نظرية «ملء الفراغ» تُحتم هيمنة القوِى على الضعيف
مرسل: الخميس مايو 02, 2013 12:58 am
قبل البدء أريد منك القيام بتجربة صغيرة..
إملأ تُرمساً بالماء واغلق فتحته العليا، ثم حاول تقطيره من فتحته السفلى. ماذا يحدث؟ لا ينزل الماء. لماذا؟ لعدم تمكن الهواء من حلول محله فيبقى الوضع كما هو عليه، إذ يرفض الماء النزول تاركاً مكانه فراغاً. لكن فور فتحك للأنبوب العلوى سيتدفق بسلاسة حالاً محله الهواء بنفس القدْر بالضبط، وهذا القدر هو حجم التُرمس.
وهذه الظاهرة يا عزيزى القارىء لا تتحقق فى ترامس الماء فقط .. بل أيضاً فى المجتمعات والدول!
تقول نظرية ملء الفراغ أن أى مكان على الأرض لابد وأن يُملأ بسُلطة تتناسب مع موارده. فمثلاً إن تأملنا بقعة جغرافية قاحلة ومنعدمة الموارد كجنوب الصحراء الكبرى فسنجد آلاف الكيلومترات المربعة غير الخاضعة لسيطرة بشرية من أى نوع. أمّا إن تأملنا مدينة كبيرة مليئة بالنشاط الإقتصادى والتعاملات التجارية فسنجدها -وبلا استثناء- تخضع لسيطرة مُحكمة من نوعٍ ما حتى وإن كانت هذه السيطرة لـ”فتوة” أو “بلطجية”. بل إن أحد التفسيرات التاريخية لقيام نظام “الحكومة” أنه فتونة تطورت تدريجياً لتكون أكثر تنظيماً، فهى تُحصل الإتاوات (الضرائب) وتعاقب مَن يعصى أمرها ويخرج عن طوعها.. لكن هذا لا يُُعد شراً لأنه -وهنا مربط الفرس- إنْ انهارت الحكومة فى أى مكان فسينتج عن ذلك “فراغ سلطوى” يُنشىء مكانها فوراً إما حكومة أخرى وإما عصابات تقوم بنفس الأمر وإنْ كان بصورة أكثر فوضوية وعشوائية (ولعل هذا يفسر سبب ذوبان الفروق فى كثير من الأحيان بين الحكومة والعصابة كما كان الحال إبان النظام السابق). ولعله الآن لا تبدو أفعالاً بشعة وشريرة كالإحتلال وفرْض السيطرة بشعة أو شريرة بقدر ما ستبدو طبيعية وحتمية أليس كذلك؟ فإنْ لم تقم أنت بها فسيقوم بها غيرك.. إذ لابد للتُرمس من أن يملأه شىء.
ولبلورة الصورة للقارىء ليدرك مدى تغلغلها فى حياتنا الواقعية سنضرب مثلاً معاصراً بالإحتلال الأجنبى للخليج. فما حدث أنه فور إنسحاب الإمبراطورية البريطانية المتهالكة من كافة الدول العربية الخليجية (آخرها الإمارات والبحرين سنة 1971) حتى بدأ نفوذ الأمريكى يتسرب إلى المنطقة، ولم يكد يمضى عشرون عاماً فقط حتى كان الأمريكان قد وثبوا عليها وأحكموا سيطرتهم فور إنهيار الإتحاد السوفيتّى. والسؤال هو.. هل تعتقد أنه لو انسحب الأمريكان فجأة اليوم سينعم الخليج بالحرية والإستقلال؟ (وقبل أن يظن القارىء بى الظنون فأخبره بأنى كتبت من قبل منتقداً الوجود الأجنبى فى الخليج وتغرير السفيرة الأمريكية بصدام حسين ليغزو الكويت خصيصاً لهذا الغرض). والإجابة هى بالطبع لا.. فهناك إيران، جارتنا الطموحة االمتطلعة لدور أكبر فى إدارة المنطقة بما يتناسب مع قوتها الجديدة. وإن إستحت إيران عن فرض نفوذها فسيُسعد الصين القيام بهذه المهمة على أكمل وجه لتأمين إمداداتها المستقبلية من الطاقة والتى صارت تستهلكها بشراهة شديدة وهكذا. إذاً ففور وجود “فراغ سلطوى” لموارد يعجز أصحابها (وحلفاؤهم) عن حمايتها فاعلم أن الوضع لن يدوم طويلاً أياً كان من سيستغله.
