مولدات العنف فى المشهد المصرى من الرمزى إلى المادى وبالعكس
مرسل: الاثنين إبريل 29, 2013 7:54 pm
د. هناء عبيد
ومنبع الدهشة هو كيف تولد من رحم الثورة المصرية السلمية هذا المشهد العنيف والمنفلت، مع كل ما هو معروف ومتواتر من تاريخ يؤكد الميل الطبيعى للمصريين نحو السلمية ونبذ العنف. وتدور فى فلك هذه القناعات حول طبيعة الخبرة المصرية التى لا تتماشى مع العنف وتعتبره حالة طارئة ومنبوذة أخلاقيا، جميع التفسيرات التى تساق لفهم المشهد الحالى وكذلك بالتبعية الحلول المطروحة للتعامل معه.
ومع تطور وتصاعد أحداث العنف، تحولت التبريرات التى سيقت فى تفسيره من أطروحات تبسيطية ترى إن المسئولين عن العنف هم أطراف أخرى "تانية" بخلاف "شباب الثورة"، وبالتالى تعزل العنف عن مسار الثورة، إلى أطراف "ثالثة"، وهى أيادى مجهولة، خفية، مندسة، تسعى للوقيعة بين قوى "الشعب"، إلى أطراف أو فاعلين "أدنى" أو خارجة على النسق الأخلاقى أو الاجتماعى مثل"البلطجية" و"أطفال الشوارع".
وفى كل الأحوال، يتم ربط أحداث العنف فى بأحاديث المؤامرة والخيانة والتمويل الخارجى، أو الاندساس أو دخول أطراف غير وطنية أو غير ثورية مثل "الفلول" و"الثورة المضادة" و"الدولة العميقة"، أو حتى أطراف غير مصرية للمعادلة. هذه التفسيرات جميعها تقصر عن فهم سياقات العنف ودوافعه ومنحنى صعوده وشرعنته، وتزايد القبول المجتمعى له، أو غض الطرف عنه وتحوله مع الوقت إلى عمل أو ظاهرة اعتيادية.
والأخطر فيما يجرى حاليا من أعمال العنف فى شكله المادى المباشر، هو انطواء مسار التحول السياسى المصرى على بذور أو مولدات للعنف الهيكلى، ترشح المشهد الحالى للاستمرار إن لم يكن للتصعيد. فقد عانى مسار التحول المأزوم الذى تلا ثورة الخامس والعشرين من يناير من بذور ما يمكن تسميته بمثلث العنف ذى الأضلاع الثلاث وهى العنف الرمزى والعنف المادى والعنف الهيكلى، والتى تغذى وتكرس بعضها بعضا. وعلى الرغم من خطورة تداعيات أحداث العنف الدامى وتواتر أحداثه، فإن المفرخة الحقيقية للعنف تكمن فى ضلعيه الرمزى والهيكلى.
فقد انطوت عملية التحول التى تبنت مسار "الانتخابات أولا"، على خمائر العنف حيث وضعت الشعب مبكرا فى آتون الدعاية الانتخابية، وتنازع القوى السياسية المختلفة قبل تحقيق الحد المعقول من التوافق حول مبادئ وقواعد عملية التحول الديمقراطى، مما ولد بذور الاستقطاب الدينى والعنف الرمزى الذى تنامى بشكل غير مسبوق. ومع تعمق الانقسام الأيديولوجى ذى الصبغة الدينية، وشيوع خطابات استقطابية وانقسامية حادة، تصاعدت وتيرة العنف اللفظى المتبادل بين الفرقاء السياسيين، وامتدت من المستوى النخبوى إلى جموع المواطنين. حيث أن تبادل الاتهامات بالكفر و"العلمانية" من ناحية، والانقياد و"التنطع" وتجارة الدين من الناحية المقابلة، خرج من إطار المنتديات المحدودة ليصبح ممارسة يومية وقناعة تزداد تأصلا يوما بعد الآخر. وقد أدت محصلة عمليات الاستقطاب والشحن، والتماسك "العضوى" داخل كل معسكر مع رفض المراجعة أو النقد الذاتى أو الخروج عن التفكير والسلوك الجمعى، إلى التقلص المستمر لمساحات التلاقى ونزع الإنسانية أو الأخلاقية عن الخصم السياسى بل وشريك الوطن.
