منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#61716
توطئة: نشأ العقل الاميركي على غرار العقل الغربي في فراغ فكري وفي واقع استكباري فوقي غير منضبط في التربية وابعد من ذلك فانه ترعرع في بيئة شاذة اخلاقيا وسايكولوجيا صنعت فيه نزعة التهور والاستعلاء والغطرسة والادائية والتبريرية ، فهو ذرائعي الى حد استخدام القوة المفرطة واستفزازي الى حد استخدام تكتيك التماس مع حافة الهاوية الضاغطة للحصول على فرصة الاستحواذ والهيمنة وتحقيق مكاسب ومطامع على ارض الغير ، واساس ذلك الميل الاستكباري المتحجج بالدفاع عن الهوية الذاتية ومكوناتها ومنهجها الذي لا يعترف بالقطب الآخر ولا بالتنافر والتجاذب الذي عكسته نظرية الجاذبية الارضية على مستوى العلاقات والاداء ، لانه عقل يتحاشى مراجعة النفس والنقد في سعي لحرق المراحل السابقة وتهميش حركة التاريخ وبذلك فان هذا العقل يحاول صنع الهواجس والتوجس في الذات ويملي عليها اخطر القرارات واكثرها دموية ، ولهذا نجده يعيد صياغة الذهنية الاجتماعية بما يملي عليه الفراغ الفكري الذي اصبح مع مرور الزمن مكونا اساسيا من مكونات هذا العقل ، وعندما تتهيأ الفرصة يرسخ مفاهيما استعلائية ازاء المسائل العالقة او في مواجهة قضية تريد حلا ، وباختصار فان العقل الامريكي لا يحمل فكرا عقلانيا نقديا يتحرك في جدلية حركة التاريخ ، وانما تحركه نزعات فوقية وسطحية لا تسبر غور الحدث على وفق مراحله التاريخية ، وبذلك فهو يفصل بين الماضي وبين الحاضر والمستقبل.
الروؤساء الامريكيون والعقلية الغربية : لقد اصبح العقل الغربي المحرك الديناميكي والغوغائي للروؤساء الامريكيين وعقيدة استراتيجية سرية اعتنقها هؤلاء الروؤساء الذين تعاقبوا على منصة البيت الابيض ، وفي مجال الاستعلاء ظل الروؤساء الامريكيون يمتنعون مع سبق الاصرار على فهم الطرف الاخر او ادراك مايريده النقيض ويحاولون سحقه بأي وسيلة ، كما يحاولون صنع ثقافة جاهزة وبقوالب مهيئة للتصدير لالغاء ثقافة غيرهم ، وهم دائما يعتمدون برامج ومناهج اقتصادية رأسمالية تعمق من استغلال الانسان للانسان وتربط الشعوب والبلدان باتفاقات مالية والتزامات مصرفية مقيدة للنمو واستهلاكية ويعتمدون على التجارة الحرة التي تعيق النشاط التنموي وتوسع من دائرة الفوارق الطبقية في العالم ، وهذا ادى الى تحطيم الروابط الاجتماعية في اوربا ثم انتقالها الى العالم بشكل خنق الحريات واطاح بالحرية الشخصية تحت شعار الديمقراطية والحرية ، كما ادى في جوانب اقتصادية الى ظاهرة الفقر والجوع في العالم ، واعتمد الروؤساء الامريكيون على نظرية الفوضى المنظمة وتكتيك التماس من حافة الهاوية ، على وفق الاستراتيجية الامريكية والمرشح الديمقراطي للرئاسة الامريكية الجديدة اوباما أكد في مهرجان الكلمات الذي اقامه الحزب الديمقراطي انه سيمارس الدبلوماسية الصارمة ازاء ايران حالة تولية السلطة الجديدة والاخيرة شكل من اشكال تكتيك التماس من حافة الهاوية الذي تعتمده الفوضى المنظمة وهذا يؤكد ان العقل الغربي لا يزال يهيمن على عقول الروؤساء الامريكيين القدامى والجدد .
