عن السياسة المتبعة، فإن مجالي النظرية والممارسة منفصلين إلا أنه يمكن الجمع بينهما بشكل معين يساعد على تبليغ الحقيقة للسلطة. باعتقادي فإن العلاقة بين النظرية والممارسة تتوقف على طرح الافتراضين السابقين وبدلا منهما التسليم بعلاقات مختلفة بين الاثنين. وهكذا، وردا على النظرية التي تنيط بالنظرية دورا تفسيريا أود القول أن النظرية تشكل الممارسة، وردا كذلك على الطرح القائل بضرورة الفصل بين النظرية والممارسة، أقول أن مجالي هذين النشاطين مرتبطين ببعضهما ارتباطا وثيقا بشكل لا يمكن تجنبه. أكرر القول أنه لا توجد نظرة من فراغ، ولذا فإن النظرية والممارسة تتجهان دوما للتشابك. لا يوجد باعتقادي تحليل سياسي محايد ولا حقيقة (مطلقة) يمكن تبليغها للسلطة. وبالمثل لا يوجد وسط أكاديمي غير متحيز ولا يوجد فضاء محمي بأسوار قلعة أصولية إبستيمولوجية. بل أن كل النشاطات الأكاديمية يتم تفعيلها في سياق سلطوي معين، في ثنائية السلطة/المعرفة. في اعتقادي، فإن كل نظرياتنا تعكس وتعزز قوى اجتماعية محددة، وكل منهما تتعامل مع جوانب المجمع كجوانب تحظى بالأولوية والحظوة بحسب السياق الذي نشأت فيه. هناك العديد من الأمثلة حول كيفية التعامل بشكل ملموس مع مثل هذه القضايا. وأود هنا أن أشير إلى أعمال كل من بوث Booth و كامبيل Campbell كنماذج لكيفية طرح هذه الاهتمامات بشكل يسمح بجعلها مؤهلة لإفادة صانعي القرار السياسي من جهة، ومتفتحة على اهتماماتهم من جهة أخرى.
وبذلك، فإن الخيارات المتاحة لباحثي العلاقات الدولية ليست أن ينأوا بأنفسهم بعيدا عن الممارسة، أو أن يدعوا فهما متميزا للعلاقات الدولية يتيح لهم معرفة الحقيقة والهمس بها لصانعي القرار، بل عليهم تقبل حقيقة أن الاعتبارات الأخلاقية لا يمكن فصلها عن البحث، ولا يمكن إدراك أهميتها إلا عندما تتم الدعوة إلى تغييبها أو الإلحاح على ذلك. وبهذا فإن الخطابات السياسية الأكثر بلاغة تأتي من أولئك الذين يرون في غيابها إحدى خصائص عملهم، ما يتيح لهم التركيز على "الحقائق" والخروج منها باعتبارات عملية ما يجعل العديد من تحركاتهم تبدوا أكثر "حصافة" من أخرى.
يعيدني ذلك للحديث عن العراق. بناء على ما سبق، فإن أية توصية عملية هي سياسية ومعيارية في جوهرها، وبالمثل فإن أي رفض للحقائق يركب الحرب يعكس قوى اجتماعية وسياسية، وتناسقا دقيقا لثنائية القوة/المعرفة. وباعتقادي فإن على العاملين في حقل العلاقات الدولية أن يدركوا بأنهم مندمجون في العمل السياسي والأخلاقي في آن واحد في كل مرة يقومون فيها بتدريس الممارسة السياسية، والبحث فيها، أو الدفاع عنها. التسليم بشيء من قبيل وجود نظرية بمعزل عن السلطة السياسية والقبول بعدم وجود مجال مستقل للممارسة السياسية لا تسنده نظرية، أو بوجود طروحات نظرية ومعرفية يمكن إبقاءها منفصلة عن بعضها البعض أو تركيبها ضمن توليفات شرعية، يعتبر من وجهة نظري الخطوة الأولى التي سيخطوها علم العلاقات الدولية، على حساب علوم اجتماعية تدعوا إلى التخلص من التأثيرات القيمية. وذلك ببساطة لأن الادعاء بإمكانية التمييز بين الحقائق والقيم ينطوي في حد ذاته على تحيز لمواقف معينة من السياسة والأخلاق. لقد تعرضت وجهة نظري للانتقاد من حيث أن ما أدعو إليه من حوار وتركيب يعتبر مستحيلا، كما أنه يستحيل إلى نسبية عدمية، ومثل هذه الانتقادات نجدها عند مورافسيك الذي يقول بهذا الشان: "إن البديل الذي يطرحه سميث، والذي يدعو من خلاله إلى تعدد نظري أشمل يعتبر تعسفا، وهو يعبر عن التماس المحافظين لتجميد هذا الحقل المعرفي... (إنه) لا يقترح بديلا عمليا بل يدعو إلى الإبقاء على الوضع القائم... وهو يتعامل مع التعدد كشيء أسمى من اللاتعدد- وهذا نوع من الجزم الذي يسمح بتمرير أي شيء من خلاله."
عوضا عن وجهة النظر الحالية المهيمنة في العلوم الاجتماعية، التي جمدت هذا الحقل المعرفي، توجد نظرة تقوم على موقف معين تجاه العلاقة بين النظرية والممارسة تنم عن خلفيات ثقافية محددة. لقد حان الوقت ليدرك الباحثون في هذا الحقل المعرفي بأننا جميعا انجذبنا إلى حلقات هيرمونيتقية وتركيب للذاتانيات. كون كل وجهات نظرنا مستمدة من خلفيات معينة. فلا يوجد شكل محدد للعالم، لأنه ليس بالشيء الذي يمكن الإمساك به وتحسسه، أو تحقيقه أو الولوج إليه، طالما أن كل الحقائق متحيزة. إن العمل الأكاديمي الناضج يحتاج إلى أن يعكس أكثر القوانين التي نتفاوض من خلالها، وليس بالإلحاح على الطرق التي يتم من خلالها تمييز وتركيب تلك التفسيرات المختلفة للحقيقة. الحقيقة ليست بشيء ما نجده، إنما هي شيء ننشه، سواء بوعي أو من دونه بدعم من بعض القوى الاجتماعية دون أخرى. ومن هنا فإن الاعتراف بأن تداخل القوة والمعرفة شيء لا مفر منه، هو المرحلة اللاحقة في تطوير حقل أكثر نضجا للعلاقات الدولية، إن هذا الإقرار يتطلب منا التحقق من القواعد التي نفاوض من خلالها عند الالتحاق بعالم العلاقات الدولية(عالم الممارسة).
تمت ترجمة المقال عن المصدر باللغة الإنجليزية: مجلة العلاقات الدولية والتنمية، سبتمبر 2003.
العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة.
ستيفن وولت،
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة شيكاغو،
الولايات المتحدة.
ترجمة: عادل زقاغ و زيدان زياني
لماذا يهتم صانعوا السياسة والممارسين لها بالدراسة الأكاديمية للشؤون الدولية؟
إن الذين يوجهون السياسة الخارجية عادة ما يصرفون النظر عن طروحات الأوساط النظرية (وهو ما يمكن تقبله في حالات كثيرة)، غير أن هناك علاقة لا يمكن تجاهلها بين العالم النظري المجرد والعالم الواقعي حيث تمارس السياسة، فنحن بحاجة للنظريات حتى نضفي معنى على الكم الهائل من المعلومات التي تغمرنا يوميا. وحتى صانعي السياسة الذين يتعالون على النظريات يتوجب عليهم في واقع الأمر أن يعتمدوا على أفكار خاصة بهم حول الكيفية التي تسير بها الشؤون الدولية (وفي العادة، لا يتم التصريح بها) في حال أرادوا اتخاذ قرار إزاء وضع معين، فالكل يستعمل نظريات - بإدراك أو يغيره - حيث أن التباين في وجهات النظر تجاه السياسة المتبعة يعود إلى الاختلافات الجوهرية حول القوى الأساسية التي تسهم في صياغة محصلات التفاعل الدولي.
لنأخذ على سبيل المثال، الحوار القائم حول كيفية التعامل مع الصين. إن صعود الصين من إحدى المنظورات، يعد إحدى النماذج الحديثة لتوجه القوى الصاعدة من أجل تغيير توازن القوى العالمي بأشكال يمكن أن تأخذ منحى خطيرا، خاصة وأن نفوذها المتعاظم يجعلها أكثر طموحا. ومن منظور آخر، فإن مفتاح التوجه المستقبلي للصين يتوقف على ما إذا كان سلوكها سيتغير بفعل اندماجها في الأسواق العالمية والانتشار (الذي لا يمكن تحاشيه؟) للمبادئ الديمقراطية. أما من وجهة نظر ثالثة، فإن العلاقات بين الصين وبقية العالم سوف تتشكل بتأثير عوامل الثقافة والهوية، وفقا للتساؤل التالي؛ هل ستنظر الصين لنفسها (وينظر الآخرون إليها) كعضو طبيعي في المجموعة الدولية أو كمجتمع متميز يستحق معاملة خاصة؟
بالطريقة ذاتها يمكن أن يأخذ النقاش حول حلف شمال الأطلسي أبعادا مختلفة بحسب النظرية التي تم توظيفها، فالمنظور الواقعي يعتبر أن توسيع الناتو يدخل ضمن مسعى توسيع النفوذ الغربي فيما وراء المجال التقليدي للمصالح الأمريكية الحيوية، وهذا في مرحلة تتميز بتراجع النفوذ الروسي، ولذا يحتمل أن يثير ذلك ردة فعل عنيفة من جانب موسكو. أما المنظور الليبرالي فيرى أن توسيع الناتو سيعزز الديمقراطيات الناشئة في أوربا الوسطى ويساهم في توسيع نطاق الآليات الأطلسية لإدارة النزاع إلى منطقة تبقى فيها الاضطرابات أمرا واردا. ومن منظور ثالث، يمكن التركيز على أهمية إدماج جمهورية التشيك والمجر وبولندا ضمن المجموعة الأمنية الغربية والتي يتقاسم أعضاؤها هوية مشتركة تجعل من الحرب أمرا جد مستعبد.
