- الاثنين إبريل 29, 2013 8:57 pm
#61363
محمد عبد القادر
احتفى الكثير من العراقيين بالثورات العربية واعتبر بعض ساساتها وعلى رأسهم رئيس الوزراء نوري المالكي أن العراق شكل نموذجا ملهما لهذه الثورات. بيد أن اندلاع مظاهرات حاشدة داخل العديد من المدن العراقية في أواخر يناير عام 2011، أثبت أن العراق ذاته ليس محصنا في مواجهة المظاهرات الشعبية التي طالبت في حينها برفع الظلم الاقتصادي وتحسين الخدمات الحكومية، والتعاطي مع تردى حالة البنية التحتية وتقليص الحصص الغذائية، وتدهور الأوضاع الأمنية.
وعلى الرغم من أنه لم يكتب لهذه المظاهرات التي أطلق عليها وقتذاك "أيام الغضب" أن تحقق كل ما تحركت لأجله، إلا أنها أفضت إلى استقالة عدد من المحافظين وتخفيض رواتب بعض القادة العراقيين، على رأسهم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي ناور وقتذاك بإعلانه عدم الترشح لدورة ثالثة، وذلك بعد أن تبادل الاتهامات مع مجالس بعض المحافظات بشأن المسئولية عن تدني الخدمات، حيث اتهم هذه المحافظات بالمسئولية عن ذلك، فيما اعتبرت الأخيرة أن سلطاتها مغلولة لصالح سلطاته المطلقة، وهى السلطات التي راكمها شهرا بعد شهر وعام بعد آخر على نحو أفضى إلى تأجج الصراعات واشتداد حدتها وتحول الاحتجاجات من الطابع الاقتصادي المطلبي إلى حلبة السياسة.
ومع أنه من المفترض أن يكون المواطنون في ظل النظام السياسي الديمقراطي قادرين على ممارسة الضغوط على الحكومة ومحاسبتها من خلال الاعتماد على القنوات المؤسسية، إلا أن العراقيين خلصوا إلى أنه لن يتم الإصغاء إليهم - على غرار الشعوب في البلدان السلطوية - ما لم ينزلوا مرة أخرى إلى الشوارع والميادين بأعداد غفيرة، وذلك بعدما بدا أن المالكي غير معني إلا بتصفية خصومه واحدا تلو الأخر، حيث نجح في إفشال خطط إياد علاوي لرئاسة "المجلس الوطني للسياسات"، ثم اتجه لإقصاء نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، وقام بإجباره على الهرب خارج العراق، وذلك بعدما صدر بحقه خمس أحكام قضائية غيابية بالإعدام، جعلت مقر إقامته يتحول من بغداد إلى أنقرة.
وزير المالية رافع العيساوي بدوره، والذي كان قد حاول تجنب المواجهة مع رجل العراق القوى نور المالكي، منذ أن تولى منصبه الحالي وذلك بعد أن تم رفع أسمه من القائمة المشمولة بالاجتثاث، وذلك ضمن صفقة إعادة تولي المالكي رئاسة الوزراء. غير أن الأخير كعادته في الاعتماد على استغلال تصريحات خصومه للتخلص منهم، فبعد زيارات العيساوي للأردن، وتأكيده على قرب سقوط النظام الطائفي في سوريا، والذي يعد المالكي أحد مناصريه، عاد ليجد قوات الأمن تداهم منزله وتعتقل بعض أفراد حمايته، في سيناريو أقرب ما يكون إلى سيناريو "تطفيش" الهاشمي.
أسباب المظاهرات
المالكي الذي استطاع أن يبعد طارق الهاشمي قبل عام، بات يواجه تحديات قد تجعل محاولاته للتخلص من بقية خصومه أكثر صعوبة، وذلك بعدما باتت استراتيجياته معلومة سلفا لخصومه قبل حلفائه، هذا بالإضافة إلى ما بات يواجه علاقاته مع التيار الصدري من تحديات، وما غدت تعانيه روابطه القديمة مع التحالف الكردستاني من مظاهر للتآكل بسبب عدم تطبيق بنود اتفاق أربيل 2010، والذي أدى إلى تشكيل المالكي للحكومة بعد 6 أشهر من المفاوضات.