الفوضى المنظمة جذورها بواعثها : اعتمدت نظرية الفوضى المنظمة على ثلاث بديهيات في فعلها وتأثيرها وامتداداتها :ـ الاولى مفهوم هيجل الذي يقول :ـ( ان الازمة تقود الى استغلال الفرصة ) . وخير دليل على ذلك ماحدث وما تمخض بعد احداث 11 ايلول/2001 ، حيث استغلت الولايات المتحدة الامريكية هذه الفرصة لتصفية حساباتها مع خصومها التقليديين ، ولتوسيع نفوذها في العالم والشرق والقيام بغزو واحتلال وتوسيع قواعدها العسكرية في الشرق والوطن العربي واوربا الشرقية . الثانية واعتمدت نظرية الفوضى المنظمة على بديهيات بريجسنكي التي تقول ( ان التاريخ هو نتاج الفوضى اكثر من نتاج المؤامرة ). ولهذا عمد الروؤساء الامريكيون الى تصنيع الازمات بهدف تفعيل الفوضى والاقتتال الداخلي ونشر الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية والاثنية كوسائل ظاغطة لاسقاط الحكومات والدول والاقاليم التي لا تخضع للنفوذ الامريكي . اما البديهية الثالثة فهي تعتمد على فلسفة هبوط ادم الامريكي الى الارض الموعودة ليفتح اسطورة العالم الجديد .
وانني اعتقد ان الفوضى المنظمة نشأت وكبرت مع اول يوم ولدت فيه الولايات المتحدة الامريكية كدولة عظمى ، ثم اصبحت قاعدتها الاساسية للغزو والاحتلال والسيطرة وتحقيق المكاسب والمصالح ، ولكنني ارى ان جون فوستر دالاس وزير الخارجية الامريكية الاسبق اعطاها بعدا استراتيجيا ومفهوما فوضويا اكثر حماقة ، وكانت وسيلته المعتمدة في تكتيك التماس من حافة الهاوية كما اشرنا في موضوع سابق ، ومعروف ان دالاس مؤسس الجاسوسية الامريكية وهو يعتقد ان الجاسوسية لا تقم لها قائمة الا بشئين اولهما :ـ صنع الازمات والفوضى المنظمة ، وثانيهما اعتماد تكتيك التماس من حافة الهاوية . ولقد ساهمت الجاسوسية هذه في تفتيت الاتحاد السوفيتي وخلق فتن طائفية وانقلابات عسكرية وحروب اقليمية ، ولهذا كله يمكن تلخيص بواعث نظرية الفوضى المنظمة بالمؤشرات التالية :ـ 1ـ ان هذه النظرية تعتمد على نظرية هيجل وبريجيسنكي وفلسفة الارض الموعودة كما اشرنا . 2ـ كما تعتمد على مرحلية الفوضى والتماس من حافة الهاوية ، ثم اعتماد القوة المفرطة عندما تكون الظروف مهيأه لها . 3ـ تحاول هذه النظرية صنع الازمات وتفجيرها في الوقت المناسب ، ثم اعادة تكوينها طلبا لاستغلال الفرصة الملائمة . 4 ـ وتعتمد نظرية الفوضة المنظمة على فكرة صناعة الاعداء ثم تكاثرهم ورعايتهم الى الحد الذي يؤهل لتفجير الازمات ، وتعتبر قضية صناعة بن لادن خلال الحرب على احتلال الاتحاد السوفيتي لافغانستان من قبل الاستخبارات الامريكية خير دليل عل ذلك 5ـ ان هذه النظرية لا تعترف اصلا بالطرف الاخر ولا تقر بوجود النقيض او الخصم وتعتمد على سياسية سحقه وتدميره بضربة استباقية . 6ـ تعتمد هذه النظرية على فكرة التحضير لاستخدام القوى المفرطة ، فعندما يأتي الظرف الملائم وعندما يصل تكتيك التماس مع حافة الهاوية الى حد النضوج ، كما فعلت امريكا في حربها على العراق في بداية التسعينيات وحربها على يوغسلافيا في نهاية الستينيات واحتلال افغانستان عام 2001 ، واخيرا احتلال العراق عام 2003 . 7ـ تتخذ هذه النظرية من شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان ذريعة لتحقيق اهدافها على وفق خطط الاستراتيجية الامريكية في نهب الثروات والسيطرة وخنق الحريات .
