- الجمعة مايو 03, 2013 5:04 pm
#61801
ظاهرة الصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة
المصدر: السياسة الدولية
بقلم: احمد ابراهيم محمود
يمثل انهيار الاتحاد السوفيتى نقطة فاصلة فى حركة التطور السياسى العالمى خلال القرن العشرين، بحيث أدى ذلك بالضرورة إلى أحداث تحولات جذرية فى كافة التفاعلات السياسية والاقتصادية والعسكرى والقيمة على المستوى العالمى وقد وبدت هذه المتغيرات ذاتها تحولات مماثلة فى ظاهرة الصراع الدولى، ذلك أن الظاهرة المذكورة كانت تتحدد دائما فى ضوء هيكلية النظام الدولى وعلاقات القوة السائدة فيه وينبع ذلك من أن انهيار نظام القطبية استثنائية أدى إلى توليد مصادر جديدة للصراع الدولى على مستويات عديدة، إذ تسبب هذا الانهيار فى إنهاء الحاجة إلى المناهج العالمية الشاملة للأمن، والتى كانت تمثل مطلبا حيويا فى ظل التصاريح والتنافس بين خصوم استراتيجيين قادرين على التحرك الفاعل على امتداد الساحة العالمية (1) وبالتالى، أدت هذه الوضعية إلى فقدان وانهيار ميكانيزمات الاستقرار وضبط الصراع التى طورتها القوتان العظميان فى ظل الحرب الباردة فى إطار قيامهما بإعادة تكييف كافة الصراعات الإقليمية فى العالم وفقا لصراعهما المركزى، الأمر الذى كان قد أتاح السيطرة على تناقضات المصالح الاقتصادية داخل المنظومة الرأسمالية العالمية بغرض التركيز على التمديد العسكرى السوفيتى، علاوة على قيام السوفييت بكبح الانقسامات العرقية المريرة داخل البلاد وفى أوروبا الشرقية، فضلا عن احتواء العديد من صراعات العالم الثالث والحد من احتمالات التصعيد فيها حينما بدأ أن ذلك يمكن أن يجر القوتين الأعظم ذاتهما إلى مواجهة شاملة (2).
وقد تسبب هذا الوضع فى نشوء العديد من التحديات البازغة فى البيئة الدولية، بل أن انتهاء الحرب الباردة شكل بحد ذاته منطلقا للعودة إلى ظاهرة ـ تعدد مصادر الصراع الدولى ـ DIVERSITY OF SOURCES OF INTERNATIONAL CONFLICT ويمكن القول بشكل عام أن التحول فى ظاهرة الصراع الدولى قد امتد إلى جميع العناصر والأبعاد المكونة للظاهرة، سواء المصادر المسببة للصراع الدولى أو مضمونه أو آلياته والحقيقة أن دراسة هذه الظاهرة فى طورها الجديد تستلزم اتباع منهج نظامى، SYSTEMATIC ـ APPROACH فى التناول يقوم على النظر إلى التحولات المذكورة فى ظاهرة الصراع الدولى باعتبارها إحدى النواتج الرئيسية للتغيرات الحادثة فى بنية المنظومة الدولية وسوف يجرى تطوير هذا المنهج بصورة اكثر توافقا مع أغراض هذه الدراسة، حيث يصبح من الملائم التعرض للضغوط والتحولات التى تلعب دورا رئيسيا فى توليد الصراع، ثم تناول التغييرات التى طرأت على مضمون الصراع الدولى والياته وهكذا، فان هذه الدراسة سوف تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، يتعرض أولها للمصادر الأساسية للصراع فى البيئة الدولية باعتبار ذلك نقطة البدء المحورية فى الدراسة، والتى تستتبع تحولات منطقية فى باقى مكونات الظاهرة أما القسم الثانى، فيختص بتناول التغيرات الحادثة فى مضمون ظاهرة الصراع الدولى، أى الجوانب، المختلفة التى يجرى التصارع والتنافس بشأنها فى عالم ما بعد الحرب الباردة وأخيرا، سوف يجرى التركيز فى القسم الثالث على التحولات الجارية فى آليات الصراع الدولى، أى فى الأبعاد المؤسسية للظاهرة.
أولا: المصادر الرئيسية فى البيئة الدولية.
يعتبر الصراع أحد جانبى التفاعلات الدولية، ويمتد بحكم هذه الصفة إلى كافة مجالات الحياة الإنسانية وبالتالى، تتعدد مصادر الصراع لا المجتمع الدولى، بحيث تشتمل على مصادر نفسية وتاريخية وجغرافية وسكانية واقتصادية وأيديولوجية ونظامية (3) ويمثل ما سبق عموما الشكل الإجمالى لمصادر الصراع الدولى، إلا أن الأوزان النسبية لهذه المصادر تختلف باختلاف النظام الدولى وتوزيع القوة وعلاقات القوة بين أطرافه وفى ظل هذه الوضعية، كان المصدر الرئيسى للصراع الدولى خلال الفترة ما بين 1945 ـ 1990 متمثلا فى المصدر الأيديولوجى، حيث انقسم العائم إلى معسكرين اشتراكى ورأسمالى تقود كل منهما دولة عظمى (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى) ، وكان كل منهما يتسلح بأيديولوجية عالمية شاملة تمتلك محتوى أخلاقيا، ولها القدرة على تفسير التاريخ الإنسانى وتحديد الأهداف البشرية طرق الوصول إلى تحقيقها وقد ولد الصراع الأيديولوجى تلك الحقبة بدوره طائفة متنوعة من مصادر الصراع الأخرى على كافة المستويات (4).
على أن انهيار الاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية كان بحد ذاته دليلا أكيدا على حالة الإفلاس الأيديولوجى الشامل الذى وصلت إليه النظم الماركسية ـ اللينينية إلى أوروبا الشرقية، الأمر الذى أدى إلى تراجع مكانته الأيديولوجية كمصدر من مصادر الصراع الدولى وإفساح الطريق أمام مصادر أخرى كانت فيما سبق تستحوذ على أوزان نسبية ضئيلة وفى مقدمة هذه المصادر يأتى العامل الاقتصادى كمصدر رئيسى من مصادر الصراع الدولى، حيث تلعب المتغيرات الاقتصادية فى الوقت الراهن دورا محوريا فى تشكيل وبلورة النمط العام لظاهرة الصراع الدولى، ويليها فى ذلك المصادر النظامية للصراع الدولى النابعة من هيكلية النظام الدولى وتوزيعات القوة بين وحداته و أخيرا، فعلى الرغم من أن الصراع التاريخى بين الماركسية ـ اللينينية والليبرالية قد حسم لصالح هذه الأخيرة إلا أن النظام الدولى مازال يشهد أشكالا شتى من التعارض الأيديولوجى، والذى يمثل بحد ذاته واحدا من المصادر المولدة للصراع الدولى، وإن كان بدرجة اقل حدة بكثير مما كان عليه الوضع أبان الحرب الباردة وفى ضوء ما سبق، فإن النوعية الأولى لمصادر الصراع الدولى فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة تتمثل فى المصادر الاقتصادية، حيث أصبحت المصالح الاقتصادية المتعارضة تمثل المصدر المحورى للصراع فى المرحلة الانتقالية الراهنة التى يمر بها النظام الدولى وواقع الأمر، أن هذه الوضعية تعتبر نتاجا موضوعيا للعديد من التناقضات الناجمة عن نظام الرأسمالية الاحتكارية المعمول به فى الدول الصناعية المتقدمة فى الغرب واليابان حيث أدت هذه التناقضات إلى تفاقم أزمة الركود الاقتصادى داخل الدول الرأسمالية بشكل عام وقد نشأت هذه الأزمة بفعل انقلاب موازين القوى الاقتصادية بين الدول الرأسمالية الكبرى لغير صالح الولايات المتحدة وأوروبا، ولصالح اليابان والدول الصناعية الجديدة، الأمر الذى أدى إلى انخفاض الطلب الكلى عن العرض الكلى للسلع والخدمات فى المنظومة الرأسمالية العالمية ومن غير الممكن تحليل هذا الانقلاب فى موازين القوى الاقتصادية دون الرجوع إلى نظام القطبية الثنائية وظروف الحرب الباردة بين القطبين فقد تحملت الولايات المتحدة مسئولية إدارة الصراع حول السيطرة العالمية مع الكتلة الاشتراكية، لاسيما من خلال سباق التسلح كأداة رئيسية لاستنزاف الاتحاد السوفيتى والحيلولة دون نجاحه فى تحقيق التحولات الاقتصادية والاجتماعية داخل الكتلة الاشتراكية عموما على أن هذا السباق أدى إلى تحميل الولايات المتحدة وحدها العبء الاقتصادى للتسلح، فى الوقت الذى جرى فيه إعفاء حلفائها من هذا العبء إلى حد كبير وقد ترتب على هذا العبء انخفاض قدرة الولايات المتحدة على الاستثمار فى مختلف مجالات التجديد التكنولوجى وتمكين حلفائها ـ خاصة اليابان وألمانيا ـ من التفوق الاقتصادى والتركيز على القيادة التكنولوجية فى القطاع المدنى وبالتالى، فقد استمرت الولايات المتحدة فى المحافظة على مكانتها القيادية غير المنازعة للغرب وللعالم فى الجانب العسكرى، إلا أن مكانتها تأخرت كثيرا فى المجال الاقتصادى، بحيث أصبحت ادنى بكثير فى علاقات القوة الاقتصادية بالمقارنة مع اليابان وألمانيا والدول الصناعية الجديدة، ويظهر ذلك بصفة خاصة فى مؤشرات مثل العجز المزمن فى الميزان التجارى وانتقال موازين الاستثمار المباشر ضد مصلحة الولايات المتحدة وتدهور القوة النسبية للدولار فى مواجهة العملات الأخرى القوية وخاصة ألين والمارك وتحول الاحتياطات النقدية الدولية للتقويم بهذه العملات الأخيرةوما إلى ذلك (5).
والحقيقة أن المظهر الرئيس الذى تجسدت فيه هذه الأزمة فى حالة التشبع التى أصبحت تميز الاقتصاد العالمى ككل فقد اتسع نطاق النظام الرأسمالى العالمى، فى الوقت الذى لا تسمح فيه علاقات التوزيع داخل الدول الرأسمالية الكبرى بان تنمو القدرة على الاستهلاك بنفس المعدل الذى تتجلى به القدرة على زيادة الإنتاج، بل أن هذه العلاقات التوزيعية تؤدى فى أغلب الأحيان إلى حددت احتلال فى التناسب بين فروع الإنتاج المختلفة، وبالذات بين الفروع المنتجة للسلع الاستهلاكية والفروع المنتجة للسلع الإنتاجية وقد آدت هذه الحالة إلى تعميق الصراع بين الدول الرأسمالية الكبرى من اجل أسواق التصريف وميادين توظيف رؤوس الأموال، الأمر الذى أقضى منطقيا إلى أيجاد أزمة فى عملية التراكم الرأسمالى، علاوة على تعطيل الدورات الاقتصادية لرأس المال وتلك الدول ومن ثم سارت عملية التراكم خلال الآونة الأخيرة بمعدلات غير ثابتة بفعل الخلل فى دورة راس المال، وعبر هذا الخلل عن ذاته فى صورة تعاظم التضخم والانكماش، وأيضا فى صورة تزايد النزعات الحمائية لدى الدول الرأسمالية أن مثل هذه النوعية من الأزمات ليست جديدة على النظام الرأسمالى العالمى، إذ انه شهدها مرارا من قبل، إلا أن الأزمة الراهنة تتميز عن سابقاتها عجز هذا النظام عن الوصول إلى صيغة مناسبة من التكيف مع الأزمة الهيكلية القائمة فإن الأزمة تعنى الحد من قدرة النظم الرأسمالية على تحقيق هدفها الرئيسى المتمثل فى تعظيم الأرباح، ومن ثم العجز عن تحقيق المزيد من التراكم ورأس المال وخفض الإنتاج وصعوبة إدخال تعديلات مستمرة فى الفنون الإنتاجيةوما إلى ذلك وقد مرت النظم الرأسمالية فيما مض بدائرة حلزونية من الأزمات الصاعدة والهابطة، وكانت هذه الأزمات ذاتها تفرز العديد من وسائل التكيف للتخفيف من حدة الأزمة فى صالح بقاء النظام الرأسمالى وإعادة إنتاجه (6)، إلا أن الرأسمالية تبدو فى الوقت الراهن كما لو كانت قد استنفذت كافة وسائل التكيف الممكنة، حيث تبدو ثمة صعوبة بالغة فى تحقيق المزيد من التوسع فى قاعدة أسلوب الإنتاج الرأسمالى، علاوة على أن أسواق التصريف تنكمش بصورة تدريجية، بل أن أسوق الإنتاج يشهد دخول المزيد من المنتجين إليه، بالإضافة إلى صعوبة فتح منافذ جديدة للاستثمار داخل المنظومة الرأسمالية العالمية وفى الوقت الراهن، يبدو واضحا أن الدول الرأسمالية الكبرى عجزت عن الوصول إلى صيغة مناسبة لتوزيع الأدوار فيما بينها مناطق العالم المختلفة، علاوة على أن دول أوروبا الشرقية والعالم الثالث ـ التى كان يمكن فتح أسواق لتصريف الفوائض فيها ـ لا تبدو فى اغلبها أسواقا ملائمة للتصريف لضعف القوة الشرائية بها وافتقارها إلى درجات الاستقرار السياسى والاقتصادى اللازمة لجعلها ميادين مناسبة لتوظيف رؤوس الأموال ويعنى ما سبق، أن جوهر الأزمة العامة للرأسمالية الاحتكارية فى طورها الراهن يتمثل فى التقلص التدريجى فى ميادين الاستثمار الرأسمالى بصورة اكثر من ذى قبل، فيما يمثل مصدرا متزايدا للمصادمات بين الدول الرأسمالية وعجزها عن استيعاب هذه المصادمات داخل الإطار المؤسسى، أى فى المنظمات الرأسمالية، لاسيما قمة الدول الصناعية السبع وبالإضافة إلى ما سبق، تتفاقم حالة التفاوت الاقتصادى الحاد فيما بين دول الشمال ودول الجنوب فعلى الرغم من انتهاء الانقسام الأيديولوجى العالمى فيما بين الشرق الاشتراكى والغرب الرأسمالى، فان الانقسام الاقتصادى بين الشمال المتقدم المهيمن والجنوب المتخلف التابع مازال قائما، بل أن هذا الانقسام الاقتصادى يتعزز باطراد فى الوقت الراهن، بحيث بات يكتسب أبعادا سياسية وحياتية جديدة بما يزيد خطورته يوما بعد يوم على الآمن والاستقرار الدوليين (7) ومما يزيد من خطورة هدا الانقسام الاقتصادى بين الشمال والجنوب أن تناقضات المصالح الاقتصادية بين الدول الرأسمالية الكبرى سوف تكون على حساب دول الجنوب بالدرجة الأولى، لاسيما من حيث أن النزعات الحمائية المتزايدة داخل المنظومة الرأسمالية العالمية، والتى تتخذ شكل الكل التجارية، سوف تؤدى إلى فرض قيود هائلة أمام نمو الصناعات التحويلية القائمة على التصدير إلى الخارج نى دول العالم الثالث، الأمر الذى يمكن أن يؤدى إلى إغلاق أسواق الدول المتقدمة فى وجه الصادرات الصناعية من الدول النامية، أو على الأقل فرض شروط اقتصادية وفنية صارمة على هذه الصادرات فى احسن الأحوال أما النوعية الثانية من مصادر الصراع الدولى، فتتمثل فى المصادر النظمية ذلك انه ليس من قبيل المبالغة القول أن تناقضات المصالح الاقتصادية بين دول المنظومة الرأسمالية باتت تمثل المظهر الخارجى لهرم كامل من مصادر الصراع الدولى الأخرى، وفى مقدمتها المصادر النظامية أى الناتجة عن طبيعة النظام الدولى وتوزيعات القوة وعلاقات القوة بين وحداته ومن هذا المنظور ينبغى التفريق بين مضمون الصراع القائم فى المرحلة الانتقالية الراهنة للنظام الدولى وبين الاحتمالات الممكنة لتطور النظام الدولى ففى المرحلة الانتقالية الراهنة للنظام الدولى، أدى انقلاب موازين القوى الاقتصادية صالح الولايات المتحدة، فى الوقت الذى مازالت تتمتع فيه بمهنة الريادة فى مجال تطوير التكنولوجيا العسكرية والأجيال الأكثر تطورا من نظم الأسلحة، إلى نشوء ما يعرف ب ـ عدم انسجام المكانة ـ STATUS INCONSISTENCY فى المجلات المختلفة للقوة، بينما تنعكس الصورة تماما مع دول أخرى مثل اليابان وألمانيا حيث تتمتع هذه الفئة الأخيرة من الدول بمهنة مرتفعة فى مؤشرات القوة الاقتصادية ومهنة منخفضة فى مجال القوة العسكرية، وتعتبر حالة عدم انسجام المهنة بشكل عام مصدرا قديما للصراع والعنف المسلح فيما بين الدول، كما كانت طاهرة شائعة فى المنظومة الدولية وخلال الفترة الراهنة، تتمثل الآثار التطبيقية لحالة عدم انسجام المكانة فى كونها أسندت وظيفة (الإنتاج المنظم للعنف) إلى دول معينة، يأتى فى مقدمتها الولايات المتحدة، بغض النظر عن المزايا الاقتصادية والتكنولوجية لهذه الدول ومن الطبيعى أن تتولد لدى مذ الدول دوافع قوية لتمويل المزايا العسكرية التى تتمتع بها إلى مزايا سياسية واقتصادية وعندما تفشل فى ذلك فى إطار التكوين المؤسسى للمنظومة الدولية، فانه يكون لديها دوافع قوية للعنف العسكرى الأمر الذى يدفع بدورة نحو توليد ـ استجابات دولية مختلفة تسعى أما لاستيعاب هذا العنف من خلال التأقلم السلبى اللاذعان للابتزاز من ناحية، أو الاصطدام العنيف ونمو نزعة العسكرى البرى الدول المتعرضة للابتزاز من ناحية أخرى، لاسيما لدى الدول القوية اقتصاديا والضعيفة عسكريا ويعنى ما سبق، أن حالة عدم انسجام المهنة تمكن أن تودى إلى نشوء فترة طويلة من التوترات المنيفة وإعادة ترتيب علاقات القوى، بما ينطوى عليه ذلك من احتمالات انفجار الأزمات والحروب (8).