وقد أدى ذلك إلى اشتداد المواجهة الإعلامية والسياسية، والتي كادت أن تتحول إلى مواجهة عسكرية بين الطرفين بعد "أزمة طوزخورماتو"، وهى الأزمة التي تفجرت بعد قرار المالكي بتشكيل "قيادة عمليات دجلة" لتتولى تأمين المناطق المتنازع عليها، بما أثار معارضة قوية من قبل زعيم إقليم شمال العراق الكردي مسعود بارزاني، الذي طالب بدوره قوات البشمركة بالتأهب لمواجهة أية تحركات عسكرية طارئة على حدود المناطق المتنازع عليها.
يضاف إلى ذلك التداعيات السياسية لتوالي "الفضائح المالية" والتي ارتبط أخرها بصفقة الأسلحة الروسية، والتي أفضت إلى "التضحية" بالناطق الرسمي باسم الحكومة على الدباغ. هذا فضلا عن التوظيف السياسي للقضاء، وعدم الالتزام بنصوص الدستور، واستشعار قطاعات عريضة من الشعب العراقي، خصوصا من الطائفة السنية، أنهم أقرب إلى مواطنين من الدرجة الثانية، على النحو الذي دفع عدد من المحافظات إلى المطالبة بتشكيل أقاليم مستقلة، وبما خلق حالة من التعبئة ضد كل ما يأتي من الحكومة، وانعكس على حجم المظاهرات التي اندلعت بسبب قضية العيساوي، حيث بدا واضحا أنها هذه المرة أكثر ارتباطا بأجندة سياسية واضحة، كما تكتسب زخما شعبيا أكثر اتساعا، حيث توافدت حشود ضخمة من مناطق مختلفة في العراق ومنها عشائر من الجنوب على مدن الفلوجة والرمادي في محافظة الأنبار (الغرب) وسامراء وتكريت في محافظة صلاح الدين (وسط) والموصل في محافظة نينوى (شمال).
كما حظيت هذه المظاهرات التي قدرت بمئات الألوف بتأييد واسع وامتدت إلى العديد من المناطق والمحافظات في آن واحد. وقد تضامن معها تيارات سياسية ودينية صاحبة حضور شعبي واسع مثل التيار الصدري، وانضم إليها نواب عن التحالف الكردستاني، ودعمتها رئاسة إقليم شمال العراق. كما شهدت مشاركة مكثفة من قبل وفود قبلية من العديد من المحافظات العراقية، كما تحولت المظاهرات إلى اعتصامات وإضرابات عامة في العديد من المدن. وأدت لقطع الطريق الدولي بين بغداد وعمان.
أفضى كل ذلك إلى استحضار مشاهد الثورات الشعبية العربية، وذلك بعدما كتبت عبارات منددة بسياسات الحكومة على واجهات البنايات وجدران المنازل وجوانب الطرقات وفي الميادين، كما شارك في المظاهرات طلبة الجامعات، وأطلق على بعض أيام المظاهرات مسميات من قبيل "أربعاء الكرامة" و"يوم العزة" و"جمعة شرف المعتقلات" و"جمعة لا تراجع" ، ورفع خلالها شعارات تدعو للوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي.
تحديات المالكي
لم تعد المظاهرات والاعتراضات على سياسات الحكومة العراقية حدثا استثنائيا، وإنما غدت ظاهرة عامة، فقبل أيام من المظاهرات الأخيرة قام أنصار التيار الصدري بتنظيم تظاهرات في بغداد تنديدا بتصريحات المالكي ضد زعيمهم مقتدى الصدر ردا على انتقادات الأخير لصفقة الأسلحة مع روسيا والأزمة مع الأكراد. هذه التطورات باتت تشي بأن "التحالف الوطني" أصبح أقرب إلى "تحالف الأضداد"، لا سيما بعدما بات الصدريون يلوحون بالانفصال عنه، إذا ما أصر المالكي على نفس النهج، واستمر انفرد أعضاء "دولة القانون" بالقرارات، وهو أمر انعكس مؤخرا في حالة السجال السياسي الذي تحول لاشتباك بالأيدي بين نواب التيار الصدري ونواب قائمة "ائتلاف دول القانون" داخل البرلمان العراقي، وهو الأمر الذي ينبأ بأن المالكي بات يواجه التحدي الأكبر منذ إعادة تسميته لرئاسة الوزراء، وانه سيواجه اختبارا ضخما خلال الانتخابات المحلية المقبلة والمقرر إجراؤها في ابريل المقبل.