بوش ونظرية الفوضى المنظمة : يعد بوش الابن من اعتى الروؤساء الامريكيين واكثرهم تطرفا في العقلية الغربية ، ولقد اعتمد هذا الرجل على معايير الفوضى المنظمة وتكتيك التماس من حافة الهاوية وجعل منهما اساسا في الاستراتيجية الامريكية ، غير انه استطاع ان يفعل الفوضى المنظمة ببديهيات مضافة على وفق اجتهاده الشخصي دون ان يسلخها من ارثها وجذورها التاريخية وبواعثها منها :ـ
اولا : ان بوش الابن قوى من تعنت نظرية الفوضى المنظمة بشعار ( اما ان تكون معنا او ضدنا ، وان اعداءنا يكرهون الحرية ) . وبذلك فهو يؤكد على مبدأ رفض النقيض ومحاولات سحقه ، ولكن تحت غطاء الحرية . ثانياً: لقد ربط بوش الابن بين الامن القومي الامريكي ونشر الديمقراطية في الشرق الاوسط وبين الفوضى المنظمة . ثالثا: كما ربط بين اعتقاده الذي يقول :ـ ان العرب لا يحترمون الا الطرف القوي القادر على اظهار القوة وبين الفوضى المنظمة . رابعا: كما ربط بين معتقداته الدينية والصليبية وبين الفوضى المنظمة وذلك بعد هجمات 11ايلول /2001 حيث انه ادعى ان السماء اوحت له بحرب العراق وانه يخوض حربا صليبية ضد العالمين العربي والاسلامي . خامساً: واستطاع ايضا ان يسخر منصة الامم المتحدة في تفعيل الفوضى المنظمة ، كما سخر القوانين الدولية وقوانين حقوق الانسان لنفس الغرض . سادسا: ربط بوش الابن ايضا بين الفوضى المنظمة وازدواجية المعايير وعلى سبيل المثال لا الحصر فأنه يدعم باصرار انفصال كوسوفو عن صربيا بينما يرفض اعتراف روسيا باستقلال اوسيتيا وابخازيا ، وفي وطننا العربي يدعم بوش الابن كأسلافه الحكومات الدكتاتورية في الحجاز ومصر وبعض بلدان المغرب العربي والخليج العربي ، في الوقت الذي يدعي فيه انه جاء للعراق لغرض الاطاحة بالدكتاتورية ونشر الديمقراطية والحرية ، فضلا عن تعامل بوش الابن بمكيالين ازاء القضية الفلسطينية واللبنانية والصومال ودارفور .
خاتمة : لقد سقطت نظرية الفوضى المنظمة بيد بوش الابن بسبب عدم فهمه باللحظة التاريخية التي تؤقت فيها الولايات المتحدة الامريكية مسؤولية العالم بمفردها ، ولجهله بتبعية المسؤولية الدولية كما يقول بعض المحللين ، ولكنني ارى ان العقلية الغربية التي تطرف بها بوش الابن كانت سببا رئيسيا وراء سقوطه تأريخيا واجتماعيا وانكساره في ساحة الحرب المعلنة وغير المعلنة ، ومحمد حسنين هيكل يقول في كتابه الامبراطورية الامريكية والاغارة على العراق ( باحتلال الولايات المتحدة الامريكية للعراق قد وصلت الى ذروة عالية في انفرادها المطلق بالنظام الدولي ، وبقي على المراقبين ان يشهدوا من خلال عدسات حضارية مزودة باضاءات نبوئية كيفية انحدار القوة العظمى من قمة العالم الى سفح الحفر الذي انزلقت فيه الامبراطورية الكبرى في التاريخ جراء سياسة الغطرسة والافراط في استخدام القوة ) ويربط المؤرخ ادوارد جيبون بين اضمحلال امريكيا وسقوط روما في كتابه سقوط الامبراطورية الامريكية واضمحلالها ويؤكد ان سقوط روما كامبراطورية كان نتيجة العظمة المفرطة ، وفي كتابه قيام وسقوط الدول الكبرى يربط بين سقوط الولايات المتحدة الامريكية وسقوط بريطانيا حيث يقول ( ان الامريكيين على وشك ان يواجهوا المصير ذاته الذي واجهته بريطانيا في نهاية القرن التاسع عشر الا وهو الاضمحلال كقوة عالمية ) وانني اعتقد ان تغيير موازين القوى في العالم والفشل الذي لحق نظرية الفوضى المنظمة والاستراتيجية الامريكية ادى الى ردود افعال كبيرة ستفضي الى هزيمة الولايات المتحدة الامريكية وان الحرب في العراق ستكون مقبرة للجنود الامريكيين ، وان السياسة الجديدة التي اعلنها المرشح الامريكي الديمقراطي للرئاسة الامريكية اوباما والتي اطلق عليها تسمية الدبلوماسية الصارمة تؤكد ان الرئيس الجديد يحمل ارث الرؤساء الذين سبقوه وان بدعته الجديدة لم تعد الا محاولة لانعاش الفوضى المنظمة وتكتيك التماس من حافة الهاوية وستجعله حتما يذوق مرارة سقوط الامبراطورية الامريكية .