تغيرات في الخريطة السياسية المصرية
مرسل: الاثنين إبريل 29, 2013 8:01 pm
زياد عقل
تمر مصر منذ تولي الرئيس محمد مرسي الحكم في صيف 2012 بمرحلة إعادة تشكيل للقوى والفاعلين السياسيين، فخريطة الفاعلين السياسيين التي كانت موجودة أثناء الفترة الانتقالية تحت قيادة المجلس العسكري لم تعد كما هي. تغيرت التحالفات السياسية وأساليب الضغط السياسي وعلاقات القوة داخل المشهد السياسي المصري نتيجة للتغيير في رأس السلطة التنفيذية، وما تبع ذلك من تغيرات مؤسسية وسياسية. والتغيير في رأس السلطة التنفيذية (بغض النظر عن الآلية) عادة ما يؤدي لإعادة تشكيل التحالفات السياسية في أي دولة، ولكن الحال يختلف قليلاً في مصر لسببين رئيسيين: أولاً أن النظام السياسي في مصر لا يعرف فصل حقيقي بين السلطات لذا فالسلطة التنفيذية تسيطر على باقي السلطات، وثانياً أن سياسات محمد مرسي وأسلوب إدارته للبلاد منذ توليه الحكم وإلى الآن اتسمت بقصر النظر وسوء قراءة الأوضاع السياسية. ومن ثم، فالتغير الذي بدأ مع تولي محمد مرسي لمهام منصبه كان له أثر عميق على خريطة الفاعلين السياسيين فيما يتعلق بظهور فاعلين جدد أو اختفاء فاعلين قدامى، وأيضاً فيما يتعلق بطبيعة التفاعلات بين الفاعلين. ولكي نتمكن من تفهم الأزمة الراهنة يجب أولاً أن نتفهم الخريطة الجديدة وما تحمله من تبعات سياسية.
لم تتغير خريطة الفاعلين السياسيين كثيراً خلال المرحلة الانتقالية التي بدأت بسقوط مبارك وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد وانتهت بإعلان فوز محمد مرسي بالانتخابات الرئاسية. فخلال تلك المرحلة كان المجلس العسكري أو القوات المسلحة فاعلاً رئيسياً، كما كان هناك الاخوان المسلمون ومعهم باقي القوى الإسلامية، وأخيراً كانت هناك قوى المعارضة غير الدينية والتي انقسمت إلى أحزاب سياسية جديدة وقديمة وبعض الحركات الاجتماعية والائتلافات الانتخابية. وقد بدا واضحاً من سياق المرحلة الانتقالية أن المشهد السياسي في مصر كان مشهداً ثنائياً يتقاسم طرفيه المجلس العسكري من ناحية وجماعة الإخوان المسلمين (والتي كانت تقوم بتعبئة باقي القوى الإسلامية) من ناحية أخرى، أما قوى المعارضة فكانت مستهلكة بين رفع المطالب للمجلس العسكري والحوار معه أو التحضير للانتخابات البرلمانية أو بمحاولات الضغط من أسفل من خلال المظاهرات والاعتصامات. وكان نتاج هذه الخريطة نجاح القوى الإسلامية في الحصول على أغلبية الأصوات في الانتخابات النيابية، وفوز مرسي برئاسة الجمهورية، مع خروج المجلس العسكري الخروج الآمن الذي سعى إليه.
