- الاثنين إبريل 29, 2013 11:57 pm
#61384
انّ المستشرقين هم أول من صاغ القناعة السائدة _حالياً _ في الغرب، والتي يرددها ايضاً المثقفون المتغربون، والقائلة بوجود علاقة تناقضية بين الالتزام الديني في الإسلام وبين حرية الفكر. ويستدلّون على تأخر العالم الإسلامي، بهذه العلاقة التي انتجت سيادة لون واحد من التفكير وغلبة الرقابة المؤسسيَّة، التي تمثّلها المؤسسة الدينية على الوان النشاط الفكري، والرقابة الذاتية التي يفرضها الفرد المسلم خشية خروجه على الاطار الإسلامي، إذا ما أعطى لعقله حرية الانطلاق في عالم الفكر، وارتياد المجهول والتفكير في اللامُفكَّر فيه.
لقد أُعيد البحث في هذا الموضوع مع ظهور فتنة المرتد سلمان رشدي. ومارس الغرب لعبته الثقافية مهاجماً الإسلام ومستهدفاً إعادة انتاج النموذج الاوربي في المنطقة الإسلامية، وشن حرباً إعلامية ضدّ القوى الإسلامية، من خلال معاكسة حركة الاحياء القوية، وتصويرها حالة ارتدادية تعمل ضدّ التقدم، لأنّ طريق التقدم، ما انفَكّ يتأسس في العقل الغربي على القطع مع الفكر الديني ونبذه، والتحرر من جميع التزاماته والزاماته وقيوده.
ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذه المفارقة، إلاّ أننا في بداية الحديث نسجل اعترافنا بأنّ الحرية الفكرية تفتح عوالم جديدة أمام الإنسان والمجتمع، للوصول الى ما يريدان الوصول اليه، وان الابداع رهين بكسر حواجز الاستبداد والصنميّة، مثلما ان الكمال مشروط بتمزيق الحجب وكسر القيود الذاتية، التي تمنع الانطلاق في عالم الحقيقة الرحيب.
***
ولكنّ المشكلة التي تواجهنا هي أننا بحاجة الى تعريف لحدود الحرية الفكرية، وتشخيص لسقفها الأعلى. فليس هناك اتفاق على حدود هذه الحرية في جميع البيئات الثقافية والدينية، وإنّما أصبح القياس يرتكز دائماً على استحضار حدود الحرية الليبرالية، التي عاشها الغرب وأسهمت في نهوضه. ومن لم يتمكّن من مطابقة وضعه مع أوضاع الغرب فانّه يبقى متخلّفاً أو مُتَّهماً، كأنّ هناك تماثلاً في درجة القداسة بين القانون الديني والقانون الوضعي.
وبسبب الحالة الدفاعية التي عاشها الفكر الإسلامي، فانّ الخطاب الاحتجاجي الذي استخدمه الإسلاميون لتأكيد وجود الحرية الفكرية في الإسلام، لجأ الى التذكير بالتاريخ والماضي البعيد، والمقارنة مع الواقع الذي عاشته أوربا في القرون الوسطى، تحت سلطة الكنيسة. وليس لأحد الحق في نكران ما قدّمه الإسلام من نموذج متطور في قرونه الأولى، غير أنّ المشكلة القائمة هي مشكلة الواقع الحالي فتأريخ المسلمين المعاصر والحديث، لايصلح للاحتجاج بوجود الحرية الفكرية، وذلك لسيادة أنواع من القيود المختلفة على حريّة التفكير، مصدرها الفَهم الديني والأعراف الاجتماعية، وبالخصوص القيود السلطوية التي فرضتها مؤسسات الحكم.
ومن هنا، كان لزاماً على من يتصدّى لمعالجة قضية الحرية في الإسلام، أن يؤسّس وعياً جديداً في الوسط الاجتماعي، ولا سيما في الاوساط الفكرية والثقافية لتصبح مصدر تنوير، يوضّح أهمية ممارسة هذا الحق الطبيعي والشرعي، وأهمية كسر الأغلال التي تحول دون ذلك. ويستلزم الأمر _أولاً _ تأصيل الحرية مفهومياً وفلسفياً من جديد، وردّ الاتهامات والشبهات وسوء الفهم، لبناء الوعي النظري بها، وثانياً تحديد حدود هذه الحرية، أي التأسيس القانوني لها، وهو الجانب المرتبط بالفقه والممارسة العملية.