وتاريخياً فهذا ما حدث بالضبط فى كافة الدول العربية فور انسحاب الإستعمار البريطانى والفرنسى، إذ قامت مقامهما أنظمة قمعية شديدة الإستبداد لأن إنسحاب الأجانب خُلق فراغاً سلطوياً لم يكن المواطنين من القوة والوعى بحيث يملأوه بأنفسهم فتحتَّم وجود مَن ينتهزه. وهذا ما حدث أيضاً فى العراق فور انهيار نظام صدام حسين وفى أفغانستان فور الإطاحة بطالبان (مع الفارق الشاسع بينهما)، فقد سيطرت على البلدين الآن إما عصابات القتل والمخدرات وإما حكومات قمعية فاسدة أسوأ من سابقتها لأن المواطنين العاديين فى الحالتين لم يكونوا مؤهلين لملء فراغ السلطة بأنفسهم. وفى الحقيقة فبحسب علمى المتواضع لم يحدث أبداً فى التاريخ أن إنهار أى نظام مستبد مستقر نتيجة ظرف طارىء كاحتلال أو إنسحاب أو إغتيال أو إنقلاب إلا وقام مقامه نظام مشابه ملأ الفراغ بشكل شبه فورى.
وهذه النظرية تساعدنا على تفهّم مواقف بعض القوى العظمى التى فرضت سيطرتها على الآخرين كما حدث فى عصر الفتوحات الإسلامية. فبعيداً عن الكلام المعطّر الذى نحاول تسويقه للغرب عن كون الإسلام دين السلام (فالإسلام دين عسكرى بامتياز حيث كنا نُخيّر الشعوب بين الإسلام أو الجزية أو الحرب ولم يتحول لدين سلام إلا منذ 200 سنة)، نجد أنه عند أخْذ ما سبق فى الإعتبار فالسؤال الوجيه الذى لابد للمعترضين كالمستشرقين الإجابة عليه هو “وما البديل؟”. فالبلاد التى فتحناها كانت إما محتلة بالفعل من القوى العظمى كالفرس والروم وإما تحتل هى أراضى غيرها. وحتى بافتراض عدم انتمائها لإحدى الطائفتين وقت الغزو -كالنوبيين وبعض قبائل البربر- فتكون فى طريقها لإحداهما لا محالة عاجلاً أم آجلاً. ولا يختلف الوضع كثيراً اليوم فى هيمنة الدول الأقوى على الأضعف أو الفئات القوية على الضعيفة داخل أى دولة أو مؤسسة وإن كان يأخذ -فى معظم الأحيان- أشكالاً أكثر دبلوماسية وأقل عنفاً عما كان عليه فى الماضى.
ومن هنا قد نلتمس العذر للقَوِىّ الذى يسيطر على الضعفاء.. فالطرَف القوى فى أى عصر أو ظرف مثله مثل مَن يقرأ عن وظيفة شاغرة لجلاد أمن دولة، فسواءاً كان هذا الشخص شريراً أم طيباً فسيتقدم لها وإن اختلفت نيتيهما. فبينما نجد الشرير يفعل ذلك عن متعة واقتناع عازماً على استغلال سلطاته بأبشع الطرق نجد الطيب يفعله من باب الإشفاق على المعتقَلين محاولاً ممارسة أقل كمية من الجرائم بحقهم فى حدود هامش الحرية المتاح له (مع تمتعه ببعض المزايا الشخصية بالطبع)، وهذا تصرف أفضل من تصرف السلبى الذى يُعرض عن الأمر برمته حتى وإن بدا تبريره أخلاقياً.
إذاً فسيطرة الفئة القوية على الضعيفة فى حد ذاتها ليست شراً لكونها حتمية ستحدث فى كل الأحوال، لكن الشر قد يكمن فى شروط هذه السيطرة.. فهل ستَجبى من المهزوم أو الضعيف إتاوات باهظة أم معتدلة؟ وهل ستجبره على اعتناق مذهبك الفكرى وتصادر حرياته؟ وهل سترتكب بحقه مجازر وفظائع؟ وهل ستسجنه وتعذبه وتهينه؟ وهل ستهجّره من أرضه لتستولى عليها؟ وهل ستنهب موارده الطبيعية دون إشراكه معك؟ وهل ستتجاهل مظلمته إن اشتكى؟ وفى كلمة واحدة: هل ستجعله يعانى؟ هذه هى الأسئلة الهامة سواءاً فى ظل فتوحات الأمس أم احتلال اليوم، وسواءاً فى ظل فتونة الأمس أم حكومات اليوم. أما رغبة الكثيرين -وأولهم كاتب المقال- فى حلول السلام العالمى الذى تحترم فيه جميع الشعوب بعضها بعضاً ويتعامل كل الأفراد داخل الأمة الواحدة على أساس الندية والمساواة رغم تفاوت قواهم فلا تغدو عن كونها أحلاماً طفولية غير قابلة للتحقق.
وإن رُمنا درساً عملياً من نظرية ملء الفراغ فهو: إن أردت ألا يملأ لك أحدٌ تُرمسك.. فعليك بعدم تركه فارغاً!