وقد أدت "معارك" الصناديق المتتالية إلى تعميق كافة أشكال العنف الرمزى من خطابات ملتهبة، واستخدام الرموز والشائعات والصور والاغتيال المعنوى للآخر مما حول العنف إلى ممارسة منهجية وأداة أساسية من أدوات إدارة الخلاف السياسى انخرط فيها الجميع، ولم يسع أى من الأطراف إلى بناء الجسور أو تمييز خطابه ومواقفه بعيدا عن آلة الاستقطاب العنيف إلا فيما ندر. الأخطر والأفدح أن الرموز والمؤسسات ذات الطبيعة الوحدوية أو الجامعة لم تنأ بنفسها عن ماكينة الاستقطاب العمياء، بحيث أصبحت بشكل أو بآخر محسوبة على أحد طرفى الصراع والفرقاء السياسيين، يستوى فى ذلك المسجد كمؤسسة دينية/ اجتماعية، أو مؤسسة الرئاسة كمؤسسة سياسية تنفيذية.
وقد تجلى ذلك عمليا فى أن استخدام بعض المساجد كمنابر للدعاية السياسية ونفى الآخر وتوظيف ألوان العنف الرمزى والاستقطاب الأيديولوجى فى مؤسسة الأصل فيها أنها وحدوية تجمع ولا تفرق، كان الأب الشرعى لصراعات المساجد وحصار المشايخ بعد عامين من الثورة فى مشهد لم يكن ممكنا تصوره من قبل.
فالعنف الرمزى وإن كان لا يقتل أو يريق دما، إلا أنه مهد الطريق وما زال أمام تصاعد وقبول العنف المادى وتصاعد أحداثه من إلقاء الطوب أو الزجاجات الحارقة إلى إراقة الدماء، حيث تترتب على العنف الرمزى –وفقا ليوهان جالتونج فى نظريته حول العنف الثقافى- آثارا قد تغير الطابع أو الصبغة الأخلاقية للعنف “المادى أو المباشر” من اللون الأحمر أى الممنوع والمستهجن إلى الأخضر أى المسموح أو الأصفر بمعنى المسكوت عنه أو المقبول. ومن ثم فالعنف الثقافى بأدواته الرمزية هو الذى يشرعن العنف المادى. بل يذهب جالتونج إلى أن العنف المباشر قد يكون أقل خطوره لأنه مجرد حدث أما العنف الرمزى، وكذلك الهيكلى فهما عمليات مستمرة تفرز العنف وتتسم بقدر أكبر من الديمومة.
ويرتبط العنف الهيكلى -وهو الضلع الثالث والأخطر فى ثالوث العنف- بدوره بمسار التحول السياسى منذ ثورة يناير، ومنبعه أن العملية السياسية التى أعقبت الثورة اتسمت بقدر كبير من اللاتكافؤ بين أطراف مختلفة من حيث عناصر قوتها وقدرتها على التأثير، بحيث تتشتت عناصر القوة بين أطراف سياسية ومجتمعية ومؤسساتية مختلفة، تمتلك كل منها بعض عناصر القوة والشرعية ولا يستطيع أي منها الانفراد بإدراة العملية السياسية ولكنها تعجز مع ذلك عن العمل معا أو إدارة عملية توافقية. هذا الاختلال بين أطراف يملك كل منها تميزا حديا فى أحد عناصر القوة ويفتقد تماما القدرة على التأثير فى العناصر الأخرى يفرز عملية أميل للطابع الصراعى، خاصة إذا أدير التفاعل من خلال مباراة صفرية وسعى كل طرف إلى شد الآخرين على الأرضية التى يتفوق فيها ونفى أو تجاهل عناصر تفوقهم المادية أو المعنوية. فالطرف الذى يملك الشرعية المؤسساتية فى المشهد الحالى لا يملك بالضرورة القدرة على التأثير على الشارع، ومن يملك القدرة على التنظيم والفوز بالصناديق، لا يمتلك بالضرورة التأثير على قنوات الرأى أو مفاصل الاقتصاد. ومن ثم فاختزال تفاعل هذه الأطراف جميعها فى عملية ذات بعد أحادى تنتهى دائما بفوز نفس الطرف وخسارة الأطراف الأخرى، يقلل من ميل الأطراف جميعها نحو التوافق، ويدفع الأطراف الخاسرة من التفاعل إلى اللعب خارج الإطار أو المحاولة الدائمة لتغيير شروط اللعبة. فاختزال التحول الديمقراطى فى شرعية "الصندوق"، وتجاهل أطراف مؤثرة فى عملية التحول قد لا تستطيع كسب معارك الصناديق ولكنها تملك من القدرات ما يجعل التجاهل المستمر لمصالحها أو مطالبها أو الفئات التى تمثلها، يعتبر من المولدات الهيكلية للعنف بأشكاله المختلفة.