لا يمكن لأية مقاربة منفردة أن تستوعب التعقيد المميز للسياسة العالمية المعاصرة، ولذلك فنحن إزاء مجموعة كبيرة من الأفكار المتنافسة ولسنا إزاء تقليد نظري واحد. وهذا التنافس بين النظريات يساعد على معرفة مواطن القوة والضعف ويثير بذلك التحويرات اللازمة.
مـن أيـن أتـينا
انحصرت دراسة الشؤون الدولية في التنافس المستديم بين المنظورات الواقعية، والليبرالية والراديكالية. ففي حين يركز الواقعيون على الطابع التنازعي للعلاقات بين الدول، فإن الليبرالية تحدد طرقا متنوعة للتخفيف من حدة هذه التوجهات التنازعية، بينما يبين لنا المنظور الراديكالي كيفية تحويل نظام العلاقات الدولية برمته. الحدود بين هذه المنظورات ليست واضحة كما أن العديد من الأعمال المهمة في هذا المجال لا تتناسب وتصنيفها ضمن إحدى هذه الاتجاهات الثلاثة، غير أن النقاش بينها كان بمثابة ميزة أساسية لهذا الحقل المعرفي.
الـواقـعية
لقد هيمن المنظور الواقعي على حقل العلاقات الدولية خلال فترة الحرب الباردة، وتفترض الواقعية أن الشؤون الدولية عبارة عن صراع من أجل القوة بين دول تسعى لتعزيز مصالحها بشكل منفرد، وهي بذلك تحمل نظرة تشاؤمية حول آفاق تقليص النزاعات والحروب، غير أنها ساعدت على تزويدنا بتفسيرات بسيطة لكنها قوية للحروب، والتحالفات، والإمبريالية، وعقبات التعاون وغيرها من الظواهر الدولية. كما أن تركيزها على النزعة التنافسية كان متناسبا جدا مع جوهر الصراع الأمريكي-السوفييتي.
الواقعية ليست نظرية واحدة بطيعة الحال، كما أن الفكر الواقعي تبلور بالأساس خلال فترة الحرب الباردة. فالواقعيون الكلاسيكيون مثل هانس مورقينتو وراينهولد نايبور يعتقدون أن الدول مثلها مثل البشر تمتلك رغبة فطرية في السيطرة على الآخرين، وهو ما يقودها نحو التصادم والحروب، وقد أبرز مورقينتو فضائل نظام توازن القوى التقليدي المتعدد الأقطاب، ويرى أن نظام الثنائية القطبية الذي برزت فيه الو.م.أ. والاتحاد السوفييتي يحمل العديد من المخاطر.
وبالمقابل، فإن النظرية النيوواقعية التي يتزعمها كينيث وولتز تغفل الطبيعة البشرية وتركز على تأثير النظام الدولي، فبالنسبة لـ وولتز، فإن النظام الدولي يتشكل من مجموع القوى الكبرى، كل منها تسعى للحفاظ على وجودها. فهذا النظام فوضوي (بمعنى انتفاء سلطة مركزية تحمي كل دولة من أخرى) وفي ظله نجد أن كل دولة لا تهتم سوى بمصالحها، غير أن الدول الضعيفة تسعى لإيجاد نوع من التوازن بدلا من الدخول في صراع مع الخصوم الأقوياء. وأخيرا، وخلافا لـ مورقينتو فإن وولتز يعتقد أن النظام الثنائي القطبية أكثر استقرارا من النظام المتعدد الأقطاب.
إحدى الإضافات التنقيحية المهمة للواقعية تتمثل في ظهور التوجهين الهجومي-الدفاعي ويتزعمهما كل من روبرت جرفيس، وجورج كويستر، وستيفن فان إيفيرا. هؤلاء الباحثون يعتقدون بتزايد احتمالات الحرب بين الدول كلما كانت لدى بعضها القدرة على غزو دولة أخرى بسهولة. لكن عندما تكون القدرات الدفاعية أكثر تيسرا من القدرات الهجومية فإنه يسود الأمن وتزول حوافز النزعة التوسعية. وعندما تسود النزعة الدفاعية، ستتمكن الدول من التمييز بين الأسلحة الدفاعية والأسلحة ذات الطابع الهجومي، آنئذ يمكن للدول امتلاك الوسائل الكفيلة بالدفاع عن نفسها دون تهديد الآخرين، وهي بذلك تقلص من آثار الطابع الفوضوي للساحة الدولية.
أما الواقعيون ذوو النزعة الدفاعية، فيرون أن الدول تسعى فقط للحفاظ على وجودها، بينما تقدم القوى الكبرى ضمانات لصيانة أمنها عن طريق تشكيل تحالفات توازنية بانتقاء آليات دفاعية عسكرية (مثل القدرات النووية الانتقامية). وليس من المفاجئ أن نجد وولتز وغيره من النيوواقعيين الذين يرون أن الو.م.أ. كانت آمنة في أغلب فترات الحرب الباردة يتخوفون من إمكانية تبديد الو.م.أ. لهذا المكسب في حال تبنيها لسياسة خارجية عدائية. وهكذا، فإنه وبنهاية الحرب الباردة تحولت الواقعية التشاؤمية لـ مورقينتو والمستمدة من الطبيعة البشرية إلى تبني نبرة أكثر تفاؤلية.
اللـيبرالـية
التحدي الأساس للواقعية يأتي من عائلة النظريات الليبرالية، التي ترى إحدى اتجاهاتها أن الاعتماد المتبادل في الجانب الاقتصادي سوف يثني الدول عن استخدام القوة ضد بعضها البعض، لأن الحرب تهدد حالة الرفاه لكلا الطرفين.
اتجاه آخر منسوب للرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون، يرى أن انتشار الديمقراطية يعتبر مفتاحا للسلام العالمي، ويستند هذا الرأي إلى الدعوى القائلة بأن الدول الديمقراطية أكثر ميلا للسلام من الدول التسلطية. وهناك اتجاه ثالث، وهو الأحدث، يرى أن المؤسسات الدولية مثل وكالة الطاقة الذرية وصندوق النقد الدولي، يمكن أن تساعد للتغلب على النزعة الأنانية للدول عن طريق تشجيعها على ترك المصالح الآنية لصالح فوائد أكبر للتعاون الدائم. ورغم أن بعض الليبراليين احتفوا بالفكرة التي تعتبر أن الفاعلين عبر القوميين - خاصة الشركات المتعددة الجنسيات - استحوذوا تدريجيا على سلطات الدول فإن الليبرالية بصفة عامة ترى في الدول فاعلين مركزيين في الشؤون الدولية. وفي كل الحالات فإن جميع النظريات الليبرالية تطغى عليها النزعة التعاونية بشكل يتجاوز بكثير الاتجاه الدفاعي في النيوواقعية، على أن كلا منهما يقدم لنا توليفة مختلفة عن كيفية تعزيز هذا التعاون.
المقاربات الراديكالية
إلى غاية الثمانينيات كانت الماركسية بمثابة البديل الأساسي للاتجاهين المهيمنين على العلاقات الدولية (الواقعية والليبرالية) وقد تجاوزت الماركسية نظرة الواقعيين والليبراليين للنظام الدولي كمعطى مسبق، إلى تقديم تفسير مختلف للنزاعات الدولية، بل وأكثر من ذلك، فقد زودتنا بمسودة تتضمن تحويلا جوهريا للنظام الدولي.
فالنظرية الماركسية الأرثوذكسية ترى أن الرأسمالية هي السبب الأساس للنزاعات الدولية. فالدول الرأسمالية تحارب بعضها كنتيجة لصراعها الدائم من أجل الربح. كما أنها تحارب الدول الاشتراكية لأنها ترى فيها بذور فنائها. وبالمقابل، فإن النظرية النيوماركسية "التبعية" تركز على العلاقات بين القوى الرأسمالية الأكثر تطورا والدول الأقل تطورا، إذ ترى أن الأولى أصبحت أكثر غنى باستغلال مستعمراتها مدعومة في ذلك بتحالف غير مقدس مع الطبقات الحاكمة للدول السائرة في طريق النمو. وهكذا، فإن الحل في نظرها يكمن في الإطاحة بهذه النخب الطفيلية وتأسيس حكومات ثورية تلتزم بتنمية ذاتية.