وبطبيعة الحال، فأن هذه الوضعية تمثل مصدرا متبددا للصراع الدول بحكم ما تنطوى عليه من حرص الدول المنتجة للعنف المسلح على مواصلة الاحتفاظ بالأدوات العسكرية اللازمة لانتاج العنف المسلح، وبحكم ما يمكن أن تقدم عليه من استخدام سياسات الابتزاز وافرا والإجبار فى تفاعلاتها مع الدول الأخرى فى سياق سمعاها الحتمى لتحويل تفوقها العسكرى إلى مزايا سياسية واقتصادية ومن ناحية أخرى فان التحولات الهيكلية الحادثة فى قمة النظام الدولى فى اتجاه نبذ القوة العسكرية كأداة لتسوية الصراعات بين القوى الكبرى، لم تترافق مع تحولات مماثلة فى قاعدة النظام الدولى، أى فيما بين دول العالم الثالث على وبه التحديد فمازالت أقاليم العالم المكث تزخر بأشكال شتى من التوترات الناتجة عن تعدد الصراعات الاجتماعية الممتدة واختلاف السياسية للنظم الحاكمة، علاوة على تنامى مصادر متجددة للتعصب وللصراع المسلح ياتى فى مقدمتها الأشكال المختلفة للتفاوت فى معدلات التطور الاقتصادى فيما بين تلك الدول (9).
وفوق ذلك كله، فان مجمل هذه التوترات قد رسخت لدى العديد من دول العالم الثالث الاعتقاد لها حقوقا مهدرة لدى الخصوم الآخرين ومما يزيد من التوتر فى العالم الثالث أن الكثير من دوله مازالت تحتفظ بقوات عسكرية ضخمة، يمكن أن تصبح أداة هامة فى تزكية التنافس والصراع المسلح بينهما علاوة على أن نفس هذه الوضعية أدت إلى تنامى الصراعات منخفضة الحدة فى العالم المكث، لا سيما تلك الصراعات الناتجة عن اسلى التمرد والإرهاب الدولى (10) وفى ظل الوضع، تتحدث بض الكتابات الأكثر حداثة الدولية أن تحولات النظام الدولى يمكن أن تدفع بعض القوى الإقليمية فى العالم الثالث للإفادة من انهيار نظام القطبية الثنائية تعديل التوازنات الإقليمية لصالحها وتوسيع قاعدة نفوذها الإقليمى، كما حدث فى حالة الغزو العراقى للكويت (11) وفى نفس الوقت، فان تفاوت معدلات التطور الاقتصادى فى دول العالم الثالث يمكن أن يعمل على توليد مصادر ديموجرافية جديدة للصراع فيما بين تلك الدول، ذلك أن ازدياد معدلات النمو السكانى فى الدول ذات النمو الاقتصادى المحدود يمكن أن يزيد من معدلات الهجرة فيما بين الحدود، الأمر الذى يمكن أن يؤدى إلى نشوب نزاعات واسعة وصراعات سياسية (12) ويشير مجمل ما سبق إلى وجود طائفة متنوعة ومتعددة من المصادر المولدة للصراع والعنف المسلح فى أقاليم العالم الثالث، على أن هذه المصادر لا تمثل فى معظمها نتاجا للظروف والأوضاع الذاتية التى تعيشها ملك تلك الإقليم فحسب وانما تنبع أيضا من وضعية العالم الثالث كساحة للصراع الدولى الدائر القوى الكبرى داخل المنظومة الرأسمالية آما فيما يتعلق بمستقبل الصراع فى ضؤ المسارات المحتملة لتطور النظام الدول، فان معظم التحليلات المطروحة تنطلق بصفة أساسية من حقيقة وبود تراجع نسبى فى القوة الأمريكية، بما يؤكد استحالة دوام حالتى القطبية الأحادية الراهنة، والتى تتمتع فيها الولايات المتحدة بمهنة القوة العظمى الوحيدة فى العالم والواقع، أن كافة المؤشرات الإحصائية لتوزيع موارد القوة لاسيما القوة الاقتصادية، تدلل على تأكل قد:ـ الولايات المتحدة على الانفراد بالقيادة العالمية، إلا أن ذلك ـ برغم صحته ـ لا يترافق مع صعود قيادة بديلة، أى دولة تسيطر على معظم الموارد العالمية للقوة، وانما مع صعود هيكل قوة انتشارية نسبيا (13) وأيا كان الوضع، فإن احتمالات تطور النظام الدولى تصب جميعها فى اتجاه نشؤ نظام دولى متعدد الأقطاب، إلا أن الإشكالية المحورية القائمة فى هذا الشأن تنصب فى تعيين درجات التعاون والصراع المميزة لهذا النمط المحتمل لتطور النظام الدولى، إذ انه ليس منه ما يساعد تماما على القطع بما إذا كانت القوى المتنافسة داخل المنظومة الرأسمالية العالمية سوف تنجح فى احتواء تناقضاتها وخلافاتها (بما لوردى إلى نضؤ نظام كتلى متوازن)، أم إنها سوف تعجز بلورة نظام ما لتقسيم العمل وتنظيم التعاون فيما بينها، (بما يمكن أن مادى إلى ظهور نظام كتلى تنافسى فوضوى) ومن ثم، فان مستقبل ظاهرة الصراع الدولى ككل ببدو مرهونا باحتمالات التطور المذكورة فى النظام الدولى ففى ظل النظام الكتلى المتوازن، سوف ينقسم العالم الصناعى المتقدم إلى كل كبرى متنافسة، ولكن متوازنة، بما قد يفض إلى حالة من الاستقرار النسبى فى العلاقات بين هذه الكل الدولية وفى هذه الحالة، فان نمط الصراع الدولى سوف يتحدد فى ضؤ حرب التفاعل بين المراكز المتنافسة وعلاقتها بدول الجنوب، حيث انه كلما تعاظمت عوامل الوحدة والتجانس بين مراكز القوة المتنافسة للسيطرة على المنظومة الدولية، كلما أمكن السيطرة على المنافسات وتعاظمت مستويات التجانس فيما بينها مع تنامى ميل قوى لفك الصلة مع دول الجنوب، بينما مادة تفاقم التناقضات والمنافسات بين هذه المراكز إلى ظهور ميل قوى للسيطرة المباشرة على الجنوب، بما يعنى أن للعالم الثالث ربما يمثل ساحة الصراع العسكرى والسياسى غير المباشر بين القوى الرأسمالية الكبرى فى ظل سيادة علاقات التنافس بينهما أما فى ظل نشوء كيان كتلى فوضوى بفعل اختلال العلاقات بين الكتل الدولية الكبرى أو بسبب عجزها عن السيطرة على التناقضات فيما بين دول الجنوب و أجزاء معينة من الشمال، فإن تناقضات المصالح وانفلات المشاعر القومية والعرقية والطائفية والدينية يمكن أن تودى إلى تورط الكتل الدولية الكبرى فى التناقضات المذكورة بما يؤدى إلى فوضى عارمة فى النظام الدولى وزيادة احتمالات توسيع الصراعات والحروب لتصبح مادية أو عالمية (14) ويعنى ذلك ـ أن النمط العام للصراع الدولى سوف يختلف اختلافا جذريا ما بين المسارات المحتملة لتطور النظام الدولى ـ، والواضح فى جميع الحالات وأن دول الجنوب سوف تتحمل العبء الأكبر للصراع أيا كانت أنماطه وأشكاله، إلا أن هذا العبء سوف يختلف حسب طبيعة العلاقات القائمة بين القوى الدولية الكبرى وأخيرا، فإن المصدر الثالث للصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة، يتمثل فى المصادر الأيديولوجية، حيث أدى انتهاء الاستقطاب فيما بين الكتلتين الاشتراكية والرأسمالية إلى إعطاء درجة أكبر من البروز لمصادر أخرى للصراع الأيديولوجى فى النظام الدولى، وتتسم هذه الوضعية الصراعية الأيديولوجية بالتعدد الواضح فى الأنماط والمستويات فمن ناحية، تتسم بتعدد المستويات نظرا لأنها تميز كافة المستويات الأفقية والرأسية داخل النظام الدولى، أى فيما بين الشمال والجنوب فى مواجهة بعضهما البعض، وفى داخل كل منهما على حدة كما يتصف الصراع الأيديولوجى من ناحية أخرى بتعدد الأنماط نظرا لكونه ينطوى على قدر هائل من التنافس بين الأيديولوجيات السياسية والدينية والاقتصادية ففى الوقت الراهن تشهد الأيديولوجية الليبرالية الغربية أزمة هيكلية حادة على كافة المستويات فقد أدى الانتصار النهائى الذى حققته الليبرالية فى صراعها الضارى ضد النموذج الاشتراكى إلى جعل الليبرالية أيديولوجية عالمية لا تقتصر فقط على الغرب، و إنما أصبحت نموذجا إنسانيا شاملا تشترك فيه البشرية جمعاء، الامر الذى أدى إلى إحساس الغرب بفقدان الخصوصية الأيديولوجية بعد أن أصبحت كافة شعوب العالم تشترك فى تبنى النموذج الليبرالى وصياغة أفكاره ومشروعاته، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن التأثير العاصف الذى أحدثته الثورة الصناعية الثالثة فى توحيد منظومات القيم والأفكار فى الغرب أدى إلى نشوء تهديدات حقيقية لقدرة الليبرالية على تجديد ذاتها ولقدرتها على توليد المشروعات والأفكار الكبرى ـ وسادت بدلا من ذلك أيديولوجيات ناعمة تتلاشى فيها الحدود بين نظم الأفكار والأيديولوجيات السياسية ومشروعات الأحزاب المختلفة، حيث اصبح الجميع يتبنون نفس القيم والمبادئ والأفكار، وبات جوهر الليبرالية وثقافتها وفلسفتها يتلاشى بعد أن تضاءلت الاختبارات المتنوعة والمتعددة (15) وربما كان هذا الوضع يشير إلى وصول الأيديولوجية الليبرالية بدورها إلى مرحلة الإفلاس الشامل، الأمر الذى أدى بدوره إلى ترعرع وتنامى الاتجاهات اليمينية المتطرفة داخل أوروبا الغربية، لا سيما ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وفى نفس الوقت، يمثل صعود ظاهرة الإسلام السياسى فى العديد من دول الشرق الأوسط مصدرا من مصادر الصراع الأيديولوجى فى النظام الدولى فى إحدى دلالاته، ذلك أن جوهر هذه الظاهرة يرتكز على النظر إلى الإسلام باعتباره منهجا بديلا فى الفكر والممارسة للمنهج الليبرالى الغربى وبحكم هذه الصفة، فإن ظاهرة الإسلام السياسى تنطوى على رفض النموذج الحضارى الغربى وتدعو بدلا من ذلك إلى إقامة المجتمع الإسلامى، إلا أن جماعات الإسلام السياسى تختلف فيما بينها اختلافا بينا فى وسائل تحقيق هذا الهدف فالجماعات الإسلامية المعتدلة تدعو إلى إقامة المجتمع الإسلامى من خلال التغيير التدريجى السلمى بدلا من الثورة الراديكالية باعتبار ذلك الطريق السليم لتقوية الإسلام فى مجتمعاته بينما تدعو الجماعات المتطرفة إلى استخدام العنف والإطاحة بالأنظمة السياسية الفاسدة وتطهير المجتمع الإسلامى من الذيول اليسارية والعلمانية وتخليص أراضى المسلمين من القوى الأجنبية والواقع، أن قطاعات بالغة الأهمية داخل المنظومة الرأسمالية العالمية باتت تنظر إلى ظاهرة الإسلام السياسى باعتبارها مصدرا رئيسيا من مصادر التهديد فى النظام الدولى، وأكدت على ذلك العديد من الكتابات المنشورة والتصريحات المعلنة، ومن أهم تلك الكتابات كتاب (انتهزوا الفرصة)، الذى ألفه الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون، والذى خصص فيه فصلا كاملا عن (العالم الإسلامى)، ودعا فيه إلى تحجيم من أسماهم ب (الأصوليين) و (الرجعيين) من النظم الحاكمة فى العالم الإسلامى، والاقتصار على التعاون مع النظم التقدمية الإسلامية الساعية إلى الارتباط مع العالم المتحضر من الناحية السياسية والاقتصادية (16).