يعبر عن تلك الحالة السياسية الصراعية، المبارزات المتتالية المختزلة بين "الصندوق" أو الشرعية الانتخابية من ناحية، وشرعيات متتالية تتبدل وفقا للمواقف أبرزها شرعية القانون أو القضاء والتى عبرت عنه "معركة" الإعلان الدستورى فى 22 نوفمبر ثم العدول عنه بعد استدعاء الشارع للمشهد السياسى. يأتى فى هذا السياق كذلك المعركة الرمزية المستمرة بين النظام الحاكم من ناحية و"الإعلام" المستقل أو الخاص من ناحية أخرى. هذه النزالات المختلفة ما هى إلا تعبيرات عن تصارع أطراف يمتلك كل منها بعض خيوط اللعبة ولا يستطيع السيطرة عليها مع ميل كل طرف لنفى الآخر أو فرض القواعد التى تعبر عن عناصر قوته والاحتكام إلى شرعية عوراء، وانتهاج سياسات حافة الهاوية بهدف تعظيم المكاسب، و فرض الأمر الواقع، مع استدعاء الحشود كعامل ترجيحى أو قوة ضغط، مما يخلق حالة من عدم الاستقرار يكون اندلاع العنف فيها متوقعا وأحيانا مقبولا بهدف تغيير قواعد اللعبة.
هذه "المولدات" المستمرة للعنف التى تغلب على العملية السياسية المصرية وسياقها الثقافى والرمزى هى التربة الخصبة التى ينمو فيها العنف ويزداد دموية، مهما اختلفت الأسباب المباشرة أو أبطال أو مناطق انفجار العنف، أو الأطراف السياسية الضالعة فى الأعمال الصدامية أو الساكتة عنها.
هذه الحالة الاستقطابية والتربة الصراعية لا تنذر فقط بتصاعد العنف المادى، وإنما إمكانية انفلاته إذا ضلعت المؤسسات الأمنية الجامعة فى الحالة الاستقطابية أو الأسوأ فى حالة خصخصة الوظيفة الأمنية مع ادعاء أطراف مجتمعية أو سياسية بعينها رغبتها أو نيتها الحلول محل مؤسسات الدولة الأمنية فى فرض أو إقرار الأمن، والاستخدام "المشروع للعنف"، ومن ثم تحول موجات العنف إلى مستويات منذرة من العنف الأهلى!
.
ومنبع الدهشة هو كيف تولد من رحم الثورة المصرية السلمية هذا المشهد العنيف والمنفلت، مع كل ما هو معروف ومتواتر من تاريخ يؤكد الميل الطبيعى للمصريين نحو السلمية ونبذ العنف. وتدور فى فلك هذه القناعات حول طبيعة الخبرة المصرية التى لا تتماشى مع العنف وتعتبره حالة طارئة ومنبوذة أخلاقيا، جميع التفسيرات التى تساق لفهم المشهد الحالى وكذلك بالتبعية الحلول المطروحة للتعامل معه.
ومع تطور وتصاعد أحداث العنف، تحولت التبريرات التى سيقت فى تفسيره من أطروحات تبسيطية ترى إن المسئولين عن العنف هم أطراف أخرى "تانية" بخلاف "شباب الثورة"، وبالتالى تعزل العنف عن مسار الثورة، إلى أطراف "ثالثة"، وهى أيادى مجهولة، خفية، مندسة، تسعى للوقيعة بين قوى "الشعب"، إلى أطراف أو فاعلين "أدنى" أو خارجة على النسق الأخلاقى أو الاجتماعى مثل"البلطجية" و"أطفال الشوارع".
وفى كل الأحوال، يتم ربط أحداث العنف فى بأحاديث المؤامرة والخيانة والتمويل الخارجى، أو الاندساس أو دخول أطراف غير وطنية أو غير ثورية مثل "الفلول" و"الثورة المضادة" و"الدولة العميقة"، أو حتى أطراف غير مصرية للمعادلة. هذه التفسيرات جميعها تقصر عن فهم سياقات العنف ودوافعه ومنحنى صعوده وشرعنته، وتزايد القبول المجتمعى له، أو غض الطرف عنه وتحوله مع الوقت إلى عمل أو ظاهرة اعتيادية.
