البوعزيزية في إسرائيل .. ومستقبل الاحتجاجات الاجتماعية
مرسل: الاثنين إبريل 29, 2013 9:08 pm
شيماء أحمد منير
"كلنا موشيه سليمان" لم يعد فقط عنوانا يتردد في الصحف الإسرائيلية على نهج " كلنا خالد سعيد" في مصر، بل صار شعارا هاما في حملة الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة، وذلك منذ أن أقدم موشيه سليمان على حرق نفسه، اعتراضا على الظلم الاجتماعي، في محاولة لاستلهام تجربة محمد البوعزيزي مُفجر الثورة التونسية، وذلك بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى للاحتجاجات الاجتماعية التي اندلعت في إسرائيل في منتصف يوليو من العام الماضي. وقد أثار ذلك الحدث ردود فعل عديدة، حيث لم يرد في مخيلة أحد أن يأتى يوم وتتكرر فيه الظاهرة البوعزيزية في إسرائيل، تلك الدولة التي يراها البعض واحة الديمقراطية التي تحقق العدالة لجميع المواطنين. إلا أن المدقق سوف يلاحظ أن تلك الدولة تكتظ بالعديد من المشاكل الاجتماعية، وإن عدم بروزها علنا على السطح يعود إلى أولوية الملف الأمني الذي غالبا ما يحتل مكانة الصدارة في أجندات الحكومات المتعاقبة.
بداية يجب التأكيد على أن حالة الإحباط التى سيطرت على الجمهور الاسرائيلى خلال العام الجارى، تعود إلى استمرار نفس الأزمات والمشاكل الاجتماعية التى كانت سببا فى اندلاع احتجاجات الخيام فى صيف العام الماضى، وحيث كان الربيع العربى من بين المسببات الرئيسية لتحفيز الشعب الإسرائيلى على الخروج إلى الميادين من أجل المطالبة بالعدالة الاجتماعية، فضلا عن النظام النيو ليبرالى، الذي اتسعت دائرة الانتقادات الموجهة إليه على مستوى العالم، والذى كان المتسبب الرئيسي في إلقاء عبء العديد من المشاكل الاقتصادية والأزمات الاجتماعية عبر زمن طويل نسبيا على كاهل الطبقة الوسطى والفقيرة في إسرائيل وهو عبء لم يعد من الممكن احتماله.
وقد بادرت بإطلاق الشرارة الأولى لتلك الاحتجاجات سيدة شابة، تدعى "دافنى ليف"، حينما أقامت خيمة في جادة روتشيلد، احتجاجا على أزمة السكن وعدم قدرتها على دفع إيجار شقتها. ولم تكن تلك الظاهرة سابقة أولى فى الحراك الاجتماعى الاسرائيلى، فقد سبق وقامت بذات الفعل في بداية التسعينيات "ليفنا شرعبى"، حينما قررت الخروج للشارع، احتجاجا على سياسة الحكومة في توفير وحدات سكنية للمهاجرين الروس بمجرد وصولهم إلى الدولة، وذلك على حساب العديد من الإسرائيليين الذين يفتقدون لمسكن يقيمون فيه.