وبصورة موازية، تنامت أيضا الأيديولوجيات الدينية الأخرى (المسيحية واليهودية) فى مختلف مجتمعاتها بدرجات متفاوتة (17) كما تنامت أيضا الولايات العرقية والروابط الأولية فى العديد من مجتمعات العالم الصناعى المتقدم بصورة غير مسبوقة خلال القرن العشرين وقد برزت هذه الإشكالية بصفة أساسية فى القارة الأوروبية، لا سيما حول هوية أوروبا وموقعها الجغرافى ودورها التاريخى، ويبدو ذلك واضحا بصفة خاصة فى (18).
ـ التناقضات المذهبية بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت فى القارة الأوروبية، وهى تناقضات غير منفصلة عن الكتل الاجتماعية والاقليات، أو غلبة الطابع العرقى التعددى على جغرافية أوروبا السياسية.
ـ التناقضات السياسية والاجتماعية القائمة على تعدد الهاويات القومية بين شعوب دول أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية، أى التناقضات بين شرق القارة وغربها التناقضات القومية والدينية فى داخل كل دولة أوروبية وهكذا، فإن انهيار الاتحاد السوفيتى وانتهاء الصراع الضارى بين الاشتراكية والليبرالية لم يؤد إلى انتهاء ظاهرة الصراع الدولى كما ذهبت بعض الكتابات المبكرة، وإنما يعتبر الصراع ظاهرة قديمة ضم التاريخ الإنسانى نفسه، علاوة على أن تحولات النظام الدولى ذاتها تلعب دورا محوريا فى خلق آليات تفاعلية لتوليد مصادر متعددة للصراع فيما بين الدول، بحيث ترتبط هذه المصادر المتجددة ارتباطا وثيقا مع مضمون التحولات الحادثة فى النظام الدولى وقائمة الاهتمامات البارزة فيه وتوزيعات القوة بين وحداته.
ثانيا: مضمون الصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة:
من البديهى القول أن مضمون الصراع الدولى فى مرحلة تاريخية ما يتحدد حسب طبيعة المصادر الفعلية أو المحتملة المولدة لهذا الصراع وطبيعة المشكلات القائمة على مائدة البحث والسمنة فى نسيج العلاقات الدولية فى نفس المرحلة ومن ثم فإن مضمون الصراع يعتبر من حيث الجوهر بمثابة نوع من الاستجابة مع المصادر المدركة للصراع وفى المرحلة الراهنة، يعد يكون مضمون الصراع الدولى محصورا فى ثلاثة أشكال رئيسية يمثل كل منها نوعا من التجاوب مع مصدر محدد من مصادر الصراع فالشكل الأول للصراع يتمثل فى استمرار معدلات التسلح، فيما يمثل تجاوبا مع التوترات النظامية القائمة، بينما يتمحور الشكل الثانى فى تزايد النزعات الحمائية والكتل التجارية كنوع من التجاوب مع المصادر الاقتصادية للصراع الدولى وأخيرا، يتحدد الشكل الثالث للصراع الدولى فى العمل على فرض الهيمنة على العالم الثالث من جانب القوى الكبرى فى المنظومة الرأسمالية العالمية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وتنبع الدوافع الكامنة وراء استمرار معدلات التسلح العالية كشكل رئيس من أشكال الصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة من أن القوة المسلحة كانت ومازالت بمثابة القبضة التى تعبر عن قوة الدولة فى تفاعلاتها مع العالم الخارجى، وخلاصة عناصر قوتها بأبعادها الشاملة والمتعددة، كما تعتبر أداة الدولة فى الصدام العضوى مع الدول الأخرى لتحقيق أهدافها السياسية ولذلك مازالت معظم الدول فى النظام الدولى تسعى إلى زيادة قدراتها الدفاعية وحماية مصالحها القومية لتصبح دولا ذات نفوذ وتأثير من خلال زيادة القدرات والإمكانات العسكرية والنووية وعلى الرغم من انتهاء الاستقطاب الأيديولوجى العلاقات الدولية وانهيار نظام القطبية الثنائية، فإن القوى الكبرى داخل المنظومة الرأسمالية العالمية تعمل فى الوقت الحالى على البحث عن عقائد استخدام جديده لما تمتلكه من أسلحة ومعدات بما يتفق مع المتغيرات الدولية، وبما يساعد تلك الدول فى تعزيز محنتها ودورها فى النظام الدولى ويبدو التوصيف السابق واضحا بصفة خاصة فى حالة التسلح النووى، حيث أصبحت الولايات المتحدة تنظر إلى القوة النووية باعتبارها أداة هامة لتصحيح التفاوت الذى تشعر به بين قدراتها العسكرية الهائلة وإمكانيتها الاقتصادية المتدهورة نسبياوفى ظل هذا الوضع، بادرت القوى الدولية الأخرى المالكة للسلاح النووى إلى ربط مصير قدراتها النووية بمدى إمكانية الاتفاق على أسس مشتركة ومتبادلة لتحقيق المزيد من نزع السلاح والقضاء على مصادر عدم الاستقرار النووى، فى المجتمع الدولى وينطوى ذلك ضمينا على امتناع تلك القوى عن التخلى عن قدراتها النووية طالما تحرص الولايات المتحدة على الاحتفاظ بقدراتها النووية المماثلة (19) والواقع أن الوثائق الرسمية الأمريكية القليلة الصادرة فى هذا الشأن تؤكد على ضرورة احتفاظ الولايات المتحدة بقدر كبير من القوة التقليدية والنووية، بما يسمح لها بالحفاظ على مكانتها الريادية فى النظام الدولى وردع جميع الخصوم المحتملين حول العالم، بما فى ذلك المنافسون الاقتصاديون داخل المنظومة الرأسمالية العالمية مثل ألمانيا واليابان وعلى الرغم من أن المصادر الرسمية وغير الرسمية فى الولايات المتحدة تؤكد على ضرورة تحقيق المزيد من الخفض فى الترسانة النووية الأمريكية وتغيير خطة الأهداف التى سوف توجه أليها الأسلحة النووية، إلا أن هناك حرصا أمريكيا واضحا على إبقاء القوة النووية عند مستوى لا يقل عن خمسة آلاف رأس نووى ويؤكد ذلك على أن التفوق العسكرى الأمريكى بصفة عامة، والنووى بصفة خاصة، بات يستحوذ على أهمية متزايدة السياسية الخارجية الأمريكية بوصفها أداة فاعلة من أدوات تنفيذ هذه السياسية، لا سيما فى ظل التدهور الشديد فى القدرة التنافسية للاقتصاد الأمريكى، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى الإفادة من المزايا النسبية التى تتمتع بها فى المجال العسكرى من خلال تحويلها إلى مزايا سياسية واقتصادية ويتخذ هذا المسعى شكلا تطبيقيا يقوم على توظيف القوة النووية الأمريكية فى دعم مهنة الولايات المتحدة كل إلى الإفادة فى الشئون العالمية، علاوة على ردع أية أعمال عدائية من جانب الخصوم المحتملين سواء فى العالم الثالث أو فى رابطة الكومنولث أو داخل المنظومة الرأسمالية ذاتها، أى أن الاستخدامات الرئيسية للقوة النووية فى السياسة الأمريكية تتمحور أساسا حول وظيفتى الردع والمكانة وفى نفس الوقت، ترى الولايات المتحدة أن التهديدات المذكرة لا تحتاج إلى استراتيجيات الردع التى سادت أبان الحرب الباردة، وإنما تحتاج فقط إلى مستويات منخفضة من الردع فى إطار ما يطلق عليه (استراتيجية الردع الأدنى) ، والتى تنطوى على إجراء خفض كبير فى الترسانة النووية الأمريكية، مع الإبقاء على عناصر الردع النووى وأدواته فى حدودهما الدنيا وفى ظل هذا الوضع، بادرت القوى النووية الأخرى فى العالم إلى ربط سياساتها النووية بالموقف الأمريكى، لاسيما روسيا والصين واللتان أكدتا على ضرورة ارتكاز جهد نزع السلاح النووى على أساس متبادلة، مع ضرورة أن تنطلق هذه العملية فى إطار مجهود جماعى شامل لتدمير الأسلحة النووية، بل أن فرنسا وبريطانيا ذاتهما اشتركتا هذا الموقف أيضا، حيث على استعدادهما الدائم للمشاركة فى جهود نزع السلاح، إلا انهما تطالبان بالمساواة التامة بين جميع القوى النووية فى العالم، وترفضان بالتالى التخلى عن قوتهما النووية طالما ظلت الولايات المتحدة ودول الكومنولث والصين تمتلك ترسانات نووية كبر حجما وكثر تقدما ومن ناحية أخرى، يمتد الحفاظ على مستويات التسلح العالية أيضا إلى القوة التقليدية، حيث يعبر المسئولون الأمريكيون عن اعتقادهم أن القوة التقليدية تستطيع دعم الاستقرار السياسى فى النظام الدولى وإقامة العلاقات الدولية مع معظم دول العالم والإسهام فى إستراتيجية مكافحة الفوضى والشغب وردع العدوان والقتلى الفعلى فى حالة فشل الردع وقد تدعمت هذه الاتجاهات بقوة عقب حرب الخليج الثانية، والتى أكدت أن القوة التقليدية يمكنها التعامل بصورة حاسمة مع طائفة واسعة من الأزمات الدولية وتحديد الدافع النهائى لها ومن ثم يجرى العمل فى الولايات المتحدة على إقامة بناء جديد للقوة التقليدية يجمع بين المهارات المتعددة والقدرة على الانتشار السرى فى مناطق الأزمات والقدرة على الحسم (20) وفى اتجاه مواز، تعمل دول أوروبا الغربية على تعزيز أوضاعها الدفاعية فى عالم ما بعد الحرب الباردة من كل القوة التقليدية، مع مهام وطبيعة حلف شمال الأطلنطى فعلى الرغم من أن دول غرب أوروبا استبعدت إستراتيجيتها الجديدة ما يسمى ب، التهديد التقليدى لحلف أرسو إلا أنها حرصت فى نفس الوقت على تحيد الدور الرادع للقوة التقليدية والنووية كضمان للحفاظ على الأمن فى أوروبا والتأكيد على الصفة الدفاعية للحلف (21).
وفى نفس الوقت مازالت الكثير من دول العالم الثالث تحتفظ بترسانات عسكرية ضخمة لمجابهة التهديدات العديدة الماثلة أمامها وتتمثل الصورة الرئيسية الثانية للصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة فى تنامى النزعات الحمائية والكتل التجارية فقد تمخضت المصادر الاقتصادية للصراع الدولى عن حالة من الفوضى فى النظام الاقتصادى العالمى، الأمر الذى ترك آثاره بالدرجة الأولى على حقل التجارة الدولية، لاسيما فيما يتعلق بدعم النزعة المتزايدة نحو الحمائية والتجارة المقيدة ودعم التوجه نحو تفضيل الإدارة الثنائية والحية على نظام التجارة المفتوحة فى ظل الاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة (الجات)، وذلك بهدف احتواء منافسة السلع المستوردة الرفيعة والمحافظة على الطاقات الإنتاجية ومعدل التشغيل فى الفروع المحلية المنافسة وتنطوى النزعة الحمائية على استخدام ـ سلة ـ من الأدوات الحمائية غير التعريفية أبرزها القيود الكمية والإعانات والمنح المقدمة للصناعات المحلية خاصة التى تحل محل الواردات، علاوة على التدخلات الإدارية المتنوعة وتعتبر أكثر الدول الغربية لجوءا إلى الحواجز غير التعريفية هى الدول اكثر تقدما، لاسيما الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وكندا، وتمتد الإجراءات الحمائية إلى النطاقان الرئيسية للنشاط الاقتصادى مثل السلع الأولية والسلع المصنعة والخدمات والمتدفقات التكنولوجية وتدلل اتجاهات التطور طويلة الأمد لهذه الظاهرة على أن الحواجز غير الجمركية لن تخف مع الوقت نظرا لنشوء جماعات مصالح يرتبط تصورها لمنافعها بالدفاع عن الحماية، سواء فى أوساط أصحاب العمل أو أوساط العمال أنفسهم، بالإضافة إلى قيام البيروقراطية بدور هام متزايد وهذا الشان (23) وفى نفس هذا السياق، برزت ظاهرة التكتل الاقتصادى والتجارى باعتبارها أهم الإجراءات الحمائية المستخدمة فى الصراع الاقتصادى بين القوى الكبرى داخل المنظومة الرأسمالية العالمية فقد اتسمت الفترة منذ منتصف الثمانينات بالتعاقب السريع للتحركات الرامية إلى توسيع الكل التجارية القائمة أو تعميقها أو إنشاء كل جديدة، حيث بدأت دول الجماعة الأوروبية تحركا مكثفا لتطبيق توصيات الكتاب الأبيض لعام 1185 والقانون الأوروبى الموحد لعام 1987 بشأن مشروع أوروبا 1992 كما أعلنت الولايات المتحدة وكندا عن إنشاء منطقة للتجارة الحرة فى يناير 1988، ثم لحقت بهما المكسيك عام 1991، أصبحت المفاوضات تدور بين الدول الثلاث للانتهاء من تكوين منطقة للتجارة الحرة لأمريكا الشمالية، بل وبدأت المفاوضات الأولى تجارية فى نصف الكرة الغربى، كما أعلنت عدة مبادرات لتكوين كل تجارية أو تجمعات اقتصادية فى آسيا وبناء على ما سبق، تتمثل أهم الكل التجارية القائمة فيما يلى (23).
