كوريا الشمالية: قرعٌ لطبول الحرب أم لباب التفاوض
مرسل: الجمعة مايو 03, 2013 4:09 am
ليست المرة الأولى التي تقرع فيها كوريا الشمالية طبول الحرب وتطلق صرخات التهديد والوعيد، وترفع حالة التوتر والتصعيد في شبه الجزيرة الكورية وفي المنطقة بأسرها؛ فقد عُرف عن بيونغ يانغ إتقانها وبراعتها في سياسة اللعب على حافة الهاوية، لكن ومع ذلك فإنه من الممكن رصد بعض العوامل التي تجعل هذه المرة مختلفة عن الأزمات السابقة، وأبرز هذه العوامل:
إن درجة التوتر هذه المرة وصلت إلى مرحلة لم يشهدها شبه الجزيرة الكورية منذ انتهاء الحرب الكورية عام 1953.
إن لغة التهديد المستخدمة هذه المرة شملت التلويح باستخدام السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية بعيدة المدى. ولم تقتصر على كوريا الجنوبية أو القواعد العسكرية الأميركية فيها بل شملت أيضًا تهديدات مباشرة للولايات المتحدة واليابان.
إن التوتر جاء في فترة بروز قيادات جديدة في معظم أو في جميع الدول المعنية (الولايات المتحدة، كوريا الشمالية، الصين، كوريا الجنوبية، واليابان) وفي مرحلة تتميز بتنامي النزعات القومية واليمينية لديها، وبانعدام الثقة المتبادلة وكيمياء العلاقات الخاصة التي كانت سائدة بين بعضها. أضف إلى ذلك، حاجة معظم هذه القيادات إلى وجود أزمة يمكن الاستفادة منها في تحقيق مكاسب داخلية وإقليمية.
يأتي التوتر والمنطقة بأسرها تمر في مرحلة إعادة هيكلة جيواستراتيجية وصياغة معادلات جديدة للتحالفات والأولويات. كما يأتي والعلاقات بين بكين وبيونغ يانغ تمر في أسوأ مراحلها منذ ستين عامًا، وهو عامل لم يكن بارزًا أو واضحًا بهذا الشكل خلال الأزمات السابقة.
بيونغ يانغ والأوضاع الجديدة
أما الأهداف التي تسعى إليها بيونغ يانغ، فمن المهم لتجليتها تسليط الضوء على بعض القضايا والظروف التي تحيط بكوريا الشمالية وبقيادتها الجديدة، لاسيما تلك المتصلة بوضعية الجيش الكوري الشمالي وكيفية تعامل سول وواشنطن مع الأزمة الكورية، إضافة إلى الدور الصيني.
سول: بين الجيش والقائد
يحظى الجيش في كوريا الشمالية بنفوذ كبير وبدور بارز -إن لم يكن الأبرز والأكثر تأثيرًا- في عملية صناعة القرار، لكنه تحول مع الوقت إلى مجموعات مصالح متناحرة ازدادت حدة النزاعات بينها بغياب قيادة كاريزمية قادرة على احتوائها وتطويعها كقيادة "كيم الجد" الذي حظي بشرعية وولاء حقيقي في الجيش اكتسبهما كقائد عسكري من ميدان المعارك والحروب ضد الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، واستطاع أن يفرض نفسه على جنرالات الجيش دون منازع وأن يجعلها تدين له بالولاء. كما نجح بعد انتهاء الحرب الكورية عام 1953 بأن يضرب مجموعة الجنرالات الموالين لموسكو بأولئك الموالين لبكين؛ ومن ثم التخلص لاحقًا من الموالين لبكين ليحكم قبضته على البقية الباقية.