في الواقع، لقد تم دحض افتراضات كلتا النظرتين (الماركسية والنيوماركسية) حتى قبل نهاية الحرب الباردة. أما بالنسبة للأولى، فإن تاريخ التعاون الاقتصادي والعسكري الوثيق بين القوى الصناعية المتقدمة، أظهر أن الرأسمالية لا تحتم الانقياد نحو التنازع، وبالمقابل، فإن الانشقاقات الكبيرة التي شهدها العالم الشيوعي مع نهاية الحرب الباردة، أظهرت أن الاشتراكية لا تقوم دوما بتعزيز الانسجام. نظرية التبعية بدورها قد عانت من شواهد إمبريقية لا تسير في اتجاه افتراضاتها، مع بروز حقيقة مفادها أن المشاركة الفاعلة في الاقتصاد العالمي كانت بمثابة الطريق الأمثل للازدهار، وذلك بخلاف نهج التنمية الذاتية بالمفهوم الاشتراكي، ومن جهة أخرى، فإن العديد من الدول السائرة في طريق النمو أثبتت أنها قادرة على المفاوضة بنجاح مع الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات الدولية الرأسمالية.
ومع استسلام الماركسية لاخفاقاتها المتعددة، اتجه منظروها لاستعارة مفاهيم وتصورات من أدبيات ما بعد الحداثة، خاصة من التيار النقدي في الأدب والعلوم الاجتماعية. هذه المقاربة التي تقوم على المنهج التفكيكي أبدت تشكيكها في مساعي الليبراليين والواقعيين لتعميم افتراضاتهم، إذ ركز رواد هذا الاتجاه الجديد على أهمية اللغة والخطاب في تشكيل المحصلات الاجتماعية، إلا أن اقتصارهم على نقد المنظورات السائدة دون تقديم بدائل إيجابية جعلهم مجرد أقلية منشقة طيلة الثمانينيات.
السياسة الوطنية
لم تكن جل الأبحاث في الشؤون الدولية خلال فترة الحرب الباردة تتناسب وتصنيفها ضمن إحدى المنظورات الثلاثة السائدة، وبالذات تلك التي تركز على خصائص الدول، والمنظمات الدولية، والقيادات. مثل هذه الأعمال تناسب التوجه الديمقراطي في النظرية الليبرالية، كما هو الأمر بالنسبة لمجهودات بعض الباحثين مثل قراهام أليسون وجون ستاينبرونر باستعمالهما لنظرية المنظمة والسياسة البيروقراطية لتفسير توجهات السياسة الخارجية، أو تلك الخاصة بجيرفيس إيرفينغ وآخرين ممن حاولوا تطبيق علم النفس الاجتماعي وعلم النفس المعرفي. لكن أغلب هذه الأعمال لا تسعى لتزويدنا بنظرية عامة حول السلوك الدولي، بل تحاول تحديد العوامل الأخرى التي يمكن أن تقود الدول للتصرف بشكل يخالف توقعات الواقعيين والليبراليين. فالجزء الأكبر من هذه الأدبيات يجب اعتباره مكملا للمنظورات الثلاثة - وليس منافسا لها - في تحليل النظام الدولي ككل.
تصدعات جديدة في منظورات قديمة
أصبحت الدراسة الأكاديمية للشؤون الدولية أكثر تنوعا منذ نهاية الحرب الباردة بحيث برزت الأصوات غير الأمريكية، كما حصل عدد كبير من المناهج والنظريات على الشرعية. بل وأكثر من ذلك، فقد أدرجت مواضيع جديدة في أجندة الباحثين على الصعيد العالمي، ومن بينها النزاعات الإثنية، والبيئة ومستقبل الدولة.
ومع ذلك، فإن الاتجاه نحو التجديد لم يكن في حقيقة الأمر سوى نسخة مكررة للقديم. وبدلا من حل الصراع القائم بين مختلف المقاربات النظرية المتنافسة، فإن نهاية الحرب الباردة لم يعقبها سوى إطلاق سلسلة جديدة من النقاشات، ثم إن اعتناق أغلب التجمعات لنفس القيم المتعلقة بالديمقراطية، السوق الحرة وحقوق الإنسان لم يؤد إلى نوع من الوفاق، بل أن الباحثين الذين عكفوا على دراسة هذه التطورات هم الآن أكثر انقساما من ذي قبل.
انحسار الواقعية
رغم أن نهاية الحرب الباردة قادت بعض الكتاب للتصريح بالإفلاس الأكاديمي للواقعية، إلا أن المتداول بشأن إخفاقها الكلي مبالغ فيه.
يعتبر مفهوم المكاسب النسبية والمكاسب المطلقة إحدى الإسهامات الحديثة للواقعية. فردا على افتراض "الاتجاه المؤسساتي" الذي يعتبر أن المؤسسات الدولية ستًمكن الدول من ترك المزايا قصيرة المدى لصالح مكاسب أكثر للتعاون على المدى الطويل. بحيث يشير الواقعيون من أمثال جوزيف قريكو وستيفن كراسنر إلى أن الفوضى تدفع بالدول للقلق بشأن هذه المكاسب المطلقة من خلال التعاون، زيادة على الطريقة التي يتم وفقها توزيع هذه المكاسب بين المتعاونين، وتبرير ذلك هو أن الدول التي تستحوذ على مكاسب تفوق مكاسب شركائها ستصبح بالتدريج أقوى، بينما يصبح شركاءها أكثر هشاشة.
وفضلا عن ذلك، فقد كان الواقعيون سباقين أيضا إلى استكشاف مجموعة من القضايا المستجدة. فـ باري بوزان يقدم لنا تفسيرا واقعيا للنزاعات الإثنية، بالإشارة إلى أن تمزق الدول المتعددة الإثنيات يمكن أن يضع المجموعات الإثنية أمام وضع فوضوي. هذا الواقع الجديد، يثير مخاوف كل طرف تجاه الطرف الآخر، ويقود كليهما إلى محاولة استعمال القوة لتحسين وضعه النسبي، هذه الوضعية تتعقد أكثر عندما تكون في الإقليم، المأهول من طرف مجموعة معينة، جيوب تسكنها إثنيات أخرى، مثلما حدث فيما كان يعرف بيوغسلافيا. ذلك أن كل طرف يحاول تنفيذ تصفية إثنية (استباقية) لإنهاء وجود أية أقليات غريبة، ما يسمح بالتوسع لضم كل الأفراد المنتمين لمجموعتهم والمتواجدين خارج الحدود الحالية لإقليمهم. وبخصوص مسعى توسيع حلف شمال الأطلسي، فقد حذر الواقعيون من أن ذلك سوف يؤدي الى شل العلاقات مع روسيا في ظل غياب عدو واضح يبرر مسعى التوسيع.
وأخيرا، هناك بعض الباحثين من أمثال مايكل ماستاندونو الذين أشاروا إلى أن سياسة الو.م.أ. تتوافق مع المبادئ الواقعية، خاصة وأن مختلف تحركاتها مصممة أساسا للإبقاء على واقع الهيمنة الأمريكية، ولإقرار نظام ما بعد الحرب بشكل يعزز المصالح الأمريكية.
إن التطور الأكثر أهمية من الناحية التصورية يتمثل في الشرخ المتنامي بين الاتجاهين الدفاعي والهجومي. رواد الاتجاه الدفاعي (كينيث وولتز، فان إيفيرا، جاك سنايدر) يفترضون أنه ليس للدول مصالح كبيرة في الغزو العسكري، ويرون أن التكاليف المترتبة عن السياسات ذات النزعة العسكرية تفوق عادة الفوائد المرجوة منها. وتبعا لذلك فإنهم يرون أن الحروب التي تخوضها الدول الكبرى تحدث عموما نتيجة لشعور مبالغ فيه بالخطر والذي تغذيه مجموعات داخلية، كما تعود أيضا إلى الثقة المفرطة في فعالية العمل العسكري.
لقد تعرضت وجهة النظر هذه لموجة من الانتقادات مست مختلف الجوانب:
راندال سفيلر يشير إلى أن الافتراض النيوواقعي القاضي بأن الدول تسعى فقط للحفاظ على وجودها، ينطوي على تكريس الوضع القائم، ذلك أنها تحول دون التنبؤ بالخطر الذي تمثله الدول العدوانية مثل ألمانيا في عهد هتلر أو فرنسا في عهد نابليون بونابرت والتي لم تكن تعير اهتماما لموجوداتها بقدر اهتمامها بتلبية مطامعها، وهي مستعدة للمخاطرة بفنائها من أجل تحقيق أهدافها.
أما بيتر ليبرمان في كتابه: "ماذا يجني الغزاة؟" فيورد العديد من الشواهد التاريخية كالاحتلال النازي لأوربا الغربية والهيمنة السوفيتية على أوربا الشرقية, ليبين لنا أن فوائد الغزو تفوق تكاليفه، وهو بذلك يزيل الشك عن الادعاء القائل بأن التوسع العسكري لم يعد مربحا.
في حين أن الواقعيين الهجوميين (إيريك لابس، وجون ميرشايمر، وفريد زكريا) يرون أن الفوضى تدفع الدول للعمل على تعظيم قوتها النسبية طالما أن ظهورا مفاجئا لقوة تعيد النظر في الواقع القائم يبقى احتمالا واردا.