حسام حربى – مدونة «أَبْصِرْ»
إملأ تُرمساً بالماء واغلق فتحته العليا، ثم حاول تقطيره من فتحته السفلى. ماذا يحدث؟ لا ينزل الماء. لماذا؟ لعدم تمكن الهواء من حلول محله فيبقى الوضع كما هو عليه، إذ يرفض الماء النزول تاركاً مكانه فراغاً. لكن فور فتحك للأنبوب العلوى سيتدفق بسلاسة حالاً محله الهواء بنفس القدْر بالضبط، وهذا القدر هو حجم التُرمس.
وهذه الظاهرة يا عزيزى القارىء لا تتحقق فى ترامس الماء فقط .. بل أيضاً فى المجتمعات والدول!
تقول نظرية ملء الفراغ أن أى مكان على الأرض لابد وأن يُملأ بسُلطة تتناسب مع موارده. فمثلاً إن تأملنا بقعة جغرافية قاحلة ومنعدمة الموارد كجنوب الصحراء الكبرى فسنجد آلاف الكيلومترات المربعة غير الخاضعة لسيطرة بشرية من أى نوع. أمّا إن تأملنا مدينة كبيرة مليئة بالنشاط الإقتصادى والتعاملات التجارية فسنجدها -وبلا استثناء- تخضع لسيطرة مُحكمة من نوعٍ ما حتى وإن كانت هذه السيطرة لـ”فتوة” أو “بلطجية”. بل إن أحد التفسيرات التاريخية لقيام نظام “الحكومة” أنه فتونة تطورت تدريجياً لتكون أكثر تنظيماً، فهى تُحصل الإتاوات (الضرائب) وتعاقب مَن يعصى أمرها ويخرج عن طوعها.. لكن هذا لا يُُعد شراً لأنه -وهنا مربط الفرس- إنْ انهارت الحكومة فى أى مكان فسينتج عن ذلك “فراغ سلطوى” يُنشىء مكانها فوراً إما حكومة أخرى وإما عصابات تقوم بنفس الأمر وإنْ كان بصورة أكثر فوضوية وعشوائية (ولعل هذا يفسر سبب ذوبان الفروق فى كثير من الأحيان بين الحكومة والعصابة كما كان الحال إبان النظام السابق). ولعله الآن لا تبدو أفعالاً بشعة وشريرة كالإحتلال وفرْض السيطرة بشعة أو شريرة بقدر ما ستبدو طبيعية وحتمية أليس كذلك؟ فإنْ لم تقم أنت بها فسيقوم بها غيرك.. إذ لابد للتُرمس من أن يملأه شىء.
ولبلورة الصورة للقارىء ليدرك مدى تغلغلها فى حياتنا الواقعية سنضرب مثلاً معاصراً بالإحتلال الأجنبى للخليج. فما حدث أنه فور إنسحاب الإمبراطورية البريطانية المتهالكة من كافة الدول العربية الخليجية (آخرها الإمارات والبحرين سنة 1971) حتى بدأ نفوذ الأمريكى يتسرب إلى المنطقة، ولم يكد يمضى عشرون عاماً فقط حتى كان الأمريكان قد وثبوا عليها وأحكموا سيطرتهم فور إنهيار الإتحاد السوفيتّى. والسؤال هو.. هل تعتقد أنه لو انسحب الأمريكان فجأة اليوم سينعم الخليج بالحرية والإستقلال؟ (وقبل أن يظن القارىء بى الظنون فأخبره بأنى كتبت من قبل منتقداً الوجود الأجنبى فى الخليج وتغرير السفيرة الأمريكية بصدام حسين ليغزو الكويت خصيصاً لهذا الغرض). والإجابة هى بالطبع لا.. فهناك إيران، جارتنا الطموحة االمتطلعة لدور أكبر فى إدارة المنطقة بما يتناسب مع قوتها الجديدة. وإن إستحت إيران عن فرض نفوذها فسيُسعد الصين القيام بهذه المهمة على أكمل وجه لتأمين إمداداتها المستقبلية من الطاقة والتى صارت تستهلكها بشراهة شديدة وهكذا. إذاً ففور وجود “فراغ سلطوى” لموارد يعجز أصحابها (وحلفاؤهم) عن حمايتها فاعلم أن الوضع لن يدوم طويلاً أياً كان من سيستغله.