وتميزت احتجاجات عام 2011 باتساع نطاقها، ففى غضون أيام قليلة انطلقت حركات جماهيرية كبيرة من تل أبيب وامتدت إلى عدة مدن في الجنوب والشمال وفي مقدمتها بئر سبع وحيفا والعفولة. إلا أنها واجهت إشكالية عدم الاتفاق حول أرضية سياسية مشتركة، فعلى حين أنتقد عدد من الناشطين تلك الاحتجاجات واعتبروها عنصرية، وغير عادلة، نتيجة حرص عدد من قادة الاحتجاجات على عدم طرح بعض القضايا الأمنية مثل الاستيطان والاحتلال وحصار غزة، كما طالبوا بضرورة إسقاط حكومة نتنياهو باعتبارها المسئولة عن تأزم الأوضاع في البلاد، نظرا للعلاقة الوطيدة بين الأزمات الاجتماعية، والزيادات غير المسبوقة في الانفاق الضخم المخصص للشئون العسكرية والأمنية، وحيث تعد نسبة هذا الإنفاق إلى الناتج المحلى الإجمالي واحدة من أعلى النسب في العالم، كما أن أزمة السكن لها علاقة وطيدة بتزايد الدعم الحكومي المقدم للأنشطة الاستيطانية وما تتضمنه من بنى تحتية وخدمات، وذلك على حساب ميزانيات الصحة والتعليم والخدمات العامة الأخرى. إلا أنه على الجانب الأخر هناك من فضل عدم تبني أي شعارات أو مطالب سياسية، خشية حدوث تصدع في الحركة الاحتجاجية، وأن يؤدى الانقسام السياسي إلى تلاشى شعبيتها، فضلا عن الرغبة في تلقي دعم وسائل الإعلام - التي يسيطر على أغلبيتها اليمين- لتلك الاحتجاجات وتناولها برؤية تتضامن مع مطالبها، ومن ثم فضل هؤلاء التركيز فقط على مطلب "العدالة الاجتماعية". أما بالنسبة لرد فعل الحكومة، فقد قرر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تشكيل لجنة بعد أسابيع من اندلاع المظاهرات برئاسة "مانوئيل تراختنبرغ" من أجل وضع حلول مرضية لتلك المطالب الجماهيرية.
ونتيجة لبروز عدد من الملفات الأمنية تراجعت الاحتجاجات لتحتل المرتبة الثانية فى قائمة اهتمامات الجمهور الإسرائيلي، وكان في مقدمتها عملية إيلات التي وقعت في منتصف شهر أغسطس2011، فضلا عن التصعيدات الإسرائيلية ضد غزة والتي بلغت ذروتها في شهر ديسمبر من العام الماضى، والتى ساهمت فى الدفع نحو حشد الإجماع القومى في إسرائيل، على حساب الحركة الاحتجاجية. إلا أنه وعلى الرغم من تلك الهواجس الأمنية، فهناك آراء عديدة في إسرائيل ترفض ذرائع الحكومة بعدم القدرة على تقليص ميزانية الجيش والأمن، وترفض مساعيها نحو افتعال حروب من أجل الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة ويرون أن تلك التحركات سوف تحمل تداعيات أكثر خطورة على الوضع الاقتصادي المتأزم في البلاد.
وبالفعل وفى ذكرى مرور عام على احتجاجات الصيف الماضى، شهدت البلاد منذ شهر مايو من العام الجارى 2012 محاولات من قادة الاحتجاجات الاجتماعية من أجل استنهاضها وإحياءها، وقد كان استمرار التآكل فى الطبقة الوسطى من أهم الأسباب التي أججت تلك الاحتجاجات مرة أخرى هذا العام، وذلك وفقا لما تضمنه تقرير أصدره مؤخرا البنك المركزى الإسرائيلى حول الطبقة الوسطى، والذي أشار فيه إلى ما طرأ عليها من تقلص ملحوظ منذ عام 1997، حيث وصلت إلى ربع عدد السكان فقط، مشيراً إلى أن أغلب السكان يصنفون ضمن الطبقة الدنيا. فضلا عن مشكلة البطالة التي سجلت أعلى نسبة لها عام 2012 حيث وصلت إلى 7.2% مقابل 7.1% في مايو الماضي، و6.5% في نهاية العام 2011، وذلك وفقا للبيانات التي نشرتها يوم 31 يوليو 2012 دائرة الإحصاء المركزية.
وقد بلغ النشاط الاحتجاجى ذروته مع حدوث الظاهرة البوعزيزية، حينما أقدم "موشيه سليمان" على حرق نفسه، خلال تظاهرة في تل أبيب أقيمت ليلة السبت 14 يوليو 2012، ولم تكن الحادثة فردية كما حاول الإيحاء بذلك نتنياهو، حيث أقدم على تكرار الفعل ذاته الجندى الإسرائيلى "عكيبا مفايتس" يوم 22 يوليو، نتيجة للمعاملة السيئة التي يتلقاها من قسم التأهيل في وزارة الدفاع باعتباره محارب معاق في الجيش. كما أقدم شخص ثالث في الأربعينيات من العمر على حرق نفسه داخل أحد المستشفيات في منطقة "هشارون" قرب تل أبيب.