أما بالنسبة لخلفه "كيم الثاني" وعلى الرغم من إعداده لفترة تجاوزت عقدين من الزمن ومحاولات تسويقه كقائد عسكري فذ، إلا أن نفوذه في الجيش لم يكن كنفوذ والده ولم يكن لديه خبرة العمل الميداني في المعارك فحاول دخول هذا الباب من خلال القيام بعمليات استخباراتية وإرهابية في بعض الأحيان كمحاولة اغتيال الرئيس الكوري الجنوبي تشون دو خوان في بورما عام 1983 وكذلك تفجير طائرة تابعة للخطوط الجوية لكوريا الجنوبية عام 1987 أودت بحياة جميع ركابها (115 شخصًا). كما اضطر لاحقًا إلى تبني نظرية "الجيش أولاً" لإرضاء جنرالات الجيش والحفاظ على مصالحهم.
وعندما جاء الآن دور "كيم الحفيد" اضطر كبار جنرالات الجيش إلى الموافقة أو التوافق عليه بسبب عدم وجود مرشح قوي بينهم يملك شرعية تنافس تلك التي يحظى بها الزعيم الشاب سليل أسرة كيم والقادم من جامعات سويسرا والذي ظل طوال حياته بعيدًا عن الجيش. وعلى الرغم من كل المحاولات لتلميعه عبر إلصاق بعض الحوادث به واعتباره العقل المدبر والمخطط لها كحادثة إغراق الباخرة الكورية الجنوبية تشونغ نان في مارس/آذار 2010 وحادثة قصف جزيرة يونغ بيونغ الجنوبية في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، إلا أن هذه الوقائع جرت في عهد والده وهو الآن يحتاج إلى استعراض منفرد لإظهار إنجازاته الخاصة كنجاحه في إجراء التجارب الصاروخية والتجربة النووية الثالثة؛ وهذا ما يفسر إمعان الجهاز الدعائي لكوريا الشمالية بإظهار صور للزعيم الشاب وهو يزور المواقع العسكرية ويتنقل بين الخنادق وأحيانًا يطلق النار أو يخوض بجنوده البحر وما إلى ذلك من مشاهد استعراضية، وذلك لمنحه الشرعية اللازمة أمام شعبه وأمام جنرالات جيشه بأنه يستحق لقب "المارشال الشاب" عن جدارة. وفي نفس الوقت كان زوج عمته الجنرال القوي وصاحب النفوذ "جانغ سونغ تيك" قد استطاع إجراء عمليات تطهير واسعة لا تزال مستمرة بين صفوف جنرالات الجيش الأقوياء والتي يبدو أنها لم تؤتِ ثمارها بعد ولا تزال تحتاج إلى المزيد من إبراز قدرة القائد على إدارة الأزمات الكبرى.
رد فعل سول وواشنطن
سارعت واشنطن كرد فعل على تهديدات بيونغ يانغ لها ولبعض دول المنطقة إلى إرسال طائراتها الشبح وقاذفات بي 52 إلى المنطقة، وأكد وزير خارجيتها جون كيري من سول أن بلاده ستدافع عن حلفائها وأنها لن تقبل بوجود كوريا شمالية نووية، كما أكدت واشنطن على استمرار تحالفها مع سول وأنه لا يزال قائمًا، وستكون واشنطن المحطة الأولى التي ستزورها الرئيسة الكورية الجنوبية الجديدة بارك غيون هيه في مايو/أيار القادم.
لكن في هذا السياق يُلاحظ أن لقاء غيون هيه مع الرئيس أوباما لن ينصب على تنسيق الجهود في كيفية عقاب بيونغ يانغ وتشديد الخناق عليها بل في كيفية احتوائها وتحديد حجم الحوافز الاقتصادية والسياسية المقدمة لها وجدولها الزمني.
سول وبكين
تشكّل الصين الرئة الاقتصادية التي تتنفس بيونغ يانغ منها وتعتمد عليها في غذائها ووقودها، إلا أن التوتر الأخير أدى إلى فتور وجفاء بين الجانبين وإلى ظهور خلافات دفينة بينهما إلى السطح كان يجري التكتم عليها ما يشي باهتزاز الثقة بينهما. وبعد أن كانت كوريا الشمالية تعتبر رصيدًا إستراتيجيًا للصين باتت تبدو وكأنها صداع إستراتيجي وعبء كبير يهدد أمنها القومي ويحد من هامش محيطها الجيواستراتيجي ويؤثر على صورتها وعلى صورة قيادتها الجديدة التي تمر هي الأخرى بمرحلة غاية في الدقة والحساسية داخليًا وإقليميًا ودوليًا(1).