وبالنظر للأزمة السياسية والأمنية التي تعيشها مصر منذ إصدار مرسي الإعلان الدستوري في نوفمبر 2012 وحتى الآن نرى أن خريطة الفاعلين السياسيين بات فيها الكثير من الاختلاف. فقد برهنت الأزمة الراهنة أولاً، على حدوث تغيير جوهري في الدور السياسي للمؤسسة العسكرية. إذ أن بيانات وتصريحات القوات المسلحة منذ اندلاع الأزمة وإلى الآن تحمل كلها رسالة واحدة فحواها أن القوات المسلحة ليست منحازة سياسياً لأي من الأطراف، وإن كانت تعلن عن دعمها المتكرر للشرعية. بمعنى آخر ، فإن القوات المسلحة لن تتدخل تدخلا مباشراً بين الأطراف السياسية المتنازعة ولكنها ستدعم محمد مرسي، ولعل تأمين الجيش للاستفتاء على الدستور وإعطاء ضباطه الحق في الضبطية القضائية خير دليل على هذا الدعم. ومما لا شك فيه أن الأوان لم يحن بعد لاستنتاج حدوث تغير بنيوي في النظام السياسي المصري من خلال إعادة صياغة دور المؤسسة العسكرية أو حتى استنتاج أن المؤسسة العسكرية باتت خارج حسابات الخريطة السياسية، ولكن ما نشير إليه هو خروج المؤسسة العسكرية من دائرة التدخل المباشر في الصراع السياسي نتيجة لما بات بين قياداتها وبين قيادات الإخوان ومؤسسة الرئاسة من توافق سياسي مستمر منذ المرحلة الانتقالية.
ثانياً، باتت المعارضة أكثر تنظيماً من خلال جبهة الانقاذ الوطني. وبعيداً عن تقييم الأداء السياسي للجبهة حيث أنه شأن يطول، استطاعت جبهة الإنقاذ أن تفرض وجودها كفاعل سياسي رئيسي وهو ما تجلى في القدرة على الحشد والتعبئة من خلال التظاهرات والمسيرات وأيضاً في نسبة الأصوات التي صوتت ب"لا" في استفتاء الدستور، فبالرغم من أن نسبة المصوتين ب"لا" كانت في حدود 36%، إلا أن النسبة تمثل تقدماً لقوى المعارضة عن النسب التي حققتها هذه القوى في الانتخابات النيابية خلال المرحلة الانتقالية. وقد تمكنت جبهة الانقاذ الوطني أيضاً من خلق تحالف اجتماعي مسانداً لها داخل الطبقة الوسطى ظهرت آثاره في تغير التركيبة الاجتماعية للمشاركين في المظاهرات والمسيرات التي تدعو لها الجبهة، كما ظهر أيضاً في صورة تقديم تبرعات مادية من الطبقة الوسطى للأحزاب المختلفة داخل الجبهة. ولظهور الجبهة كفاعل سياسي دلالتان رئيسيتان، أولاً أصبح هناك كيان ائتلافي منظم يلعب دوراً قيادياً في المعارضة وهو ما لم تعرفه هذه المعارضة أثناء المرحلة الانتقالية، وثانياً، أن القيادة المشتركة للمعارضة قررت خوض العملية السياسية بما تتضمنه من انتخابات واستحقاقات أخرى، بمعنى أنها أعلنت عن نفسها كمعارضة مؤسسية تعمل داخل إطار النظام السياسي والدولة، وبالتالي انفصلت المعارضة المنظمة في رؤيتها للمستقبل عن الشارع، وهو ما يقودنا لثالث التغيرات في خريطة الفاعلين السياسيين.
ثالثاً، دخل "الشارع" في معادلة الفاعلين السياسيين مع الذكرى الثانية لثورة 25 يناير. والمقصود "بالشارع" ليس المسيرات والتظاهرات السلمية ولكن المقصود هو أعداد قليلة من المتظاهرين لديها الاستعداد للاشتباك، ولها رؤية للتغيير الجذري بعيداً عن العملية السياسية التي ترعاها الدولة، بمعنى أن الشارع لا يدعم القوى السياسية التي تحاول الإصلاح من أعلى من خلال عملية سياسية لأنه يرى ضرورة الإصلاح من أسفل. وبدا واضحاً في الثمانية عشر يوماً الأخيرة أن قوى الشارع علي قدر ما من التنظيم وإن كان تنظيماً يختلف عن الطبيعة التقليدية للتنظيم السياسي أو الشكل السائد للحركات الاحتجاجية في مصر في الآونة الأخيرة. ولعل الانتشار الجغرافي للاشتباكات في محافظات مختلفة يشير لشكل من التنظيم يتسم بدرجة عالية من اللامركزية والقيادة الأفقية. واستطاع الشارع أن يفرض نفسه كفاعل سياسي من خلال الاستعداد للاشتباك والتصعيد في الاحتجاج كالتظاهر أمام مباني المحافظات وقطع طرق القطارات أو إيقاف المترو لفترات زمنية محددة.
