صفحة 1 من 1

في جولة سياحية.. ماضي بغداد مثل حاضرها

مرسل: الجمعة مايو 03, 2013 6:05 pm
بواسطة سعد الخثران
قامت مجموعة من الزوار الاجانب بجولة سياحية في بغداد مؤخرا. ربما يمر مثل هذا الحدث في اي مكان آخر بدون ان يلتفت اليه احد. لكن هذه هي بغداد، تلك المدينة التي هبت عليها في الايام السابقة عاصفة هوجاء اقنعت الناس ان التمرد قد اطلق سلسلة من التفجيرات المتزامنة.
فما ان مرّ اسبوع على رحيل هؤلاء الزوار حتى تعرضت العاصمة الى سلسلة من التفجيرات، منها سبعة على الاقل يوم الثلاثاء، ادت الى مقتل اكثر من مئة شخص وجرحت بضعة مئات آخرين، كما انها اشاعت جوا من الرعب بين الناس. وقامت السلطات، رغبة منها في احلال السلام لساعات معدودة ولتجنب عناوين الصحف الرهيبة، بنشر لواء عسكري باكمله بالاضافة الى المئات من رجال الشرطة وفرق القوات الخاصة التابعة لوزارة الداخلية، كما اتخذت خطوات غير اعتيادية منها اغلاق معظم مناطق بغداد التاريخية القديمة.
وجاءت الجولة السياحية ضمن فعاليات مؤتمر عـُقد تحت شعار "الحفاظ على مراكز المدن العراقية"، حضره حوالي خمسة وسبعون من المعماريين ومخططي المدن من الولايات المتحدة وفرنسا وايران وايطاليا واليابان ودول اخرى، استمر على مدى ستة ايام.
وبعد ان استمع الحا ضرون الى الخطبة الافتتاحية التي القاها رئيس الوزراء نوري المالكي، امضوا اياما في الاصغاء الى الخبراء في مجال التطوير. وفي اليوم الرابع، تجمعوا في ثلاث حافلات صغيرة، رافقتها قوة حماية مشددة من الشرطة والاستخبارات في مقدمة القافلة وفي وسطها وفي مؤخرتها، للقيام بجولة سياحية تتضمن زيارة المعالم المعمارية والثقافية، التي لم يكن بامكان معظم الاجانب ان يطلعوا عليها على مدى عقود من الزمان، بسبب تخوفهم من زيارة العراق.
شقت القافلة طريقها خلال الزحام، ومرّت ببنايتي مجلس محافظة بغداد ووزارة العدل، حيث ادى تفجير في شهر تشرين الثاني الماضي الى مقتل مئة وخمسة وخمسين شخصا. واشار الدليل السياحي الى حجم الدمار في الابنية، بدون ان يبدي اي مشاعر. والتقط المعماريون والمخططون صورا لهذه الابنية.
ثم اجتازت الحافلات نقاط تفتيش في شوارع مغلقة امام حركة المرور العامة، فاخرج سائقو السيارات المصطفة رؤوسهم امام هذه النقاط مشيرين الى الحافلات، كما لو ان هذه الحركة تجعل من هذا المشهد المثير اكثر واقعية. ان فرص رؤية اجانب لا يرتدون بزة رسمية او مدججين بالسلاح، ان لم يكن كليهما، تكاد تكون معدومة.
هتف سائق سيارة اجرة: "من انتم؟"، قبل ان يطلب الدليل ان تغلق النوافذ لتشغيل مكيف الهواء.
يقول مارك سانتوس، وهو مهندس معماري يبلغ تسعة واربعين عاما من العمر ويعمل في بلدية مدينة برشلونة، انه كان قلقا من الاخطار المحيطة بمدينة بغداد، شأنه في ذلك شأن اي زائر آخر، لكنه قرر أخيرا ان يرى ماذا عساها تكون هذه المدينة المحرمة. وهو يشير الى ان "كل شيء هنا خاضع للسيطرة المشددة. لكني اعتقد ان هذا امر منطقي."
المحطة الاولى كانت المدرسة المستنصرية، التي افتتحت عام 1233 ميلادية في اوج العصر الاسلامي الذهبي. لكن المدينة تعرضت بعد خمسة وعشرين عاما فقط الى الغزو التتري بقيادة هولاكو، حفيد جنكيز خان واخو قبلاي. صعد الزوار بضعة درجات للوصول الى السطح. تظاهرت امرأة شابة بانها تسقط، وهو ما كان سيكون طريقة ملحمية للموت في العراق.