هذه التحديات دفعت "القائمة العراقية" إلى التأكيد على أن حلحلة الاستعصاءات السياسية تتطلب التعاطي معها كحزمة واحدة، بحيث لا تنفصل "قضية العيساوي" عن "قضية الهاشمي". كما أفضى موقف المالكي الذي بات يواجه أغلب خصومة داخل "حلبة واحدة"، إلى رفع المتظاهرين والمعتصمين من مطالبهم بحيث لا تشمل إطلاق سراح أفراد حماية وزير المالية وحسب، وإنما إطلاق كافة المعتقلين في السجون العراقية وعلى رأسهم السجينات اللواتي يبلغ عددهن زهاء 1400 معتقلة. هذا بالإضافة إلى إقرار قانون العفو العام، واحترام الدستور والقوانين وعدم استهداف أيا من مكونات الشعب العراقي، وإنهاء سياسة التهميش وتصحيح مسار الحكومة وتحقيق شراكة سياسية حقيقية، وإلغاء قانون المساءلة والعدالة، واعتماد التوازن في الأجهزة الأمنية، هذا بالإضافة إلى عدم التحكم بالهيئات المستقلة وفصل تبعيتها عن الحكومة، بل وطالبت قطاعات عريضة من المتظاهرين بإسقاط المالكي ذاته.
دور المالكي
على الرغم من أن أبرز إنجازات المالكي يتمثل في مراكمة الأخطاء وافتقاد دعم الحلفاء، إلا أنه لا يمكن إنكار أن المالكي استطاع خلال السنوات السبع التي حكم فيها العراق أن ينجز العديد من المهمات الصعبة، ويوقف تصاعد أدوار الفرقاء السياسيين على النحو الذي يضمن بقاء العراق موحدا، ومتماسكا، وبما يضمن له سيطرته على كافة مقاليد الحكم في الدولة. بدا ذلك واضحا في عام 2008 من خلال الحملة العسكرية التي قامت بها القوات الأمنية العراقية على التيار الصدري. ومن خلال إصراره على رئاسة الحكومة رغم أنه لم يكن صاحب الكتلة الأكبر الفائزة في انتخابات 2010، وذلك بعد نجاحه في أن يجعل من نفسه نقطة توافق بين الإدارة الأمريكية وطهران في آن معا.
هذا بالإضافة إلى قدرته أن يظهر نفسه باعتباره الطرف العراقي القوي الذي يقف في مواجهة "التحالف الكردستاني" برفضه تنفيذ بنود اتفاق أربيل، والذي من شأنه حسب العديد من التقديرات أن يفضي إلى ضم أغلب المناطق المتنازع عليها إلى إقليم كردستان العراق، ولعل ذلك يشكل أحد العوامل التي زادت من شعبية المالكي خلال الشهور الأخيرة داخل الأوساط العربية بل وداخل القائمة العراقية نفسها، والتي يفترض أن تكون جبهة المعارضة، غير أن مشاركتها في الحكومة العراقية جعل منها شريكا أساسيا في إخفاقات حكومة المالكي، فضلا عن فشل وزرائها في اكتساب رضا المواطنين من خلال أدائهم السياسي والخدمي، واتجاههم إلى مقاطعة جلسات الحكومة مع كل أزمة سياسية على النحو الذي دفع المالكي مؤخرا إلى استبدالهم ومنحهم "أجازة مفتوحة" حسب تعبيره، لتغيبهم المستمر عن حضور جلسات مجلس الوزراء.