رابعاً، ظلت الدولة بالطبع فاعلاً رئيسياً ولكن جاءت الأزمة الحالية ببعض الدلالات الجديدة الخاصة بدور الدولة كفاعل سياسي. فمنذ 25 يناير 2013 بدا أن مساحة التوافق بين الإخوان المسلمين والدولة آخذه في الاتساع، ولذا نجد أن الجماعة قررت أن تتراجع عن التدخل المباشر أو عن نزول الشارع واكتفت بالاعتماد على أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية والإعلامية، وهو ما يعد تغير جوهري في طريقة تعامل جماعة الإخوان مع الأزمة الحالية بالمقارنة بموقفها في أحداث الاتحادية الأولى عندما قررت الجماعة أن تتدخل تدخلا مباشراً. وهذا التغير في موقف الإخوان قد يعني ببساطة أن الجماعة قد تعلمت الدرس من أحداث الاتحادية الأولى، ولكنه قد يعني أيضاً أن الإخوان المسلمون قد عثروا على الصيغة المثلى للتوافق مع مؤسسات الدولة، خاصة بعد أن قام مرسي بتعيين وزيراً جديداً للداخلية ونائباً عاماً جديداً، وهو ما يفسر التحول في موقف الشرطة من أحداث الاتحادية الأولى التي لم تمارس فيها أي عنف وأحداث الاتحادية الثانية التي أكدت فيها الشرطة أنها مؤسسة تخدم النظام السياسي دون النظر للقانون حتى وإن أدى ذلك لسحل المواطنين وتعذيبهم وسلبهم الحق في الحياة.
ومثلما تغيرت خريطة الفاعلين السياسيين تغير أيضاً نمط التفاعل فيما بينهم. فقد أصبحت الدولة وجماعة الإخوان المسلمين أولاً وجهان لعملة واحدة (وهو ما قد يتغير في المستقبل) وبات ممكناً جمعهما معاً كفاعل سياسي واحد. ثانياً، اتسعت المساحة بين جبهة الإنقاذ الوطني وبين الشارع بحيث لم تعد الجبهة تعبر عن الشارع أو تتحكم فيه بأي شكل من الأشكال. ثالثاً، في ظل الأزمة الراهنة يبدو أن المساحة المشتركة بين الدولة والمعارضة أصبحت أكبر من المساحة المشتركة بين المعارضة والشارع نظراً لاتفاق الجبهة والدولة على أهداف واحدة تتمثل في خوض العملية السياسية وإن ظل الخلاف قائماً حول بين الطرفان حول كيفية ضبط آليات هذه العملية، فبالرغم من رفض الجبهة المتكرر لدعوات الحوار مع الدولة، يظل الهدف الرئيسي للجبهة هو خوض الانتخابات، وهو ما تسعى إليه الدولة ويرفضه الشارع. ورابعاً، فلا يزال الشارع إلى الآن رافض لكل مبادرات الحوار والتسوية السياسية سواء مع الجبهة أو مع الدولة، وهو أمر طبيعي ومتوقع في ظل غياب قيادة واضحة تشترك في الحوار وعدم توفر نية أو رغبة لديه للحوار في المقام الأول.
وتشير كافة التغيرات التي طرأت علي خريطة الفاعلين السياسيين في مصر إلى ضرورة حدوث انفراجة في النظام تستوعب الاحتقان وتخفف من حدة التوتر الذي خلفته القرارات الديكتاتورية لمحمد مرسي وما تلاها من معارك سياسية لم تنته إلى الآن. إذ أن الإقصاء الذي اتسم به نظام محمد مرسي منذ توليه الحكم قد خلف وراءه توترات سياسية واجتماعية لن يجدي معها التعامل الأمني أو الإهمال أو التبرير. بات من الضروري على الدولة تقديم بعض التنازلات السياسية قبل أن تحتد موجة العنف وتتغير الخريطة السياسية مرة أخرى.
