- الاثنين إبريل 29, 2013 12:17 pm
#61266
ما هو تأثير آليات العدالة الدولية من المحاكم الجنائية الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ولجان التقصى فى إنصاف الضحايا وفى تحقيق المصالحة بين ابناء الوطن الممزق؟ هذه الأسئلة المهمة كانت محور المناقشات المتخصصة التى دارت فى الجمعية العامة للأمم المتحدة على مدى يومين خلال هذا الشهر، بمبادرة من رئيسها الحالى فوك جيريمك الذى كان يشغل منصب وزير خارجية جمهورية الصرب.
بالفعل حدث تطور هائل فى مجال العدالة الجنائية الدولية وهو ما اعتبره السكرتير العام للامم المتحدة بان كى مون فى افتتاح الجلسة التطور الأكثر ايجابية فى العلاقات الدولية خلال العقد الحالى. المشكلة هى أن العدالة الدولية كالقانون الدولى هى أيضا لغة تخاطب وآليات تعطيان شرعية لمصالح وانحيازات الدول المهيمنة على النظام العالمى.
فحينما يردد السكرتير العام بشكل شبه يقينى اننا فى «زمن المحاسبة» وأن «الإفلات من العقاب» عن الجرائم الكبرى صار اليوم «غير مقبول أو محتمل» حتى إذا كان الجناة من قادة دول والمتنفذين، فهل يتوقع أن يصدقه ضحايا حروب أمريكا وروسيا فى العراق وأفغانستان وفلسطين أو فى الشيشان؟
فالعدالة الجنائية سواء المحلية أو الدولية يُفترض أنها عمياء تحكم بالأدلة وبمعايير واحده لتحدد البراءة أو الإدانة. ويحار المتابع إن كان الامر كذلك فلماذا لم يُحل مجلس الأمن الوضع السورى إلى المحكمة الجنائية الدولية برغم الـ70،000 قتيل والانتهاكات الجسيمة للقانون الدولى الإنسانى؟ سوريا أعلنت مؤخرا رسميا «دولة منكوبة» من قبل الأمم المتحدة وقالت المسئولة الأممية الأولى عن الإغاثة فاليرى آيمز «لم تعد عندى إجابة لمن يسألنى من السوريين هل تخلى العالم عنا؟».
سيتحقق الإنصاف للسوريين لو أعملت آليات العدالة الدولية ولكن السؤال الأهم هو لماذا لا تريد الدول الكبرى تفعيل هذه الآليات؟
العلاقة بين السياسة والقانون االدولى اخذت حيزا كبيرا من نقاشات مؤتمر الجمعية العامة حول «العدالة الدولية والمصالحة».
كذلك تناقش ممثلوا دول الجنوب والخبراء فى عمل المحاكم الجنائية الدولية وآثارها على الضحايا والسلم الأهلى والمصالحة. ولم يكن اختيار منبر الجمعية العامة المتاح للمستضفين للتعاطى النقدى مع العدالة الدولية مريحا لأمريكا والبعض. وكأن القانون الدولى الذى صُنع فى أوروبا والولايات المتحدة هو بضاعة تصدر لدول الهامش لتيسير السيطرة عليه دون الالتزام بمعرفة عيوب الصناعة!
قاطعت أمريكا وكندا والأردن مؤتمر الجمعية العامة بحجة كونه «غير متوازن وتحريضى». وقال ريتشارد ديكرمن منظمة هيومان راتس ووتش إن الرئيس الصربى توميسلاف نيكوليك المدعو للمؤتمر، كان قد أنكر فى العام الماضى الإبادة الجماعية فى سريبرينتشا إبان حرب البوسنة والهرسك 95 ــ 92.
المسئولون الصرب بالفعل لهم موقف معادى لعمل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ولكنهم بتسليم 46 متهما صربيا وبفتح الأرشيف تعاونوا معها بما أتاح إنجاح المحاكمات فى لاهاى. يذكر أن المحكمة الأممية هى أول محكمة دولية لجرائم الحرب منذ محاكمات نوريمبرج وطوكيو.
ويرى المسئولون الصرب أنها غير منصفة لأن الغالبية العظمى من الإدانات من أصل 161 اتهاما عن الجرائم الكبرى فى حروب البلقان كانت من نصيب الصرب وصرب البوسنة. وهى بالتالى فى نظرهم تمثل عدالة المنتصر فى الحرب.
وقد كان اختيار رئيس الجمعية العامة الصربى لزاوية «المصالحة» وربطها بالعدالة الجنائية الدولية كموضوع للنقاش ينم عن دهاء شديد مما أزعج كثيرين من انصار العدالة الدولية. فحتى أنصار المحكمة الذين يرون أن العدالة أدت إلى إحلال السلام (السالب) وإلى إرساء قيمه الردع يعترفون أنه لا يوجد لها اسهامات تذكر فى المصالحة بين أبناء يوغسلافيا السابقة.