ـ الجماعة الأوروبية، حيث يسعى مشروع أوروبا 1992 إلى توفير الحماية للاقتصاديات الأوروبية لزيادة قدرتها على المنافسة مع اليابان والولايات المتحدة والدول الصناعية الجديدة فى مجال التجارة الدولية، لاسيما فى الفروع اكثر ديناميكية وتوسعا مثل صناعة المعلومات والإليكترونيات الدقيقة ومن ثم يسعى هذا المشروع إلى تحقيق الحماية المطلوبة عن طريق مجموعة من الوسائل الاقتصادية والوسائل الإدارية ذات الطبيعة الحمائية وتشتمل الوسائل الاقتصادية على حرية رأس المال والعمل وتناسق السياسات الاقتصادية الكلية أما الوسائل الإدارية ذات الطبيعة الحمائية، فهى تشتمل على التعريفة الجمركية الموحدة وتوحيد المواصفات الفنية والعوائق الفنية والإدارية الأخرى.
ـ منطقة التجارة الحرة لأمرين الشمالية، فقد كان الهدف الرئيس للولايات المتحدة من إنشاء منطقة التجارة الحرة مع كندا أوائل الثمانينيات يتمثل فى محاولة الضغط على الشركاء التجاريين الأساسيين لها (الجماعة الأوروبية، اليابان) عن طريق إظهار أن لدى الولايات المتحدة بدائل أخرى للتوسيع التجارى، بالإضافة إلى محاولة التغلب على نظام الدعم الحكومى الكندى للمنتجات الصناعية والحصول على حقوق المواطنة والتدفق الحر لاستثماراتها كندا أما كندا، فقد سعت من خلال هذا التكتل إلى التغلب على النزعة الحمائية المتصاعدة داخل الولايات المتحدة، والتى تفرض قيودا على صادراتها الصناعية إلى الجانب الأمريكى وقد وقع الجانبان على اتفاقية التجارة الحرة فى يناير 1988، الأمر الذى شجع الولايات المتحدة على الدعوة بعد ذلك إلى إقامة منطقة تجارة حرة فى نصف الكرة الغربى بأسرة، وتمثلت الخطوة الأولى فى هذا الصدد فى عقد اتفاقية مماثلة للتجارة الحرة مع المكسيك بحيث تكون المكسيك جسرا للتبادل التجارى بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، إلا أن جهود إنشاء هذا التكتل مازالت تواجه صعابا شاقة مبعثها الاختلاف الشديد فى أهداف مختلف الأطراف مشروعات التكتل التجارى فى آسيا وغرب الباسيفيكى، وانطلقت أساسا من الرغبة فى مواجهة الموجة العاصفة من إجراءات الحماية المباشرة وغير المباشرة التى أصبح حقل التجارة الدولية يحفل بها وهناك فى الواقع ثلاثة محاور للتكتل التجارى فى تلك المناطق هى رابطة جنوب شرق أسيا المعروفة باسم (الأسيان) جماعة التعاون الاقتصادى لآسيا الباسيفيكية المعروفة باسم (الأوبيك رابطة جنوب أسيا للتعاون الإقليمى المعروفة باسم (سارك) وعلى وجه العموم، مازالت أفكار التكتل التجارى والاقتصادى فى آسيا نحو مبادرات دبلوماسية فى معظمها لم تترجم إلى مشروعات محددة وهكذا، فإن الصراع الاقتصادى اصبح يمثل الملمح الأكثر بروزا فى ظاهرة الصراع الدولى فى الوقت الراهن، حيث أدت الأشكال المتباينة من الإجراءات الحمائية المباشرة وغير المباشرة التى تتسم بها حركة التجارة الدولية إلى إشاعة الاضطراب فى نظام التجارة الدولية متعدد الأطراف المعمول به، الأمر الذى يترك انعكاساته على كافة دول العالم، وأيضا على كافة المستويات السياسية والاقتصادية فى العلاقات الدولية وبالإضافة إلى الشكلين السابقين، فإن محاولات الهيمنة على العالم النامى تمثل الشكل الثالث للصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة بل أن الهيمنة على العالم النامى باتت تستقطب حيزا رئيسيا من السلوك السياسى لدول المنظومة الرأسمالية العالمية، لاسيما الولايات المتحدة، حيث يعتبر ذلك مطلبا حيويا لانتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية والاقتصادية والعسكرية وتحقيق أقص درجة ممكنة من الضبط والتحكم فى عجلة التطور الدولى بما لا يهدد مصالحها الأفق المنظور، إلا أن هذا الهدف يختلف اختلافا بينا حسب مستويات التطور الاقتصادى لدى كل دولة من دول العالم الثالث وطبيعة تفاعلاتها مع الولايات المتحدة والغرب الرأسمالى عموما ففى الوقت الراهن، تتباين دول العالم الثالث فيما بينها فى كافة مجالات التطور الاقتصادى والسياسى والتكنولوجى والاجتماعى والمتوقع فى ظل التحولات العالمية الراهنة أن تتعقد علاقات دول الشمال بالدول النامية على اختلاف شرائحها ففى الوقت الذى تسود فيه علاقات الاعتماد، وربما الاعتماد المتبادل مع الشرائح العليا من الدول النامية، فإن علاقاتها مع دول الشمال منخفضة الدخل سوف تكون علاقات تبعية وتدخل وسيطرة استعمارية (24) والحقيقة، أن دول المنظومة الرأسمالية العالمية كانت قد أحكمت منذ فترة ليست بالقصيرة سيطرتها الاقتصادية والنقدية والتجارية على دول العالم الثالث، استنزافها فى إطار التكوين الرأسمالى العالمى كامتداد لنفس الأوضاع الاستعمارية التى كانت سائدة خلال فترات ما قبل موجة التحرر الوطنى فى العالم الثالث، إلا أن جهود الهيمنة التى تبذلها القوى الرأسمالية الكبرى ترمى إلى القضاء على احتمالات تهديد الاستقرار الإقليمى والعالمى، التى يمكن أن تتفاقم بفعل استمرار احتفاظ الكثير من دول العالم الثالث بقوات عسكرية ضخمة، لاسيما فى الأقاليم المليئة بالصراعات والتوترات وتنصب الجهود المبذولة فى هذا الاتجاه فى مجالين رئيسيين، أولهما إقامة أبنية عسكرية تقليدية قادرة على مجابهة التهديدات التى يحتمل أن تنشأ العالم الثالث، وثانيهما فرض نظم صارمة للرقابة على التسلح والحد منه فى أقاليم العالم الثالث المختلفة، لاسيما بالنسبة للدول الراديكالية التى تتسم تفاعلاتها مع الولايات المتحدة والقوى الغربية بغلبة الطابع الصراع، بما لا يؤدى إلى الحد من استمرار تدفق الأسلحة والمعدات إليها فحسب، ولكن أيضا لتقليص القدرات التسبيحية الموجودة لدى تلك الدول وتستهدف جهود الحد من التسلح التى تقوم بها الدول الصناعية المتقدمة بقيادة الولايات المتحدة ضد العالم الثالث عموما، ضمان تمرير أعمال إعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية فى العالم الثالث والحيلولة دون إقدام الأطراف المتنازعة على اللجوء إلى تسوية منازعاتها بالقوة العسكرية ومنعها من العمل على تحقيق طموحاتها الإقليمية من خلال القوة وتلعب الولايات المتحدة دورا قياديا فى توجه هذه الجهود، حيث تمركز هذه الجهود على ما يسميه البعض ب (مذهب الكلاونفيتزية الجديدة) الذى يسعى إلى توظيف أعمال الحد من التسلح باعتبارها شكلا من أشكال السلوك السياسى الرامى إلى تقليص القدرات التسليحية للخصوم الفعليين أو المحتملين، دون أن يترتب على ذلك التأثير سلبا على قدرة الولايات المتحدة على مواصلة التنافس العسكرى بفاعلية (25) وفى مراحل الإعداد والتخطيط، وجدت الإدارة الأمريكية أن هناك عددا من المتغيرات المتفاعلة القائمة فى القوة الراهنة التى يمكن أن تحقق قدرا من النجاح لأعمال الحد من التسلح فى العالم الثالث بصفة عامة فعلى جانب العرض، حاولت الجهود الأمريكية للحد من التسلح الإفادة من مستويات التعاون غير المسبوقة بين الدول الصناعية المتقدمة فى مواجهة الغزو العراقى للكويت، بما يفيد فى تقليل الضغوط التنافسية فيما بينها على بيع السلاح إلى العالم الثالث، لاسيما وأن ذلك الغزو شكل بحد ذاته حالة نموذجية لإظهار نتائج استمرار سباقات التسلح فى العالم الثالث ومن ناحية ثانية، حاولت الإدارة الأمريكية الإفادة من الأدوار الجديدة للأمم المتحدة كأداة لحل المنازعات وقيادة الجهود الدولية فى مجال الحد من التسلح على المستوى العالمى وفى نفس الوقت، نشطت السياسة الأمريكية فى بناء إجماع قوى بين الدول المصدرة للسلاح بقصد الالتزام بأنظمة الحد من التسلح وفى نفس هذا الإطار وجدت الولايات المتحدة أن هناك بعض المتغيرات القائمة على جانب الطلب التى يمكن أن تساعد دول العالم الثالث ذاتها على التجاوب مع برامج الحد من التسلح، أولها أن المشتريات التسليحية أصبحت تمثل عبئا ثقيلا على الميزانيات الدفاعية لجميع الدول، وثانيها أن سباق التسلح فى العالم الثالث قد أدى إلى زيادة معدلات الانكشاف الأمنى فيما بينها، بدلا من أن يحقق لها قدرا أكبر من الأمن (26) وعلى هذا الأساس، فإن السلوك الأمريكى للحد من التسلح فى العالم الثالث أرتكز عند التطبيق على عدة إجراءات متداخلة أولها فرض القيود والشروط الصارمة على مبيعاتها من الأسلحة والمعدات، بحيث لم تعد هذه المبيعات متاحة فى السوق الأمريكية مثلما كان الوضع فيما مضى، وثانيها ممارسة الضغوط على الدول الحليفة والصديقة لمنع وصول الأسلحة والمعدات إلى الكثير من دول العالم الثالث، وأيضا لمنع تلك الدول من الحصول على القوة اللازمة لتطوير البدائل العسكرية الوطنية، وثالثها العمل على خلق الصناعات العسكرية فى دول العالم الثالث بهدف منعها من تمكين تلك الدول من كل المنتجات الوطنية العسكرية محل الواردات التسليحية من الخارج ومنعها أيضا من الدخول إلى ساحة التنافس فى مجالات البحث والتطوير والإنتاج الكمى للتكنولوجيا العسكرية الأكثر تقدما، ورابعها محاولة الحد من نشاط أسواق السلاح السوداء والرمادية فى الولايات المتحدة وأوروبا للحد من دورها فى عمليات تدفق السلاح من الشمال إلى الجنوب (27) وبالإضافة إلى ما سبق، لا يستبعد إقدام الولايات المتحدة ودول المنظومة الرأسمالية على الاستخدام الفعلى للقوة العسكرية حال تنامى القدرات التسليحية لدولة ما فى العالم الثالث، بما يهدد مصالحها بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ثالثا: آليات الصراع فى المرحلة الانتقالية الراهنة للنظام الدولى.
المقصود بآليات الصراع الدولى هنا هو عملية مؤسسة الصراع الدولى وأدارته كاتخاذ القرارات الكبرى فيها وتنبع أهمية هذا الجانب من حقيقة أن وحدات النظام الدولى كانت تسعى دائما إلى إدارة تفاعلاتها الصراعية عبر ترتيبات مؤسسية، تنعكس داخلها مصالح الدول الأعضاء وأهدافها وسبل الدفاع عنها والحفاظ عليها وفى ظروف الحرب الباردة، مثلت الأحلاف العسكرية التعبير المؤسسى الرئيس لظاهرة الصراع الدولى، كما مثلت الأداة الرئيسية فى إدارة الصراع وحفظ التوازن والردع ويعنى ذلك أن النمط العام للصراع الدولى خلال كل مرحلة تاريخية يفرز البنى المؤسسية اللازمة لإدارته، إلا أن تحديد وتعيين آليات الصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة تنطوى على درجة عالية من التعقيد بفعل حالة السيولة الشديدة لظاهرة الصراع خلال المرحلة الانتقالية الراهنة التى يمر بها النظام الدولى والتى تتسم بتعدد الأنماط والمستويات كما أشرنا سابقا وقد أدت هذه الخاصية إلى تداخل العلاقات الصراعية والتعاونية فيما بين الدول، حيث أن الدول المتحالفة معا فى مواجهة الصراع ما إنها تنخرط بدورها فى صراعات مختلفة بين بعضها البعض حول قضايا أخرى.
ومع ذلك، فإن آليات الصراع الدولى ومؤسساته تبدو كما لو كانت قد شكلت فى الوقت الراهن بحيث تختص كل آلية منها لمواجهة مصدر محدد من مصادر الصراع ففى ظل التنامى الملحوظ فى المصادر الاقتصادية للصراع ففى ظل التنامى فى تسيير حركة مجمل التفاعلات الدولية، فإن المؤسسات الاقتصادية العالمية أصبحت الساحة اكثر أتساعا للصراع الدولى أو التعبير المؤسسى الرئيسى لدى التكتلات المتنافسة لإدارة تفاعلاتها الصراعية مع بعضها البعض.
ويبدو ذلك واضحا فى كافة المنظمات العالمية التى تشهد تنافسا ضاريا حول المصالح الاقتصادية فيما بين الدول الأعضاء، إلا أنه يعتبر اكثر وضوحا فى حالة التكتلات التجارية التى أنشئت فى إطار تنامى النزعات الحمائية لدى مجموعة معينة من الدول ضد العالم الخارجى فالجماعة الأوروبية تمثل اضخم نظام حمائى فى حركة التطور الاقتصادى العالمى سواء بفعل ما ترتكز عليه من فرض لأنظمة الحصص العديدة أو بفعل مما تسعى إليه من زيادة القدرة التنافسية للاقتصاديات أوروبية ومعالجة التخلف النسبى للدول الأوروبية فى مجال أنشطة الابتكار التكنولوجى ولارتقاه النسبى فى تكلفة الإنتاج الأوروبى بفعل تفتت الاقتصاديات الأوروبية واستمرار الحواجز على التدفق الحر للسلع والخدمات والعمال ورؤوس الأموال دول القارة الأوروبية كذلك فإن الدعوة الأمريكية المطروحة حاليا لإعادة منطقة تجارة حرة فى نصف الكرة الغربى تنطوى على محاولة ضمنية للضغط على الشركات التجاريين الكبار للولايات المتحدة فى أوروبا واليابان للقبول بمقترحاتها فى مجال تحرير تجارة الزراعة والخدمات، أى أن هذه الدعوة تسعى إلى تعزيز المركز التنافسى الأمريكى فى الحرب الاقتصادية الباردة الدائرة حاليا فيما بين الكتل التجارية الكبرى داخل المنظومة الرأسمالية العالمية وفى نفس هذا السياق، تنطلق مشروعات التكتل التجارى فى آسيا وغرب الباسيفيكى من الرغبة فى مواجهة الموجة العاصفة من إجراءات الحماية المباشرة وغير المباشرة التى اصبح صقل التجارة الدولية يحمل بها.