.
تمر مصر منذ تولي الرئيس محمد مرسي الحكم في صيف 2012 بمرحلة إعادة تشكيل للقوى والفاعلين السياسيين، فخريطة الفاعلين السياسيين التي كانت موجودة أثناء الفترة الانتقالية تحت قيادة المجلس العسكري لم تعد كما هي. تغيرت التحالفات السياسية وأساليب الضغط السياسي وعلاقات القوة داخل المشهد السياسي المصري نتيجة للتغيير في رأس السلطة التنفيذية، وما تبع ذلك من تغيرات مؤسسية وسياسية. والتغيير في رأس السلطة التنفيذية (بغض النظر عن الآلية) عادة ما يؤدي لإعادة تشكيل التحالفات السياسية في أي دولة، ولكن الحال يختلف قليلاً في مصر لسببين رئيسيين: أولاً أن النظام السياسي في مصر لا يعرف فصل حقيقي بين السلطات لذا فالسلطة التنفيذية تسيطر على باقي السلطات، وثانياً أن سياسات محمد مرسي وأسلوب إدارته للبلاد منذ توليه الحكم وإلى الآن اتسمت بقصر النظر وسوء قراءة الأوضاع السياسية. ومن ثم، فالتغير الذي بدأ مع تولي محمد مرسي لمهام منصبه كان له أثر عميق على خريطة الفاعلين السياسيين فيما يتعلق بظهور فاعلين جدد أو اختفاء فاعلين قدامى، وأيضاً فيما يتعلق بطبيعة التفاعلات بين الفاعلين. ولكي نتمكن من تفهم الأزمة الراهنة يجب أولاً أن نتفهم الخريطة الجديدة وما تحمله من تبعات سياسية.
لم تتغير خريطة الفاعلين السياسيين كثيراً خلال المرحلة الانتقالية التي بدأت بسقوط مبارك وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد وانتهت بإعلان فوز محمد مرسي بالانتخابات الرئاسية. فخلال تلك المرحلة كان المجلس العسكري أو القوات المسلحة فاعلاً رئيسياً، كما كان هناك الاخوان المسلمون ومعهم باقي القوى الإسلامية، وأخيراً كانت هناك قوى المعارضة غير الدينية والتي انقسمت إلى أحزاب سياسية جديدة وقديمة وبعض الحركات الاجتماعية والائتلافات الانتخابية. وقد بدا واضحاً من سياق المرحلة الانتقالية أن المشهد السياسي في مصر كان مشهداً ثنائياً يتقاسم طرفيه المجلس العسكري من ناحية وجماعة الإخوان المسلمين (والتي كانت تقوم بتعبئة باقي القوى الإسلامية) من ناحية أخرى، أما قوى المعارضة فكانت مستهلكة بين رفع المطالب للمجلس العسكري والحوار معه أو التحضير للانتخابات البرلمانية أو بمحاولات الضغط من أسفل من خلال المظاهرات والاعتصامات. وكان نتاج هذه الخريطة نجاح القوى الإسلامية في الحصول على أغلبية الأصوات في الانتخابات النيابية، وفوز مرسي برئاسة الجمهورية، مع خروج المجلس العسكري الخروج الآمن الذي سعى إليه.