وعلى الرغم من المفردات القليلة التى تضمنتها الرسالة التي تركها سيلمان قبل هذا الحادث، والتي اتهم فيها بنيامين نتنياهو بالتقاعس عن وضع حلول حقيقية للأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي تمر بها إسرائيل، وإهانته للمواطنين وتجاهل مشاكلهم، إلا أنها كشفت ببلاغة ودقة عن الأسباب التي جعلت من حرق النفس وسيلة للاعتراض على سياسات الحكومة الإسرائيلية.
وبفضل تكرار الظاهرة البوعزيزية، بدأت الاحتجاجات تشهد زخما شعبيا عبر العديد من المدن إلاسرائيلية حيث طالب الشباب ونشطاء المنظمات الاجتماعية بإسقاط حكومة نتنياهو، إذا لم تضع حلولاً جذرية لأزمة السكن. وقد تسبب هذا الزخم الشعبي في إحراج الإعلام الموجه من قبل اليمين الحاكم، مما أضطره إلى تخصيص حيزا كبيرا من صفحات الصحف لسرد قصة سيلمان، وصار العنوان الرئيسي في وسائل الإعلام " كلنا موشيه سليمان".
إلا أن رد الحكومة كان أكثر عنفا عن العام الماضي، كما أن مصطلح أجندات لم يكن بعيدا عن توصيف تلك الاحتجاجات، حيث أتهم مدير عام الشرطة الإسرائيلية الجنرال "يوحنان دانينو"، تلك الاحتجاجات بأنها ليست شعبية، وبأنها مجرد فعاليات مدبرة ضد القانون. وأن هدف المتظاهرين من نشطاء الحركات الاجتماعية هو فرض أجندتهم الخاصة. ولم يكن تناول الإعلام للاحتجاجات منفصلا عن ذلك التوصيف، حيث اعتبرها محكومة بأجندات خاصة من جانب نشطاء اليسار المتطرف ومنظمات عربيه فوضويه تزعم أنها تطالب بالعدالة الاجتماعية.
وذلك على عكس موقف الإعلام من احتجاجات العام الماضي، التي قام بتغطيتها بشكل بدا متعاطفاً مع المطالب المشروعة للمواطنين، وذلك بسبب حرص قادة احتجاجات العام الماضي على عدم إبراز البعد السياسي لتلك الاحتجاجات، أي أن رفع شعارات ومطالب سياسية في احتجاجات عام 2012 ، كان من بين الأسباب التي أدت إلى عدم التعاطف الإعلامي مع مطالب المحتجين. وقد أكد على ذلك نتائج البحث الذي أعدته شركة ( يفعات للمعلومات والاتصال) والتي تشير إلى حدوث انخفاض بنسبة 40% في تغطية الاحتجاجات في الصحف الإسرائيلية مقارنة بالعالم الماضى. وذلك استنادا إلى تسجيل تعقيبات بأسماء مجهولة في المواقع الإخبارية تهاجم المحتجين، بذريعة أنها تظاهرات غير مرخصة، مع تبرير استخدام الشرطة للعنف ضد المتظاهرين. وقد أثرت تلك التغطية الإعلامية على محدودية القدرة على حشد الجماهير بعكس العام الماضي حيث اقترب عدد المتظاهرين من نصف مليون متظاهر في الثالث من سبتمبر2011.
وعن الفارق بينها وبين احتجاجات العام الماضى أنتقد الناشط اليساري، "أورى أفنيري" مؤسس حركة كتلة السلام في مقالة له على موقع الكتلة بتاريخ 19/05/2012 الاحتجاج "اللا سياسي"، واعتبره هروبا من الواقع، مشيرا إلى أن النضال الاجتماعي لابد ألا ينفصل عن الشق السياسي، والذي يعنى النضال لإنهاء الاحتلال ومن أجل السلام. وأن نجاح تلك الاحتجاجات يعد مرهوناً بإبراز بعدها السياسي، وهو ما يجعلها تتميز عن احتجاجات العام الماضي، وأن العدالة الاجتماعية ما هي إلا هدف سياسي يقتضى تحقيقه اقتطاع أموال من الميزانية العسكرية، ومن المخصصات المالية للمستوطنات والمتدينين، من أجل الرفاهة الاجتماعية.