هذه الخلافات تساعدنا على تفسير السبب الذي يجعل الواقعيين يختلفون حول مجموعة من القضايا مثل مستقبل أوربا، فالواقعيون الدفاعيون مثل فان إيفيرا، يرون أن الحرب نادرا ما تكون ذات فائدة، وهي في العادة نتاج النزعة العسكرية والقومية المفرطة، إضافة إلى عوامل أخرى، ولأن فان إيفيرا لا يعتقد بتوفر هذه العوامل في أوربا ما بعد الحرب الباردة، فانه يخلص إلى أن المنطقة سيسودها السلام. وبالمقابل نجد ميرشايمر وغيره من الواقعيين الهجوميين يعتقدون أن الفوضى تدفع القوى الكبرى إلى التنافس بغض النظر عن خصائصها الداخلية، فهم يرون أن مناخ التنافس حول الأمن سوف يسود أوربا بمجرد انسحاب راعي السلام الأمريكي.
حياة جديدة لليبرالية
أثار انهزام الشيوعية نوعا من مشاعر الغبطة في الغرب، وقد تجلى ذلك في طروحات فوكوياما حول نهاية التاريخ، ورغم أن التاريخ لم يول اهتماما كبيرا لهذا الاعتزاز، إلا أن ذلك أعطى دفعة قوية للتيارات الثلاثة للفكر الليبرالي.
برز ذلك وبشكل واضح في النقاشات الدائرة حول "السلام الديمقراطي"، فرغم أن آخر حلقة من النقاش حول "السلام الديمقراطي"، كانت قد ابتدأت فعليا قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، غير أن هذا المفهوم أصبح أكثر إسنادا بزيادة عدد الدول الديمقراطية وتراكم مزيد من الشواهد الإمبريقية المؤكدة للارتباط القائم بين الديمقراطية والسلام.
فنظرية "السلام الديمقراطي" تعتبر تحويرا للطرح المبكر القاضي بأن الدول الديمقراطية نادرا ما تحارب بعضها البعض بالرغم من أنها قد تدخل في حروب ضد دول أخرى. وقد قدم لنا بعض الباحثين من أمثال مايكل دويل، وجيمس لي ري وبروس راسيت، عددا من التفسيرات في هذا الاتجاه، ومن أكثرها انتشارا تلك القائلة بأن الدول الديموقراطية تعتنق ضوابط التوفيق التي تمنع استعمال القوة بين أطراف تعتنق نفس المبادئ. إنه من الصعب تصور وجود تفسير أقوى حجة من "السلام الديمقراطي" لتبرير مساعي إدارة كلينتون الهادفة إلى توسيع مجال الحكم الديمقراطي.
أصبح "السلام الديمقراطي" بذلك قاعدة للسياسة الأمريكية، مما دفع إلى الشروع في مزيد من الأبحاث حول إسنادات هذه النظرية. أولا: أشار كل من سنايدر وإدوارد مانسفيلد إلى أن الدول قد تكون أكثر ميلا للحرب عندما تمر بمرحلة الانتقال نحو الديمقراطية، مما يعني أن المساعي الحالية لتصدير الديمقراطية قد تجعل الأمور أسوأ مما هي عليه.
ثانيا: أشارت انتقادات كل من دايفد سبيرو وجوان قوا إلى أن الغياب الظاهري للحروب بين الدول الديمقراطية يعود إلى الطريقة التي تمت بواسطتها تعريف الديمقراطية والعدد القليل نسبيا للدول الديمقراطية (خاصة قبل 1945). فضلا عن ذلك فإن كريستوفر لين يعتبر أن تمسك الدول الديمقراطية بخيار السلام عندما كانت احتمالات الحرب واردة لا يعود بالضرورة إلى تقاسم القيم الديمقراطية. ثالثا: إذا كانت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تقدم لنا الدليل الحاسم بعدم لجوء الدول الديمقراطية إلى خيار الحرب ضد بعضها البعض، فإن غياب حالات تنازعية في هذه الفترة يعود حسب قوا إلى وجود مصلحة مشتركة في احتواء الاتحاد السوفييتي أكثر منه تقاسم المبادئ الديمقراطية.
الليبيراليون المؤسساتيون بدورهم استمروا في تكييف نظرياتهم. ويعود ذلك من جهة، إلى أن الطرح الجوهري لهذه النظرية فقد الكثير من بريقه مع مرور الزمن، إذ أن المؤسسات أصبح ينظر إليها كعامل مسهل للتعاون طالما أن ذلك يتماشى مع مصلحة الدول، لكنه أصبح من الواضح الآن أن المؤسسات لا تستطيع فرض سلوكات معينة على الدول إذا كان يتنافى مع مصالحها الأنانية [للمزيد حول هذا الموضوع أنظر مقال روبرت كيوهان]. ومن جهة أخرى، فقد قام المؤسساتيون من أمثال جون بافيلد وروبرت ماكالا بتوضيح النظرية لتشمل مجالات متعددة. أبرزها دراسة منظمة حلف شمال الأطلسي، إذ يرى هؤلاء الباحثون أن خاصية المأسسة العالية للناتو تفسر سر بقائِه وتكيفِهِ مع التغيرات بالرغم من اختفاء خصمه التقليدي.
من جانبه لازال الاتجاه الاقتصادي للنظرية الليبرالية يحظى بنفوذ كبير، خاصة ما طرحه بعض الباحثين من أن عولمة الأسواق العالمية، وظهور الشبكات عبر الوطنية، والمنظمات غير الحكومية، والانتشار السريع لتكنولوجيا الاتصالات الكونية، كلها ساهمت في تقويض صلاحيات الدول وحولت الاهتمام من مسائل الأمن العسكري إلى قضايا الاقتصاد والرفاه الاجتماعي. وبالرغم من جدة هذه التحولات، إلا أن المنطق الذي تقوم عليه بسيط جدا، فطالما أن المجتمعات أصبحت مرتبطة ببعضها بشبكة من الارتباطات الاقتصادية والاجتماعية، فإن التكاليف المرتفعة لفك هذه الارتباطات سوف تردع التحركات الانفرادية للدول، وخاصة الاستعمال المنفرد للقوة.
هذا المنظور يتضمن حقيقة أن الحرب ستبقى احتمالا قائما بين الدول الأكثر تصنيعا، كما أنه يشير إلى أن دفع الصين وروسيا لتبنى الرأسمالية المتوحشة يعتبر الوسيلة المثلى لتعزيز الازدهار والسلام، خاصة إذا مكن ذلك من إيجاد طبقة متوسطة داخل هذه الدول وساهم في الضغط تجاه الدمقرطة. ولا شك أن جلب الازدهار وروح التنافس إلى هذه المجتمعات مهمة ذات طابع اقتصادي.
تعرضت هذه النظرة إلى الانتقاد من طرف باحثين يرون أن النطاق الحالي للعولمة لا يزال متواضعا، وبأن ما يتم من عمليات اقتصادية مختلفة لازالت تضبطها الدول. ومع ذلك، فإن الفكرة القائلة بتفوق قوى الاقتصاد على السياسة التقليدية للقوى الكبرى تحظى بانتشار واسع في أوساط الباحثين وصناع السياسة على حد سواء. ويبدو أن "دور الدولة" سيكون موضوعا مهما في الأبحاث الأكاديمية المستقبلية.
النظريات البنائية
في الوقت الذي تميل فيه كل من الواقعية والليبرالية إلى التركيز على العوامل المادية فإن المقاربات البنائية تركز على تأثير الأفكار، وبدلا من النظر إلى الدولة كمعطى مسبق والافتراض أنها تعمل من أجل بقائها، يرى البنائيون أن المصلحة والهوية تتفاعل عبر عمليات اجتماعية (تاريخية) كما يولون أهمية كبيرة للخطاب السائد في المجتمع، لأن الخطاب يعكس ويًشكلً في الوقت ذاته المعتقدات والمصالح، ويؤسس أيضا لسلوكات تحظى بالقبول. إذن، فالبنائية تهتم أساسا بمصدر التغير أو التحول. وهذه المقاربة حلت بشكل كبير محل الماركسية كمنظور راديكالي للشؤون الدولية.
ساهمت نهاية الحرب الباردة في إضفاء الشرعية على النظريات البنائية لأن الواقعية والليبرالية أخفقتا في استباق هذا الحدث كما أنهما وجدتا صعوبة كبيرة في تفسيره، بينما تمتلك البنائية تفسيرا له، خصوصا ما يتعلق بالثورة التي أحدثها ميخائيل غورباتشيف في السياسة الخارجية السوفيتية باعتناقه أفكارا جديدة "كالأمن المشترك".
زيادة على ذلك، وبالنظر إلى التحدي الذي تتعرض له الضوابط التقليدية بمجرد تحلل الحدود، وبروز القضايا المرتبطة بالهوية، فإنه ليس من المفاجئ أن نجد الباحثين قد التجؤوا إلى مقاربات تدفع بمثل هذه القضايا إلى الواجهة وتجعل منها محور الاهتمام.
ومن وجهة نظر بنائية، فإن القضية المحورية في عالم ما بعد الحرب الباردة هي كيفية إدراك المجموعات المختلفة لهوياتها ومصالحها. ورغم أن التحليل البنائي لا يستبعد متغير القوة، إلا أن البنائية ترتكز بالأساس على كيفية نشوء الأفكار والهويات، والكيفية التي تتفاعل بها مع بعضها البعض، لتشكل الطريقة التي تنظر بها الدول لمختلف المواقف، وتستجيب لها تبعا لذلك. ومن خلال ما سبق، يتضح أن معرفة ما إذا كان الأوروبيون ينظرون إلى أنفسهم بمنظور وطني أم بمنظور قاري، ينطوي على أهمية تحليلية كبيرة، وينسحب الأمر ذاته عما إذا كان الألمان واليابانيون سيعملون على إعادة النظر في ماضيهم، بحيث يتبنون أدوارا خارجية فاعلة، وعما إذا كانت الو.م.أ. ستعتنق أو سترفض هوية تقضي بأن يلعب الأمريكيون دور دركي العالم.