وبالنظر للأزمة السياسية والأمنية التي تعيشها مصر منذ إصدار مرسي الإعلان الدستوري في نوفمبر 2012 وحتى الآن نرى أن خريطة الفاعلين السياسيين بات فيها الكثير من الاختلاف. فقد برهنت الأزمة الراهنة أولاً، على حدوث تغيير جوهري في الدور السياسي للمؤسسة العسكرية. إذ أن بيانات وتصريحات القوات المسلحة منذ اندلاع الأزمة وإلى الآن تحمل كلها رسالة واحدة فحواها أن القوات المسلحة ليست منحازة سياسياً لأي من الأطراف، وإن كانت تعلن عن دعمها المتكرر للشرعية. بمعنى آخر ، فإن القوات المسلحة لن تتدخل تدخلا مباشراً بين الأطراف السياسية المتنازعة ولكنها ستدعم محمد مرسي، ولعل تأمين الجيش للاستفتاء على الدستور وإعطاء ضباطه الحق في الضبطية القضائية خير دليل على هذا الدعم. ومما لا شك فيه أن الأوان لم يحن بعد لاستنتاج حدوث تغير بنيوي في النظام السياسي المصري من خلال إعادة صياغة دور المؤسسة العسكرية أو حتى استنتاج أن المؤسسة العسكرية باتت خارج حسابات الخريطة السياسية، ولكن ما نشير إليه هو خروج المؤسسة العسكرية من دائرة التدخل المباشر في الصراع السياسي نتيجة لما بات بين قياداتها وبين قيادات الإخوان ومؤسسة الرئاسة من توافق سياسي مستمر منذ المرحلة الانتقالية.
ثانياً، باتت المعارضة أكثر تنظيماً من خلال جبهة الانقاذ الوطني. وبعيداً عن تقييم الأداء السياسي للجبهة حيث أنه شأن يطول، استطاعت جبهة الإنقاذ أن تفرض وجودها كفاعل سياسي رئيسي وهو ما تجلى في القدرة على الحشد والتعبئة من خلال التظاهرات والمسيرات وأيضاً في نسبة الأصوات التي صوتت ب"لا" في استفتاء الدستور، فبالرغم من أن نسبة المصوتين ب"لا" كانت في حدود 36%، إلا أن النسبة تمثل تقدماً لقوى المعارضة عن النسب التي حققتها هذه القوى في الانتخابات النيابية خلال المرحلة الانتقالية. وقد تمكنت جبهة الانقاذ الوطني أيضاً من خلق تحالف اجتماعي مسانداً لها داخل الطبقة الوسطى ظهرت آثاره في تغير التركيبة الاجتماعية للمشاركين في المظاهرات والمسيرات التي تدعو لها الجبهة، كما ظهر أيضاً في صورة تقديم تبرعات مادية من الطبقة الوسطى للأحزاب المختلفة داخل الجبهة. ولظهور الجبهة كفاعل سياسي دلالتان رئيسيتان، أولاً أصبح هناك كيان ائتلافي منظم يلعب دوراً قيادياً في المعارضة وهو ما لم تعرفه هذه المعارضة أثناء المرحلة الانتقالية، وثانياً، أن القيادة المشتركة للمعارضة قررت خوض العملية السياسية بما تتضمنه من انتخابات واستحقاقات أخرى، بمعنى أنها أعلنت عن نفسها كمعارضة مؤسسية تعمل داخل إطار النظام السياسي والدولة، وبالتالي انفصلت المعارضة المنظمة في رؤيتها للمستقبل عن الشارع، وهو ما يقودنا لثالث التغيرات في خريطة الفاعلين السياسيين.
ثالثاً، دخل "الشارع" في معادلة الفاعلين السياسيين مع الذكرى الثانية لثورة 25 يناير. والمقصود "بالشارع" ليس المسيرات والتظاهرات السلمية ولكن المقصود هو أعداد قليلة من المتظاهرين لديها الاستعداد للاشتباك، ولها رؤية للتغيير الجذري بعيداً عن العملية السياسية التي ترعاها الدولة، بمعنى أن الشارع لا يدعم القوى السياسية التي تحاول الإصلاح من أعلى من خلال عملية سياسية لأنه يرى ضرورة الإصلاح من أسفل. وبدا واضحاً في الثمانية عشر يوماً الأخيرة أن قوى الشارع علي قدر ما من التنظيم وإن كان تنظيماً يختلف عن الطبيعة التقليدية للتنظيم السياسي أو الشكل السائد للحركات الاحتجاجية في مصر في الآونة الأخيرة. ولعل الانتشار الجغرافي للاشتباكات في محافظات مختلفة يشير لشكل من التنظيم يتسم بدرجة عالية من اللامركزية والقيادة الأفقية. واستطاع الشارع أن يفرض نفسه كفاعل سياسي من خلال الاستعداد للاشتباك والتصعيد في الاحتجاج كالتظاهر أمام مباني المحافظات وقطع طرق القطارات أو إيقاف المترو لفترات زمنية محددة.