المصدر: السياسة الدولية
بقلم: احمد ابراهيم محمود
يمثل انهيار الاتحاد السوفيتى نقطة فاصلة فى حركة التطور السياسى العالمى خلال القرن العشرين، بحيث أدى ذلك بالضرورة إلى أحداث تحولات جذرية فى كافة التفاعلات السياسية والاقتصادية والعسكرى والقيمة على المستوى العالمى وقد وبدت هذه المتغيرات ذاتها تحولات مماثلة فى ظاهرة الصراع الدولى، ذلك أن الظاهرة المذكورة كانت تتحدد دائما فى ضوء هيكلية النظام الدولى وعلاقات القوة السائدة فيه وينبع ذلك من أن انهيار نظام القطبية استثنائية أدى إلى توليد مصادر جديدة للصراع الدولى على مستويات عديدة، إذ تسبب هذا الانهيار فى إنهاء الحاجة إلى المناهج العالمية الشاملة للأمن، والتى كانت تمثل مطلبا حيويا فى ظل التصاريح والتنافس بين خصوم استراتيجيين قادرين على التحرك الفاعل على امتداد الساحة العالمية (1) وبالتالى، أدت هذه الوضعية إلى فقدان وانهيار ميكانيزمات الاستقرار وضبط الصراع التى طورتها القوتان العظميان فى ظل الحرب الباردة فى إطار قيامهما بإعادة تكييف كافة الصراعات الإقليمية فى العالم وفقا لصراعهما المركزى، الأمر الذى كان قد أتاح السيطرة على تناقضات المصالح الاقتصادية داخل المنظومة الرأسمالية العالمية بغرض التركيز على التمديد العسكرى السوفيتى، علاوة على قيام السوفييت بكبح الانقسامات العرقية المريرة داخل البلاد وفى أوروبا الشرقية، فضلا عن احتواء العديد من صراعات العالم الثالث والحد من احتمالات التصعيد فيها حينما بدأ أن ذلك يمكن أن يجر القوتين الأعظم ذاتهما إلى مواجهة شاملة (2).
وقد تسبب هذا الوضع فى نشوء العديد من التحديات البازغة فى البيئة الدولية، بل أن انتهاء الحرب الباردة شكل بحد ذاته منطلقا للعودة إلى ظاهرة ـ تعدد مصادر الصراع الدولى ـ DIVERSITY OF SOURCES OF INTERNATIONAL CONFLICT ويمكن القول بشكل عام أن التحول فى ظاهرة الصراع الدولى قد امتد إلى جميع العناصر والأبعاد المكونة للظاهرة، سواء المصادر المسببة للصراع الدولى أو مضمونه أو آلياته والحقيقة أن دراسة هذه الظاهرة فى طورها الجديد تستلزم اتباع منهج نظامى، SYSTEMATIC ـ APPROACH فى التناول يقوم على النظر إلى التحولات المذكورة فى ظاهرة الصراع الدولى باعتبارها إحدى النواتج الرئيسية للتغيرات الحادثة فى بنية المنظومة الدولية وسوف يجرى تطوير هذا المنهج بصورة اكثر توافقا مع أغراض هذه الدراسة، حيث يصبح من الملائم التعرض للضغوط والتحولات التى تلعب دورا رئيسيا فى توليد الصراع، ثم تناول التغييرات التى طرأت على مضمون الصراع الدولى والياته وهكذا، فان هذه الدراسة سوف تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، يتعرض أولها للمصادر الأساسية للصراع فى البيئة الدولية باعتبار ذلك نقطة البدء المحورية فى الدراسة، والتى تستتبع تحولات منطقية فى باقى مكونات الظاهرة أما القسم الثانى، فيختص بتناول التغيرات الحادثة فى مضمون ظاهرة الصراع الدولى، أى الجوانب، المختلفة التى يجرى التصارع والتنافس بشأنها فى عالم ما بعد الحرب الباردة وأخيرا، سوف يجرى التركيز فى القسم الثالث على التحولات الجارية فى آليات الصراع الدولى، أى فى الأبعاد المؤسسية للظاهرة.
أولا: المصادر الرئيسية فى البيئة الدولية.
يعتبر الصراع أحد جانبى التفاعلات الدولية، ويمتد بحكم هذه الصفة إلى كافة مجالات الحياة الإنسانية وبالتالى، تتعدد مصادر الصراع لا المجتمع الدولى، بحيث تشتمل على مصادر نفسية وتاريخية وجغرافية وسكانية واقتصادية وأيديولوجية ونظامية (3) ويمثل ما سبق عموما الشكل الإجمالى لمصادر الصراع الدولى، إلا أن الأوزان النسبية لهذه المصادر تختلف باختلاف النظام الدولى وتوزيع القوة وعلاقات القوة بين أطرافه وفى ظل هذه الوضعية، كان المصدر الرئيسى للصراع الدولى خلال الفترة ما بين 1945 ـ 1990 متمثلا فى المصدر الأيديولوجى، حيث انقسم العائم إلى معسكرين اشتراكى ورأسمالى تقود كل منهما دولة عظمى (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى) ، وكان كل منهما يتسلح بأيديولوجية عالمية شاملة تمتلك محتوى أخلاقيا، ولها القدرة على تفسير التاريخ الإنسانى وتحديد الأهداف البشرية طرق الوصول إلى تحقيقها وقد ولد الصراع الأيديولوجى تلك الحقبة بدوره طائفة متنوعة من مصادر الصراع الأخرى على كافة المستويات (4).
على أن انهيار الاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية كان بحد ذاته دليلا أكيدا على حالة الإفلاس الأيديولوجى الشامل الذى وصلت إليه النظم الماركسية ـ اللينينية إلى أوروبا الشرقية، الأمر الذى أدى إلى تراجع مكانته الأيديولوجية كمصدر من مصادر الصراع الدولى وإفساح الطريق أمام مصادر أخرى كانت فيما سبق تستحوذ على أوزان نسبية ضئيلة وفى مقدمة هذه المصادر يأتى العامل الاقتصادى كمصدر رئيسى من مصادر الصراع الدولى، حيث تلعب المتغيرات الاقتصادية فى الوقت الراهن دورا محوريا فى تشكيل وبلورة النمط العام لظاهرة الصراع الدولى، ويليها فى ذلك المصادر النظامية للصراع الدولى النابعة من هيكلية النظام الدولى وتوزيعات القوة بين وحداته و أخيرا، فعلى الرغم من أن الصراع التاريخى بين الماركسية ـ اللينينية والليبرالية قد حسم لصالح هذه الأخيرة إلا أن النظام الدولى مازال يشهد أشكالا شتى من التعارض الأيديولوجى، والذى يمثل بحد ذاته واحدا من المصادر المولدة للصراع الدولى، وإن كان بدرجة اقل حدة بكثير مما كان عليه الوضع أبان الحرب الباردة وفى ضوء ما سبق، فإن النوعية الأولى لمصادر الصراع الدولى فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة تتمثل فى المصادر الاقتصادية، حيث أصبحت المصالح الاقتصادية المتعارضة تمثل المصدر المحورى للصراع فى المرحلة الانتقالية الراهنة التى يمر بها النظام الدولى وواقع الأمر، أن هذه الوضعية تعتبر نتاجا موضوعيا للعديد من التناقضات الناجمة عن نظام الرأسمالية الاحتكارية المعمول به فى الدول الصناعية المتقدمة فى الغرب واليابان حيث أدت هذه التناقضات إلى تفاقم أزمة الركود الاقتصادى داخل الدول الرأسمالية بشكل عام وقد نشأت هذه الأزمة بفعل انقلاب موازين القوى الاقتصادية بين الدول الرأسمالية الكبرى لغير صالح الولايات المتحدة وأوروبا، ولصالح اليابان والدول الصناعية الجديدة، الأمر الذى أدى إلى انخفاض الطلب الكلى عن العرض الكلى للسلع والخدمات فى المنظومة الرأسمالية العالمية ومن غير الممكن تحليل هذا الانقلاب فى موازين القوى الاقتصادية دون الرجوع إلى نظام القطبية الثنائية وظروف الحرب الباردة بين القطبين فقد تحملت الولايات المتحدة مسئولية إدارة الصراع حول السيطرة العالمية مع الكتلة الاشتراكية، لاسيما من خلال سباق التسلح كأداة رئيسية لاستنزاف الاتحاد السوفيتى والحيلولة دون نجاحه فى تحقيق التحولات الاقتصادية والاجتماعية داخل الكتلة الاشتراكية عموما على أن هذا السباق أدى إلى تحميل الولايات المتحدة وحدها العبء الاقتصادى للتسلح، فى الوقت الذى جرى فيه إعفاء حلفائها من هذا العبء إلى حد كبير وقد ترتب على هذا العبء انخفاض قدرة الولايات المتحدة على الاستثمار فى مختلف مجالات التجديد التكنولوجى وتمكين حلفائها ـ خاصة اليابان وألمانيا ـ من التفوق الاقتصادى والتركيز على القيادة التكنولوجية فى القطاع المدنى وبالتالى، فقد استمرت الولايات المتحدة فى المحافظة على مكانتها القيادية غير المنازعة للغرب وللعالم فى الجانب العسكرى، إلا أن مكانتها تأخرت كثيرا فى المجال الاقتصادى، بحيث أصبحت ادنى بكثير فى علاقات القوة الاقتصادية بالمقارنة مع اليابان وألمانيا والدول الصناعية الجديدة، ويظهر ذلك بصفة خاصة فى مؤشرات مثل العجز المزمن فى الميزان التجارى وانتقال موازين الاستثمار المباشر ضد مصلحة الولايات المتحدة وتدهور القوة النسبية للدولار فى مواجهة العملات الأخرى القوية وخاصة ألين والمارك وتحول الاحتياطات النقدية الدولية للتقويم بهذه العملات الأخيرةوما إلى ذلك (5).
والحقيقة أن المظهر الرئيس الذى تجسدت فيه هذه الأزمة فى حالة التشبع التى أصبحت تميز الاقتصاد العالمى ككل فقد اتسع نطاق النظام الرأسمالى العالمى، فى الوقت الذى لا تسمح فيه علاقات التوزيع داخل الدول الرأسمالية الكبرى بان تنمو القدرة على الاستهلاك بنفس المعدل الذى تتجلى به القدرة على زيادة الإنتاج، بل أن هذه العلاقات التوزيعية تؤدى فى أغلب الأحيان إلى حددت احتلال فى التناسب بين فروع الإنتاج المختلفة، وبالذات بين الفروع المنتجة للسلع الاستهلاكية والفروع المنتجة للسلع الإنتاجية وقد آدت هذه الحالة إلى تعميق الصراع بين الدول الرأسمالية الكبرى من اجل أسواق التصريف وميادين توظيف رؤوس الأموال، الأمر الذى أقضى منطقيا إلى أيجاد أزمة فى عملية التراكم الرأسمالى، علاوة على تعطيل الدورات الاقتصادية لرأس المال وتلك الدول ومن ثم سارت عملية التراكم خلال الآونة الأخيرة بمعدلات غير ثابتة بفعل الخلل فى دورة راس المال، وعبر هذا الخلل عن ذاته فى صورة تعاظم التضخم والانكماش، وأيضا فى صورة تزايد النزعات الحمائية لدى الدول الرأسمالية أن مثل هذه النوعية من الأزمات ليست جديدة على النظام الرأسمالى العالمى، إذ انه شهدها مرارا من قبل، إلا أن الأزمة الراهنة تتميز عن سابقاتها عجز هذا النظام عن الوصول إلى صيغة مناسبة من التكيف مع الأزمة الهيكلية القائمة فإن الأزمة تعنى الحد من قدرة النظم الرأسمالية على تحقيق هدفها الرئيسى المتمثل فى تعظيم الأرباح، ومن ثم العجز عن تحقيق المزيد من التراكم ورأس المال وخفض الإنتاج وصعوبة إدخال تعديلات مستمرة فى الفنون الإنتاجيةوما إلى ذلك وقد مرت النظم الرأسمالية فيما مض بدائرة حلزونية من الأزمات الصاعدة والهابطة، وكانت هذه الأزمات ذاتها تفرز العديد من وسائل التكيف للتخفيف من حدة الأزمة فى صالح بقاء النظام الرأسمالى وإعادة إنتاجه (6)، إلا أن الرأسمالية تبدو فى الوقت الراهن كما لو كانت قد استنفذت كافة وسائل التكيف الممكنة، حيث تبدو ثمة صعوبة بالغة فى تحقيق المزيد من التوسع فى قاعدة أسلوب الإنتاج الرأسمالى، علاوة على أن أسواق التصريف تنكمش بصورة تدريجية، بل أن أسوق الإنتاج يشهد دخول المزيد من المنتجين إليه، بالإضافة إلى صعوبة فتح منافذ جديدة للاستثمار داخل المنظومة الرأسمالية العالمية وفى الوقت الراهن، يبدو واضحا أن الدول الرأسمالية الكبرى عجزت عن الوصول إلى صيغة مناسبة لتوزيع الأدوار فيما بينها مناطق العالم المختلفة، علاوة على أن دول أوروبا الشرقية والعالم الثالث ـ التى كان يمكن فتح أسواق لتصريف الفوائض فيها ـ لا تبدو فى اغلبها أسواقا ملائمة للتصريف لضعف القوة الشرائية بها وافتقارها إلى درجات الاستقرار السياسى والاقتصادى اللازمة لجعلها ميادين مناسبة لتوظيف رؤوس الأموال ويعنى ما سبق، أن جوهر الأزمة العامة للرأسمالية الاحتكارية فى طورها الراهن يتمثل فى التقلص التدريجى فى ميادين الاستثمار الرأسمالى بصورة اكثر من ذى قبل، فيما يمثل مصدرا متزايدا للمصادمات بين الدول الرأسمالية وعجزها عن استيعاب هذه المصادمات داخل الإطار المؤسسى، أى فى المنظمات الرأسمالية، لاسيما قمة الدول الصناعية السبع وبالإضافة إلى ما سبق، تتفاقم حالة التفاوت الاقتصادى الحاد فيما بين دول الشمال ودول الجنوب فعلى الرغم من انتهاء الانقسام الأيديولوجى العالمى فيما بين الشرق الاشتراكى والغرب الرأسمالى، فان الانقسام الاقتصادى بين الشمال المتقدم المهيمن والجنوب المتخلف التابع مازال قائما، بل أن هذا الانقسام الاقتصادى يتعزز باطراد فى الوقت الراهن، بحيث بات يكتسب أبعادا سياسية وحياتية جديدة بما يزيد خطورته يوما بعد يوم على الآمن والاستقرار الدوليين (7) ومما يزيد من خطورة هدا الانقسام الاقتصادى بين الشمال والجنوب أن تناقضات المصالح الاقتصادية بين الدول الرأسمالية الكبرى سوف تكون على حساب دول الجنوب بالدرجة الأولى، لاسيما من حيث أن النزعات الحمائية المتزايدة داخل المنظومة الرأسمالية العالمية، والتى تتخذ شكل الكل التجارية، سوف تؤدى إلى فرض قيود هائلة أمام نمو الصناعات التحويلية القائمة على التصدير إلى الخارج نى دول العالم الثالث، الأمر الذى يمكن أن يؤدى إلى إغلاق أسواق الدول المتقدمة فى وجه الصادرات الصناعية من الدول النامية، أو على الأقل فرض شروط اقتصادية وفنية صارمة على هذه الصادرات فى احسن الأحوال أما النوعية الثانية من مصادر الصراع الدولى، فتتمثل فى المصادر النظمية ذلك انه ليس من قبيل المبالغة القول أن تناقضات المصالح الاقتصادية بين دول المنظومة الرأسمالية باتت تمثل المظهر الخارجى لهرم كامل من مصادر الصراع الدولى الأخرى، وفى مقدمتها المصادر النظامية أى الناتجة عن طبيعة النظام الدولى وتوزيعات القوة وعلاقات القوة بين وحداته ومن هذا المنظور ينبغى التفريق بين مضمون الصراع القائم فى المرحلة الانتقالية الراهنة للنظام الدولى وبين الاحتمالات الممكنة لتطور النظام الدولى ففى المرحلة الانتقالية الراهنة للنظام الدولى، أدى انقلاب موازين القوى الاقتصادية صالح الولايات المتحدة، فى الوقت الذى مازالت تتمتع فيه بمهنة الريادة فى مجال تطوير التكنولوجيا العسكرية والأجيال الأكثر تطورا من نظم الأسلحة، إلى نشوء ما يعرف ب ـ عدم انسجام المكانة ـ STATUS INCONSISTENCY فى المجلات المختلفة للقوة، بينما تنعكس الصورة تماما مع دول أخرى مثل اليابان وألمانيا حيث تتمتع هذه الفئة الأخيرة من الدول بمهنة مرتفعة فى مؤشرات القوة الاقتصادية ومهنة منخفضة فى مجال القوة العسكرية، وتعتبر حالة عدم انسجام المهنة بشكل عام مصدرا قديما للصراع والعنف المسلح فيما بين الدول، كما كانت طاهرة شائعة فى المنظومة الدولية وخلال الفترة الراهنة، تتمثل الآثار التطبيقية لحالة عدم انسجام المكانة فى كونها أسندت وظيفة (الإنتاج المنظم للعنف) إلى دول معينة، يأتى فى مقدمتها الولايات المتحدة، بغض النظر عن المزايا الاقتصادية والتكنولوجية لهذه الدول ومن الطبيعى أن تتولد لدى مذ الدول دوافع قوية لتمويل المزايا العسكرية التى تتمتع بها إلى مزايا سياسية واقتصادية وعندما تفشل فى ذلك فى إطار التكوين المؤسسى للمنظومة الدولية، فانه يكون لديها دوافع قوية للعنف العسكرى الأمر الذى يدفع بدورة نحو توليد ـ استجابات دولية مختلفة تسعى أما لاستيعاب هذا العنف من خلال التأقلم السلبى اللاذعان للابتزاز من ناحية، أو الاصطدام العنيف ونمو نزعة العسكرى البرى الدول المتعرضة للابتزاز من ناحية أخرى، لاسيما لدى الدول القوية اقتصاديا والضعيفة عسكريا ويعنى ما سبق، أن حالة عدم انسجام المهنة تمكن أن تودى إلى نشوء فترة طويلة من التوترات المنيفة وإعادة ترتيب علاقات القوى، بما ينطوى عليه ذلك من احتمالات انفجار الأزمات والحروب (8).