وقد ساهمت الرموز الفكرية في المعركة في شقّها الأول، وتناولت في العديد من الابحاث المبثوثة والمستقلّة موضوع الحرية في الاسلام، وبضمنها الحرية الفكرية، لكنّ هذه الابحاث اقتصرت على الجانب المفهومي النظري، ولم يتبعها تقنين واضح يحدّد للإنسان المسلم تكليفه. فقد كتب العلامة المرحوم السيد محمد حسين الطباطبائي عن الحرية الفكرية في ثنايا تفسيره الشهير (الميزان في تفسير القرآن). وكتب المفكّر الشهيد السيد محمد باقر الصدر عن الموضوع ذاته في "المدرسة الإسلامية". وتناولها العلامة السيد محمد حسين فضل الله والعلامة الشهيد مرتضى المطّهري، والشهيد سيد قطب، والشهيد الدكتور صبحي الصالح. كما تناولتها البحوث المتأخرة والمهتمّة بتدوين ميثاق اسلامي لحقوق الانسان. وبيان تمايزاته عن الميثاق الذي صاغته العقلية الغربية. وقد أسهم في هذه البحوث أساتذة أجلاّء، الا ان المشكلة ظلت قائمة عمليّاً، فحدود الحرية الفكرية ربما تكون واضحة نظرياً، إلاّ أنّها عملياً غير واضحة وهناك بعض الأمثلة على ذلك، منها أننا لازلنا نعيش مشكلة الحدود النهائية للمغامرة الفكرية والفنيّة والادبية. ولم نتوصّل الى اتفاق حولها، مع التسليم بأنّ القيود التي وضعها الإسلام محدودة ولا تتجاوز نطاقاً ضيّقاً. أي أنّ هناك قيوداً ذهنية واجتماعية، تعمل عمل الكوابح التي تحول دون انطلاق حرية الفكر. ولسنا نطالبُ بحرية غير مسؤولة، وبأدب وفن يتعدّى الذوق الاخلاقي والحدود الشرعية. ولكنّ صرامة الموقف تعكس رؤية فكرية وفلسفية، خاصة، وبالتالي فانّ ردّ الفعل العنيف الذي يظهر أحياناً على شكل اطروحات داخل الصف الإسلامي، يعكس وجهة نظر متشدّدة، ولكنّها صادقة ومخلصة، ومشكلتها أنّها تصدر عن عقلية تفهم الإسلام على طريقتها، بينما يفهمه آخرون بطريقة مغايرة، اننا نُواجَه أحياناً بحالات تتطلب موقفاً حاسماً، يكون البتّ فيه تحديداً لموقف الإسلام من الحرية الفكرية. إذ هل يستطيع إنسان مسلم ملتزم لا يُشكُّ في نواياه، أن يبحث ويحقّق في قضايا تاريخية، ويعطي فيها رأياً استنتاجياً أو اجتهادياً، دون رقابة إجتماعية أو مؤسساتية مباشرة وغير مباشرة، لمجرد انها تصدم الوعي السائد أو تطيح بقداسة موروثات مقدّسة ومتعارف على قداستها. ودون أن يتّهم بتهم مختلفة _كالطائفية مثلاً _ فيُتّهم في الوسط الشيعي بانه سنّي، أو في الوسط السنّي بانه يتشيع! وهل يمكن لعالم أو مثقف أن يعبّر عن رأي غير متداول ولا تستسيغه الذهنية العامّة، وله انعكاسات جدّية، وهو مطمئن الى انّه يمارس حقّ التفكير من داخل الدائرة الاسلامية، وله أن يعبر عن رأيه دون أن يساء تفسير ذلك الرأي، أو دون ان تصدر ضدّه ردود فعل حادّة؟ وهل يستطيع باحث مسلم، أن يبدي رأياً اجتماعياً في قضايا اسلامية، قد تحُدث نوعاً من الهزة في السكينة السائدة، دون أن يقال له انّ افكاره تهدم عقيدة عوامّ الناس وتزلزل تديّنهم، ولا يفهم موقفه على انّه اجتهاد في دائرة الاجتهاد المفتوح؟.