وتاريخياً فهذا ما حدث بالضبط فى كافة الدول العربية فور انسحاب الإستعمار البريطانى والفرنسى، إذ قامت مقامهما أنظمة قمعية شديدة الإستبداد لأن إنسحاب الأجانب خُلق فراغاً سلطوياً لم يكن المواطنين من القوة والوعى بحيث يملأوه بأنفسهم فتحتَّم وجود مَن ينتهزه. وهذا ما حدث أيضاً فى العراق فور انهيار نظام صدام حسين وفى أفغانستان فور الإطاحة بطالبان (مع الفارق الشاسع بينهما)، فقد سيطرت على البلدين الآن إما عصابات القتل والمخدرات وإما حكومات قمعية فاسدة أسوأ من سابقتها لأن المواطنين العاديين فى الحالتين لم يكونوا مؤهلين لملء فراغ السلطة بأنفسهم. وفى الحقيقة فبحسب علمى المتواضع لم يحدث أبداً فى التاريخ أن إنهار أى نظام مستبد مستقر نتيجة ظرف طارىء كاحتلال أو إنسحاب أو إغتيال أو إنقلاب إلا وقام مقامه نظام مشابه ملأ الفراغ بشكل شبه فورى.
وهذه النظرية تساعدنا على تفهّم مواقف بعض القوى العظمى التى فرضت سيطرتها على الآخرين كما حدث فى عصر الفتوحات الإسلامية. فبعيداً عن الكلام المعطّر الذى نحاول تسويقه للغرب عن كون الإسلام دين السلام (فالإسلام دين عسكرى بامتياز حيث كنا نُخيّر الشعوب بين الإسلام أو الجزية أو الحرب ولم يتحول لدين سلام إلا منذ 200 سنة)، نجد أنه عند أخْذ ما سبق فى الإعتبار فالسؤال الوجيه الذى لابد للمعترضين كالمستشرقين الإجابة عليه هو “وما البديل؟”. فالبلاد التى فتحناها كانت إما محتلة بالفعل من القوى العظمى كالفرس والروم وإما تحتل هى أراضى غيرها. وحتى بافتراض عدم انتمائها لإحدى الطائفتين وقت الغزو -كالنوبيين وبعض قبائل البربر- فتكون فى طريقها لإحداهما لا محالة عاجلاً أم آجلاً. ولا يختلف الوضع كثيراً اليوم فى هيمنة الدول الأقوى على الأضعف أو الفئات القوية على الضعيفة داخل أى دولة أو مؤسسة وإن كان يأخذ -فى معظم الأحيان- أشكالاً أكثر دبلوماسية وأقل عنفاً عما كان عليه فى الماضى.
ومن هنا قد نلتمس العذر للقَوِىّ الذى يسيطر على الضعفاء.. فالطرَف القوى فى أى عصر أو ظرف مثله مثل مَن يقرأ عن وظيفة شاغرة لجلاد أمن دولة، فسواءاً كان هذا الشخص شريراً أم طيباً فسيتقدم لها وإن اختلفت نيتيهما. فبينما نجد الشرير يفعل ذلك عن متعة واقتناع عازماً على استغلال سلطاته بأبشع الطرق نجد الطيب يفعله من باب الإشفاق على المعتقَلين محاولاً ممارسة أقل كمية من الجرائم بحقهم فى حدود هامش الحرية المتاح له (مع تمتعه ببعض المزايا الشخصية بالطبع)، وهذا تصرف أفضل من تصرف السلبى الذى يُعرض عن الأمر برمته حتى وإن بدا تبريره أخلاقياً.
إذاً فسيطرة الفئة القوية على الضعيفة فى حد ذاتها ليست شراً لكونها حتمية ستحدث فى كل الأحوال، لكن الشر قد يكمن فى شروط هذه السيطرة.. فهل ستَجبى من المهزوم أو الضعيف إتاوات باهظة أم معتدلة؟ وهل ستجبره على اعتناق مذهبك الفكرى وتصادر حرياته؟ وهل سترتكب بحقه مجازر وفظائع؟ وهل ستسجنه وتعذبه وتهينه؟ وهل ستهجّره من أرضه لتستولى عليها؟ وهل ستنهب موارده الطبيعية دون إشراكه معك؟ وهل ستتجاهل مظلمته إن اشتكى؟ وفى كلمة واحدة: هل ستجعله يعانى؟ هذه هى الأسئلة الهامة سواءاً فى ظل فتوحات الأمس أم احتلال اليوم، وسواءاً فى ظل فتونة الأمس أم حكومات اليوم. أما رغبة الكثيرين -وأولهم كاتب المقال- فى حلول السلام العالمى الذى تحترم فيه جميع الشعوب بعضها بعضاً ويتعامل كل الأفراد داخل الأمة الواحدة على أساس الندية والمساواة رغم تفاوت قواهم فلا تغدو عن كونها أحلاماً طفولية غير قابلة للتحقق.
وإن رُمنا درساً عملياً من نظرية ملء الفراغ فهو: إن أردت ألا يملأ لك أحدٌ تُرمسك.. فعليك بعدم تركه فارغاً!
حسام حربى – مدونة «أَبْصِرْ»