مع التنويه بأن انخراط الصين في الحرب الكورية عام 1950 لم يكن فقط من أجل حماية كوريا الشمالية ولكن من أجل أمنها القومي بالدرجة الأولى والمتمثل بمنع واشنطن من الوصول إلى حدود الصين الشمالية وكذلك للحيلولة دون قيام كوريا موحدة وقريبة من الغرب وللإبقاء على كوريا الشمالية كمنطقة عازلة بين الصين وبين المعسكر الرأسمالي (تحالف سول-طوكيو-واشنطن) هذا فضلاً عن أسباب محلية أخرى.
وعندما نشب الخلاف العقائدي بين بكين وموسكو استهدف الدعم الصيني لكوريا الشمالية منع هذه الأخيرة من الوقوع في أحضان الاتحاد السوفيتي، فتحولت بذلك كوريا الشمالية إلى منطقة عازلة بين موسكو وبكين.
وهذه الأسباب جميعًا لم تعد قائمة الآن أو يجري إعادة صياغتها على أسس واعتبارات ومصالح جديدة، من ذلك أن سياسة الصين الخارجية أصبحت سياسة اقتصادية في الدرجة الأولى، حيث أن حجم التبادل التجاري بين سول وبكين من المتوقع أن يصل إلى 300 مليار دولار عام 2015، بينما لا تزال بيونغ يانغ تعيش وتقتات على المساعدات الصينية.
أهداف التصعيد الراهن
تهدف كوريا الشمالية من وراء التصعيد الراهن إلى تحقيق أهداف سياسية واقتصادية وأمنية ودبلوماسية تتعلق بأوضاعها الداخلية وصياغة جديدة لعلاقاتها الإقليمية والدولية. وربما تقتصر راهنًا على تحقيق بعضها وتأجيل البعض الآخر إلى جولة أخرى من التوتر كما كان ديدنها في أزمات سابقة حيث استطاعت تسجيل نجاحات عدة، وأهم هذه الأهداف:
تعزيز شرعية النظام وإحكام قبضته، وتنظيف الجيش من الجنرالات الأقوياء للحفاظ على الاستقرار الداخلي إضافة إلى أهداف محلية أخرى.
انتزاع اعتراف من المجتمع الدولي بها كقوة نووية بقوة الأمر الواقع.
تحقيق أهداف سياسية واقتصادية ووضع أسس جديدة للعلاقة مع كوريا الجنوبية.
الضغط على الجيش في كوريا الجنوبية لتحييد الخيارات العسكرية.
تحييد إمكانية استخدام الولايات المتحدة الحل العسكري تجاه بيونغ يانغ.
التأثير على التحالف بين سول وواشنطن، وإظهار عجز واشنطن عن حماية حلفائها.
الخروج من إطار المحادثات السداسية التي ترعاها بكين، بهدف فتح خطوط حوار مباشر مع واشنطن وسول وفي مرحلة لاحقة مع طوكيو.
السعي للتفاوض على تحويل أطول اتفاقية هدنة(2) في التاريخ (الموقعة عام 1953) إلى اتفاقية سلام.
الخروج من العزلة الدبلوماسية الخانقة والحصول على حزمات جديدة ومغرية من المساعدات الاقتصادية.
اختبار ردود فعل القيادة الصينية الجديدة ومحاولة إرساء قواعد جديدة معها تقوم على أسس التعامل بندية، وليس كورقة تستخدمها بكين لتحقيق مصالحها مع القوى الكبرى.