قد يقال انّ هذه القيود لا علاقة لها بالاسلام من حيث المبدأ. ولكنّها ترتبط بالواقع الاسلامي من حيث تعقيداته وتقاليده، وتتعلق أساساً بالفهم الديني وليس بجوهر الدين الاسلامي.
هذه الاسئلة تحتاج الى جواب جدّي. فاذا كنّا نقول انّ بداية الحرية الفكرية في الإسلام مفتوحة على مصراعيها _وهي كذلك _ فلماذا تضيق بعض الاوساط الاسلامية بالرأي المغاير داخل الدائرة الاسلامية نفسها، فضلاً عن الرأي الآخر الذي قد لا يلتقي معها أبداً؟ ولماذا يتصاعد الخلاف ويتحول الى تراشق عنيف بالتهم، كما حصل مثلاً في الصراع بين أنصار ثورة الدستور (المشروطة) وأنصار (المشروعة) في ايران، قبل قرن من الزمان تقريباً، وقبل ان تنحرف المعركة لاحقاً، أو كما يحصل في واقعنا المعاصر حول الكثير من القضايا التي تنطلق في الساحة الفكرية.
أعتقد أننا مازلنا ندور في حلق التأصيل النظري مأخذوين بالحالة الدفاعية التي تحاول ان تنفي عن الاسلام تهمه تقييد الحريّة الفكرية. فيما الواقع العملي لا يبدّد هذه التهمة. والسبب في ذلك، عدم وضوح الحدود التي ترسم سقف الممارسة العملية، ويعود الأمر الى تخلّف الفقه السياسي بالقياس الى فروع الفقه الاخرى. وهذا ناشيء _بدوره _ عن وجود أسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا.
ان الدفاع عن الاسلام، عبر إظهار مثالب الحرية الليبرالية لا ينفع الاسلام في شيء، لانّ المعركة تكون قد جرت على أرض الاسلام، وبما أنّ نموذج الليبرالية قائم وله بريقه الخادع، فانّ الاذهان تنصرف الى النموذج العملي الأضعف. ولو انّنا اعترفنا بصراحة بأنّ الاسلام لا يماثل الليبرالية، وله تعريفه الخاص للحرية، ولحدود ممارستها والتعبير عنها، وانه يرفض الحرية المطلقة ويضع قيوداً على الحريات المتداولة والممارسة في البيئة غير الاسلامية، ولا يجيزها أصلاً، فلا يسمح بأدب خليع وفكر يعادي الغيب والتوحيد والايمان، ويشكّك بضروريات الدين، باسم العقل والعلم، لكان ذلك اجدى وأنفع، نلاحظ _مثلاً _ ضجّةً كبيرة تثار حول كتب منعها الأزهر، تعرّض فيها كتّابها ومؤلفوها الى التشكيك بضروريات الدين أو الاساءة لحرمة الانبياء وعصمتهم. وتدوّي اثر ذلك الصيحات العلمانية التي تتحدث عن معاداة الاسلام لحرية الفكر. ثمَّ تعاد الكّرة من جديدة حول قضية مماثلة ليتكرر الجدل، المقصود منه حشر الاسلاميين في الزاوية الدفاعية دائماً.