أما بالنسبة لنتائج تلك الاحتجاجات، يمكن القول أنه على الرغم من تكرار الظاهرة البوعزيزية في إسرائيل، فمن المستبعد أن تؤدى إلى المطالبة بإسقاط النظام مثل دول الربيع العربي، بمعنى استبعاد أن تتصاعد الحالة الاحتجاجية إلى حالة ثورية. وأنه مهما ارتفع سقف المطالب فإنها لن تتجاوز حد إحداث تغييرات طفيفة في النظام الاقتصادي الإسرائيلي، وذلك دون المساس بالنظام السياسى الإسرائيلى القائم. ويعود ذلك إلى خصوصية نشأة الدولة التي تستمد وجودها وبقاءها من التوسع الاستيطانى غير المشروع، بما يعنى أنه من الصعوبة المجاهرة بأن أزمة السكن، يعود جزء منها إلى تخصيص الحكومة مبالغ طائلة فى إنشاء المستوطنات وتأمينها. فضلا عن أن نشأة الدولة الإسرائيلية سبقت تدشين المجتمع على عكس مجتمعات دول الربيع العربي، التى قامت بإنشاء الدولة ومن ثم الأنظمة الحاكمة. أى أن المطالبة بإسقاط النظام يعنى المساس بكيان الدولة، التي تبدوا شبه مستقرة ومتماسكة - بسبب الذرائع الأمنية التي تحقق الإجماع الوطنى - على الرغم من الانقسام الذي يعانيه المجتمع الإسرائيلي، والذي صارت بمقتضاه الدولة أشبه بفدرالية تتكون من خمس كتل ديموغرافية- ثقافية، وهى الاشكناز؛ و الشرقيون، الذين يطلق عليهم "السفراديم"؛ والمتدينون، الذين ينقسمون بين اشكناز وشرقيون؛ و الـ"روس" الذين أتوا من جميع دول الاتحاد السوفييتي سابقا؛ وأخيرا المواطنون العرب. ومن ثم فإن تلك الطبيعة التى تميز دولة إسرائيل، ستنعكس على تلك الاحتجاجات الاجتماعية وستضفى عليها خصوصية لا تجعلها ترتقى إلى الحالة الثورية التي اجتاحت دول الربيع العربى.
من مجمل ما سبق يمكن القول أنه طالما تم الحديث باستحياء عن البعد السياسي للاحتجاجات، مع عدم المجاهرة بمخاطر الاستيطان والمطالبة بالعدالة الاجتماعية للمواطنين العرب، فإن تلك الاحتجاجات ستبقى قاصرة عن تحقيق أهدافها المنشودة. وخير دليل على ذلك سياسة التقشف التي أعلنت عنها الحكومة الإسرائيلية والتي تعد صادمة للجماهير الغاضبة، وتسببت فى خروج مسيرات احتجاجية اعتراضا عليها.
ويؤكد هذا أنه مهما تعاظمت تلك الاحتجاجات فإنها ربما لن تسفر سوى عن تبكير الانتخابات. خاصة وأن نتنياهو يراهن على تلاشى الزخم الشعبي لتلك الاحتجاجات، وتراجعها مجددا أمام العديد من الاستحقاقات الأمنية المطروحة أمام الحكومة الإسرائيلية، ويأتي في مقدمتها ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية، والملف النووى الإيرانى، فضلا عن الفراغ الأمني في سيناء الذي تسبب في مذبحة رفح التي حدثت يوم 5 أغسطس2012 وأسفرت عن مقتل ما يقرب من 16 جنديا مصريا، وأخيرا التغييرات الجوهرية التى قام بها الرئيس محمد مرسى فى قيادات المجلس العسكرى.
ومن ثم وكما هي العادة فإن الاستحقاقات الأمنية ستمثل طوق النجاة للحكومات الإسرائيلية وأداة فعالة لإسكات الأصوات المطالبة بالعدالة الاجتماعية.