القضية في العراق هكذا، باتت متداخلة ومتشابكة، لا سيما أن "الائتلاف الوطني العراقي" بدوره لا يريد أن يخسر رئاسة الوزراء، وفي ذات الآن لم يعد يقبل استمرار سياسات الاستفراد بالحكم التي اتبعها المالكي خلال السنوات الماضية، لذلك أقدم على تمرير قانون يقضي بعدم أحقية تولي أيا من الرئاسات الثلاث (الجمهورية والوزراء والبرلمان) أكثر من دورتين، ثم إقرار قانون مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية، لمواجهة الاتهامات بتسييس القضاء وخضوعه لسيطرة المالكي وتوظيفه في "تصفية خصومه"، وهو الأمر الذي يؤشر إلى أن "الائتلاف الوطني" يبغي الاحتفاظ برئاسة الوزراء حتى لو أضطر للتضحية برجل العراق القوى نورى المالكي، بعدما أصبح تنامي نفوذه وسلطاته يشكل تهديدا لشركائه قبل خصومه.
ويرتبط هذا الموقف من ناحية أخرى بتنامي المخاوف من تحول المظاهرات الشعبية السلمية في محافظات المثلث السني إلى عمليات عنف وحرب أهلية طائفية، لا سيما أن المظاهرات في العراق اتسمت بالارتداد إلى الطائفية، وهو ما تتفاعل خطورته لاستدعائه ما يطلق عليه "الهويات القاتلة"، وذلك بعد خروج مظاهرات مؤيدة للمالكي في بعض محافظات الجنوب الشيعية كالنجف والبصرة وبعض المناطق في بغداد، هذا بالإضافة إلى تفجر الوضع في الفلوجة بين المتظاهرين وقوات الجيش، التي حاولت أن تحول دون وصول المواطنين إلى ساحات الاعتصام، بما أدى إلى مقتل زهاء سبع عراقيين وجرح نحو 70 آخرون، وما تبع ذلك من مقتل جنديان عراقيان وخطف ثلاثة آخرون على أطراف المدينة نفسها.
كما ترتبط هذه التطورات بطبيعة المخاوف الإقليمية والدولية من انتقال الأزمة السورية إلى الأراضي العراقية، وذلك في ظل تباين مواقف القوي السياسية العراقية حيال تطورات الأوضاع في سوريا، وذلك تبعا للانتماءات الطائفية والعرقية، وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة للتدخل على خط الأزمة من أجل دفع المالكي لتبني مقاربة سياسية تستجيب نسبيا لمطالب القوى السياسية والشعبية في المحافظات السنية، التي باتت تنظر بدورها للثورة السورية باعتبارها "ثورة سنية"، على النحو الذي يدفع لتعبئة الطاقات وشحذ الهمم استعدادا "للربيع العراقي" حال نجاح الثورة السورية في الإطاحة بـ"النظام العلوي" في دمشق.
ومن ثم، فإن هذه التطورات تشي بأن المالكي بات في حاجة خلال الفترة المتبقية من ولايته الثانية إلى إعادة النظر في إستراتجياته القديمة، بحيث لا يعتمد بقائه بالسلطة على أخطاء خصومه وهفواتهم، وقدرته على استغلال التناقضات الواضحة بين توجهاتهم ومصالحهم، وإنما عليه أن يعيد النظر في الأوضاع الاقتصادية المتردية بعد تفشي مظاهر الفقر في أغلب المحافظات العراقية، وتزايد مؤشرات الفساد داخل كافة مؤسسات الدولة، وتراجع أوضاع حقوق الإنسان، وانتهاك استقلال القضاء، وتركز سلطات الدولة في قبضته، وتراجع مؤشر الثقة بينه وبين أعضاء حكومته.
وقد يكون من المهم أن يتحقق ذلك في إطار العمل على ألا يتحول العراق بحلول ذكرى مرور عقد كامل على التحرير وإسقاط صدام حسين في أبريل المقبل إلى نموذج بحق للديمقراطية الفيدرالية والتعددية السياسية، لا حكم الفرد و"شهوة" الانتقام، التي قد يكون من شأنها أن يلوح "الربيع العراقي" في الأفق، وهو "ربيع" سيتبعه "خريف" استقرار العراق وتماسكه الجغرافي في ضوء المعطيات التي ترسخت خلال السنوات العشر الأخيرة من حيث تركز السنة في محافظات "المثلث السني" وتمتع الأكراد بإقليم شبه مستقل، هذا في وقت كشفت فيه التجربة العملية عن فشل الأكثرية الحاكمة في التخلص من تبعات الإغراق في الانتماء ا
احتفى الكثير من العراقيين بالثورات العربية واعتبر بعض ساساتها وعلى رأسهم رئيس الوزراء نوري المالكي أن العراق شكل نموذجا ملهما لهذه الثورات. بيد أن اندلاع مظاهرات حاشدة داخل العديد من المدن العراقية في أواخر يناير عام 2011، أثبت أن العراق ذاته ليس محصنا في مواجهة المظاهرات الشعبية التي طالبت في حينها برفع الظلم الاقتصادي وتحسين الخدمات الحكومية، والتعاطي مع تردى حالة البنية التحتية وتقليص الحصص الغذائية، وتدهور الأوضاع الأمنية.