وبطبيعة الحال، فأن هذه الوضعية تمثل مصدرا متبددا للصراع الدول بحكم ما تنطوى عليه من حرص الدول المنتجة للعنف المسلح على مواصلة الاحتفاظ بالأدوات العسكرية اللازمة لانتاج العنف المسلح، وبحكم ما يمكن أن تقدم عليه من استخدام سياسات الابتزاز وافرا والإجبار فى تفاعلاتها مع الدول الأخرى فى سياق سمعاها الحتمى لتحويل تفوقها العسكرى إلى مزايا سياسية واقتصادية ومن ناحية أخرى فان التحولات الهيكلية الحادثة فى قمة النظام الدولى فى اتجاه نبذ القوة العسكرية كأداة لتسوية الصراعات بين القوى الكبرى، لم تترافق مع تحولات مماثلة فى قاعدة النظام الدولى، أى فيما بين دول العالم الثالث على وبه التحديد فمازالت أقاليم العالم المكث تزخر بأشكال شتى من التوترات الناتجة عن تعدد الصراعات الاجتماعية الممتدة واختلاف السياسية للنظم الحاكمة، علاوة على تنامى مصادر متجددة للتعصب وللصراع المسلح ياتى فى مقدمتها الأشكال المختلفة للتفاوت فى معدلات التطور الاقتصادى فيما بين تلك الدول (9).
وفوق ذلك كله، فان مجمل هذه التوترات قد رسخت لدى العديد من دول العالم الثالث الاعتقاد لها حقوقا مهدرة لدى الخصوم الآخرين ومما يزيد من التوتر فى العالم الثالث أن الكثير من دوله مازالت تحتفظ بقوات عسكرية ضخمة، يمكن أن تصبح أداة هامة فى تزكية التنافس والصراع المسلح بينهما علاوة على أن نفس هذه الوضعية أدت إلى تنامى الصراعات منخفضة الحدة فى العالم المكث، لا سيما تلك الصراعات الناتجة عن اسلى التمرد والإرهاب الدولى (10) وفى ظل الوضع، تتحدث بض الكتابات الأكثر حداثة الدولية أن تحولات النظام الدولى يمكن أن تدفع بعض القوى الإقليمية فى العالم الثالث للإفادة من انهيار نظام القطبية الثنائية تعديل التوازنات الإقليمية لصالحها وتوسيع قاعدة نفوذها الإقليمى، كما حدث فى حالة الغزو العراقى للكويت (11) وفى نفس الوقت، فان تفاوت معدلات التطور الاقتصادى فى دول العالم الثالث يمكن أن يعمل على توليد مصادر ديموجرافية جديدة للصراع فيما بين تلك الدول، ذلك أن ازدياد معدلات النمو السكانى فى الدول ذات النمو الاقتصادى المحدود يمكن أن يزيد من معدلات الهجرة فيما بين الحدود، الأمر الذى يمكن أن يؤدى إلى نشوب نزاعات واسعة وصراعات سياسية (12) ويشير مجمل ما سبق إلى وجود طائفة متنوعة ومتعددة من المصادر المولدة للصراع والعنف المسلح فى أقاليم العالم الثالث، على أن هذه المصادر لا تمثل فى معظمها نتاجا للظروف والأوضاع الذاتية التى تعيشها ملك تلك الإقليم فحسب وانما تنبع أيضا من وضعية العالم الثالث كساحة للصراع الدولى الدائر القوى الكبرى داخل المنظومة الرأسمالية آما فيما يتعلق بمستقبل الصراع فى ضؤ المسارات المحتملة لتطور النظام الدول، فان معظم التحليلات المطروحة تنطلق بصفة أساسية من حقيقة وبود تراجع نسبى فى القوة الأمريكية، بما يؤكد استحالة دوام حالتى القطبية الأحادية الراهنة، والتى تتمتع فيها الولايات المتحدة بمهنة القوة العظمى الوحيدة فى العالم والواقع، أن كافة المؤشرات الإحصائية لتوزيع موارد القوة لاسيما القوة الاقتصادية، تدلل على تأكل قد:ـ الولايات المتحدة على الانفراد بالقيادة العالمية، إلا أن ذلك ـ برغم صحته ـ لا يترافق مع صعود قيادة بديلة، أى دولة تسيطر على معظم الموارد العالمية للقوة، وانما مع صعود هيكل قوة انتشارية نسبيا (13) وأيا كان الوضع، فإن احتمالات تطور النظام الدولى تصب جميعها فى اتجاه نشؤ نظام دولى متعدد الأقطاب، إلا أن الإشكالية المحورية القائمة فى هذا الشأن تنصب فى تعيين درجات التعاون والصراع المميزة لهذا النمط المحتمل لتطور النظام الدولى، إذ انه ليس منه ما يساعد تماما على القطع بما إذا كانت القوى المتنافسة داخل المنظومة الرأسمالية العالمية سوف تنجح فى احتواء تناقضاتها وخلافاتها (بما لوردى إلى نضؤ نظام كتلى متوازن)، أم إنها سوف تعجز بلورة نظام ما لتقسيم العمل وتنظيم التعاون فيما بينها، (بما يمكن أن مادى إلى ظهور نظام كتلى تنافسى فوضوى) ومن ثم، فان مستقبل ظاهرة الصراع الدولى ككل ببدو مرهونا باحتمالات التطور المذكورة فى النظام الدولى ففى ظل النظام الكتلى المتوازن، سوف ينقسم العالم الصناعى المتقدم إلى كل كبرى متنافسة، ولكن متوازنة، بما قد يفض إلى حالة من الاستقرار النسبى فى العلاقات بين هذه الكل الدولية وفى هذه الحالة، فان نمط الصراع الدولى سوف يتحدد فى ضؤ حرب التفاعل بين المراكز المتنافسة وعلاقتها بدول الجنوب، حيث انه كلما تعاظمت عوامل الوحدة والتجانس بين مراكز القوة المتنافسة للسيطرة على المنظومة الدولية، كلما أمكن السيطرة على المنافسات وتعاظمت مستويات التجانس فيما بينها مع تنامى ميل قوى لفك الصلة مع دول الجنوب، بينما مادة تفاقم التناقضات والمنافسات بين هذه المراكز إلى ظهور ميل قوى للسيطرة المباشرة على الجنوب، بما يعنى أن للعالم الثالث ربما يمثل ساحة الصراع العسكرى والسياسى غير المباشر بين القوى الرأسمالية الكبرى فى ظل سيادة علاقات التنافس بينهما أما فى ظل نشوء كيان كتلى فوضوى بفعل اختلال العلاقات بين الكتل الدولية الكبرى أو بسبب عجزها عن السيطرة على التناقضات فيما بين دول الجنوب و أجزاء معينة من الشمال، فإن تناقضات المصالح وانفلات المشاعر القومية والعرقية والطائفية والدينية يمكن أن تودى إلى تورط الكتل الدولية الكبرى فى التناقضات المذكورة بما يؤدى إلى فوضى عارمة فى النظام الدولى وزيادة احتمالات توسيع الصراعات والحروب لتصبح مادية أو عالمية (14) ويعنى ذلك ـ أن النمط العام للصراع الدولى سوف يختلف اختلافا جذريا ما بين المسارات المحتملة لتطور النظام الدولى ـ، والواضح فى جميع الحالات وأن دول الجنوب سوف تتحمل العبء الأكبر للصراع أيا كانت أنماطه وأشكاله، إلا أن هذا العبء سوف يختلف حسب طبيعة العلاقات القائمة بين القوى الدولية الكبرى وأخيرا، فإن المصدر الثالث للصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة، يتمثل فى المصادر الأيديولوجية، حيث أدى انتهاء الاستقطاب فيما بين الكتلتين الاشتراكية والرأسمالية إلى إعطاء درجة أكبر من البروز لمصادر أخرى للصراع الأيديولوجى فى النظام الدولى، وتتسم هذه الوضعية الصراعية الأيديولوجية بالتعدد الواضح فى الأنماط والمستويات فمن ناحية، تتسم بتعدد المستويات نظرا لأنها تميز كافة المستويات الأفقية والرأسية داخل النظام الدولى، أى فيما بين الشمال والجنوب فى مواجهة بعضهما البعض، وفى داخل كل منهما على حدة كما يتصف الصراع الأيديولوجى من ناحية أخرى بتعدد الأنماط نظرا لكونه ينطوى على قدر هائل من التنافس بين الأيديولوجيات السياسية والدينية والاقتصادية ففى الوقت الراهن تشهد الأيديولوجية الليبرالية الغربية أزمة هيكلية حادة على كافة المستويات فقد أدى الانتصار النهائى الذى حققته الليبرالية فى صراعها الضارى ضد النموذج الاشتراكى إلى جعل الليبرالية أيديولوجية عالمية لا تقتصر فقط على الغرب، و إنما أصبحت نموذجا إنسانيا شاملا تشترك فيه البشرية جمعاء، الامر الذى أدى إلى إحساس الغرب بفقدان الخصوصية الأيديولوجية بعد أن أصبحت كافة شعوب العالم تشترك فى تبنى النموذج الليبرالى وصياغة أفكاره ومشروعاته، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن التأثير العاصف الذى أحدثته الثورة الصناعية الثالثة فى توحيد منظومات القيم والأفكار فى الغرب أدى إلى نشوء تهديدات حقيقية لقدرة الليبرالية على تجديد ذاتها ولقدرتها على توليد المشروعات والأفكار الكبرى ـ وسادت بدلا من ذلك أيديولوجيات ناعمة تتلاشى فيها الحدود بين نظم الأفكار والأيديولوجيات السياسية ومشروعات الأحزاب المختلفة، حيث اصبح الجميع يتبنون نفس القيم والمبادئ والأفكار، وبات جوهر الليبرالية وثقافتها وفلسفتها يتلاشى بعد أن تضاءلت الاختبارات المتنوعة والمتعددة (15) وربما كان هذا الوضع يشير إلى وصول الأيديولوجية الليبرالية بدورها إلى مرحلة الإفلاس الشامل، الأمر الذى أدى بدوره إلى ترعرع وتنامى الاتجاهات اليمينية المتطرفة داخل أوروبا الغربية، لا سيما ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وفى نفس الوقت، يمثل صعود ظاهرة الإسلام السياسى فى العديد من دول الشرق الأوسط مصدرا من مصادر الصراع الأيديولوجى فى النظام الدولى فى إحدى دلالاته، ذلك أن جوهر هذه الظاهرة يرتكز على النظر إلى الإسلام باعتباره منهجا بديلا فى الفكر والممارسة للمنهج الليبرالى الغربى وبحكم هذه الصفة، فإن ظاهرة الإسلام السياسى تنطوى على رفض النموذج الحضارى الغربى وتدعو بدلا من ذلك إلى إقامة المجتمع الإسلامى، إلا أن جماعات الإسلام السياسى تختلف فيما بينها اختلافا بينا فى وسائل تحقيق هذا الهدف فالجماعات الإسلامية المعتدلة تدعو إلى إقامة المجتمع الإسلامى من خلال التغيير التدريجى السلمى بدلا من الثورة الراديكالية باعتبار ذلك الطريق السليم لتقوية الإسلام فى مجتمعاته بينما تدعو الجماعات المتطرفة إلى استخدام العنف والإطاحة بالأنظمة السياسية الفاسدة وتطهير المجتمع الإسلامى من الذيول اليسارية والعلمانية وتخليص أراضى المسلمين من القوى الأجنبية والواقع، أن قطاعات بالغة الأهمية داخل المنظومة الرأسمالية العالمية باتت تنظر إلى ظاهرة الإسلام السياسى باعتبارها مصدرا رئيسيا من مصادر التهديد فى النظام الدولى، وأكدت على ذلك العديد من الكتابات المنشورة والتصريحات المعلنة، ومن أهم تلك الكتابات كتاب (انتهزوا الفرصة)، الذى ألفه الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون، والذى خصص فيه فصلا كاملا عن (العالم الإسلامى)، ودعا فيه إلى تحجيم من أسماهم ب (الأصوليين) و (الرجعيين) من النظم الحاكمة فى العالم الإسلامى، والاقتصار على التعاون مع النظم التقدمية الإسلامية الساعية إلى الارتباط مع العالم المتحضر من الناحية السياسية والاقتصادية (16).