التوقعات والتداعيات المحتملة
إن احتمال نشوب حرب حقيقية واسعة النطاق في شبه الجزيرة الكورية أمر مستبعد ولا يصب في صالح أي من الأطراف المعنية، إلا أن احتمال اندلاع مناوشات أو احتكاكات محدودة سيبقى أمرًا قائمًا وغير مستبعد. حتى أن قيام كوريا الشمالية في هذه الظروف بإجراء تجربة نووية رابعة سيبقى احتمالأ ضعيفاَ، ولكن هذا لا يعني أنه ليس بإمكانها أن تقوم بإجراء تجربة صاروخية جديدة.
فبالرغم من حيازة بيونغ يانغ لترسانة كبيرة جدًا من أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والكيماوية والنووية فإن خيار الحرب ليس من صالحها أو بالأحرى إن ظروفها اللوجستية الذاتية لا تسمح لها بخوض غمار حرب كهذه ستكون طويلة وواسعة النطاق حتمًا. وذلك ليس فقط بسبب احتمالات الرد القوية التي يمكن أن ترد بها سول وواشنطن على أي اعتداء بل لأن بيونغ يانغ معزولة دوليًا حتى من أقرب أصدقائها بكين وموسكو، ولأن اقتصادها منهار وشعبها جائع وجيشها منهك، ومعداتها قديمة تعود إلى الحقبة السوفيتية، وتعاني من شح شديد في مجال الطاقة وأوضاعها الداخلية مرتبكة، وعملية انتقال السلطة لم تُستكمل بعد، وزعيمها الشاب لم يعزز نفوذه خاصة بين جنرالات جيشه ولم يمسك بكل خيوط السلطة.
فالمنطقة ليست على شفا حرب نووية مدمرة، وهي ليست كذلك قاب قوسين أو أدنى من الاستقرار وتحقيق السلام والرخاء، وستبقى في حالة تفاعل مستمر وشد وجذب بين مختلف القوى الإقليمية والدولية المعنية إلى حين صياغة معادلة جديدة من التحالفات والعداوات والمصالح المتشابكة والمعقدة. وفي هذه الأثناء وإلى أن يحين ترتيب الطاولة لجلوس الأطراف المعنية عليها ستبرز أولويات جديدة وسيجري إقفال ملفات وفتح أخرى. فقد باتت بيونغ يانغ تمتلك أوراقًا جديدة للتفاوض وأصبحت في وضع يسمح لها بالتفاوض ليس على التخلي عن برنامجها النووي برمته بل على خفض تدريجي لهذا السلاح وليس في شبه الجزيرة الكورية فحسب، بل إنها باتت تستطيع أن تجهر وتطالب بتخفيض تدريجي لهذا السلاح ليشمل جميع دول المنطقة أو الدول المعنية بالمحادثات بما فيها الصين، وسيحظى هذا الموقف بالتأكيد على تأييد من سول وطوكيو وربما من واشنطن أو ربما قد تستدعي بيونغ يانغ مواضيع بعيدة عنها وتضع على الطاولة أوراقًا جديدة لم تستخدمها من قبل، ولا تؤثر عليها بشكل مباشر لكنها تمنحها هامشًا جيدًا من المناورة؛ كأن يخاطب المفاوض الكوري الشمالي -الذي أثبت طوال السنوات الماضية براعة في خلط الأوراق والحصول على أكثر من ثمن مقابل كل ورقة يرميها- نظيره الأميركي بالقول: ما رأيكم بأن نبيعكم إيران ونوقف كافة أشكال التعاون العسكري والصاروخي والنووي معها. وربما تذهب كوريا الشمالية أبعد من ذلك وتسعى إلى إحياء مفاوضات كانت قد بدأتها مع إسرائيل في تسعينيات القرن الماضي لنفس السبب وانتهت إلى طريق مسدود، وكانت المفاوضات تقضي بأن تقوم بيونغ يانغ بتطبيع علاقاتها مع تل أبيب مقابل وقف تعاونها العسكري مع طهران وأن تتولى تل أبيب مسؤولية مد الجسور بين بيونغ يانغ وواشنطن.
إنها بعض السيناريوهات التي لن تكون مفاجأة عندما تتم، وإن السؤال الذي يجب أن يُطرح الآن ليس: هل ستتفاوض واشنطن مع بيونغ يانغ؟ ولا حتى متى ستتفاوضان؟ فهما تتفاوضان سرًا وعلانية. السؤال هو: على ماذا ستتفاوضان؟ وإن طهران وتل أبيب لا تبعدان كثيرًا عن بيونغ يانغ.
___________________________________________
عزت شحرور - مدير مكتب الجزيرة في الصين
إن درجة التوتر هذه المرة وصلت إلى مرحلة لم يشهدها شبه الجزيرة الكورية منذ انتهاء الحرب الكورية عام 1953.
إن لغة التهديد المستخدمة هذه المرة شملت التلويح باستخدام السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية بعيدة المدى. ولم تقتصر على كوريا الجنوبية أو القواعد العسكرية الأميركية فيها بل شملت أيضًا تهديدات مباشرة للولايات المتحدة واليابان.
إن التوتر جاء في فترة بروز قيادات جديدة في معظم أو في جميع الدول المعنية (الولايات المتحدة، كوريا الشمالية، الصين، كوريا الجنوبية، واليابان) وفي مرحلة تتميز بتنامي النزعات القومية واليمينية لديها، وبانعدام الثقة المتبادلة وكيمياء العلاقات الخاصة التي كانت سائدة بين بعضها. أضف إلى ذلك، حاجة معظم هذه القيادات إلى وجود أزمة يمكن الاستفادة منها في تحقيق مكاسب داخلية وإقليمية.
يأتي التوتر والمنطقة بأسرها تمر في مرحلة إعادة هيكلة جيواستراتيجية وصياغة معادلات جديدة للتحالفات والأولويات. كما يأتي والعلاقات بين بكين وبيونغ يانغ تمر في أسوأ مراحلها منذ ستين عامًا، وهو عامل لم يكن بارزًا أو واضحًا بهذا الشكل خلال الأزمات السابقة.
بيونغ يانغ والأوضاع الجديدة
أما الأهداف التي تسعى إليها بيونغ يانغ، فمن المهم لتجليتها تسليط الضوء على بعض القضايا والظروف التي تحيط بكوريا الشمالية وبقيادتها الجديدة، لاسيما تلك المتصلة بوضعية الجيش الكوري الشمالي وكيفية تعامل سول وواشنطن مع الأزمة الكورية، إضافة إلى الدور الصيني.
سول: بين الجيش والقائد
يحظى الجيش في كوريا الشمالية بنفوذ كبير وبدور بارز -إن لم يكن الأبرز والأكثر تأثيرًا- في عملية صناعة القرار، لكنه تحول مع الوقت إلى مجموعات مصالح متناحرة ازدادت حدة النزاعات بينها بغياب قيادة كاريزمية قادرة على احتوائها وتطويعها كقيادة "كيم الجد" الذي حظي بشرعية وولاء حقيقي في الجيش اكتسبهما كقائد عسكري من ميدان المعارك والحروب ضد الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، واستطاع أن يفرض نفسه على جنرالات الجيش دون منازع وأن يجعلها تدين له بالولاء. كما نجح بعد انتهاء الحرب الكورية عام 1953 بأن يضرب مجموعة الجنرالات الموالين لموسكو بأولئك الموالين لبكين؛ ومن ثم التخلص لاحقًا من الموالين لبكين ليحكم قبضته على البقية الباقية.
أما بالنسبة لخلفه "كيم الثاني" وعلى الرغم من إعداده لفترة تجاوزت عقدين من الزمن ومحاولات تسويقه كقائد عسكري فذ، إلا أن نفوذه في الجيش لم يكن كنفوذ والده ولم يكن لديه خبرة العمل الميداني في المعارك فحاول دخول هذا الباب من خلال القيام بعمليات استخباراتية وإرهابية في بعض الأحيان كمحاولة اغتيال الرئيس الكوري الجنوبي تشون دو خوان في بورما عام 1983 وكذلك تفجير طائرة تابعة للخطوط الجوية لكوريا الجنوبية عام 1987 أودت بحياة جميع ركابها (115 شخصًا). كما اضطر لاحقًا إلى تبني نظرية "الجيش أولاً" لإرضاء جنرالات الجيش والحفاظ على مصالحهم.