ان التعبير عن الفكر والدعوة اليه في مجتمع مسلم، تحكمه سلطة علمانية، أو سلطة اسلامية شرعية، تتحول الى تقنين واضح يصدر عن الشريعة الاسلامية في خطوط تفصيلية. بحيث يعرف الانسان المسلم واجبه وموقفه، ويتمكن من التمييز بين الفكر الذي يصدر عن عقلية علمانية وله مقاصد وغايات تخريبية، وبين فكر يصدر عن عقلية مسلمة ملتزمة، ولكنه ينطوي على تجديد أو ابداع أو نقد للواقع، في محاولة لتغييره نحو الأحسن، وبما ينسجم مع الرؤية الاسلامية وليس لتخريبها أو معاكستها. ومثل هذا التمييز ضروري، حتى لا يتساوى ردّ الفعل ويضيع الفكر البنّاء في زحمة الفكر الهدام، ويُدفع الفكر الإسلامي بنعوت وتُهم لمجرد سوء الفهم، أو لصعوبة هضمه من قبل العقلية التقليدية. فليست وظيفة المفكّر الانسجام مع الفكر الموجود، بل وظيفته الابداع والاضافة والتجديد، وكل جديد يحمل صفة المعارضة والنقد والنقض لما هو موجود أو للبعض منه على الاقل، لابدّ ان يستثير جميع المعارضين والمحافظين. وعليه يكون من الضروري تحديد حدود دائرة الحرية، وإن كان هذا التحديد مرفوضاً على اساس انّه قيد مرسوم، ومادمنا نقرّ بأنّ الاسلام يضع الضوابط والقيود، فلنسم هذه الضوابط والقيود حدوداً يكون متجاوزها قد خرج عَن جادّة الصواب.
وهناك صعوبة في ترسيم هذه الحدود ولكنّ التفكير بها جدّياً أمر ملحّ وضروري. لأنّ عنوان كتب الضلال _الذي وضعه الفقهاء _ لا يمكن أن يسري على آراء علماء أو مثقفين، قصدوا منها التعبير عن أفكار يعتقدون بسلامتها، شرعياً وعقائدياً، وجدواها في اصلاح المجتمع، واعادة بناء فهمه للاسلام. مثلما هو مثار حالياً هذه الايام حول دور العلوم الانسانية الحديثة في فهم النص الاسلامي المقدّس.
إنّ أنصار الحرية الفكرية ربما كانوا يقولون اتركوا له الحرية، ونحن نقارع الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة ومن أراد الاهتداء الى الحق أو زاغت به قدماه الى الباطل فذنبه على نفسه.
ولكنّ الاسلام لا يمنع أحداً من ابداء القول الذي يعتقد به، ومثلما واجه المسلمون حركات الزنادقة، ومثلما عاصروا ابا شاكر الديصاني وابن ابي العوجاء، وانتهى فكر هؤلاء ولم يصمد، فانّ إتاحة المجال لافكار أمثالهم لن يضرّ المسلمين في شيء، غير انّ واقع الحال يشير الى انّ هذا الموقف المبدئي تترتب عليه بعض السلبيات. وانّ الحرية الفكرية غير المنضبطة، تقود أحياناً الى الشطط والاسفاف والضلال، وانّ الحدّ منها يقود الى الانغلاق والتحجّر وهيمنة الجهل والخرافة.
لقد أُعيد البحث في هذا الموضوع مع ظهور فتنة المرتد سلمان رشدي. ومارس الغرب لعبته الثقافية مهاجماً الإسلام ومستهدفاً إعادة انتاج النموذج الاوربي في المنطقة الإسلامية، وشن حرباً إعلامية ضدّ القوى الإسلامية، من خلال معاكسة حركة الاحياء القوية، وتصويرها حالة ارتدادية تعمل ضدّ التقدم، لأنّ طريق التقدم، ما انفَكّ يتأسس في العقل الغربي على القطع مع الفكر الديني ونبذه، والتحرر من جميع التزاماته والزاماته وقيوده.
ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذه المفارقة، إلاّ أننا في بداية الحديث نسجل اعترافنا بأنّ الحرية الفكرية تفتح عوالم جديدة أمام الإنسان والمجتمع، للوصول الى ما يريدان الوصول اليه، وان الابداع رهين بكسر حواجز الاستبداد والصنميّة، مثلما ان الكمال مشروط بتمزيق الحجب وكسر القيود الذاتية، التي تمنع الانطلاق في عالم الحقيقة الرحيب.
***
ولكنّ المشكلة التي تواجهنا هي أننا بحاجة الى تعريف لحدود الحرية الفكرية، وتشخيص لسقفها الأعلى. فليس هناك اتفاق على حدود هذه الحرية في جميع البيئات الثقافية والدينية، وإنّما أصبح القياس يرتكز دائماً على استحضار حدود الحرية الليبرالية، التي عاشها الغرب وأسهمت في نهوضه. ومن لم يتمكّن من مطابقة وضعه مع أوضاع الغرب فانّه يبقى متخلّفاً أو مُتَّهماً، كأنّ هناك تماثلاً في درجة القداسة بين القانون الديني والقانون الوضعي.