وبصورة موازية، تنامت أيضا الأيديولوجيات الدينية الأخرى (المسيحية واليهودية) فى مختلف مجتمعاتها بدرجات متفاوتة (17) كما تنامت أيضا الولايات العرقية والروابط الأولية فى العديد من مجتمعات العالم الصناعى المتقدم بصورة غير مسبوقة خلال القرن العشرين وقد برزت هذه الإشكالية بصفة أساسية فى القارة الأوروبية، لا سيما حول هوية أوروبا وموقعها الجغرافى ودورها التاريخى، ويبدو ذلك واضحا بصفة خاصة فى (18).
ـ التناقضات المذهبية بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت فى القارة الأوروبية، وهى تناقضات غير منفصلة عن الكتل الاجتماعية والاقليات، أو غلبة الطابع العرقى التعددى على جغرافية أوروبا السياسية.
ـ التناقضات السياسية والاجتماعية القائمة على تعدد الهاويات القومية بين شعوب دول أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية، أى التناقضات بين شرق القارة وغربها التناقضات القومية والدينية فى داخل كل دولة أوروبية وهكذا، فإن انهيار الاتحاد السوفيتى وانتهاء الصراع الضارى بين الاشتراكية والليبرالية لم يؤد إلى انتهاء ظاهرة الصراع الدولى كما ذهبت بعض الكتابات المبكرة، وإنما يعتبر الصراع ظاهرة قديمة ضم التاريخ الإنسانى نفسه، علاوة على أن تحولات النظام الدولى ذاتها تلعب دورا محوريا فى خلق آليات تفاعلية لتوليد مصادر متعددة للصراع فيما بين الدول، بحيث ترتبط هذه المصادر المتجددة ارتباطا وثيقا مع مضمون التحولات الحادثة فى النظام الدولى وقائمة الاهتمامات البارزة فيه وتوزيعات القوة بين وحداته.
ثانيا: مضمون الصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة:
من البديهى القول أن مضمون الصراع الدولى فى مرحلة تاريخية ما يتحدد حسب طبيعة المصادر الفعلية أو المحتملة المولدة لهذا الصراع وطبيعة المشكلات القائمة على مائدة البحث والسمنة فى نسيج العلاقات الدولية فى نفس المرحلة ومن ثم فإن مضمون الصراع يعتبر من حيث الجوهر بمثابة نوع من الاستجابة مع المصادر المدركة للصراع وفى المرحلة الراهنة، يعد يكون مضمون الصراع الدولى محصورا فى ثلاثة أشكال رئيسية يمثل كل منها نوعا من التجاوب مع مصدر محدد من مصادر الصراع فالشكل الأول للصراع يتمثل فى استمرار معدلات التسلح، فيما يمثل تجاوبا مع التوترات النظامية القائمة، بينما يتمحور الشكل الثانى فى تزايد النزعات الحمائية والكتل التجارية كنوع من التجاوب مع المصادر الاقتصادية للصراع الدولى وأخيرا، يتحدد الشكل الثالث للصراع الدولى فى العمل على فرض الهيمنة على العالم الثالث من جانب القوى الكبرى فى المنظومة الرأسمالية العالمية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وتنبع الدوافع الكامنة وراء استمرار معدلات التسلح العالية كشكل رئيس من أشكال الصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة من أن القوة المسلحة كانت ومازالت بمثابة القبضة التى تعبر عن قوة الدولة فى تفاعلاتها مع العالم الخارجى، وخلاصة عناصر قوتها بأبعادها الشاملة والمتعددة، كما تعتبر أداة الدولة فى الصدام العضوى مع الدول الأخرى لتحقيق أهدافها السياسية ولذلك مازالت معظم الدول فى النظام الدولى تسعى إلى زيادة قدراتها الدفاعية وحماية مصالحها القومية لتصبح دولا ذات نفوذ وتأثير من خلال زيادة القدرات والإمكانات العسكرية والنووية وعلى الرغم من انتهاء الاستقطاب الأيديولوجى العلاقات الدولية وانهيار نظام القطبية الثنائية، فإن القوى الكبرى داخل المنظومة الرأسمالية العالمية تعمل فى الوقت الحالى على البحث عن عقائد استخدام جديده لما تمتلكه من أسلحة ومعدات بما يتفق مع المتغيرات الدولية، وبما يساعد تلك الدول فى تعزيز محنتها ودورها فى النظام الدولى ويبدو التوصيف السابق واضحا بصفة خاصة فى حالة التسلح النووى، حيث أصبحت الولايات المتحدة تنظر إلى القوة النووية باعتبارها أداة هامة لتصحيح التفاوت الذى تشعر به بين قدراتها العسكرية الهائلة وإمكانيتها الاقتصادية المتدهورة نسبياوفى ظل هذا الوضع، بادرت القوى الدولية الأخرى المالكة للسلاح النووى إلى ربط مصير قدراتها النووية بمدى إمكانية الاتفاق على أسس مشتركة ومتبادلة لتحقيق المزيد من نزع السلاح والقضاء على مصادر عدم الاستقرار النووى، فى المجتمع الدولى وينطوى ذلك ضمينا على امتناع تلك القوى عن التخلى عن قدراتها النووية طالما تحرص الولايات المتحدة على الاحتفاظ بقدراتها النووية المماثلة (19) والواقع أن الوثائق الرسمية الأمريكية القليلة الصادرة فى هذا الشأن تؤكد على ضرورة احتفاظ الولايات المتحدة بقدر كبير من القوة التقليدية والنووية، بما يسمح لها بالحفاظ على مكانتها الريادية فى النظام الدولى وردع جميع الخصوم المحتملين حول العالم، بما فى ذلك المنافسون الاقتصاديون داخل المنظومة الرأسمالية العالمية مثل ألمانيا واليابان وعلى الرغم من أن المصادر الرسمية وغير الرسمية فى الولايات المتحدة تؤكد على ضرورة تحقيق المزيد من الخفض فى الترسانة النووية الأمريكية وتغيير خطة الأهداف التى سوف توجه أليها الأسلحة النووية، إلا أن هناك حرصا أمريكيا واضحا على إبقاء القوة النووية عند مستوى لا يقل عن خمسة آلاف رأس نووى ويؤكد ذلك على أن التفوق العسكرى الأمريكى بصفة عامة، والنووى بصفة خاصة، بات يستحوذ على أهمية متزايدة السياسية الخارجية الأمريكية بوصفها أداة فاعلة من أدوات تنفيذ هذه السياسية، لا سيما فى ظل التدهور الشديد فى القدرة التنافسية للاقتصاد الأمريكى، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى الإفادة من المزايا النسبية التى تتمتع بها فى المجال العسكرى من خلال تحويلها إلى مزايا سياسية واقتصادية ويتخذ هذا المسعى شكلا تطبيقيا يقوم على توظيف القوة النووية الأمريكية فى دعم مهنة الولايات المتحدة كل إلى الإفادة فى الشئون العالمية، علاوة على ردع أية أعمال عدائية من جانب الخصوم المحتملين سواء فى العالم الثالث أو فى رابطة الكومنولث أو داخل المنظومة الرأسمالية ذاتها، أى أن الاستخدامات الرئيسية للقوة النووية فى السياسة الأمريكية تتمحور أساسا حول وظيفتى الردع والمكانة وفى نفس الوقت، ترى الولايات المتحدة أن التهديدات المذكرة لا تحتاج إلى استراتيجيات الردع التى سادت أبان الحرب الباردة، وإنما تحتاج فقط إلى مستويات منخفضة من الردع فى إطار ما يطلق عليه (استراتيجية الردع الأدنى) ، والتى تنطوى على إجراء خفض كبير فى الترسانة النووية الأمريكية، مع الإبقاء على عناصر الردع النووى وأدواته فى حدودهما الدنيا وفى ظل هذا الوضع، بادرت القوى النووية الأخرى فى العالم إلى ربط سياساتها النووية بالموقف الأمريكى، لاسيما روسيا والصين واللتان أكدتا على ضرورة ارتكاز جهد نزع السلاح النووى على أساس متبادلة، مع ضرورة أن تنطلق هذه العملية فى إطار مجهود جماعى شامل لتدمير الأسلحة النووية، بل أن فرنسا وبريطانيا ذاتهما اشتركتا هذا الموقف أيضا، حيث على استعدادهما الدائم للمشاركة فى جهود نزع السلاح، إلا انهما تطالبان بالمساواة التامة بين جميع القوى النووية فى العالم، وترفضان بالتالى التخلى عن قوتهما النووية طالما ظلت الولايات المتحدة ودول الكومنولث والصين تمتلك ترسانات نووية كبر حجما وكثر تقدما ومن ناحية أخرى، يمتد الحفاظ على مستويات التسلح العالية أيضا إلى القوة التقليدية، حيث يعبر المسئولون الأمريكيون عن اعتقادهم أن القوة التقليدية تستطيع دعم الاستقرار السياسى فى النظام الدولى وإقامة العلاقات الدولية مع معظم دول العالم والإسهام فى إستراتيجية مكافحة الفوضى والشغب وردع العدوان والقتلى الفعلى فى حالة فشل الردع وقد تدعمت هذه الاتجاهات بقوة عقب حرب الخليج الثانية، والتى أكدت أن القوة التقليدية يمكنها التعامل بصورة حاسمة مع طائفة واسعة من الأزمات الدولية وتحديد الدافع النهائى لها ومن ثم يجرى العمل فى الولايات المتحدة على إقامة بناء جديد للقوة التقليدية يجمع بين المهارات المتعددة والقدرة على الانتشار السرى فى مناطق الأزمات والقدرة على الحسم (20) وفى اتجاه مواز، تعمل دول أوروبا الغربية على تعزيز أوضاعها الدفاعية فى عالم ما بعد الحرب الباردة من كل القوة التقليدية، مع مهام وطبيعة حلف شمال الأطلنطى فعلى الرغم من أن دول غرب أوروبا استبعدت إستراتيجيتها الجديدة ما يسمى ب، التهديد التقليدى لحلف أرسو إلا أنها حرصت فى نفس الوقت على تحيد الدور الرادع للقوة التقليدية والنووية كضمان للحفاظ على الأمن فى أوروبا والتأكيد على الصفة الدفاعية للحلف (21).
وفى نفس الوقت مازالت الكثير من دول العالم الثالث تحتفظ بترسانات عسكرية ضخمة لمجابهة التهديدات العديدة الماثلة أمامها وتتمثل الصورة الرئيسية الثانية للصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة فى تنامى النزعات الحمائية والكتل التجارية فقد تمخضت المصادر الاقتصادية للصراع الدولى عن حالة من الفوضى فى النظام الاقتصادى العالمى، الأمر الذى ترك آثاره بالدرجة الأولى على حقل التجارة الدولية، لاسيما فيما يتعلق بدعم النزعة المتزايدة نحو الحمائية والتجارة المقيدة ودعم التوجه نحو تفضيل الإدارة الثنائية والحية على نظام التجارة المفتوحة فى ظل الاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة (الجات)، وذلك بهدف احتواء منافسة السلع المستوردة الرفيعة والمحافظة على الطاقات الإنتاجية ومعدل التشغيل فى الفروع المحلية المنافسة وتنطوى النزعة الحمائية على استخدام ـ سلة ـ من الأدوات الحمائية غير التعريفية أبرزها القيود الكمية والإعانات والمنح المقدمة للصناعات المحلية خاصة التى تحل محل الواردات، علاوة على التدخلات الإدارية المتنوعة وتعتبر أكثر الدول الغربية لجوءا إلى الحواجز غير التعريفية هى الدول اكثر تقدما، لاسيما الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وكندا، وتمتد الإجراءات الحمائية إلى النطاقان الرئيسية للنشاط الاقتصادى مثل السلع الأولية والسلع المصنعة والخدمات والمتدفقات التكنولوجية وتدلل اتجاهات التطور طويلة الأمد لهذه الظاهرة على أن الحواجز غير الجمركية لن تخف مع الوقت نظرا لنشوء جماعات مصالح يرتبط تصورها لمنافعها بالدفاع عن الحماية، سواء فى أوساط أصحاب العمل أو أوساط العمال أنفسهم، بالإضافة إلى قيام البيروقراطية بدور هام متزايد وهذا الشان (23) وفى نفس هذا السياق، برزت ظاهرة التكتل الاقتصادى والتجارى باعتبارها أهم الإجراءات الحمائية المستخدمة فى الصراع الاقتصادى بين القوى الكبرى داخل المنظومة الرأسمالية العالمية فقد اتسمت الفترة منذ منتصف الثمانينات بالتعاقب السريع للتحركات الرامية إلى توسيع الكل التجارية القائمة أو تعميقها أو إنشاء كل جديدة، حيث بدأت دول الجماعة الأوروبية تحركا مكثفا لتطبيق توصيات الكتاب الأبيض لعام 1185 والقانون الأوروبى الموحد لعام 1987 بشأن مشروع أوروبا 1992 كما أعلنت الولايات المتحدة وكندا عن إنشاء منطقة للتجارة الحرة فى يناير 1988، ثم لحقت بهما المكسيك عام 1991، أصبحت المفاوضات تدور بين الدول الثلاث للانتهاء من تكوين منطقة للتجارة الحرة لأمريكا الشمالية، بل وبدأت المفاوضات الأولى تجارية فى نصف الكرة الغربى، كما أعلنت عدة مبادرات لتكوين كل تجارية أو تجمعات اقتصادية فى آسيا وبناء على ما سبق، تتمثل أهم الكل التجارية القائمة فيما يلى (23).