وعندما جاء الآن دور "كيم الحفيد" اضطر كبار جنرالات الجيش إلى الموافقة أو التوافق عليه بسبب عدم وجود مرشح قوي بينهم يملك شرعية تنافس تلك التي يحظى بها الزعيم الشاب سليل أسرة كيم والقادم من جامعات سويسرا والذي ظل طوال حياته بعيدًا عن الجيش. وعلى الرغم من كل المحاولات لتلميعه عبر إلصاق بعض الحوادث به واعتباره العقل المدبر والمخطط لها كحادثة إغراق الباخرة الكورية الجنوبية تشونغ نان في مارس/آذار 2010 وحادثة قصف جزيرة يونغ بيونغ الجنوبية في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، إلا أن هذه الوقائع جرت في عهد والده وهو الآن يحتاج إلى استعراض منفرد لإظهار إنجازاته الخاصة كنجاحه في إجراء التجارب الصاروخية والتجربة النووية الثالثة؛ وهذا ما يفسر إمعان الجهاز الدعائي لكوريا الشمالية بإظهار صور للزعيم الشاب وهو يزور المواقع العسكرية ويتنقل بين الخنادق وأحيانًا يطلق النار أو يخوض بجنوده البحر وما إلى ذلك من مشاهد استعراضية، وذلك لمنحه الشرعية اللازمة أمام شعبه وأمام جنرالات جيشه بأنه يستحق لقب "المارشال الشاب" عن جدارة. وفي نفس الوقت كان زوج عمته الجنرال القوي وصاحب النفوذ "جانغ سونغ تيك" قد استطاع إجراء عمليات تطهير واسعة لا تزال مستمرة بين صفوف جنرالات الجيش الأقوياء والتي يبدو أنها لم تؤتِ ثمارها بعد ولا تزال تحتاج إلى المزيد من إبراز قدرة القائد على إدارة الأزمات الكبرى.
رد فعل سول وواشنطن
سارعت واشنطن كرد فعل على تهديدات بيونغ يانغ لها ولبعض دول المنطقة إلى إرسال طائراتها الشبح وقاذفات بي 52 إلى المنطقة، وأكد وزير خارجيتها جون كيري من سول أن بلاده ستدافع عن حلفائها وأنها لن تقبل بوجود كوريا شمالية نووية، كما أكدت واشنطن على استمرار تحالفها مع سول وأنه لا يزال قائمًا، وستكون واشنطن المحطة الأولى التي ستزورها الرئيسة الكورية الجنوبية الجديدة بارك غيون هيه في مايو/أيار القادم.
لكن في هذا السياق يُلاحظ أن لقاء غيون هيه مع الرئيس أوباما لن ينصب على تنسيق الجهود في كيفية عقاب بيونغ يانغ وتشديد الخناق عليها بل في كيفية احتوائها وتحديد حجم الحوافز الاقتصادية والسياسية المقدمة لها وجدولها الزمني.
سول وبكين
تشكّل الصين الرئة الاقتصادية التي تتنفس بيونغ يانغ منها وتعتمد عليها في غذائها ووقودها، إلا أن التوتر الأخير أدى إلى فتور وجفاء بين الجانبين وإلى ظهور خلافات دفينة بينهما إلى السطح كان يجري التكتم عليها ما يشي باهتزاز الثقة بينهما. وبعد أن كانت كوريا الشمالية تعتبر رصيدًا إستراتيجيًا للصين باتت تبدو وكأنها صداع إستراتيجي وعبء كبير يهدد أمنها القومي ويحد من هامش محيطها الجيواستراتيجي ويؤثر على صورتها وعلى صورة قيادتها الجديدة التي تمر هي الأخرى بمرحلة غاية في الدقة والحساسية داخليًا وإقليميًا ودوليًا(1).