النظريات البنائية متعددة، وهي لا تقدم لنا تصورا موحدا لتوقعاتها حول أي من القضايا المطروحة على المستوى التصوري الصرف، إذ يرى ألكسندر ووندت أن التصور الواقعي للفوضى لا يقدم لنا تفسيرا مناسبا لأسباب حدوث النزاعات الدولية، فالقضية الجديرة بالنقاش هي كيف يتم فهم هذه الفوضى؟ وبحسب ووندت، فإن الفوضى هي ما صنعته الدول [وليست معطى مسبق]. هناك اتجاه آخر للبنائية يركز على مستقبل الدولة، ويعتبر أن الاتصالات عبر الوطنية وتقاسم القيم المدنية أدت إلى تقويض دعائم الولاءات الوطنية التقليدية، وإيجاد أشكال جديدة من الجمعيات السياسية. كما أن بعض البنائيين يركزون على دور الضوابط ويرون أن القانون الدولي وغيره من المبادئ الآمرة أدت إلى نخر المفاهيم التقليدية البدائية للسيادة، مثلما استطاعت تصوير الأغراض المشروعة التي تمارس الدول سلطاتها استنادا إليها. ومهما يكن، فإن الموضوع المشترك بين كل هذه الاتجاهات يتمثل في قدرة الخطاب على صياغة الكيفية التي يحدد بها الفاعلون هويتهم ومصالحهم وبالنتيجة يقومون بتعديل سلوكاتهم.
إعادة النظر في السياسة الوطنية
مثلما كان عليه الأمر في فترة الحرب الباردة، استمر الباحثون في استكشاف تأثير السياسة الوطنية على السلوك الخارجي للدولة، فالسياسة الوطنية تعتبر متغيرا حاسما في النقاش حول مفهوم "السلام الديمقراطي". وقد قام بعض الباحثين من أمثال "سنايدر، وجيفري فريدن وهيلين ميلنر" بفحص كيفية تأثير مجموعات المصالح في خيارات الدولة بحيث تقودها إلى سلوكات خارجية غير متوقعة. وكذلك فقد قام جورج داونس ودايفيد روك بتبيان الدور الذي تلعبه المؤسسات الوطنية في المساعدة على التعامل مع الغموض الذي يكتنف الشؤون الدولية. بينما قام بعض باحثي علم النفس بتطبيق النظرية الاستشفافية جنبا إلى جنب مع أدوات تحليلية أخرى لتفسير سبب إخفاق صناع القرار في التصرف بشكل عقلاني [لمعلومات أكثر حول صناعة القرار في السياسة الخارجية، أنظر مقال مارقاريت هيرمان، وجو هاقان.
شهدت العشرية الأخيرة من القرن العشرين تزايد الإهتمام بتصور الثقافة، وقد تزامن ذلك مع بروز الاتجاه البنائي الذي يركز على أهمية الأفكار والضوابط. فقد استعمل كل من توماس بيرقر وبيتر كاتزنشتاين المتغيرات الثقافية لتفسير نزوع ألمانيا واليابان بعيدا عن السياسات العسكرية التي تعتمد على الذات. كما قدمت إليزابيث كير تفسيرات ثقافية للعقائد العسكرية التي سادت بريطانيا وفرنسا، في فترة ما بين الحربين. أما لين جونستون فقد قامت بتقصي حالات الاستمرارية في السياسة الخارجية الصينية فيما تعتبره "واقعية ثقافية" متجذرة. في حين تعتبر التحذيرات الجريئة التي أطلقها صامويل هنتنغتون حول "صدام الحضارات" إحدى أعراض هذا الاتجاه التفكيري، حيث يستند طرحه على القول بأن الانتماءات الثقافية الواسعة أصبحت الآن تحل محل الولاءات القومية. لكن وبالرغم من أن هذه الأعمال وغيرها تقارب للثقافة في مفهومها الواسع، غير أنها أبعد من أن تقدم لنا فهما كاملا حول كيفية تفعيلها، والمدى الذي يمكن أن تأخذه آثارها، إلا أن المقاربات ثقافية-التوجه أصبحت جد شائعة في الخمس سنوات الأخيرة. يعتبر هذا الإتجاه وجها من أوجه الاهتمام الواسع بالقضايا الثقافية في الأوساط الأكاديمية (وضمن النقاش العام على حد سواء). كما أنه وفي جانب منه يعتبر ردة فعل على تصاعد حدة النزاعات الإثنية والوطنية والثقافية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
لوحة المفاتيح التصورية
تعكس هذه النقاشات تنوع الدراسات الأكاديمية المعاصرة حول الشؤون الدولية، كما وتظهر علامات واضحة حول التقاطع المنهجي. فأغلب الواقعيين يعترفون بأهمية القومية والنزعة العسكرية والإثنية وغيرها من العوامل الوطنية، كما يقر الليبراليون بدورهم بأن القوة تعتبر عاملا محوريا في السلوك الدولي، تماما مثلما يقبل البنائيون بالرأي القائل بأن الأفكار تكتسي أهمية أكبر عندما تسندها دول قوية ويتم تعزيزها بموارد قوة مادية. لقد أصبحت الحدود بين مختلف المنظورات مائعة على نحو ما، وهناك فرصة كبيرة للتحكيم العقلية.
لكن أي من هذه المنظورات تلقي الضوء أكثر على الشؤون الدولية المعاصرة؟ وأي منها يتوجب على صانعي السياسة أخذها بين الاعتبار عندما يكون بصدد تحديد مصائرنا في القرن المقبل؟ تعتبر الواقعية الإطار العام الأكثر إلزاما لفهم العلاقات الدولية، بالرغم من أن الكثير من الأكاديميين والعديد من صناع السياسة يحجمون عن الإقرار بذلك. فالدول مستمرة في إيلاء أهمية كبيرة لتوازن القوى وللقلق بشأن احتمال حدوث نزاع شامل.
إن هذا الاهتمام الكبير بالقوة والأمن يفسر لنا السبب الذي جعل الآسيويين والأوربيين يصرون على الحفاظ وربما توسيع التواجد العسكري الأمريكي في مناطقهم، حيث حذر الرئيس التشيكي فتشلاف هافل من أنه إذا فشل الناتو في التوسع شرقا فإننا قد ننقاد إلى كارثة عالمية جديدة قد تفوق تبعاتها تبعات الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهذه ليست كلمات رجل يعتقد بأن صراع القوى الكبرى قد ولى من غير رجعة.
أظهرت العشرية الأخيرة مدى رغبة الو.م.أ. في أن تكون الرقم واحد عالميا، ومدى تصميمها على البقاء في وضع المهيمن. لقد استغلت الولايات المتحدة تفوقها الحالي لفرض خياراتها حيث أمكن ذلك حتى وصل بها الأمر إلى حد استفزاز حلفائها القدامى بالرغم من المخاطر التي ينطوي عليها ذلك. إذ فرضت سلسلة من الاتفاقات أحادية الجانب لمراقبة التسلح ضد روسيا، كما هيمنت على مساعي السلام في البوسنة، واتخذت خطوات لتوسيع الناتو تجاه الحدود الروسية، وأصبحت منشغلة بشكل متزايد للقوة المتعاضمة للصين، ودعت مرارا إلى الوثوق في المساعي المتعددة الأطراف وبدور أوسع للمؤسسات الدولية، ومع ذلك، فقد تعاملت مع الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية بعدم اكتراث كلما تعارضت توجهاتها مع مصالح الولايات المتحدة. وقد رفض الأمركيون الإنضمام إلى المجموعة الدولية لحظر الألغام الأرضية المضادة للأفراد. تماما مثلما رفضوا التعاون في قمة الأرض بـ كيوتو. وطالما تفنن القادة الأمريكان في التستر وراء النظام الدولي لتمرير مصالحهم الأنانية. وهكذا، فإن نهاية الحرب الباردة لم تنه سياسة القوة، فالواقعية يبدو أنها ستبقى الأداة الأكثر نفعا في لوحة مفاتيحنا الفكرية.
ومع ذلك، فإن الواقعية لا تفسر كل شيء، وأي قائد متبصر يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الإستبصارات التي تمدها بها المنظورات الأخرى. فالنظريات الليبرالية تحدد الوسائل التي يمكن للدول استعمالها لتحقيق مصالح مشتركة، كما تحدد أهم القوى الاقتصادية التي تساعدنا على فهم سبب اختلاف الدول في خياراتها الأساسية. وفضلا عن ذلك، فإن الحماية الأمريكية ستقلص من مخاطر الصراعات الإقليمية وستعزز السلام الليبرالي الذي ظهر بعد 1945، لذا فإن الوصفة الليبرالية تصبح أكثر أهمية طالما أن الولايات المتحدة ستستمر في توفير الأمن والاستقرار للعديد من أجزاء العالم.