فالمصالحة تأخذ زمنا طويلا. وكما يقول الحقوقى دافيد تولبرت، فالعدالة مكون أساسى للمصالحة ولكنها ليست كل شىء. فالمصالحة تقوم على إعادة بناء الثقة المنهارة بين أبناء الوطن الممزق ولا يمكن بناؤها بإنكار ما حدث أو باستعراض علاقات القوة. وأخيرا لابد أن تتعامل بجدية مع كرامة كل الأطراف.
ولذا اعتبر الرئيس الصربى نيكوليك أمام الجمعية العامة أن المصالحة متعذرة طالما أن أداء المحكمة يُسهم فى خلق سرد أنه لا يوجد ضحايا صرب. هو قال: «ليس صحيحا أن فى هذه الحرب التى قضت علينا جميعا كان يوجد طرف واحد فقط يُقتل والآخر يقوم بالقتل».
المشكلة الأخرى التى أزعجت الأمريكان من مشاركة ثلاثة من كبار المسئولين الصرب بمؤتمر الجمعية العامة هو تسليط الضوء على عدم شرعية التدخل العسكرى لحلف الناتو فى كوسوفو. وقد كانت الولايات المتحدة فى قلب ذلك المشهد والراعى لاتفاق دايتون والداعم الأساسى لإنشاء المحكمة.
فهناك سرد سياسى ــ قانونى لحروب البلقان والتدخل اللاحق فى كوسوفو بقيادة حلف الناتو فى عام 99 ــ والذى تم دون غطاء شرعى من مجلس الأمن ــ يجرى تسويقه فى الغرب باعتباره نموذجا مشرفا للتدخل العسكرى ــ الإنسانى. كذلك هناك سرد ميثولوجى تبسيطى يروى حروب البلقان على انها قصة «الحرب العادلة» التى خاضها الناتو لإنصاف الضحايا (المسلمون والكروات) ومعاقبة الأشرار الصرب (القوميون ــ غلاظ القلوب). ويأتى فى قلب هذا المشهد عمل المحكمة التوثيقى لبُعد «العدالة» التى لها أوجه مركبة فى سياق حقيقة ما حدث.
عسكرة حقوق الانسان
تدخل حلف الناتو فى حرب كوسوفو يفسر أحيانا على أنه لحظة فارقة فى تاريخ تطور القانون الدولى تم فيها إضعاف منظومة الأمن الجماعى المبنى على ميثاق الأمم المتحدة وتوافق الدول العظمى، لصالح منظومة الأمن الإقليمى المٌعتمد بالأساس على هيمنة أمريكية ــ أوروبية واستخدم لغة حقوق الانسان ضمن آلياته. بالتوازى مع ذلك بدأت عسكرة حقوق الإنسان. واستخدمت لغتها الأخلاقية التى تكفل الحماية للمدنيين من الانتهاكات الجسيمة كغطاء لشن حروب لا علاقة لها بحقوق الإنسان بل لتحقيق الأهداف الخارجية للدول الكبرى.
ألم يستخدم جورج بوش وبلير فى 2003 حجج «مسئولية الحماية» والتدخل الإنسانى بعد افتضاح أكذوبة أسلحة الدمار الشامل لتمرير غزو العراق الذى تم أيضا دون سند شرعى من مجلس الأمن؟
ثم جاءت ليبيا لتقدم للنيو ليبراليين «النموذج الناجع» للتدخل العسكرى ــ الإنسانى حيث تم هذه المرة بقرار من مجلس الأمن بناء على طلب الجامعة العربية. ومن جديد تم إحياء السرد التسويقى لدور حلف الناتو فى الانتصار للضحايا من بطش نظام قمعى. هكذا كما صرحوا يتم تطبيق مفهوم «مسئولية الحماية».
دعك من التساؤل وكيف حال ليبيا الآن؟ حيث السلطة المركزية هشة والميليشيات المسلحة تعيث فسادا والإرهاب بالتفجير الذى حدث مؤخرا ضد السفارة الفرنسية فى طرابلس يُنذر بتطور خطير. ومع ذلك فالمهم أن النفط مازال يتدفق والسوق الليبية فتح والشركات المتعدده الجنسيات عادت والعلاقات مع وكالة الاستخبارات الأمريكية تتوطد لمكافحة «الإرهاب الجهادى» فى شمال أفريقيا.