مع التنويه بأن انخراط الصين في الحرب الكورية عام 1950 لم يكن فقط من أجل حماية كوريا الشمالية ولكن من أجل أمنها القومي بالدرجة الأولى والمتمثل بمنع واشنطن من الوصول إلى حدود الصين الشمالية وكذلك للحيلولة دون قيام كوريا موحدة وقريبة من الغرب وللإبقاء على كوريا الشمالية كمنطقة عازلة بين الصين وبين المعسكر الرأسمالي (تحالف سول-طوكيو-واشنطن) هذا فضلاً عن أسباب محلية أخرى.
وعندما نشب الخلاف العقائدي بين بكين وموسكو استهدف الدعم الصيني لكوريا الشمالية منع هذه الأخيرة من الوقوع في أحضان الاتحاد السوفيتي، فتحولت بذلك كوريا الشمالية إلى منطقة عازلة بين موسكو وبكين.
وهذه الأسباب جميعًا لم تعد قائمة الآن أو يجري إعادة صياغتها على أسس واعتبارات ومصالح جديدة، من ذلك أن سياسة الصين الخارجية أصبحت سياسة اقتصادية في الدرجة الأولى، حيث أن حجم التبادل التجاري بين سول وبكين من المتوقع أن يصل إلى 300 مليار دولار عام 2015، بينما لا تزال بيونغ يانغ تعيش وتقتات على المساعدات الصينية.
أهداف التصعيد الراهن
تهدف كوريا الشمالية من وراء التصعيد الراهن إلى تحقيق أهداف سياسية واقتصادية وأمنية ودبلوماسية تتعلق بأوضاعها الداخلية وصياغة جديدة لعلاقاتها الإقليمية والدولية. وربما تقتصر راهنًا على تحقيق بعضها وتأجيل البعض الآخر إلى جولة أخرى من التوتر كما كان ديدنها في أزمات سابقة حيث استطاعت تسجيل نجاحات عدة، وأهم هذه الأهداف:
تعزيز شرعية النظام وإحكام قبضته، وتنظيف الجيش من الجنرالات الأقوياء للحفاظ على الاستقرار الداخلي إضافة إلى أهداف محلية أخرى.
انتزاع اعتراف من المجتمع الدولي بها كقوة نووية بقوة الأمر الواقع.
تحقيق أهداف سياسية واقتصادية ووضع أسس جديدة للعلاقة مع كوريا الجنوبية.
الضغط على الجيش في كوريا الجنوبية لتحييد الخيارات العسكرية.
تحييد إمكانية استخدام الولايات المتحدة الحل العسكري تجاه بيونغ يانغ.
التأثير على التحالف بين سول وواشنطن، وإظهار عجز واشنطن عن حماية حلفائها.
الخروج من إطار المحادثات السداسية التي ترعاها بكين، بهدف فتح خطوط حوار مباشر مع واشنطن وسول وفي مرحلة لاحقة مع طوكيو.
السعي للتفاوض على تحويل أطول اتفاقية هدنة(2) في التاريخ (الموقعة عام 1953) إلى اتفاقية سلام.
الخروج من العزلة الدبلوماسية الخانقة والحصول على حزمات جديدة ومغرية من المساعدات الاقتصادية.
اختبار ردود فعل القيادة الصينية الجديدة ومحاولة إرساء قواعد جديدة معها تقوم على أسس التعامل بندية، وليس كورقة تستخدمها بكين لتحقيق مصالحها مع القوى الكبرى.
التوقعات والتداعيات المحتملة
إن احتمال نشوب حرب حقيقية واسعة النطاق في شبه الجزيرة الكورية أمر مستبعد ولا يصب في صالح أي من الأطراف المعنية، إلا أن احتمال اندلاع مناوشات أو احتكاكات محدودة سيبقى أمرًا قائمًا وغير مستبعد. حتى أن قيام كوريا الشمالية في هذه الظروف بإجراء تجربة نووية رابعة سيبقى احتمالأ ضعيفاَ، ولكن هذا لا يعني أنه ليس بإمكانها أن تقوم بإجراء تجربة صاروخية جديدة.