رابعاً، ظلت الدولة بالطبع فاعلاً رئيسياً ولكن جاءت الأزمة الحالية ببعض الدلالات الجديدة الخاصة بدور الدولة كفاعل سياسي. فمنذ 25 يناير 2013 بدا أن مساحة التوافق بين الإخوان المسلمين والدولة آخذه في الاتساع، ولذا نجد أن الجماعة قررت أن تتراجع عن التدخل المباشر أو عن نزول الشارع واكتفت بالاعتماد على أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية والإعلامية، وهو ما يعد تغير جوهري في طريقة تعامل جماعة الإخوان مع الأزمة الحالية بالمقارنة بموقفها في أحداث الاتحادية الأولى عندما قررت الجماعة أن تتدخل تدخلا مباشراً. وهذا التغير في موقف الإخوان قد يعني ببساطة أن الجماعة قد تعلمت الدرس من أحداث الاتحادية الأولى، ولكنه قد يعني أيضاً أن الإخوان المسلمون قد عثروا على الصيغة المثلى للتوافق مع مؤسسات الدولة، خاصة بعد أن قام مرسي بتعيين وزيراً جديداً للداخلية ونائباً عاماً جديداً، وهو ما يفسر التحول في موقف الشرطة من أحداث الاتحادية الأولى التي لم تمارس فيها أي عنف وأحداث الاتحادية الثانية التي أكدت فيها الشرطة أنها مؤسسة تخدم النظام السياسي دون النظر للقانون حتى وإن أدى ذلك لسحل المواطنين وتعذيبهم وسلبهم الحق في الحياة.
ومثلما تغيرت خريطة الفاعلين السياسيين تغير أيضاً نمط التفاعل فيما بينهم. فقد أصبحت الدولة وجماعة الإخوان المسلمين أولاً وجهان لعملة واحدة (وهو ما قد يتغير في المستقبل) وبات ممكناً جمعهما معاً كفاعل سياسي واحد. ثانياً، اتسعت المساحة بين جبهة الإنقاذ الوطني وبين الشارع بحيث لم تعد الجبهة تعبر عن الشارع أو تتحكم فيه بأي شكل من الأشكال. ثالثاً، في ظل الأزمة الراهنة يبدو أن المساحة المشتركة بين الدولة والمعارضة أصبحت أكبر من المساحة المشتركة بين المعارضة والشارع نظراً لاتفاق الجبهة والدولة على أهداف واحدة تتمثل في خوض العملية السياسية وإن ظل الخلاف قائماً حول بين الطرفان حول كيفية ضبط آليات هذه العملية، فبالرغم من رفض الجبهة المتكرر لدعوات الحوار مع الدولة، يظل الهدف الرئيسي للجبهة هو خوض الانتخابات، وهو ما تسعى إليه الدولة ويرفضه الشارع. ورابعاً، فلا يزال الشارع إلى الآن رافض لكل مبادرات الحوار والتسوية السياسية سواء مع الجبهة أو مع الدولة، وهو أمر طبيعي ومتوقع في ظل غياب قيادة واضحة تشترك في الحوار وعدم توفر نية أو رغبة لديه للحوار في المقام الأول.
وتشير كافة التغيرات التي طرأت علي خريطة الفاعلين السياسيين في مصر إلى ضرورة حدوث انفراجة في النظام تستوعب الاحتقان وتخفف من حدة التوتر الذي خلفته القرارات الديكتاتورية لمحمد مرسي وما تلاها من معارك سياسية لم تنته إلى الآن. إذ أن الإقصاء الذي اتسم به نظام محمد مرسي منذ توليه الحكم قد خلف وراءه توترات سياسية واجتماعية لن يجدي معها التعامل الأمني أو الإهمال أو التبرير. بات من الضروري على الدولة تقديم بعض التنازلات السياسية قبل أن تحتد موجة العنف وتتغير الخريطة السياسية مرة أخرى.
.