ولذا لا يهتم النيو ليبراليون بالكوارث الإنسانية التى حلت بليبيا جراء الحرب. فالعبرة بتحقيق أهدافهم الاستراتيجية وبرسم صورة ناصعة لدور حلف الناتو فى مقدمة مشهد التدخل العسكرى ــ الإنسانى.
--------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الأحد، 28/4/2013
بالفعل حدث تطور هائل فى مجال العدالة الجنائية الدولية وهو ما اعتبره السكرتير العام للامم المتحدة بان كى مون فى افتتاح الجلسة التطور الأكثر ايجابية فى العلاقات الدولية خلال العقد الحالى. المشكلة هى أن العدالة الدولية كالقانون الدولى هى أيضا لغة تخاطب وآليات تعطيان شرعية لمصالح وانحيازات الدول المهيمنة على النظام العالمى.
فحينما يردد السكرتير العام بشكل شبه يقينى اننا فى «زمن المحاسبة» وأن «الإفلات من العقاب» عن الجرائم الكبرى صار اليوم «غير مقبول أو محتمل» حتى إذا كان الجناة من قادة دول والمتنفذين، فهل يتوقع أن يصدقه ضحايا حروب أمريكا وروسيا فى العراق وأفغانستان وفلسطين أو فى الشيشان؟
فالعدالة الجنائية سواء المحلية أو الدولية يُفترض أنها عمياء تحكم بالأدلة وبمعايير واحده لتحدد البراءة أو الإدانة. ويحار المتابع إن كان الامر كذلك فلماذا لم يُحل مجلس الأمن الوضع السورى إلى المحكمة الجنائية الدولية برغم الـ70،000 قتيل والانتهاكات الجسيمة للقانون الدولى الإنسانى؟ سوريا أعلنت مؤخرا رسميا «دولة منكوبة» من قبل الأمم المتحدة وقالت المسئولة الأممية الأولى عن الإغاثة فاليرى آيمز «لم تعد عندى إجابة لمن يسألنى من السوريين هل تخلى العالم عنا؟».
سيتحقق الإنصاف للسوريين لو أعملت آليات العدالة الدولية ولكن السؤال الأهم هو لماذا لا تريد الدول الكبرى تفعيل هذه الآليات؟
العلاقة بين السياسة والقانون االدولى اخذت حيزا كبيرا من نقاشات مؤتمر الجمعية العامة حول «العدالة الدولية والمصالحة».
كذلك تناقش ممثلوا دول الجنوب والخبراء فى عمل المحاكم الجنائية الدولية وآثارها على الضحايا والسلم الأهلى والمصالحة. ولم يكن اختيار منبر الجمعية العامة المتاح للمستضفين للتعاطى النقدى مع العدالة الدولية مريحا لأمريكا والبعض. وكأن القانون الدولى الذى صُنع فى أوروبا والولايات المتحدة هو بضاعة تصدر لدول الهامش لتيسير السيطرة عليه دون الالتزام بمعرفة عيوب الصناعة!
قاطعت أمريكا وكندا والأردن مؤتمر الجمعية العامة بحجة كونه «غير متوازن وتحريضى». وقال ريتشارد ديكرمن منظمة هيومان راتس ووتش إن الرئيس الصربى توميسلاف نيكوليك المدعو للمؤتمر، كان قد أنكر فى العام الماضى الإبادة الجماعية فى سريبرينتشا إبان حرب البوسنة والهرسك 95 ــ 92.
المسئولون الصرب بالفعل لهم موقف معادى لعمل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ولكنهم بتسليم 46 متهما صربيا وبفتح الأرشيف تعاونوا معها بما أتاح إنجاح المحاكمات فى لاهاى. يذكر أن المحكمة الأممية هى أول محكمة دولية لجرائم الحرب منذ محاكمات نوريمبرج وطوكيو.
ويرى المسئولون الصرب أنها غير منصفة لأن الغالبية العظمى من الإدانات من أصل 161 اتهاما عن الجرائم الكبرى فى حروب البلقان كانت من نصيب الصرب وصرب البوسنة. وهى بالتالى فى نظرهم تمثل عدالة المنتصر فى الحرب.
وقد كان اختيار رئيس الجمعية العامة الصربى لزاوية «المصالحة» وربطها بالعدالة الجنائية الدولية كموضوع للنقاش ينم عن دهاء شديد مما أزعج كثيرين من انصار العدالة الدولية. فحتى أنصار المحكمة الذين يرون أن العدالة أدت إلى إحلال السلام (السالب) وإلى إرساء قيمه الردع يعترفون أنه لا يوجد لها اسهامات تذكر فى المصالحة بين أبناء يوغسلافيا السابقة.