لم يكن رجال الشرطة المسلحين بالبنادق الالية معتادين على التعامل مع مثل هذا الموقف، وحاروا فيما يجب فعله.
سأل احدهم: "هل يجب علينا ان نصعد الى السطح؟"
اجابه الاخر: "لا ادري."
قال الاول: "لا، يجب ان نذهب."
وعلى السطح، التقط الجنود صورا لانفسهم، وقد علت وجوههم ابتسامات نادرة.
الوقفة الثانية كانت في سوق، حيث تباع بضائع مثل السجاد والكتب والنسيج والنحاس، وهي المقتنيات التي طالما اعتبرت جزءا من هوية بغداد.
وبينما كان السائحون يتجولون في الشارع، الذي أخلي من حركة المرور، تجمع الناس على الارصفة وراحوا يحدقون اليهم، لكن قوات الشرطة والجيش ابقتهم على بعد، واحاطت تلك القوات بالزوار بشكل كامل.
قال احد السائحين: "يبدو الامر كما لو اننا في سيرك."
وفي سوق الصفافير، تردد صدى اصوات الطرق على النحاس بين البنايات، لكن المكان كان قد أخلي من المتسوقين، ولهذا فقد الكثير من صفاته.
تطلع الباعة من خلال محلاتهم الصغيرة الى الزوار. لم ينبسوا ببنت شفة، على الرغم من لباقتهم المعهودة.
اخيرا، قال احد الباعة: "نحن نحب الزوار. نريد المزيد منهم."
وفي خارج السوق يقع شارع المتنبي، الذي اتخذ تسميته من الشاعر الذي عاش في القرن العاشر الميلادي، وهو السوق الرئيس للكتب في بغداد. رصّت الكتب على المناضد، وطرحت على الارصفة، وفي احيان قليلة في المكتبات. تنوعت عناونين الكتب من القرآن (الكريم) الى فنون الطبخ. وفي بعض الاحيان وضعت مثل هذه العناوين المتفرقة بعضها الى جانب البعض الاخر. وكان هذا السوق قد تعرض الى التفجير عام 2007 ما ادى الى مقتل ستة وعشرين شخصا.
تقول نادية نيلينا، وهي معمارية من نوتردام: "الزخم هنا اكثر ايجابية مما كنت اتصور."
هل شَعرتْ بالامن هنا؟
تقول، بينما كان رجال الشرطة يدافعون الناس بايديهم: "نحن نسير تحت حراسة مشددة على الدوام، بالله عليك!"
وفي القشلة، وهي المركز الاداري للحكومة العثمانية في بغداد قبل قرن من الزمان، التقط السائحون صورا للمكان. وفي احد الجوانب وقف حارس –بشكل ستراتيجي– امام شاهد حجري ينص على ان البناية قد تم ترميمها خلال فترة حكم صدام.
وحينما شارفت الجولة على نهايتها، كان مايكل بيرسون، وهو معماري يبلغ سبعة وسبعين عاما من العمر ومتحدر من عائلة ضمت ثلاثة اجيال من معماريي لندن، يتلظى من الحر. كان قد ارتدى بذلة رسمية زرقاء ووضع منديلا احمر في جيبه، وقميصا قطنيا احمر وربطة عنق حمراء.
وعلى خلاف معظم الزوار الاخرين، فان السيد بيرسون كان قد زار بغداد من قبل، لكن ذلك كان قبل ثلاثين عاما. يقول: "تبدو (بغداد) متعبة جدا بعد ثلاث حروب. انها لامر محزن للغاية."
وفي مقهى الشابندر، وهو ملتقى المثقفين الراقي، كان الرجال يرتشفون الشاي المحلى ويدخنون الاركيلة. وامتلأت الجدران بالصور الفوتوغرافية بالاسود والابيض لمدينة خلابة المنظر، ولكن لا يمكن تمييزها. وراح بلبل يطير من مكان لاخر في قفصه.
يقول غاري رسل، وهو احد المعماريين في مفوضية معالم مدينة بوسطن، ان اكثر ما فاجأه في بغداد ان المدينة كانت هادئة في الليل. ويعود ذلك، بطبيعة الحال، الى منع التجول الليلي في بغداد.
ويؤكد رسل: "حجم الضرر ليس بالمقدار الذي كنت اتوقعه. لا يتملكك الاحساس بان هذا هو مكان خطر، كما كان قبل عامين او ثلاثة."
وفي المتحف البغدادي، هناك لوحة على الجدار تحمل مقولة لفيلسوف وشاعر اعمى عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، واسمه ابو العلاء المعري، تقول: "من يعيش ويموت في بغداد كمن ينتقل من السماء الى السماء."