وبسبب الحالة الدفاعية التي عاشها الفكر الإسلامي، فانّ الخطاب الاحتجاجي الذي استخدمه الإسلاميون لتأكيد وجود الحرية الفكرية في الإسلام، لجأ الى التذكير بالتاريخ والماضي البعيد، والمقارنة مع الواقع الذي عاشته أوربا في القرون الوسطى، تحت سلطة الكنيسة. وليس لأحد الحق في نكران ما قدّمه الإسلام من نموذج متطور في قرونه الأولى، غير أنّ المشكلة القائمة هي مشكلة الواقع الحالي فتأريخ المسلمين المعاصر والحديث، لايصلح للاحتجاج بوجود الحرية الفكرية، وذلك لسيادة أنواع من القيود المختلفة على حريّة التفكير، مصدرها الفَهم الديني والأعراف الاجتماعية، وبالخصوص القيود السلطوية التي فرضتها مؤسسات الحكم.
ومن هنا، كان لزاماً على من يتصدّى لمعالجة قضية الحرية في الإسلام، أن يؤسّس وعياً جديداً في الوسط الاجتماعي، ولا سيما في الاوساط الفكرية والثقافية لتصبح مصدر تنوير، يوضّح أهمية ممارسة هذا الحق الطبيعي والشرعي، وأهمية كسر الأغلال التي تحول دون ذلك. ويستلزم الأمر _أولاً _ تأصيل الحرية مفهومياً وفلسفياً من جديد، وردّ الاتهامات والشبهات وسوء الفهم، لبناء الوعي النظري بها، وثانياً تحديد حدود هذه الحرية، أي التأسيس القانوني لها، وهو الجانب المرتبط بالفقه والممارسة العملية.
وقد ساهمت الرموز الفكرية في المعركة في شقّها الأول، وتناولت في العديد من الابحاث المبثوثة والمستقلّة موضوع الحرية في الاسلام، وبضمنها الحرية الفكرية، لكنّ هذه الابحاث اقتصرت على الجانب المفهومي النظري، ولم يتبعها تقنين واضح يحدّد للإنسان المسلم تكليفه. فقد كتب العلامة المرحوم السيد محمد حسين الطباطبائي عن الحرية الفكرية في ثنايا تفسيره الشهير (الميزان في تفسير القرآن). وكتب المفكّر الشهيد السيد محمد باقر الصدر عن الموضوع ذاته في "المدرسة الإسلامية". وتناولها العلامة السيد محمد حسين فضل الله والعلامة الشهيد مرتضى المطّهري، والشهيد سيد قطب، والشهيد الدكتور صبحي الصالح. كما تناولتها البحوث المتأخرة والمهتمّة بتدوين ميثاق اسلامي لحقوق الانسان. وبيان تمايزاته عن الميثاق الذي صاغته العقلية الغربية. وقد أسهم في هذه البحوث أساتذة أجلاّء، الا ان المشكلة ظلت قائمة عمليّاً، فحدود الحرية الفكرية ربما تكون واضحة نظرياً، إلاّ أنّها عملياً غير واضحة وهناك بعض الأمثلة على ذلك، منها أننا لازلنا نعيش مشكلة الحدود النهائية للمغامرة الفكرية والفنيّة والادبية. ولم نتوصّل الى اتفاق حولها، مع التسليم بأنّ القيود التي وضعها الإسلام محدودة ولا تتجاوز نطاقاً ضيّقاً. أي أنّ هناك قيوداً ذهنية واجتماعية، تعمل عمل الكوابح التي تحول دون انطلاق حرية الفكر. ولسنا نطالبُ بحرية غير مسؤولة، وبأدب وفن يتعدّى الذوق الاخلاقي والحدود الشرعية. ولكنّ صرامة الموقف تعكس رؤية فكرية وفلسفية، خاصة، وبالتالي فانّ ردّ الفعل العنيف الذي يظهر أحياناً على شكل اطروحات داخل الصف الإسلامي، يعكس وجهة نظر متشدّدة، ولكنّها صادقة ومخلصة، ومشكلتها أنّها تصدر عن عقلية تفهم الإسلام على طريقتها، بينما يفهمه آخرون بطريقة مغايرة، اننا نُواجَه أحياناً بحالات تتطلب موقفاً حاسماً، يكون البتّ فيه تحديداً لموقف الإسلام من الحرية الفكرية. إذ هل يستطيع إنسان مسلم ملتزم لا يُشكُّ في نواياه، أن يبحث ويحقّق في قضايا تاريخية، ويعطي فيها رأياً استنتاجياً أو اجتهادياً، دون رقابة إجتماعية أو مؤسساتية مباشرة وغير مباشرة، لمجرد انها تصدم الوعي السائد أو تطيح بقداسة موروثات مقدّسة ومتعارف على قداستها. ودون أن يتّهم بتهم مختلفة _كالطائفية مثلاً _ فيُتّهم في الوسط الشيعي بانه سنّي، أو في الوسط السنّي بانه يتشيع! وهل يمكن لعالم أو مثقف أن يعبّر عن رأي غير متداول ولا تستسيغه الذهنية العامّة، وله انعكاسات جدّية، وهو مطمئن الى انّه يمارس حقّ التفكير من داخل الدائرة الاسلامية، وله أن يعبر عن رأيه دون أن يساء تفسير ذلك الرأي، أو دون ان تصدر ضدّه ردود فعل حادّة؟ وهل يستطيع باحث مسلم، أن يبدي رأياً اجتماعياً في قضايا اسلامية، قد تحُدث نوعاً من الهزة في السكينة السائدة، دون أن يقال له انّ افكاره تهدم عقيدة عوامّ الناس وتزلزل تديّنهم، ولا يفهم موقفه على انّه اجتهاد في دائرة الاجتهاد المفتوح؟.
قد يقال انّ هذه القيود لا علاقة لها بالاسلام من حيث المبدأ. ولكنّها ترتبط بالواقع الاسلامي من حيث تعقيداته وتقاليده، وتتعلق أساساً بالفهم الديني وليس بجوهر الدين الاسلامي.
هذه الاسئلة تحتاج الى جواب جدّي. فاذا كنّا نقول انّ بداية الحرية الفكرية في الإسلام مفتوحة على مصراعيها _وهي كذلك _ فلماذا تضيق بعض الاوساط الاسلامية بالرأي المغاير داخل الدائرة الاسلامية نفسها، فضلاً عن الرأي الآخر الذي قد لا يلتقي معها أبداً؟ ولماذا يتصاعد الخلاف ويتحول الى تراشق عنيف بالتهم، كما حصل مثلاً في الصراع بين أنصار ثورة الدستور (المشروطة) وأنصار (المشروعة) في ايران، قبل قرن من الزمان تقريباً، وقبل ان تنحرف المعركة لاحقاً، أو كما يحصل في واقعنا المعاصر حول الكثير من القضايا التي تنطلق في الساحة الفكرية.
أعتقد أننا مازلنا ندور في حلق التأصيل النظري مأخذوين بالحالة الدفاعية التي تحاول ان تنفي عن الاسلام تهمه تقييد الحريّة الفكرية. فيما الواقع العملي لا يبدّد هذه التهمة. والسبب في ذلك، عدم وضوح الحدود التي ترسم سقف الممارسة العملية، ويعود الأمر الى تخلّف الفقه السياسي بالقياس الى فروع الفقه الاخرى. وهذا ناشيء _بدوره _ عن وجود أسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا.