فبالرغم من حيازة بيونغ يانغ لترسانة كبيرة جدًا من أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والكيماوية والنووية فإن خيار الحرب ليس من صالحها أو بالأحرى إن ظروفها اللوجستية الذاتية لا تسمح لها بخوض غمار حرب كهذه ستكون طويلة وواسعة النطاق حتمًا. وذلك ليس فقط بسبب احتمالات الرد القوية التي يمكن أن ترد بها سول وواشنطن على أي اعتداء بل لأن بيونغ يانغ معزولة دوليًا حتى من أقرب أصدقائها بكين وموسكو، ولأن اقتصادها منهار وشعبها جائع وجيشها منهك، ومعداتها قديمة تعود إلى الحقبة السوفيتية، وتعاني من شح شديد في مجال الطاقة وأوضاعها الداخلية مرتبكة، وعملية انتقال السلطة لم تُستكمل بعد، وزعيمها الشاب لم يعزز نفوذه خاصة بين جنرالات جيشه ولم يمسك بكل خيوط السلطة.
فالمنطقة ليست على شفا حرب نووية مدمرة، وهي ليست كذلك قاب قوسين أو أدنى من الاستقرار وتحقيق السلام والرخاء، وستبقى في حالة تفاعل مستمر وشد وجذب بين مختلف القوى الإقليمية والدولية المعنية إلى حين صياغة معادلة جديدة من التحالفات والعداوات والمصالح المتشابكة والمعقدة. وفي هذه الأثناء وإلى أن يحين ترتيب الطاولة لجلوس الأطراف المعنية عليها ستبرز أولويات جديدة وسيجري إقفال ملفات وفتح أخرى. فقد باتت بيونغ يانغ تمتلك أوراقًا جديدة للتفاوض وأصبحت في وضع يسمح لها بالتفاوض ليس على التخلي عن برنامجها النووي برمته بل على خفض تدريجي لهذا السلاح وليس في شبه الجزيرة الكورية فحسب، بل إنها باتت تستطيع أن تجهر وتطالب بتخفيض تدريجي لهذا السلاح ليشمل جميع دول المنطقة أو الدول المعنية بالمحادثات بما فيها الصين، وسيحظى هذا الموقف بالتأكيد على تأييد من سول وطوكيو وربما من واشنطن أو ربما قد تستدعي بيونغ يانغ مواضيع بعيدة عنها وتضع على الطاولة أوراقًا جديدة لم تستخدمها من قبل، ولا تؤثر عليها بشكل مباشر لكنها تمنحها هامشًا جيدًا من المناورة؛ كأن يخاطب المفاوض الكوري الشمالي -الذي أثبت طوال السنوات الماضية براعة في خلط الأوراق والحصول على أكثر من ثمن مقابل كل ورقة يرميها- نظيره الأميركي بالقول: ما رأيكم بأن نبيعكم إيران ونوقف كافة أشكال التعاون العسكري والصاروخي والنووي معها. وربما تذهب كوريا الشمالية أبعد من ذلك وتسعى إلى إحياء مفاوضات كانت قد بدأتها مع إسرائيل في تسعينيات القرن الماضي لنفس السبب وانتهت إلى طريق مسدود، وكانت المفاوضات تقضي بأن تقوم بيونغ يانغ بتطبيع علاقاتها مع تل أبيب مقابل وقف تعاونها العسكري مع طهران وأن تتولى تل أبيب مسؤولية مد الجسور بين بيونغ يانغ وواشنطن.
إنها بعض السيناريوهات التي لن تكون مفاجأة عندما تتم، وإن السؤال الذي يجب أن يُطرح الآن ليس: هل ستتفاوض واشنطن مع بيونغ يانغ؟ ولا حتى متى ستتفاوضان؟ فهما تتفاوضان سرًا وعلانية. السؤال هو: على ماذا ستتفاوضان؟ وإن طهران وتل أبيب لا تبعدان كثيرًا عن بيونغ يانغ.
___________________________________________
عزت شحرور - مدير مكتب الجزيرة في الصين