وعلى الرغم من أنه لم يكتب لهذه المظاهرات التي أطلق عليها وقتذاك "أيام الغضب" أن تحقق كل ما تحركت لأجله، إلا أنها أفضت إلى استقالة عدد من المحافظين وتخفيض رواتب بعض القادة العراقيين، على رأسهم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي ناور وقتذاك بإعلانه عدم الترشح لدورة ثالثة، وذلك بعد أن تبادل الاتهامات مع مجالس بعض المحافظات بشأن المسئولية عن تدني الخدمات، حيث اتهم هذه المحافظات بالمسئولية عن ذلك، فيما اعتبرت الأخيرة أن سلطاتها مغلولة لصالح سلطاته المطلقة، وهى السلطات التي راكمها شهرا بعد شهر وعام بعد آخر على نحو أفضى إلى تأجج الصراعات واشتداد حدتها وتحول الاحتجاجات من الطابع الاقتصادي المطلبي إلى حلبة السياسة.
ومع أنه من المفترض أن يكون المواطنون في ظل النظام السياسي الديمقراطي قادرين على ممارسة الضغوط على الحكومة ومحاسبتها من خلال الاعتماد على القنوات المؤسسية، إلا أن العراقيين خلصوا إلى أنه لن يتم الإصغاء إليهم - على غرار الشعوب في البلدان السلطوية - ما لم ينزلوا مرة أخرى إلى الشوارع والميادين بأعداد غفيرة، وذلك بعدما بدا أن المالكي غير معني إلا بتصفية خصومه واحدا تلو الأخر، حيث نجح في إفشال خطط إياد علاوي لرئاسة "المجلس الوطني للسياسات"، ثم اتجه لإقصاء نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، وقام بإجباره على الهرب خارج العراق، وذلك بعدما صدر بحقه خمس أحكام قضائية غيابية بالإعدام، جعلت مقر إقامته يتحول من بغداد إلى أنقرة.
وزير المالية رافع العيساوي بدوره، والذي كان قد حاول تجنب المواجهة مع رجل العراق القوى نور المالكي، منذ أن تولى منصبه الحالي وذلك بعد أن تم رفع أسمه من القائمة المشمولة بالاجتثاث، وذلك ضمن صفقة إعادة تولي المالكي رئاسة الوزراء. غير أن الأخير كعادته في الاعتماد على استغلال تصريحات خصومه للتخلص منهم، فبعد زيارات العيساوي للأردن، وتأكيده على قرب سقوط النظام الطائفي في سوريا، والذي يعد المالكي أحد مناصريه، عاد ليجد قوات الأمن تداهم منزله وتعتقل بعض أفراد حمايته، في سيناريو أقرب ما يكون إلى سيناريو "تطفيش" الهاشمي.
أسباب المظاهرات
المالكي الذي استطاع أن يبعد طارق الهاشمي قبل عام، بات يواجه تحديات قد تجعل محاولاته للتخلص من بقية خصومه أكثر صعوبة، وذلك بعدما باتت استراتيجياته معلومة سلفا لخصومه قبل حلفائه، هذا بالإضافة إلى ما بات يواجه علاقاته مع التيار الصدري من تحديات، وما غدت تعانيه روابطه القديمة مع التحالف الكردستاني من مظاهر للتآكل بسبب عدم تطبيق بنود اتفاق أربيل 2010، والذي أدى إلى تشكيل المالكي للحكومة بعد 6 أشهر من المفاوضات.