.
الآراء الواردة بهذه المتابعة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز أو مؤسسة الأهرام
"كلنا موشيه سليمان" لم يعد فقط عنوانا يتردد في الصحف الإسرائيلية على نهج " كلنا خالد سعيد" في مصر، بل صار شعارا هاما في حملة الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة، وذلك منذ أن أقدم موشيه سليمان على حرق نفسه، اعتراضا على الظلم الاجتماعي، في محاولة لاستلهام تجربة محمد البوعزيزي مُفجر الثورة التونسية، وذلك بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى للاحتجاجات الاجتماعية التي اندلعت في إسرائيل في منتصف يوليو من العام الماضي. وقد أثار ذلك الحدث ردود فعل عديدة، حيث لم يرد في مخيلة أحد أن يأتى يوم وتتكرر فيه الظاهرة البوعزيزية في إسرائيل، تلك الدولة التي يراها البعض واحة الديمقراطية التي تحقق العدالة لجميع المواطنين. إلا أن المدقق سوف يلاحظ أن تلك الدولة تكتظ بالعديد من المشاكل الاجتماعية، وإن عدم بروزها علنا على السطح يعود إلى أولوية الملف الأمني الذي غالبا ما يحتل مكانة الصدارة في أجندات الحكومات المتعاقبة.
بداية يجب التأكيد على أن حالة الإحباط التى سيطرت على الجمهور الاسرائيلى خلال العام الجارى، تعود إلى استمرار نفس الأزمات والمشاكل الاجتماعية التى كانت سببا فى اندلاع احتجاجات الخيام فى صيف العام الماضى، وحيث كان الربيع العربى من بين المسببات الرئيسية لتحفيز الشعب الإسرائيلى على الخروج إلى الميادين من أجل المطالبة بالعدالة الاجتماعية، فضلا عن النظام النيو ليبرالى، الذي اتسعت دائرة الانتقادات الموجهة إليه على مستوى العالم، والذى كان المتسبب الرئيسي في إلقاء عبء العديد من المشاكل الاقتصادية والأزمات الاجتماعية عبر زمن طويل نسبيا على كاهل الطبقة الوسطى والفقيرة في إسرائيل وهو عبء لم يعد من الممكن احتماله.
وقد بادرت بإطلاق الشرارة الأولى لتلك الاحتجاجات سيدة شابة، تدعى "دافنى ليف"، حينما أقامت خيمة في جادة روتشيلد، احتجاجا على أزمة السكن وعدم قدرتها على دفع إيجار شقتها. ولم تكن تلك الظاهرة سابقة أولى فى الحراك الاجتماعى الاسرائيلى، فقد سبق وقامت بذات الفعل في بداية التسعينيات "ليفنا شرعبى"، حينما قررت الخروج للشارع، احتجاجا على سياسة الحكومة في توفير وحدات سكنية للمهاجرين الروس بمجرد وصولهم إلى الدولة، وذلك على حساب العديد من الإسرائيليين الذين يفتقدون لمسكن يقيمون فيه.