ـ الجماعة الأوروبية، حيث يسعى مشروع أوروبا 1992 إلى توفير الحماية للاقتصاديات الأوروبية لزيادة قدرتها على المنافسة مع اليابان والولايات المتحدة والدول الصناعية الجديدة فى مجال التجارة الدولية، لاسيما فى الفروع اكثر ديناميكية وتوسعا مثل صناعة المعلومات والإليكترونيات الدقيقة ومن ثم يسعى هذا المشروع إلى تحقيق الحماية المطلوبة عن طريق مجموعة من الوسائل الاقتصادية والوسائل الإدارية ذات الطبيعة الحمائية وتشتمل الوسائل الاقتصادية على حرية رأس المال والعمل وتناسق السياسات الاقتصادية الكلية أما الوسائل الإدارية ذات الطبيعة الحمائية، فهى تشتمل على التعريفة الجمركية الموحدة وتوحيد المواصفات الفنية والعوائق الفنية والإدارية الأخرى.
ـ منطقة التجارة الحرة لأمرين الشمالية، فقد كان الهدف الرئيس للولايات المتحدة من إنشاء منطقة التجارة الحرة مع كندا أوائل الثمانينيات يتمثل فى محاولة الضغط على الشركاء التجاريين الأساسيين لها (الجماعة الأوروبية، اليابان) عن طريق إظهار أن لدى الولايات المتحدة بدائل أخرى للتوسيع التجارى، بالإضافة إلى محاولة التغلب على نظام الدعم الحكومى الكندى للمنتجات الصناعية والحصول على حقوق المواطنة والتدفق الحر لاستثماراتها كندا أما كندا، فقد سعت من خلال هذا التكتل إلى التغلب على النزعة الحمائية المتصاعدة داخل الولايات المتحدة، والتى تفرض قيودا على صادراتها الصناعية إلى الجانب الأمريكى وقد وقع الجانبان على اتفاقية التجارة الحرة فى يناير 1988، الأمر الذى شجع الولايات المتحدة على الدعوة بعد ذلك إلى إقامة منطقة تجارة حرة فى نصف الكرة الغربى بأسرة، وتمثلت الخطوة الأولى فى هذا الصدد فى عقد اتفاقية مماثلة للتجارة الحرة مع المكسيك بحيث تكون المكسيك جسرا للتبادل التجارى بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، إلا أن جهود إنشاء هذا التكتل مازالت تواجه صعابا شاقة مبعثها الاختلاف الشديد فى أهداف مختلف الأطراف مشروعات التكتل التجارى فى آسيا وغرب الباسيفيكى، وانطلقت أساسا من الرغبة فى مواجهة الموجة العاصفة من إجراءات الحماية المباشرة وغير المباشرة التى أصبح حقل التجارة الدولية يحفل بها وهناك فى الواقع ثلاثة محاور للتكتل التجارى فى تلك المناطق هى رابطة جنوب شرق أسيا المعروفة باسم (الأسيان) جماعة التعاون الاقتصادى لآسيا الباسيفيكية المعروفة باسم (الأوبيك رابطة جنوب أسيا للتعاون الإقليمى المعروفة باسم (سارك) وعلى وجه العموم، مازالت أفكار التكتل التجارى والاقتصادى فى آسيا نحو مبادرات دبلوماسية فى معظمها لم تترجم إلى مشروعات محددة وهكذا، فإن الصراع الاقتصادى اصبح يمثل الملمح الأكثر بروزا فى ظاهرة الصراع الدولى فى الوقت الراهن، حيث أدت الأشكال المتباينة من الإجراءات الحمائية المباشرة وغير المباشرة التى تتسم بها حركة التجارة الدولية إلى إشاعة الاضطراب فى نظام التجارة الدولية متعدد الأطراف المعمول به، الأمر الذى يترك انعكاساته على كافة دول العالم، وأيضا على كافة المستويات السياسية والاقتصادية فى العلاقات الدولية وبالإضافة إلى الشكلين السابقين، فإن محاولات الهيمنة على العالم النامى تمثل الشكل الثالث للصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة بل أن الهيمنة على العالم النامى باتت تستقطب حيزا رئيسيا من السلوك السياسى لدول المنظومة الرأسمالية العالمية، لاسيما الولايات المتحدة، حيث يعتبر ذلك مطلبا حيويا لانتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية والاقتصادية والعسكرية وتحقيق أقص درجة ممكنة من الضبط والتحكم فى عجلة التطور الدولى بما لا يهدد مصالحها الأفق المنظور، إلا أن هذا الهدف يختلف اختلافا بينا حسب مستويات التطور الاقتصادى لدى كل دولة من دول العالم الثالث وطبيعة تفاعلاتها مع الولايات المتحدة والغرب الرأسمالى عموما ففى الوقت الراهن، تتباين دول العالم الثالث فيما بينها فى كافة مجالات التطور الاقتصادى والسياسى والتكنولوجى والاجتماعى والمتوقع فى ظل التحولات العالمية الراهنة أن تتعقد علاقات دول الشمال بالدول النامية على اختلاف شرائحها ففى الوقت الذى تسود فيه علاقات الاعتماد، وربما الاعتماد المتبادل مع الشرائح العليا من الدول النامية، فإن علاقاتها مع دول الشمال منخفضة الدخل سوف تكون علاقات تبعية وتدخل وسيطرة استعمارية (24) والحقيقة، أن دول المنظومة الرأسمالية العالمية كانت قد أحكمت منذ فترة ليست بالقصيرة سيطرتها الاقتصادية والنقدية والتجارية على دول العالم الثالث، استنزافها فى إطار التكوين الرأسمالى العالمى كامتداد لنفس الأوضاع الاستعمارية التى كانت سائدة خلال فترات ما قبل موجة التحرر الوطنى فى العالم الثالث، إلا أن جهود الهيمنة التى تبذلها القوى الرأسمالية الكبرى ترمى إلى القضاء على احتمالات تهديد الاستقرار الإقليمى والعالمى، التى يمكن أن تتفاقم بفعل استمرار احتفاظ الكثير من دول العالم الثالث بقوات عسكرية ضخمة، لاسيما فى الأقاليم المليئة بالصراعات والتوترات وتنصب الجهود المبذولة فى هذا الاتجاه فى مجالين رئيسيين، أولهما إقامة أبنية عسكرية تقليدية قادرة على مجابهة التهديدات التى يحتمل أن تنشأ العالم الثالث، وثانيهما فرض نظم صارمة للرقابة على التسلح والحد منه فى أقاليم العالم الثالث المختلفة، لاسيما بالنسبة للدول الراديكالية التى تتسم تفاعلاتها مع الولايات المتحدة والقوى الغربية بغلبة الطابع الصراع، بما لا يؤدى إلى الحد من استمرار تدفق الأسلحة والمعدات إليها فحسب، ولكن أيضا لتقليص القدرات التسبيحية الموجودة لدى تلك الدول وتستهدف جهود الحد من التسلح التى تقوم بها الدول الصناعية المتقدمة بقيادة الولايات المتحدة ضد العالم الثالث عموما، ضمان تمرير أعمال إعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية فى العالم الثالث والحيلولة دون إقدام الأطراف المتنازعة على اللجوء إلى تسوية منازعاتها بالقوة العسكرية ومنعها من العمل على تحقيق طموحاتها الإقليمية من خلال القوة وتلعب الولايات المتحدة دورا قياديا فى توجه هذه الجهود، حيث تمركز هذه الجهود على ما يسميه البعض ب (مذهب الكلاونفيتزية الجديدة) الذى يسعى إلى توظيف أعمال الحد من التسلح باعتبارها شكلا من أشكال السلوك السياسى الرامى إلى تقليص القدرات التسليحية للخصوم الفعليين أو المحتملين، دون أن يترتب على ذلك التأثير سلبا على قدرة الولايات المتحدة على مواصلة التنافس العسكرى بفاعلية (25) وفى مراحل الإعداد والتخطيط، وجدت الإدارة الأمريكية أن هناك عددا من المتغيرات المتفاعلة القائمة فى القوة الراهنة التى يمكن أن تحقق قدرا من النجاح لأعمال الحد من التسلح فى العالم الثالث بصفة عامة فعلى جانب العرض، حاولت الجهود الأمريكية للحد من التسلح الإفادة من مستويات التعاون غير المسبوقة بين الدول الصناعية المتقدمة فى مواجهة الغزو العراقى للكويت، بما يفيد فى تقليل الضغوط التنافسية فيما بينها على بيع السلاح إلى العالم الثالث، لاسيما وأن ذلك الغزو شكل بحد ذاته حالة نموذجية لإظهار نتائج استمرار سباقات التسلح فى العالم الثالث ومن ناحية ثانية، حاولت الإدارة الأمريكية الإفادة من الأدوار الجديدة للأمم المتحدة كأداة لحل المنازعات وقيادة الجهود الدولية فى مجال الحد من التسلح على المستوى العالمى وفى نفس الوقت، نشطت السياسة الأمريكية فى بناء إجماع قوى بين الدول المصدرة للسلاح بقصد الالتزام بأنظمة الحد من التسلح وفى نفس هذا الإطار وجدت الولايات المتحدة أن هناك بعض المتغيرات القائمة على جانب الطلب التى يمكن أن تساعد دول العالم الثالث ذاتها على التجاوب مع برامج الحد من التسلح، أولها أن المشتريات التسليحية أصبحت تمثل عبئا ثقيلا على الميزانيات الدفاعية لجميع الدول، وثانيها أن سباق التسلح فى العالم الثالث قد أدى إلى زيادة معدلات الانكشاف الأمنى فيما بينها، بدلا من أن يحقق لها قدرا أكبر من الأمن (26) وعلى هذا الأساس، فإن السلوك الأمريكى للحد من التسلح فى العالم الثالث أرتكز عند التطبيق على عدة إجراءات متداخلة أولها فرض القيود والشروط الصارمة على مبيعاتها من الأسلحة والمعدات، بحيث لم تعد هذه المبيعات متاحة فى السوق الأمريكية مثلما كان الوضع فيما مضى، وثانيها ممارسة الضغوط على الدول الحليفة والصديقة لمنع وصول الأسلحة والمعدات إلى الكثير من دول العالم الثالث، وأيضا لمنع تلك الدول من الحصول على القوة اللازمة لتطوير البدائل العسكرية الوطنية، وثالثها العمل على خلق الصناعات العسكرية فى دول العالم الثالث بهدف منعها من تمكين تلك الدول من كل المنتجات الوطنية العسكرية محل الواردات التسليحية من الخارج ومنعها أيضا من الدخول إلى ساحة التنافس فى مجالات البحث والتطوير والإنتاج الكمى للتكنولوجيا العسكرية الأكثر تقدما، ورابعها محاولة الحد من نشاط أسواق السلاح السوداء والرمادية فى الولايات المتحدة وأوروبا للحد من دورها فى عمليات تدفق السلاح من الشمال إلى الجنوب (27) وبالإضافة إلى ما سبق، لا يستبعد إقدام الولايات المتحدة ودول المنظومة الرأسمالية على الاستخدام الفعلى للقوة العسكرية حال تنامى القدرات التسليحية لدولة ما فى العالم الثالث، بما يهدد مصالحها بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ثالثا: آليات الصراع فى المرحلة الانتقالية الراهنة للنظام الدولى.
المقصود بآليات الصراع الدولى هنا هو عملية مؤسسة الصراع الدولى وأدارته كاتخاذ القرارات الكبرى فيها وتنبع أهمية هذا الجانب من حقيقة أن وحدات النظام الدولى كانت تسعى دائما إلى إدارة تفاعلاتها الصراعية عبر ترتيبات مؤسسية، تنعكس داخلها مصالح الدول الأعضاء وأهدافها وسبل الدفاع عنها والحفاظ عليها وفى ظروف الحرب الباردة، مثلت الأحلاف العسكرية التعبير المؤسسى الرئيس لظاهرة الصراع الدولى، كما مثلت الأداة الرئيسية فى إدارة الصراع وحفظ التوازن والردع ويعنى ذلك أن النمط العام للصراع الدولى خلال كل مرحلة تاريخية يفرز البنى المؤسسية اللازمة لإدارته، إلا أن تحديد وتعيين آليات الصراع الدولى فى عالم ما بعد الحرب الباردة تنطوى على درجة عالية من التعقيد بفعل حالة السيولة الشديدة لظاهرة الصراع خلال المرحلة الانتقالية الراهنة التى يمر بها النظام الدولى والتى تتسم بتعدد الأنماط والمستويات كما أشرنا سابقا وقد أدت هذه الخاصية إلى تداخل العلاقات الصراعية والتعاونية فيما بين الدول، حيث أن الدول المتحالفة معا فى مواجهة الصراع ما إنها تنخرط بدورها فى صراعات مختلفة بين بعضها البعض حول قضايا أخرى.
ومع ذلك، فإن آليات الصراع الدولى ومؤسساته تبدو كما لو كانت قد شكلت فى الوقت الراهن بحيث تختص كل آلية منها لمواجهة مصدر محدد من مصادر الصراع ففى ظل التنامى الملحوظ فى المصادر الاقتصادية للصراع ففى ظل التنامى فى تسيير حركة مجمل التفاعلات الدولية، فإن المؤسسات الاقتصادية العالمية أصبحت الساحة اكثر أتساعا للصراع الدولى أو التعبير المؤسسى الرئيسى لدى التكتلات المتنافسة لإدارة تفاعلاتها الصراعية مع بعضها البعض.
ويبدو ذلك واضحا فى كافة المنظمات العالمية التى تشهد تنافسا ضاريا حول المصالح الاقتصادية فيما بين الدول الأعضاء، إلا أنه يعتبر اكثر وضوحا فى حالة التكتلات التجارية التى أنشئت فى إطار تنامى النزعات الحمائية لدى مجموعة معينة من الدول ضد العالم الخارجى فالجماعة الأوروبية تمثل اضخم نظام حمائى فى حركة التطور الاقتصادى العالمى سواء بفعل ما ترتكز عليه من فرض لأنظمة الحصص العديدة أو بفعل مما تسعى إليه من زيادة القدرة التنافسية للاقتصاديات أوروبية ومعالجة التخلف النسبى للدول الأوروبية فى مجال أنشطة الابتكار التكنولوجى ولارتقاه النسبى فى تكلفة الإنتاج الأوروبى بفعل تفتت الاقتصاديات الأوروبية واستمرار الحواجز على التدفق الحر للسلع والخدمات والعمال ورؤوس الأموال دول القارة الأوروبية كذلك فإن الدعوة الأمريكية المطروحة حاليا لإعادة منطقة تجارة حرة فى نصف الكرة الغربى تنطوى على محاولة ضمنية للضغط على الشركات التجاريين الكبار للولايات المتحدة فى أوروبا واليابان للقبول بمقترحاتها فى مجال تحرير تجارة الزراعة والخدمات، أى أن هذه الدعوة تسعى إلى تعزيز المركز التنافسى الأمريكى فى الحرب الاقتصادية الباردة الدائرة حاليا فيما بين الكتل التجارية الكبرى داخل المنظومة الرأسمالية العالمية وفى نفس هذا السياق، تنطلق مشروعات التكتل التجارى فى آسيا وغرب الباسيفيكى من الرغبة فى مواجهة الموجة العاصفة من إجراءات الحماية المباشرة وغير المباشرة التى اصبح صقل التجارة الدولية يحمل بها.