وقد أدى ذلك إلى اشتداد المواجهة الإعلامية والسياسية، والتي كادت أن تتحول إلى مواجهة عسكرية بين الطرفين بعد "أزمة طوزخورماتو"، وهى الأزمة التي تفجرت بعد قرار المالكي بتشكيل "قيادة عمليات دجلة" لتتولى تأمين المناطق المتنازع عليها، بما أثار معارضة قوية من قبل زعيم إقليم شمال العراق الكردي مسعود بارزاني، الذي طالب بدوره قوات البشمركة بالتأهب لمواجهة أية تحركات عسكرية طارئة على حدود المناطق المتنازع عليها.
يضاف إلى ذلك التداعيات السياسية لتوالي "الفضائح المالية" والتي ارتبط أخرها بصفقة الأسلحة الروسية، والتي أفضت إلى "التضحية" بالناطق الرسمي باسم الحكومة على الدباغ. هذا فضلا عن التوظيف السياسي للقضاء، وعدم الالتزام بنصوص الدستور، واستشعار قطاعات عريضة من الشعب العراقي، خصوصا من الطائفة السنية، أنهم أقرب إلى مواطنين من الدرجة الثانية، على النحو الذي دفع عدد من المحافظات إلى المطالبة بتشكيل أقاليم مستقلة، وبما خلق حالة من التعبئة ضد كل ما يأتي من الحكومة، وانعكس على حجم المظاهرات التي اندلعت بسبب قضية العيساوي، حيث بدا واضحا أنها هذه المرة أكثر ارتباطا بأجندة سياسية واضحة، كما تكتسب زخما شعبيا أكثر اتساعا، حيث توافدت حشود ضخمة من مناطق مختلفة في العراق ومنها عشائر من الجنوب على مدن الفلوجة والرمادي في محافظة الأنبار (الغرب) وسامراء وتكريت في محافظة صلاح الدين (وسط) والموصل في محافظة نينوى (شمال).
كما حظيت هذه المظاهرات التي قدرت بمئات الألوف بتأييد واسع وامتدت إلى العديد من المناطق والمحافظات في آن واحد. وقد تضامن معها تيارات سياسية ودينية صاحبة حضور شعبي واسع مثل التيار الصدري، وانضم إليها نواب عن التحالف الكردستاني، ودعمتها رئاسة إقليم شمال العراق. كما شهدت مشاركة مكثفة من قبل وفود قبلية من العديد من المحافظات العراقية، كما تحولت المظاهرات إلى اعتصامات وإضرابات عامة في العديد من المدن. وأدت لقطع الطريق الدولي بين بغداد وعمان.
أفضى كل ذلك إلى استحضار مشاهد الثورات الشعبية العربية، وذلك بعدما كتبت عبارات منددة بسياسات الحكومة على واجهات البنايات وجدران المنازل وجوانب الطرقات وفي الميادين، كما شارك في المظاهرات طلبة الجامعات، وأطلق على بعض أيام المظاهرات مسميات من قبيل "أربعاء الكرامة" و"يوم العزة" و"جمعة شرف المعتقلات" و"جمعة لا تراجع" ، ورفع خلالها شعارات تدعو للوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي.
تحديات المالكي
لم تعد المظاهرات والاعتراضات على سياسات الحكومة العراقية حدثا استثنائيا، وإنما غدت ظاهرة عامة، فقبل أيام من المظاهرات الأخيرة قام أنصار التيار الصدري بتنظيم تظاهرات في بغداد تنديدا بتصريحات المالكي ضد زعيمهم مقتدى الصدر ردا على انتقادات الأخير لصفقة الأسلحة مع روسيا والأزمة مع الأكراد. هذه التطورات باتت تشي بأن "التحالف الوطني" أصبح أقرب إلى "تحالف الأضداد"، لا سيما بعدما بات الصدريون يلوحون بالانفصال عنه، إذا ما أصر المالكي على نفس النهج، واستمر انفرد أعضاء "دولة القانون" بالقرارات، وهو أمر انعكس مؤخرا في حالة السجال السياسي الذي تحول لاشتباك بالأيدي بين نواب التيار الصدري ونواب قائمة "ائتلاف دول القانون" داخل البرلمان العراقي، وهو الأمر الذي ينبأ بأن المالكي بات يواجه التحدي الأكبر منذ إعادة تسميته لرئاسة الوزراء، وانه سيواجه اختبارا ضخما خلال الانتخابات المحلية المقبلة والمقرر إجراؤها في ابريل المقبل.