والأخطر فيما يجرى حاليا من أعمال العنف فى شكله المادى المباشر، هو انطواء مسار التحول السياسى المصرى على بذور أو مولدات للعنف الهيكلى، ترشح المشهد الحالى للاستمرار إن لم يكن للتصعيد. فقد عانى مسار التحول المأزوم الذى تلا ثورة الخامس والعشرين من يناير من بذور ما يمكن تسميته بمثلث العنف ذى الأضلاع الثلاث وهى العنف الرمزى والعنف المادى والعنف الهيكلى، والتى تغذى وتكرس بعضها بعضا. وعلى الرغم من خطورة تداعيات أحداث العنف الدامى وتواتر أحداثه، فإن المفرخة الحقيقية للعنف تكمن فى ضلعيه الرمزى والهيكلى.
فقد انطوت عملية التحول التى تبنت مسار "الانتخابات أولا"، على خمائر العنف حيث وضعت الشعب مبكرا فى آتون الدعاية الانتخابية، وتنازع القوى السياسية المختلفة قبل تحقيق الحد المعقول من التوافق حول مبادئ وقواعد عملية التحول الديمقراطى، مما ولد بذور الاستقطاب الدينى والعنف الرمزى الذى تنامى بشكل غير مسبوق. ومع تعمق الانقسام الأيديولوجى ذى الصبغة الدينية، وشيوع خطابات استقطابية وانقسامية حادة، تصاعدت وتيرة العنف اللفظى المتبادل بين الفرقاء السياسيين، وامتدت من المستوى النخبوى إلى جموع المواطنين. حيث أن تبادل الاتهامات بالكفر و"العلمانية" من ناحية، والانقياد و"التنطع" وتجارة الدين من الناحية المقابلة، خرج من إطار المنتديات المحدودة ليصبح ممارسة يومية وقناعة تزداد تأصلا يوما بعد الآخر. وقد أدت محصلة عمليات الاستقطاب والشحن، والتماسك "العضوى" داخل كل معسكر مع رفض المراجعة أو النقد الذاتى أو الخروج عن التفكير والسلوك الجمعى، إلى التقلص المستمر لمساحات التلاقى ونزع الإنسانية أو الأخلاقية عن الخصم السياسى بل وشريك الوطن.
وقد أدت "معارك" الصناديق المتتالية إلى تعميق كافة أشكال العنف الرمزى من خطابات ملتهبة، واستخدام الرموز والشائعات والصور والاغتيال المعنوى للآخر مما حول العنف إلى ممارسة منهجية وأداة أساسية من أدوات إدارة الخلاف السياسى انخرط فيها الجميع، ولم يسع أى من الأطراف إلى بناء الجسور أو تمييز خطابه ومواقفه بعيدا عن آلة الاستقطاب العنيف إلا فيما ندر. الأخطر والأفدح أن الرموز والمؤسسات ذات الطبيعة الوحدوية أو الجامعة لم تنأ بنفسها عن ماكينة الاستقطاب العمياء، بحيث أصبحت بشكل أو بآخر محسوبة على أحد طرفى الصراع والفرقاء السياسيين، يستوى فى ذلك المسجد كمؤسسة دينية/ اجتماعية، أو مؤسسة الرئاسة كمؤسسة سياسية تنفيذية.
وقد تجلى ذلك عمليا فى أن استخدام بعض المساجد كمنابر للدعاية السياسية ونفى الآخر وتوظيف ألوان العنف الرمزى والاستقطاب الأيديولوجى فى مؤسسة الأصل فيها أنها وحدوية تجمع ولا تفرق، كان الأب الشرعى لصراعات المساجد وحصار المشايخ بعد عامين من الثورة فى مشهد لم يكن ممكنا تصوره من قبل.
فالعنف الرمزى وإن كان لا يقتل أو يريق دما، إلا أنه مهد الطريق وما زال أمام تصاعد وقبول العنف المادى وتصاعد أحداثه من إلقاء الطوب أو الزجاجات الحارقة إلى إراقة الدماء، حيث تترتب على العنف الرمزى –وفقا ليوهان جالتونج فى نظريته حول العنف الثقافى- آثارا قد تغير الطابع أو الصبغة الأخلاقية للعنف “المادى أو المباشر” من اللون الأحمر أى الممنوع والمستهجن إلى الأخضر أى المسموح أو الأصفر بمعنى المسكوت عنه أو المقبول. ومن ثم فالعنف الثقافى بأدواته الرمزية هو الذى يشرعن العنف المادى. بل يذهب جالتونج إلى أن العنف المباشر قد يكون أقل خطوره لأنه مجرد حدث أما العنف الرمزى، وكذلك الهيكلى فهما عمليات مستمرة تفرز العنف وتتسم بقدر أكبر من الديمومة.