وفي غضون ذلك، فإن النظريات البنائية تعد الأكثر ملاءمة في تحليل كيفية تغير الهويات والمصالح بمرور الزمن، بحيث تنتج عنها تغيرات حادة في سلوك الدول، وفي حالات معينة، تفجر تحولات غير متوقعة في الشؤون الدولية. وفي هذا الإطار، يعتبر من المهم جدا معرفة ما إذا كانت الهوية في أوربا ستستمر في التحول من الدولة-الأمة إلى نطاق محلي أضيق أو إلى نطاق أوسع، إلى الهوية الأوروبانية. تماما مثلما يهم معرفة ما إذا كانت النزعة القومية سيحل محلها بالتدريج نوع من الانتماء الحضاري بحسب مفهوم هنتنغتون. ليس للواقعية الشيء الكثير لتقدمه لنا في هذا الخصوص، وصناع القرار قد يشوب نظرتهم الغموض إذا أهملوا مثل هذه الاحتمالات بشكل كلي.
باختصار، فإن كلا من هذه المنظورات المتنافسة ترصد جوانبا مهمة في السياسة العالمية. وفهمنا يعوزه القصور إذا ما نحصر تفكيرنا على إحدى هذه المنظورات، وفي المستقبل، فإن الدبلوماسي المثالي يجب أن يبقى يقظا بخصوص التركيز الواقعي على الدور الذي لا يمكن تجاهله لعامل القوة، كما أنه يجب أن يكون واعيا بدور القوى الوطنية وأن يفكر أحيانا من خلال المنظور البنائي للتغير.
الاتحادية والسلام:
منظور ليبرالي-بنيوي
آندري مورافسيك.
ترجمة: عادل زقاغ.
في مقالة مثيرة للأستاذ تشمبيل Ernst-Otto Czempiel، طرحت فرضيتان استقاهما الكاتب من فكر إيمانويل كانط Immanuel Kant. تتعلق الأولى بالشروط الداخلية الضرورية لـ "السلام الديمقراطي". وبقراءة تأويلية لكتابات كانط، حاول تشمبيل أن يثبت بأن هذه الشروط تتضمن وجود سند داخلي للسلام؛ والرقابة المجتمعية على أعمال الحكومة؛ وتمثيل غير متحيز لمصالح خاصة وتحمل متكافئ للأعباء في تنفيذ السياسات. لكن تشمبيل يقول أن هذه الشروط لا تتأتى حتى بين الديمقراطيات الليبرالية ما يؤدي إلى اندلاع الحروب بشكل حتمي. هذا الطرح مقنع ويربط بين عمله ومختلف الاتجاهات الليبرالية.
ما يهمني هنا هو فرضية تشمبيل الثانية، حيث يواصل قراءته لـ كانط، والتي تقضي بأن إزالة المشاكل الأمنية التي قد تطرأ بين الجمهوريات يتطلب إنشاء منظمات دولية قوية. هذا الإدعاء الذي تقدم به تشمبيل لتفسير السلام والحرب يعتبر متجرأ، فمن الثابت أن المؤسسات الدولية ليست بأقل أهمية nicht weniger wichtig من الدمقرطة الوطنية والاعتماد المتبادل، ولذا يجب على منظري العلاقات الدولية أن يأخذوا بمحمل الجد مقترحات كانط بخصوص فدرالية دولية Foedus Pacifium.
غير أن تشمبيل يؤكد أن إقرار السلام بين الدول الأوربية بعد الحرب كان بفعل إنشاء المنظمات الدولية مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، والناتو، والمجموعة الأوربية للفحم والصلب، والمجموعة الاقتصادية الأوربية، وأكثر من ذلك فهو يرى أن تأثير إنشاء هذه المؤسسات في ضمان السلام كان بنفس أهمية تأثير الدمقرطة والاعتماد المتبادل، كما يضيف أن السلام لن يكون كاملا قبل إتمام اتحاد العالم الغربي. ويبدو أن تحقيق هذا الهدف بنظر تشمبيل يقتضي إنشاء فدرالية بالمفهوم العصري، عبر إتمام الاتحاد النقدي والاقتصادي، والذهاب إلى أبعد مما حرزته منظمات مثل OECD عن طريق رسم حدود للسيادات الوطنية، وذلك بواسطة إقرار الاقتراع بالأغلبية والتشريع الديمقراطي المباشر.
أولئك الذين يحتفون بـ "السلام الديمقراطي" و"نهاية التاريخ" يستبقون الأوان، فإلى حين بروز "فدرالية كانط" يبقى السلام بين الدول الديمقراطية غير مستقر حسب تشمبيل. ومع ذلك، سأستعرض في هذه الورقة ثلاثة انتقادات تطال الأصالة المعرفية لهذه الفرضية، وانسجامها المنظوراتي، وصدقيتها الإمبريقية. موقفي الأساسي يتمثل في أن فرضية تشمبيل الأولى "الليبرالية البنيوية" مختلفة تماما وأكثر إسنادا من الفرضية الثانية "المؤسساتية"، كما أن الأولى تفسر الكثير من المتغيرات التي يعزوها تشمبيل خطأ للثانية. إن الإدعاء بتأثير المؤسسات الدولية على السلام بين الديمقراطيات في أحسن الأحوال طرح غير مؤسس وفي أسوها خاطئ.
الخلفية الفكرية: هل كان كانط مع مؤسسات دولية قوية؟
من الواضح أن موقف كانط (1795) كان لصالح مؤسسات دولية تتمتع بصلاحيات محدودة. كما أنه كان متخوفا من حكومة عالمية قد تصبح دكتاتورية وتعمل على اضطهاد التعدد في التصورات الدينية، واللغوية، والوطنية للحق السياسي. ولذا فقد كان دوما يبحث عن التمييز بين "فدرالية للدول الحرة" وأي تصور لـ "دولة عالمية"، على النحو الذي كان يدعو إليه فقهاء القانون الدولي البارزين في عصره مثل: قروشيوس، وبافندورف، وفاتل. ولا يستند في طرحه إلى أهمية الحفاظ على تميز التقاليد الوطنية لكل دولة فحسب، بل أنه يعتقد بالمبدأ القائل بأن القوانين تفقد فاعليتها بتوسع النطاق الجغرافي لعمل الحكومة. ومن هنا فإن أية حكومة عالمية ستؤول إلى "استبداد بلا روح بعد اندثار بذور الخير ... وفي النهاية فإن الأمر كله سيؤول إلى فوضى". يتضمن هذا الاعتقاد نتيجة بديهية، فطالما أن كانط يؤمن بأن تاريخ العالم كله تحركه ديناميكية التنافس اللامركزي بين الأفكار والأمم، فإن ذلك سيتهدد بوجود حكومة عالمية مركزية وقوية. طروحات جون ستيوارت ميل بدورها كانت حذرة بمعارضته لفكرة وضع قيود أخلاقية
-وليس قيود قانونية- على عمل الحكومات الوطنية، وهذا هو الطرح الذي يتداوله الكثير من المفكرين ذوي الاتجاه الليبرالي.
صحيح أن المنظمات الدولية في نظرية كانط أكبر من مجرد اتفاقيات محدودة، لكنه من غير الواضح إذا كانت هذه النظرية تتضمن أي دعم للسير خطوات باتجاه تحقيق الفدرالية. وهذا حتى بإسقاطها على واقع النصف الأخير من القرن العشرين. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن أيا من المقالات الثلاثة التي استند إليها تشمبيل (1996) حول مشروع كانط للسلام الدائم (وهي تحريم: المعاهدات السرية، وتأهب الجيوش، والحروب الممولة بالاستدانة) أي منها لا يمكن تنفيذها عبر عمل منفرد ومنسق على نطاق واسع.
وقد أوضح كانط أن الفدرالية ستنبثق عن الإملاءات الأخلاقية للحكم الجمهوري، ولكنها ليست بأي حال فدرالية قوية، فطالما أن كل دولة تولي أهمية أكبر لحقوقها السيادية فإنها لن تقبل بالفدرالية بمعناها الحديث، والذي يعني التعدي على العلاقة الفريدة القائمة بين الحاكم والشعب، ليجعلها تحت رحمة سلطة أعلى. وبالخصوص، لأن مثل هذه القيود الخارجية لا يمكن أن تكتسب قوة قانونية، إذ أن كانط يعتقد بأن القانون يجب أن يكون نافذا. إن فدرالية كهذه، حسب كانط لن تسعى للحصول على صلاحيات مماثلة لصلاحيات الدولة، بل ستعمل فقط على حماية وتأمين حرية كل دولة لذاتها. وباختصار، فإن فدرالية كانط تعتبر معاهدة شاملة وليست نسق دوليا.
وهكذا، فإنه لا يوجد من منظور كانط ميزة واضحة ولا خطر معتبر للأنساق الدولية الملزمة يكون الاقتراع فيها بالأغلبية وتتمتع بإدارة مركزية وغيرها من العناصر التسلسلية الهرمية. إذن لا تقدم مقترحات كانط دعما قويا للطرح القائل بأن السلام العالمي سيتعزز أكثر إذا أصبحت منظمات مثل منظمة الأمن والتعاون في أوربا، والاتحاد الأوربي أكثر قوة وأكثر ديمقراطية، بل إنه ومن منظور كانط يوجد مبرر قوي للاعتقاد - على الأقل من الناحية التجريدية - بأن مثل هذه التطورات ستكون مضرة من الناحية السياسية ومتناقضة من الناحية الفلسفية.