هذه التحديات دفعت "القائمة العراقية" إلى التأكيد على أن حلحلة الاستعصاءات السياسية تتطلب التعاطي معها كحزمة واحدة، بحيث لا تنفصل "قضية العيساوي" عن "قضية الهاشمي". كما أفضى موقف المالكي الذي بات يواجه أغلب خصومة داخل "حلبة واحدة"، إلى رفع المتظاهرين والمعتصمين من مطالبهم بحيث لا تشمل إطلاق سراح أفراد حماية وزير المالية وحسب، وإنما إطلاق كافة المعتقلين في السجون العراقية وعلى رأسهم السجينات اللواتي يبلغ عددهن زهاء 1400 معتقلة. هذا بالإضافة إلى إقرار قانون العفو العام، واحترام الدستور والقوانين وعدم استهداف أيا من مكونات الشعب العراقي، وإنهاء سياسة التهميش وتصحيح مسار الحكومة وتحقيق شراكة سياسية حقيقية، وإلغاء قانون المساءلة والعدالة، واعتماد التوازن في الأجهزة الأمنية، هذا بالإضافة إلى عدم التحكم بالهيئات المستقلة وفصل تبعيتها عن الحكومة، بل وطالبت قطاعات عريضة من المتظاهرين بإسقاط المالكي ذاته.
دور المالكي
على الرغم من أن أبرز إنجازات المالكي يتمثل في مراكمة الأخطاء وافتقاد دعم الحلفاء، إلا أنه لا يمكن إنكار أن المالكي استطاع خلال السنوات السبع التي حكم فيها العراق أن ينجز العديد من المهمات الصعبة، ويوقف تصاعد أدوار الفرقاء السياسيين على النحو الذي يضمن بقاء العراق موحدا، ومتماسكا، وبما يضمن له سيطرته على كافة مقاليد الحكم في الدولة. بدا ذلك واضحا في عام 2008 من خلال الحملة العسكرية التي قامت بها القوات الأمنية العراقية على التيار الصدري. ومن خلال إصراره على رئاسة الحكومة رغم أنه لم يكن صاحب الكتلة الأكبر الفائزة في انتخابات 2010، وذلك بعد نجاحه في أن يجعل من نفسه نقطة توافق بين الإدارة الأمريكية وطهران في آن معا.
هذا بالإضافة إلى قدرته أن يظهر نفسه باعتباره الطرف العراقي القوي الذي يقف في مواجهة "التحالف الكردستاني" برفضه تنفيذ بنود اتفاق أربيل، والذي من شأنه حسب العديد من التقديرات أن يفضي إلى ضم أغلب المناطق المتنازع عليها إلى إقليم كردستان العراق، ولعل ذلك يشكل أحد العوامل التي زادت من شعبية المالكي خلال الشهور الأخيرة داخل الأوساط العربية بل وداخل القائمة العراقية نفسها، والتي يفترض أن تكون جبهة المعارضة، غير أن مشاركتها في الحكومة العراقية جعل منها شريكا أساسيا في إخفاقات حكومة المالكي، فضلا عن فشل وزرائها في اكتساب رضا المواطنين من خلال أدائهم السياسي والخدمي، واتجاههم إلى مقاطعة جلسات الحكومة مع كل أزمة سياسية على النحو الذي دفع المالكي مؤخرا إلى استبدالهم ومنحهم "أجازة مفتوحة" حسب تعبيره، لتغيبهم المستمر عن حضور جلسات مجلس الوزراء.