وتميزت احتجاجات عام 2011 باتساع نطاقها، ففى غضون أيام قليلة انطلقت حركات جماهيرية كبيرة من تل أبيب وامتدت إلى عدة مدن في الجنوب والشمال وفي مقدمتها بئر سبع وحيفا والعفولة. إلا أنها واجهت إشكالية عدم الاتفاق حول أرضية سياسية مشتركة، فعلى حين أنتقد عدد من الناشطين تلك الاحتجاجات واعتبروها عنصرية، وغير عادلة، نتيجة حرص عدد من قادة الاحتجاجات على عدم طرح بعض القضايا الأمنية مثل الاستيطان والاحتلال وحصار غزة، كما طالبوا بضرورة إسقاط حكومة نتنياهو باعتبارها المسئولة عن تأزم الأوضاع في البلاد، نظرا للعلاقة الوطيدة بين الأزمات الاجتماعية، والزيادات غير المسبوقة في الانفاق الضخم المخصص للشئون العسكرية والأمنية، وحيث تعد نسبة هذا الإنفاق إلى الناتج المحلى الإجمالي واحدة من أعلى النسب في العالم، كما أن أزمة السكن لها علاقة وطيدة بتزايد الدعم الحكومي المقدم للأنشطة الاستيطانية وما تتضمنه من بنى تحتية وخدمات، وذلك على حساب ميزانيات الصحة والتعليم والخدمات العامة الأخرى. إلا أنه على الجانب الأخر هناك من فضل عدم تبني أي شعارات أو مطالب سياسية، خشية حدوث تصدع في الحركة الاحتجاجية، وأن يؤدى الانقسام السياسي إلى تلاشى شعبيتها، فضلا عن الرغبة في تلقي دعم وسائل الإعلام - التي يسيطر على أغلبيتها اليمين- لتلك الاحتجاجات وتناولها برؤية تتضامن مع مطالبها، ومن ثم فضل هؤلاء التركيز فقط على مطلب "العدالة الاجتماعية". أما بالنسبة لرد فعل الحكومة، فقد قرر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تشكيل لجنة بعد أسابيع من اندلاع المظاهرات برئاسة "مانوئيل تراختنبرغ" من أجل وضع حلول مرضية لتلك المطالب الجماهيرية.
ونتيجة لبروز عدد من الملفات الأمنية تراجعت الاحتجاجات لتحتل المرتبة الثانية فى قائمة اهتمامات الجمهور الإسرائيلي، وكان في مقدمتها عملية إيلات التي وقعت في منتصف شهر أغسطس2011، فضلا عن التصعيدات الإسرائيلية ضد غزة والتي بلغت ذروتها في شهر ديسمبر من العام الماضى، والتى ساهمت فى الدفع نحو حشد الإجماع القومى في إسرائيل، على حساب الحركة الاحتجاجية. إلا أنه وعلى الرغم من تلك الهواجس الأمنية، فهناك آراء عديدة في إسرائيل ترفض ذرائع الحكومة بعدم القدرة على تقليص ميزانية الجيش والأمن، وترفض مساعيها نحو افتعال حروب من أجل الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة ويرون أن تلك التحركات سوف تحمل تداعيات أكثر خطورة على الوضع الاقتصادي المتأزم في البلاد.
وبالفعل وفى ذكرى مرور عام على احتجاجات الصيف الماضى، شهدت البلاد منذ شهر مايو من العام الجارى 2012 محاولات من قادة الاحتجاجات الاجتماعية من أجل استنهاضها وإحياءها، وقد كان استمرار التآكل فى الطبقة الوسطى من أهم الأسباب التي أججت تلك الاحتجاجات مرة أخرى هذا العام، وذلك وفقا لما تضمنه تقرير أصدره مؤخرا البنك المركزى الإسرائيلى حول الطبقة الوسطى، والذي أشار فيه إلى ما طرأ عليها من تقلص ملحوظ منذ عام 1997، حيث وصلت إلى ربع عدد السكان فقط، مشيراً إلى أن أغلب السكان يصنفون ضمن الطبقة الدنيا. فضلا عن مشكلة البطالة التي سجلت أعلى نسبة لها عام 2012 حيث وصلت إلى 7.2% مقابل 7.1% في مايو الماضي، و6.5% في نهاية العام 2011، وذلك وفقا للبيانات التي نشرتها يوم 31 يوليو 2012 دائرة الإحصاء المركزية.
وقد بلغ النشاط الاحتجاجى ذروته مع حدوث الظاهرة البوعزيزية، حينما أقدم "موشيه سليمان" على حرق نفسه، خلال تظاهرة في تل أبيب أقيمت ليلة السبت 14 يوليو 2012، ولم تكن الحادثة فردية كما حاول الإيحاء بذلك نتنياهو، حيث أقدم على تكرار الفعل ذاته الجندى الإسرائيلى "عكيبا مفايتس" يوم 22 يوليو، نتيجة للمعاملة السيئة التي يتلقاها من قسم التأهيل في وزارة الدفاع باعتباره محارب معاق في الجيش. كما أقدم شخص ثالث في الأربعينيات من العمر على حرق نفسه داخل أحد المستشفيات في منطقة "هشارون" قرب تل أبيب.