ويرتبط العنف الهيكلى -وهو الضلع الثالث والأخطر فى ثالوث العنف- بدوره بمسار التحول السياسى منذ ثورة يناير، ومنبعه أن العملية السياسية التى أعقبت الثورة اتسمت بقدر كبير من اللاتكافؤ بين أطراف مختلفة من حيث عناصر قوتها وقدرتها على التأثير، بحيث تتشتت عناصر القوة بين أطراف سياسية ومجتمعية ومؤسساتية مختلفة، تمتلك كل منها بعض عناصر القوة والشرعية ولا يستطيع أي منها الانفراد بإدراة العملية السياسية ولكنها تعجز مع ذلك عن العمل معا أو إدارة عملية توافقية. هذا الاختلال بين أطراف يملك كل منها تميزا حديا فى أحد عناصر القوة ويفتقد تماما القدرة على التأثير فى العناصر الأخرى يفرز عملية أميل للطابع الصراعى، خاصة إذا أدير التفاعل من خلال مباراة صفرية وسعى كل طرف إلى شد الآخرين على الأرضية التى يتفوق فيها ونفى أو تجاهل عناصر تفوقهم المادية أو المعنوية. فالطرف الذى يملك الشرعية المؤسساتية فى المشهد الحالى لا يملك بالضرورة القدرة على التأثير على الشارع، ومن يملك القدرة على التنظيم والفوز بالصناديق، لا يمتلك بالضرورة التأثير على قنوات الرأى أو مفاصل الاقتصاد. ومن ثم فاختزال تفاعل هذه الأطراف جميعها فى عملية ذات بعد أحادى تنتهى دائما بفوز نفس الطرف وخسارة الأطراف الأخرى، يقلل من ميل الأطراف جميعها نحو التوافق، ويدفع الأطراف الخاسرة من التفاعل إلى اللعب خارج الإطار أو المحاولة الدائمة لتغيير شروط اللعبة. فاختزال التحول الديمقراطى فى شرعية "الصندوق"، وتجاهل أطراف مؤثرة فى عملية التحول قد لا تستطيع كسب معارك الصناديق ولكنها تملك من القدرات ما يجعل التجاهل المستمر لمصالحها أو مطالبها أو الفئات التى تمثلها، يعتبر من المولدات الهيكلية للعنف بأشكاله المختلفة.
يعبر عن تلك الحالة السياسية الصراعية، المبارزات المتتالية المختزلة بين "الصندوق" أو الشرعية الانتخابية من ناحية، وشرعيات متتالية تتبدل وفقا للمواقف أبرزها شرعية القانون أو القضاء والتى عبرت عنه "معركة" الإعلان الدستورى فى 22 نوفمبر ثم العدول عنه بعد استدعاء الشارع للمشهد السياسى. يأتى فى هذا السياق كذلك المعركة الرمزية المستمرة بين النظام الحاكم من ناحية و"الإعلام" المستقل أو الخاص من ناحية أخرى. هذه النزالات المختلفة ما هى إلا تعبيرات عن تصارع أطراف يمتلك كل منها بعض خيوط اللعبة ولا يستطيع السيطرة عليها مع ميل كل طرف لنفى الآخر أو فرض القواعد التى تعبر عن عناصر قوته والاحتكام إلى شرعية عوراء، وانتهاج سياسات حافة الهاوية بهدف تعظيم المكاسب، و فرض الأمر الواقع، مع استدعاء الحشود كعامل ترجيحى أو قوة ضغط، مما يخلق حالة من عدم الاستقرار يكون اندلاع العنف فيها متوقعا وأحيانا مقبولا بهدف تغيير قواعد اللعبة.
هذه "المولدات" المستمرة للعنف التى تغلب على العملية السياسية المصرية وسياقها الثقافى والرمزى هى التربة الخصبة التى ينمو فيها العنف ويزداد دموية، مهما اختلفت الأسباب المباشرة أو أبطال أو مناطق انفجار العنف، أو الأطراف السياسية الضالعة فى الأعمال الصدامية أو الساكتة عنها.
هذه الحالة الاستقطابية والتربة الصراعية لا تنذر فقط بتصاعد العنف المادى، وإنما إمكانية انفلاته إذا ضلعت المؤسسات الأمنية الجامعة فى الحالة الاستقطابية أو الأسوأ فى حالة خصخصة الوظيفة الأمنية مع ادعاء أطراف مجتمعية أو سياسية بعينها رغبتها أو نيتها الحلول محل مؤسسات الدولة الأمنية فى فرض أو إقرار الأمن، والاستخدام "المشروع للعنف"، ومن ثم تحول موجات العنف إلى مستويات منذرة من العنف الأهلى!
.