القضية في العراق هكذا، باتت متداخلة ومتشابكة، لا سيما أن "الائتلاف الوطني العراقي" بدوره لا يريد أن يخسر رئاسة الوزراء، وفي ذات الآن لم يعد يقبل استمرار سياسات الاستفراد بالحكم التي اتبعها المالكي خلال السنوات الماضية، لذلك أقدم على تمرير قانون يقضي بعدم أحقية تولي أيا من الرئاسات الثلاث (الجمهورية والوزراء والبرلمان) أكثر من دورتين، ثم إقرار قانون مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية، لمواجهة الاتهامات بتسييس القضاء وخضوعه لسيطرة المالكي وتوظيفه في "تصفية خصومه"، وهو الأمر الذي يؤشر إلى أن "الائتلاف الوطني" يبغي الاحتفاظ برئاسة الوزراء حتى لو أضطر للتضحية برجل العراق القوى نورى المالكي، بعدما أصبح تنامي نفوذه وسلطاته يشكل تهديدا لشركائه قبل خصومه.
ويرتبط هذا الموقف من ناحية أخرى بتنامي المخاوف من تحول المظاهرات الشعبية السلمية في محافظات المثلث السني إلى عمليات عنف وحرب أهلية طائفية، لا سيما أن المظاهرات في العراق اتسمت بالارتداد إلى الطائفية، وهو ما تتفاعل خطورته لاستدعائه ما يطلق عليه "الهويات القاتلة"، وذلك بعد خروج مظاهرات مؤيدة للمالكي في بعض محافظات الجنوب الشيعية كالنجف والبصرة وبعض المناطق في بغداد، هذا بالإضافة إلى تفجر الوضع في الفلوجة بين المتظاهرين وقوات الجيش، التي حاولت أن تحول دون وصول المواطنين إلى ساحات الاعتصام، بما أدى إلى مقتل زهاء سبع عراقيين وجرح نحو 70 آخرون، وما تبع ذلك من مقتل جنديان عراقيان وخطف ثلاثة آخرون على أطراف المدينة نفسها.
كما ترتبط هذه التطورات بطبيعة المخاوف الإقليمية والدولية من انتقال الأزمة السورية إلى الأراضي العراقية، وذلك في ظل تباين مواقف القوي السياسية العراقية حيال تطورات الأوضاع في سوريا، وذلك تبعا للانتماءات الطائفية والعرقية، وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة للتدخل على خط الأزمة من أجل دفع المالكي لتبني مقاربة سياسية تستجيب نسبيا لمطالب القوى السياسية والشعبية في المحافظات السنية، التي باتت تنظر بدورها للثورة السورية باعتبارها "ثورة سنية"، على النحو الذي يدفع لتعبئة الطاقات وشحذ الهمم استعدادا "للربيع العراقي" حال نجاح الثورة السورية في الإطاحة بـ"النظام العلوي" في دمشق.
ومن ثم، فإن هذه التطورات تشي بأن المالكي بات في حاجة خلال الفترة المتبقية من ولايته الثانية إلى إعادة النظر في إستراتجياته القديمة، بحيث لا يعتمد بقائه بالسلطة على أخطاء خصومه وهفواتهم، وقدرته على استغلال التناقضات الواضحة بين توجهاتهم ومصالحهم، وإنما عليه أن يعيد النظر في الأوضاع الاقتصادية المتردية بعد تفشي مظاهر الفقر في أغلب المحافظات العراقية، وتزايد مؤشرات الفساد داخل كافة مؤسسات الدولة، وتراجع أوضاع حقوق الإنسان، وانتهاك استقلال القضاء، وتركز سلطات الدولة في قبضته، وتراجع مؤشر الثقة بينه وبين أعضاء حكومته.
وقد يكون من المهم أن يتحقق ذلك في إطار العمل على ألا يتحول العراق بحلول ذكرى مرور عقد كامل على التحرير وإسقاط صدام حسين في أبريل المقبل إلى نموذج بحق للديمقراطية الفيدرالية والتعددية السياسية، لا حكم الفرد و"شهوة" الانتقام، التي قد يكون من شأنها أن يلوح "الربيع العراقي" في الأفق، وهو "ربيع" سيتبعه "خريف" استقرار العراق وتماسكه الجغرافي في ضوء المعطيات التي ترسخت خلال السنوات العشر الأخيرة من حيث تركز السنة في محافظات "المثلث السني" وتمتع الأكراد بإقليم شبه مستقل، هذا في وقت كشفت فيه التجربة العملية عن فشل الأكثرية الحاكمة في التخلص من تبعات الإغراق في الانتماء ا