فالمصالحة تأخذ زمنا طويلا. وكما يقول الحقوقى دافيد تولبرت، فالعدالة مكون أساسى للمصالحة ولكنها ليست كل شىء. فالمصالحة تقوم على إعادة بناء الثقة المنهارة بين أبناء الوطن الممزق ولا يمكن بناؤها بإنكار ما حدث أو باستعراض علاقات القوة. وأخيرا لابد أن تتعامل بجدية مع كرامة كل الأطراف.
ولذا اعتبر الرئيس الصربى نيكوليك أمام الجمعية العامة أن المصالحة متعذرة طالما أن أداء المحكمة يُسهم فى خلق سرد أنه لا يوجد ضحايا صرب. هو قال: «ليس صحيحا أن فى هذه الحرب التى قضت علينا جميعا كان يوجد طرف واحد فقط يُقتل والآخر يقوم بالقتل».
المشكلة الأخرى التى أزعجت الأمريكان من مشاركة ثلاثة من كبار المسئولين الصرب بمؤتمر الجمعية العامة هو تسليط الضوء على عدم شرعية التدخل العسكرى لحلف الناتو فى كوسوفو. وقد كانت الولايات المتحدة فى قلب ذلك المشهد والراعى لاتفاق دايتون والداعم الأساسى لإنشاء المحكمة.
فهناك سرد سياسى ــ قانونى لحروب البلقان والتدخل اللاحق فى كوسوفو بقيادة حلف الناتو فى عام 99 ــ والذى تم دون غطاء شرعى من مجلس الأمن ــ يجرى تسويقه فى الغرب باعتباره نموذجا مشرفا للتدخل العسكرى ــ الإنسانى. كذلك هناك سرد ميثولوجى تبسيطى يروى حروب البلقان على انها قصة «الحرب العادلة» التى خاضها الناتو لإنصاف الضحايا (المسلمون والكروات) ومعاقبة الأشرار الصرب (القوميون ــ غلاظ القلوب). ويأتى فى قلب هذا المشهد عمل المحكمة التوثيقى لبُعد «العدالة» التى لها أوجه مركبة فى سياق حقيقة ما حدث.
عسكرة حقوق الانسان
تدخل حلف الناتو فى حرب كوسوفو يفسر أحيانا على أنه لحظة فارقة فى تاريخ تطور القانون الدولى تم فيها إضعاف منظومة الأمن الجماعى المبنى على ميثاق الأمم المتحدة وتوافق الدول العظمى، لصالح منظومة الأمن الإقليمى المٌعتمد بالأساس على هيمنة أمريكية ــ أوروبية واستخدم لغة حقوق الانسان ضمن آلياته. بالتوازى مع ذلك بدأت عسكرة حقوق الإنسان. واستخدمت لغتها الأخلاقية التى تكفل الحماية للمدنيين من الانتهاكات الجسيمة كغطاء لشن حروب لا علاقة لها بحقوق الإنسان بل لتحقيق الأهداف الخارجية للدول الكبرى.
ألم يستخدم جورج بوش وبلير فى 2003 حجج «مسئولية الحماية» والتدخل الإنسانى بعد افتضاح أكذوبة أسلحة الدمار الشامل لتمرير غزو العراق الذى تم أيضا دون سند شرعى من مجلس الأمن؟
ثم جاءت ليبيا لتقدم للنيو ليبراليين «النموذج الناجع» للتدخل العسكرى ــ الإنسانى حيث تم هذه المرة بقرار من مجلس الأمن بناء على طلب الجامعة العربية. ومن جديد تم إحياء السرد التسويقى لدور حلف الناتو فى الانتصار للضحايا من بطش نظام قمعى. هكذا كما صرحوا يتم تطبيق مفهوم «مسئولية الحماية».
دعك من التساؤل وكيف حال ليبيا الآن؟ حيث السلطة المركزية هشة والميليشيات المسلحة تعيث فسادا والإرهاب بالتفجير الذى حدث مؤخرا ضد السفارة الفرنسية فى طرابلس يُنذر بتطور خطير. ومع ذلك فالمهم أن النفط مازال يتدفق والسوق الليبية فتح والشركات المتعدده الجنسيات عادت والعلاقات مع وكالة الاستخبارات الأمريكية تتوطد لمكافحة «الإرهاب الجهادى» فى شمال أفريقيا.
ولذا لا يهتم النيو ليبراليون بالكوارث الإنسانية التى حلت بليبيا جراء الحرب. فالعبرة بتحقيق أهدافهم الاستراتيجية وبرسم صورة ناصعة لدور حلف الناتو فى مقدمة مشهد التدخل العسكرى ــ الإنسانى.
--------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الأحد، 28/4/2013