ان الدفاع عن الاسلام، عبر إظهار مثالب الحرية الليبرالية لا ينفع الاسلام في شيء، لانّ المعركة تكون قد جرت على أرض الاسلام، وبما أنّ نموذج الليبرالية قائم وله بريقه الخادع، فانّ الاذهان تنصرف الى النموذج العملي الأضعف. ولو انّنا اعترفنا بصراحة بأنّ الاسلام لا يماثل الليبرالية، وله تعريفه الخاص للحرية، ولحدود ممارستها والتعبير عنها، وانه يرفض الحرية المطلقة ويضع قيوداً على الحريات المتداولة والممارسة في البيئة غير الاسلامية، ولا يجيزها أصلاً، فلا يسمح بأدب خليع وفكر يعادي الغيب والتوحيد والايمان، ويشكّك بضروريات الدين، باسم العقل والعلم، لكان ذلك اجدى وأنفع، نلاحظ _مثلاً _ ضجّةً كبيرة تثار حول كتب منعها الأزهر، تعرّض فيها كتّابها ومؤلفوها الى التشكيك بضروريات الدين أو الاساءة لحرمة الانبياء وعصمتهم. وتدوّي اثر ذلك الصيحات العلمانية التي تتحدث عن معاداة الاسلام لحرية الفكر. ثمَّ تعاد الكّرة من جديدة حول قضية مماثلة ليتكرر الجدل، المقصود منه حشر الاسلاميين في الزاوية الدفاعية دائماً.
ان التعبير عن الفكر والدعوة اليه في مجتمع مسلم، تحكمه سلطة علمانية، أو سلطة اسلامية شرعية، تتحول الى تقنين واضح يصدر عن الشريعة الاسلامية في خطوط تفصيلية. بحيث يعرف الانسان المسلم واجبه وموقفه، ويتمكن من التمييز بين الفكر الذي يصدر عن عقلية علمانية وله مقاصد وغايات تخريبية، وبين فكر يصدر عن عقلية مسلمة ملتزمة، ولكنه ينطوي على تجديد أو ابداع أو نقد للواقع، في محاولة لتغييره نحو الأحسن، وبما ينسجم مع الرؤية الاسلامية وليس لتخريبها أو معاكستها. ومثل هذا التمييز ضروري، حتى لا يتساوى ردّ الفعل ويضيع الفكر البنّاء في زحمة الفكر الهدام، ويُدفع الفكر الإسلامي بنعوت وتُهم لمجرد سوء الفهم، أو لصعوبة هضمه من قبل العقلية التقليدية. فليست وظيفة المفكّر الانسجام مع الفكر الموجود، بل وظيفته الابداع والاضافة والتجديد، وكل جديد يحمل صفة المعارضة والنقد والنقض لما هو موجود أو للبعض منه على الاقل، لابدّ ان يستثير جميع المعارضين والمحافظين. وعليه يكون من الضروري تحديد حدود دائرة الحرية، وإن كان هذا التحديد مرفوضاً على اساس انّه قيد مرسوم، ومادمنا نقرّ بأنّ الاسلام يضع الضوابط والقيود، فلنسم هذه الضوابط والقيود حدوداً يكون متجاوزها قد خرج عَن جادّة الصواب.
وهناك صعوبة في ترسيم هذه الحدود ولكنّ التفكير بها جدّياً أمر ملحّ وضروري. لأنّ عنوان كتب الضلال _الذي وضعه الفقهاء _ لا يمكن أن يسري على آراء علماء أو مثقفين، قصدوا منها التعبير عن أفكار يعتقدون بسلامتها، شرعياً وعقائدياً، وجدواها في اصلاح المجتمع، واعادة بناء فهمه للاسلام. مثلما هو مثار حالياً هذه الايام حول دور العلوم الانسانية الحديثة في فهم النص الاسلامي المقدّس.
إنّ أنصار الحرية الفكرية ربما كانوا يقولون اتركوا له الحرية، ونحن نقارع الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة ومن أراد الاهتداء الى الحق أو زاغت به قدماه الى الباطل فذنبه على نفسه.
ولكنّ الاسلام لا يمنع أحداً من ابداء القول الذي يعتقد به، ومثلما واجه المسلمون حركات الزنادقة، ومثلما عاصروا ابا شاكر الديصاني وابن ابي العوجاء، وانتهى فكر هؤلاء ولم يصمد، فانّ إتاحة المجال لافكار أمثالهم لن يضرّ المسلمين في شيء، غير انّ واقع الحال يشير الى انّ هذا الموقف المبدئي تترتب عليه بعض السلبيات. وانّ الحرية الفكرية غير المنضبطة، تقود أحياناً الى الشطط والاسفاف والضلال، وانّ الحدّ منها يقود الى الانغلاق والتحجّر وهيمنة الجهل والخرافة.