وعلى الرغم من المفردات القليلة التى تضمنتها الرسالة التي تركها سيلمان قبل هذا الحادث، والتي اتهم فيها بنيامين نتنياهو بالتقاعس عن وضع حلول حقيقية للأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي تمر بها إسرائيل، وإهانته للمواطنين وتجاهل مشاكلهم، إلا أنها كشفت ببلاغة ودقة عن الأسباب التي جعلت من حرق النفس وسيلة للاعتراض على سياسات الحكومة الإسرائيلية.
وبفضل تكرار الظاهرة البوعزيزية، بدأت الاحتجاجات تشهد زخما شعبيا عبر العديد من المدن إلاسرائيلية حيث طالب الشباب ونشطاء المنظمات الاجتماعية بإسقاط حكومة نتنياهو، إذا لم تضع حلولاً جذرية لأزمة السكن. وقد تسبب هذا الزخم الشعبي في إحراج الإعلام الموجه من قبل اليمين الحاكم، مما أضطره إلى تخصيص حيزا كبيرا من صفحات الصحف لسرد قصة سيلمان، وصار العنوان الرئيسي في وسائل الإعلام " كلنا موشيه سليمان".
إلا أن رد الحكومة كان أكثر عنفا عن العام الماضي، كما أن مصطلح أجندات لم يكن بعيدا عن توصيف تلك الاحتجاجات، حيث أتهم مدير عام الشرطة الإسرائيلية الجنرال "يوحنان دانينو"، تلك الاحتجاجات بأنها ليست شعبية، وبأنها مجرد فعاليات مدبرة ضد القانون. وأن هدف المتظاهرين من نشطاء الحركات الاجتماعية هو فرض أجندتهم الخاصة. ولم يكن تناول الإعلام للاحتجاجات منفصلا عن ذلك التوصيف، حيث اعتبرها محكومة بأجندات خاصة من جانب نشطاء اليسار المتطرف ومنظمات عربيه فوضويه تزعم أنها تطالب بالعدالة الاجتماعية.
وذلك على عكس موقف الإعلام من احتجاجات العام الماضي، التي قام بتغطيتها بشكل بدا متعاطفاً مع المطالب المشروعة للمواطنين، وذلك بسبب حرص قادة احتجاجات العام الماضي على عدم إبراز البعد السياسي لتلك الاحتجاجات، أي أن رفع شعارات ومطالب سياسية في احتجاجات عام 2012 ، كان من بين الأسباب التي أدت إلى عدم التعاطف الإعلامي مع مطالب المحتجين. وقد أكد على ذلك نتائج البحث الذي أعدته شركة ( يفعات للمعلومات والاتصال) والتي تشير إلى حدوث انخفاض بنسبة 40% في تغطية الاحتجاجات في الصحف الإسرائيلية مقارنة بالعالم الماضى. وذلك استنادا إلى تسجيل تعقيبات بأسماء مجهولة في المواقع الإخبارية تهاجم المحتجين، بذريعة أنها تظاهرات غير مرخصة، مع تبرير استخدام الشرطة للعنف ضد المتظاهرين. وقد أثرت تلك التغطية الإعلامية على محدودية القدرة على حشد الجماهير بعكس العام الماضي حيث اقترب عدد المتظاهرين من نصف مليون متظاهر في الثالث من سبتمبر2011.
وعن الفارق بينها وبين احتجاجات العام الماضى أنتقد الناشط اليساري، "أورى أفنيري" مؤسس حركة كتلة السلام في مقالة له على موقع الكتلة بتاريخ 19/05/2012 الاحتجاج "اللا سياسي"، واعتبره هروبا من الواقع، مشيرا إلى أن النضال الاجتماعي لابد ألا ينفصل عن الشق السياسي، والذي يعنى النضال لإنهاء الاحتلال ومن أجل السلام. وأن نجاح تلك الاحتجاجات يعد مرهوناً بإبراز بعدها السياسي، وهو ما يجعلها تتميز عن احتجاجات العام الماضي، وأن العدالة الاجتماعية ما هي إلا هدف سياسي يقتضى تحقيقه اقتطاع أموال من الميزانية العسكرية، ومن المخصصات المالية للمستوطنات والمتدينين، من أجل الرفاهة الاجتماعية.