نظرية العلاقات الدولية: هل النظريات القائمة على الخيارات والمؤسسات مقبولة؟
يوجد تناقض بين فرضيتي تشمبيل النظرية "الليبرالية البنيوية" و"المؤسساتية". فبينما يرى بعض المفكرين بمن فيهم كانط أن هذه الافتراضات تندرج ضمن برنامج سياسي واحد، إلا أنه ليس من الواضح إن كانتا تتقاسمان الأسس الابستيمولوجية ذاتها. العلاقة الدقيقة بين الفرضيتين مهمة، لأنه وبينما تشمبيل (1996) يقدمها على أساس أنهما بذات الوزن، أصر على أن ذلك ليس صحيحا. إذ توجد أسباب ملزمة للتعامل مع فرضية "السلام الديمقراطي" - وهي فرضية مستقاة من المنظور "الليبرالي البنيوي" - على أنها أكثر تأسيسا نظريا مقارنة بالفرضيات المستقاة من المنظور المؤسساتي(الذي يفترض بأن المؤسسات الدولية تتمتع بخاصية تقليص نسبة اللايقينية التي تكتنف السلوكيات الدولية).
يركز المنظور "الليبرالي البنيوي" (الذي تمثل اقتراحات كانط حول العلاقة بين نظام الحكم الوطني وسياسة الدولة إحدى اتجاهاته النظرية) على العلاقة بين الدولة والمجتمع وأثرهما على السياسة العالمية (مورافسيك 1992)، وهو يقوم على ثلاثة افتراضات:
- الأفراد والجماعات في المجتمع المدني الوطني وعبر-الدولي يشكلون الفاعلين الأساسيين في السياسة الدولية.
- كل المؤسسات السياسية - بما فيها الدولة-الأمة تمثل مصالح بعض وليس بالضرورة كل أطراف المجتمع الذي يخضع لحكمها.
- سلوك الدولة الذي يعتبر محددا لمستويات النزاع والتعاون الدولي، يعكس طبيعة وشكل مقاصد الدولة وخياراتها.
استنادا إلى الافتراضات الثلاثة السابقة، يمكن اشتقاق ثلاثة اتجاهات نظرية لتفسير الصراعات والتعاون على المستوى الدولي، إذ أن كلا منها يشدد على عنصر مختلف للعلاقة بين الدولة-المجتمع على المستوى الوطني وعبر-الدولي. الاتجاه الأول، يركز على طبيعة الاعتماد المتبادل السوسيو-اقتصادي (الليبرالية التجارية)، والاتجاه الثاني يركز على التمثيل السيئ للمصالح الوطنية (الليبرالية النيابية)، أما الاتجاه الثالث والأخير، فيركز على مدى التطابق من عدمه في القيم الوطنية (الليبرالية المثالية).
يظهر المنظور "الليبرالي البنيوي" ما يبدو وأنه تناقض في النقاش النظري الحالي في العلاقات الدولية، فهناك في واقع الأمر تماثل مثير بين النظريات الواقعية والمؤسساتية في العلاقات الدولية، رغم ما سبق من اعتبار النظريتين متقابلتين منذ النقاش الواقعي-المثالي في فترة ما بين الحربين العالميتين، إلا أن هذه النظريات تتقاسم عددا كبيرا من الافتراضات المشتركة، خاصة عند مقارنتها بالليبرالية البنيوية.
نظرية النسق الوظيفي عند روبرت كيوهان Keohane 1984 وأغلب الاتجاهات المؤسساتية (أعمال ستيفن كراسنر 1983، دونكان سنيدال 1986) يشتركون مع الواقعية (وولتز 1979) في الافتراضات القاضية بأن الدولة فاعل موحد وعقلاني لها خيارات ثابتة، وبأنها، أي الدول، تعتبر فاعلا أساسيا في السياسة الدولية، وبأن المكاسب الدولية تتجه نحو التعاظم نتيجة لبعض أنماط التفاعل الاستراتيجي؛ وبأن المحددات الأساسية للتغير في سلوك الدولة هو التغير الثابت في بنية النظام الدولي. النيوواقعية عند وولتز ونظرية الأنساق عند كيوهان مرتبطتان بشكل كبير لتركيزهما على أهمية اللايقينية والمعلومات، ولو أن وولتز يستقي الوضعية المعلوماتية الدولية من القوة وكيوهان من الصفقات transactions والمؤسسات.
ولا شك أن الواقعية والمؤسساتية تختلفان كثيرا في العناصر التي يتم التركيز عليها: المؤسساتيين يركزون على المباريات ذات المحصلة الإيجابية، ويشددون على أهمية المعلومات كوعاء لبنية النظام الدولي، بينما يركز الواقعيون على المباريات ذات المحصلة الثابتة ويشددون على أهمية الموارد (قريكو 1988). ولو أن كلتا النظريتين تتشاركان لافتراض نقدي واحد والقاضي بأن الخيارات المتبعة (وهذا مقابل الاستراتيجيات المتبناة) من طرف الدولة تخضع للقيود التي تفرضها عليها بنية النظام الدولي لدرجة أنه يمكن اعتبار هذه الخيارات ثابتة، وبذلك يمكن إدراج النظريتين معا ضمن إطاري نظرية المباريات أو تحليل التفاوض (بأول 1994، وسيبنيوس 1991). وبالنظر إلى هذه التماثلات التحليلية المثيرة بين الواقعية ونظرية الأنساق
والاختلافات المماثلة بين "الليبرالية البنيوية" و"المؤسساتية"، وبالخصوص التشديد على العلاقات بين الدولة-المجتمع والتغير في الخيارات، إنه من التضليل توظيف مصطلح ّالنيوليبرالية المؤسساتيةّ" لوصف نظريات تكاليف الصفقات للأنساق، إذ يستخدم كيوهان 1986 مصطلحا أدق يتمثل في "الواقعية البنيوية المعدلة".
باختصار، كل من الواقعية والمؤسساتية تركزان على تعزيز التعاون الدولي، الإشكالية تطرح على مستوى الوسائل بالنسبة لـ "الواقعيين" و"المؤسساتيين" على حد سواء، أما بالنسبة لـ "الليبراليين البنيويين" فإن ما يهم أكثر هو الغايات.
وبخصوص النقاش الدائر حول التأصيل المنظوراتي لكل من "الليبرالية البنيوية" المرتكزة على الخيارات و"المؤسساتية"، فإن فرضية "السلام الديمقراطي" التي تعود إلى الليبرالية البنيوية هي الأكثر إسنادا. فمن المستحيل إيجاد، من بين نماذج التفاعل الاستراتيجي، سواء النماذج الواقعية للمساومة أو نماذج المؤسساتية للعمل الجماعي، نموذجا واحدا لا يتضمن افتراضات واضحة ومسبقة حول "الخيارات".
يجب أن يخضع أي تفسير شامل للصراع والتعاون الدوليين للتقييم والتفسير قبل الشروع في تقييم استراتيجي في حال كانت خيارات الدولة متباينة. وقد كان ذلك مقبولا عند كانط وويلسون وآخرين، والذين يوضحون بالخصوص أن الجمهوريات وحدها كانت أعضاء في الفدراليات ومنظمات الأمن التعاوني.
وأخيرا، تجدر الإشارة إلى الطرح الذي يذهب إلى ما وراء المسألة المتعلقة بالسلام الديمقراطي والذي يقضي بأن جميع الافتراضات الليبرالية البنيوية تعتبر من الناحية التحليلية أسبق على الافتراضات الواقعية والمؤسساتية. وهذه تقلب رأسا على عقب توصية وولتز التي تحظى بقبول واسع رغم تناقضها والقاضية بفحص النظريات البنيوية أولا على أنه يمكن استخدام النظريات الجزئية لتفسير التغيرات الظرفية. وبالنتيجة، فإن التعامل مع الاثنتين بنفس الأهمية يبقى محل تساؤل، فطالما أن الليبرالية البنيوية تعالج الظاهرة ذاتها فإنها تمنح الأولوية.
المطابقة النظرية والمعاينة الإمبريقية: هل تقوم المؤسسات الدولية فعلا بتعزيز السلام والتعاون الدوليين؟
مهما كانت العلاقة بين الفرضية الثانية تشمبيل ومقاصد كانط والمنظورات المتضمنة في نظريات العلاقات الدولية فإن إسناداتها تتوقف على مدى مطابقتها النظرية وصدقيته الإمبريقية. السؤال المحوري هو فيما إذا كانت العوامل المتضمنة في "الليبرالية البنيوية": الديمقراطية، والاعتماد المتبادل، والقيم المتقاربة، بالأهمية الكافية بحيث تجعل من الممأسسة الدولية دون تأثير يذكر. الإدعاء بأن المؤسسات الدولية تعزز السلام تبقى، ومنذ الوهلة الأولى تأملية، طالما أن هذه النقطة من ورقة تشمبيل (1996) لا تتمتع بأي سند إمبريقي فقوة طرحة تم تقويضه لدى قبوله بفكرة أن الديمقراطية والاعتماد المتبادل والقيم المشتركة تطورت في كنف أوربا الغربية بحيث أنه وحتى وإن آلت حركة الاتحاد الأوربي إلى الركود فإن السلام لن يتعرض لأي تهديد. ومن هنا نبدو وكأننا نتحدث عن احتمالات الحرب بين ديمقراطيات أمريكا واليابان والديمقراطيات الصاعدة في آسيا الشرقية وأمريكا الجنوبية وأربا الشرقية، وهي الأطراف التي لا تبدوا هناك أية احتمالات لقيم صراعات حادة بينها. توجد ثلاثة أسباب نظرية وإمبريقية عميقة للتشكيك في هذه الفرضية.