أما بالنسبة لنتائج تلك الاحتجاجات، يمكن القول أنه على الرغم من تكرار الظاهرة البوعزيزية في إسرائيل، فمن المستبعد أن تؤدى إلى المطالبة بإسقاط النظام مثل دول الربيع العربي، بمعنى استبعاد أن تتصاعد الحالة الاحتجاجية إلى حالة ثورية. وأنه مهما ارتفع سقف المطالب فإنها لن تتجاوز حد إحداث تغييرات طفيفة في النظام الاقتصادي الإسرائيلي، وذلك دون المساس بالنظام السياسى الإسرائيلى القائم. ويعود ذلك إلى خصوصية نشأة الدولة التي تستمد وجودها وبقاءها من التوسع الاستيطانى غير المشروع، بما يعنى أنه من الصعوبة المجاهرة بأن أزمة السكن، يعود جزء منها إلى تخصيص الحكومة مبالغ طائلة فى إنشاء المستوطنات وتأمينها. فضلا عن أن نشأة الدولة الإسرائيلية سبقت تدشين المجتمع على عكس مجتمعات دول الربيع العربي، التى قامت بإنشاء الدولة ومن ثم الأنظمة الحاكمة. أى أن المطالبة بإسقاط النظام يعنى المساس بكيان الدولة، التي تبدوا شبه مستقرة ومتماسكة - بسبب الذرائع الأمنية التي تحقق الإجماع الوطنى - على الرغم من الانقسام الذي يعانيه المجتمع الإسرائيلي، والذي صارت بمقتضاه الدولة أشبه بفدرالية تتكون من خمس كتل ديموغرافية- ثقافية، وهى الاشكناز؛ و الشرقيون، الذين يطلق عليهم "السفراديم"؛ والمتدينون، الذين ينقسمون بين اشكناز وشرقيون؛ و الـ"روس" الذين أتوا من جميع دول الاتحاد السوفييتي سابقا؛ وأخيرا المواطنون العرب. ومن ثم فإن تلك الطبيعة التى تميز دولة إسرائيل، ستنعكس على تلك الاحتجاجات الاجتماعية وستضفى عليها خصوصية لا تجعلها ترتقى إلى الحالة الثورية التي اجتاحت دول الربيع العربى.
من مجمل ما سبق يمكن القول أنه طالما تم الحديث باستحياء عن البعد السياسي للاحتجاجات، مع عدم المجاهرة بمخاطر الاستيطان والمطالبة بالعدالة الاجتماعية للمواطنين العرب، فإن تلك الاحتجاجات ستبقى قاصرة عن تحقيق أهدافها المنشودة. وخير دليل على ذلك سياسة التقشف التي أعلنت عنها الحكومة الإسرائيلية والتي تعد صادمة للجماهير الغاضبة، وتسببت فى خروج مسيرات احتجاجية اعتراضا عليها.
ويؤكد هذا أنه مهما تعاظمت تلك الاحتجاجات فإنها ربما لن تسفر سوى عن تبكير الانتخابات. خاصة وأن نتنياهو يراهن على تلاشى الزخم الشعبي لتلك الاحتجاجات، وتراجعها مجددا أمام العديد من الاستحقاقات الأمنية المطروحة أمام الحكومة الإسرائيلية، ويأتي في مقدمتها ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية، والملف النووى الإيرانى، فضلا عن الفراغ الأمني في سيناء الذي تسبب في مذبحة رفح التي حدثت يوم 5 أغسطس2012 وأسفرت عن مقتل ما يقرب من 16 جنديا مصريا، وأخيرا التغييرات الجوهرية التى قام بها الرئيس محمد مرسى فى قيادات المجلس العسكرى.
ومن ثم وكما هي العادة فإن الاستحقاقات الأمنية ستمثل طوق النجاة للحكومات الإسرائيلية وأداة فعالة لإسكات الأصوات المطالبة بالعدالة الاجتماعية.
.
الآراء الواردة بهذه المتابعة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز أو مؤسسة الأهرام