أولا، يبدو مقبولا نظريا بان الكثير من المؤسسات الدولية من الناحية السببية مجرد ظاهرة عرضية. الطرح المؤسساتي القاضي بأهمية المؤسسات يقوم على افتراض أن تكاليف الصفقات المرتبطة بإنشاء المؤسسات الدولية مرتفعة، ومن هنا فإنها تظل صامدة حتى بتغير المصالح التي أدت إلى إنشاءها. ولكن إذا كانت تكاليف الصفقات متدنية، فإنه يمكن إنشاء المؤسسات و تغييرها بحسب الإرادة. ويمكن حينها أن نتوقع تزويدنا بمؤسسات دولية بحسب الطلب. وفي الحالة الأخيرة، فإن المؤسسات تبدوا آليات سببية وليست بأسباب أساسية بحد ذاتها؛ وبالتالي فهي لا تساهم في حد ذاتها في التعاون بمعزل عن العوامل البنيوية المتضمنة. توجد بعض الإثباتات الإمبريقية المستقاة من دراسات الحالة التي ترى أن هذه النظرية الوظيفية الضيقة النطاق تعتبر صحيحة.
ثانيا، ليس واضحا، نظريا، من عمل تشمبيل عبر أي من الميكانيزمات السببية تساهم المنظمات الدولية في حل المشاكل ذات الطابع ألمعلوماتي. لا شك أن منطق المأزق الأمني كما هو وارد عند وولتز (1979) وروبرت جرفيس (1978) وجيمس فيرن (1995) وآخرون يثيرون حقيقة نقص المعلومات. الحكومات يجب أن تحضر نفسها للأسوأ لأنها ليست متأكدة من نوايا وإمكانيات الخصوم. تدعي النظرية المؤسساتية أن المؤسسات تستطيع حل هذا المشكل، لأنها تزودنا بمعلومات موثوقة عن الخيارات الوطنية وحول القوة (كيوهان 1984). ولكن الديمقراطيات التي تتسم بنوع من الشفافية وتمتلك سجلا جيدا في النزوع نحو السلم (Cowhey 1990). وأكثر من ذلك، فهي تستطيع، وبشكل منفرد تقديم التزامات موثوقة (Martin 1992). لا يوجد سند نظري كبير للاعتقاد بأن تعزيز الشفافية ضروري. وتبين لنا دراسات التعاون في التسلح أن الحكومات الديمقراطية تقيم بدقة الأوضاع الداخلية لبعضها البعض حتى في غياب آليات مؤسساتية واضحة للقيام بذلك (موفسيك 1993). باختصار، الأنساق ليست ضرورية لتغذية المحتوى ألمعلوماتي للتفاعل بين الديمقراطيات.
ثالثا، لا توجد إسنادات إمبريقية كافية تؤيد وجود رباط وثيق بين المؤسسات الدولية والسلام. الدراسات الكمية لمحددات الحرب لا تظهر أي تأييد كاف للدور المستقل للمؤسسات عند مقارنتها بالعوامل "الليبرالية البنيوية" في أوربا لما بعد الحرب وهي الفترة التي ركز عيها تشمبيل. يصعب إجراء فحص إمبريقي لأن كل أعضاء الاتحاد الأوربي دول ديمقراطية. فنحن لا نجد أثرا لأية إثباتات حول صراع جيوسياسي كبير بين أعضاء الاتحاد الأوربي أو بين الأعضاء الحاليين غير الأعضاء (مثلا دول EFTA ، وأعضاء OECD ، والمنظمات التي يتشكك حولها تشمبيل) ولا بين أعضاء الناتو والدول المحايدة. السجل التاريخي لا يبين سوى بعض من التهديدات من قبيل تلك التي أطلقها ماكميلان في الستينات بإقدامه على سحب القوات البريطانية من التراب الألماني كوسيلة ضغط للانضمام إلى الإتحاد الأوربي. ولكن ذلك كان مجرد خدعة. وكذلك، لم تكن سويسرا أو السويد أو إسبانيا تبدي أية ميول حربية رغم أنها لم تندمج في المؤسسات الدولية الغربية. في حين أن الولايات المتحدة وكندا أظهرت سلوكا يميل كثر إلى التنازع رغم دخولهما سوية في مسار تكاملي إقليمي. كما أنه لا توجد حقائق كبيرة تثبت أن الاندماج الأوربي كان له تأثير إيجابي على السلام. القضايا الجيوسياسية الأساسية المتبقية مثل سياسة الاستقلالية الاقتصادية والعسكرية إلى تتبعها ألمانيا، الناتو، الإصلاح، استئصال النازية، الأسلحة النووية، وهي قضايا تم حلها كلها قبل، وليس بعد التوقيع على معاهدة روما. وهل يستطيع أي مؤرخ التأكيد بأنه لولا المجموعة الأوروبية للفحم والصلب -والتي اتضح الآن بأنها كانت نسبيا منظمة غير فعالة- لاتجهت فرنسا وألمانيا نحو الحرب؟
في كل الحالات، يبدو قلب هذه العلاقة السببية أكثر تقبلا: استبعاد احتمالات الحرب كان بفضل الدمقرطة وتغير القيم، وبفضلها أيضا توجه الاتحاد الأوربي نحو الاندماج الاقتصادي. الصلة الظاهرة بين العضوية في المؤسسات الدولية/والسلام مغلطة. لكن إذا ما ركزنا على تأثير العوامل "الليبرالية البنيوية" فإننا سنحصل على تفسير للحالتين. لا شك أن الاعتقاد بأن الاندماج الأوربي ونمو والعلاقة الفرنسية-الألمانية كان لها تأثير إيجابي على السلام يبقى إحدى الحقائق السياسية الأساسية في التاريخ الأوربي بعد الحرب، يمكن أن يكون ذلك موردا رئيسيا لإضفاء الشرعية على الاتحاد الأوربي، غير أن ذلك يبقى بدوره يبقى محل جدل. باختصار، بينما يبقى من الممكن نظريا، مثلما يشير إليه تشمبيل، استمرار المآزق الأمنية بين الديمقراطيات إلا أنه لا تجد سوى قرائن قليلة على ذلك.
خـلاصة
إذا كان التحليل السابق صحيحا، فإن فحصا متزامنا للاعتبارات المتعلقة بالخلفية الفكرية، والجوانب المنظوراتية والإمبريقية، تزيل الشك بشأن الفرضية القائلة بأن المؤسسة الدولية لها تأثير إيجابي كبير على السلام بين الحكومات والديمقراطية. وأهم حجة على ذلك هو تقويض فرضية تشمبيل الأولى (الليبرالية البنيوية)على الفرضية الثانية (المؤسساتية). "الليبرالية البنيوية" بلا شك أكثر تأصيلا منظوراتيا، وأكثر قبولا نظريا، ولها إسنادات قوية إمبريقيا.
ومن المهم جدا الإارة إلى أن الالتزام بـ "الليبرالية البنيوية" لا يتضمن عدم إيلاء أهمية للمؤسسات الدولية كآليات سببية، ولا أنها لا تمتلك أي تأثير على السياسة الدولية، فهناك طرق أخرى للمضي قدما باستعمال النظرية "الليبرالية البنيوية" لـ "الأنساق الدولية". حسب الطرح "الليبرالي البنيوي" فإن ما يربط بين الفدرالية الدولية وسوك يحترم القانون ليس المؤسسات الدولية بذاتها، ولكنه التقارب في السلوكيات المحترمة للقانون. إن روح المنظمة الدولية هو بعدها الأفقي وليس العمودي. وهو الاعتراف المتبادل بأفعال الرسميين، والقضاة، والسياسيين والعموم الذين يشغلون مناصب متماثلة في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية والذين يسهرون على الحفاظ على السلام والتعاون. وفي هذا الاتجاه فإن الاندماج القانوني في المجموعة الأوربية إضافة إلى الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان هي أنظمة لم تظهر إلى الوجود عن طريق فرضها بشكل فوقي، ولكن عن طريق الاختيار الجماعي، الاقتناع والتقارب عبر ألحكوماتي للقضاة الوطنيين، والمشرعين والجماهير. هذا ليس مجرد تفسير مقبول للقانون الدولي المعاصر والمؤسسات، ولكنه ترجمة تأويلية لمقاصد كانط، أحاول من خلاله إعطاء معنى لمعاداته لـ "الحكومة العالمية"، بناء على شرطه القاضي بأن جميع الأعضاء يجب أن يكونوا جمهوريات، إضافة إلى اعتقاده بأن تاريخ العالم تحركه ديناميكية التنافس المركزي بين الأفكار والأمم. وبناء على ما سبق، فإنه طالما أن المؤسسات الدولية تؤدي دور تعزيز الديمقراطية والاعتماد المتبادل والأفكار المناسبة فإنها بذلك تساعد على تعزيز السلام والتعاون، ولو أنها ليست المسبب الأول له.
ا